محمود درويش: اللّجوء والفنّ

"الأنا عند محمود درويش منفصمة دائمًا ومضطربة دائمًا. هو غير مرتاح "هنا" وغير مرتاح "هناك". في كلّ منفًى وطن وفي كلّ وطن منفًى. اللّجوء والفنّ في شعر محمود درويش.

محمود درويش. تصوير: هاليت يشورون

محمود درويش. تصوير: هاليت يشورون

نصّ | النّهر لا يختفي في البحر

بقلم: د.رائف زريق

لا أظنّ أنّي سأبالغ إنْ قلت إنّ محمود درويش، بشعره ونثره وحواراته، أثّر عليّ أكثر من أيّ أديب أو مفكّر أو فيلسوف آخر. لا يمكنني تأمُّل عالم المعاني والاستعارات الذي خلقه هذا الشّاعر، والأفكار والجماليّات التي أبدعها ومحيط اللّغة الذي أسبح فيه وأنهل منه استعاراتي، دون أن أشعر بعبق مياه نهره الذي يصبّ في البحر الكبير. أكاد أجزم أنّ نهر درويش من الأنهر القليلة التي تصبّ في البحر لكنّها لا تختفي فيه. وربّما عليّ أنْ أقول إنّ البحر لن يظلّ هو ذاته بعد أنْ تصبَّ فيه مياه نهر درويش. اللّغة لم تعد نفس اللّغة. لقد ساعدنا درويش في العثور على المفردات الصّحيحة وفي بناء الصّياغات المُركّبة التي يمكنها أنْ تصف لنا، نحن كفلسطيّنيين، وللعالم الخسارة الكبرى، الحزن والغضب، النّكبة واللّجوء، والتي تُعبّر أيضًا عن الأمل والحبّ والعلاقة بين الخاصّ والعامّ. لقد صنع كلّ ذلك وظلّ وفيًّا لمشروعه الفنّي، ولقيَمهِ الجماليّة التي لم يتنازل عنها يومًا. لقد آمنَ درويش، منذ مرحلة الشّباب المُبكّر، بأنّه وُلد ليكون شاعرًا وبأنّ هذا هو قدره ومشروع حياته، وأدرك بأنّ هذا القدر ليس غايةً جامدة قابلة للتّحقيق، بل طريقًا لا نهاية له ولا سكينة فيه. لهذا، كتب أكثر من مرّة “سأصير يومًا ما أُريدُ سأصيرُ يومًا شاعرًا”. وقد صار. ربّما صار الشاعر، بأل التّعريف، كما وصف أبو العلاء المعرّي أعظم شعراء العربيّة، المتنبّي.

كانت قضيّة اللجوء وستظلّ مفتاح فهم عالم درويش. الطّفل ابن السّابعة يُقتلَع من بيته في قرية البروة في الجليل الغربيّ ويقطع الحدود تحت القصف والنّار إلى لبنان. كلمة “لاجئ” تحوم حول هذا الطّفل فيصطدم بها أينما حلّ. درويش الصّغير يُصرّ على فهم معناها لكنّ أباه لا يستجيب لسؤاله ويخبره بأنّه لن يفهم معنى هذه الكلمة التي غزت حياة الطّفل كالصّاعقة وقضت على باقي المفردات وأخضعتها لجبروتها. لكنّ الجدّ يفتح باب الكلام لحفيده ويشرح له ما أخفاه الأب: “أن لا تكون طفلاً منذ الآن”. لم يتحدّث درويش عن معنى هذه العبارة وتأثيرها على حياته، لكنّي أعتقد أنّها كانت أوّل بيت شعر سمعه، وأوّل استعارة تمكّن عبرها من استيعاب الواقع: اللّجوء يعني مصادرة الطّفولة. في تلك اللّحظة يخلع الطّفل ابن السابعة رداء الطّفولة ويفهم بأنّ مخيّمات اللّجوء هي الواقع الجديد وبأنّ البيت في البروة، والوطن كلّه، أصبحا مجازًا. هو يفهم أيضًا أنّ هناك طفلاً آخر ينام على سريره ويأكل من ثمار تينة البيت ويترعرع مكانه، ويستكمل مسار حياته الذي انقطع. منذ تلك اللّحظة تُصبح كلمة “العودة” كلمة سحريّة، كما وصفها في كتاب حيرة العائد: “العودة إلى المكان، العودة إلى الزّمان، العودة من المؤقت إلى الدائم، العودة من الماضي إلى الحاضر والغد معًا… العودة من علب الصّفيح إلى بيت من حجر”

عاد الطّفل ولم يعد. حالة اللّجوء القصيرة في لبنان تنتهي بعد سنة عندما يعود إلى فلسطين لكن ليس إلى البيت ولا إلى قريته إنّما إلى قرية الجدَيْدة القريبة. البروة ضاعت وعلى أنقاضها أقيمت مستوطنه يهوديّة. لكنّ فلسطين كلّها ضاعت، والمكان الذي عاد إليه لم يكن نفس المكان الذي خرج منه. في هذه المرحلة يتعلّم درويش الدّرس الثاني: العودة لم تكن، ولن تكون، عودةً حقيقيةً، والمكان ليس مجرّد مكان: المكان هو ذلك المجموع المُركّب للبشر والحجر والهواء وتفاصيل الحياة. ويظلّ الطّفل العائد منشغلًا بالتّفكير في الأطفال الذين لم يرجعوا وباللّاجئين الذين لم “يعودوا”. لكنّ الطّفل الذي يفقد عالمه يجد الملاذ في عالم الكلمة، فيستغيث باللّغة التي تبْسِط عليه جناحَيها ومن خلالها يبني عالمًا بديلاً. في اللّغة يجد المأوى والحميميّة اللّذَيْن غابا عن العالم الحقيقيّ ويكتشف قوّة الكلمة. اللّغة ليست عن العالم بل هي العالم، هي لا تصفه بل تخلقه.

الطّفل الذي عاد لم يعد حقًّا. قطعة من قلبه ظلّت هناك، بعيداً وراء الحدود. في المقابل تُنهِك الاعتقالات والمداهمات المتكرّرة من الشرطة الشّاعر الشابّ الذي يُصرّ على تنفّس الحرّيّة، فيكتشف أنّ ما بدا له بيتًا هو أشبهُ بالمنفى. في الوطن أيضًا يشعر بالاغتراب. الفتى الذي صار رجلًا لا يزال يُصغي لهواجس قلب الطّفل الذي فقد طفولته في سنّ السّابعة. بعضٌ من هذا الطّفل ظلّ هناك، وهو يأمل أنْ يتواصل ذلك البعض مع بعضه لكي يعود إلى ذاته.

الرّجل الشّابّ، الشّاعر الذي ذاع صيته في جميع أنحاء العالم العربيّ، يقطع الحدود للمرّة الثّالثة، لكن في الاتّجاه المعاكس. يخرج من فلسطين. يزور موسكو لمدّة قصيرة لكنّه يقرّر عدم الرجوع إلى حيفا بل السّفر إلى القاهرة التي سيسكن فيها لفترة قصيرة قبل أن ينتقل إلى بيروت ويستقرّ فيها. هو لا يزال يأمل في العثور على فلسطين الأخرى: فلسطين الفدائيّين وليس اللاّجئين، الثوّار الفلسطينيّين الذين سيُعيدون له الوطن. وكأنّ فلسطين تعيش خارج ذاتها، خارج الجغرافيا، وكأنّها فكرة أو تجربة وليست مجرّد مكان محسوس. شهرة الشّاعر الشّابّ تصل السّماء ويصبح من الأسماء اللّامعة في الثّقافة العربيّة، لكنّ ذلك لا يعوّض عن الحقيقة البسيطة: اللّجوء لم يَنْتَهِ. فمع أنّه يشعر أنّه في البيت مع إخوته الفلسطينيّين الذين يقاتلون من أجل فلسطين، إلّا أنّ ذلك لا ينفي حالة المنفى واللّجوء. درويش بعيد مرّة أخرى عن البيت والعائلة. سنة 1982، بعد انتهاء حرب لبنان، وعندما سأله صحفيّون عن برامجه المستقبليّة بعد الخروج من بيروت، كانت إجابته قصيرة وحادّة كالسّيف: أبحث عن جدار أعلّق عليه ملابسي. وها نحن نكتشف من جديد أنّ قطعةً من قلب الشّاعر الشّابّ لا تزال في مكانٍ ما في الجليل وفي سفوح الكرمل، وأنّه لا يزال يَتُوق لجدار في بيت يُعلّق عليه ثيابه.

المرّة الرّابعة التي قطع فيها درويش الحدود كانت بعد اتفاقيّات أوسلو، التي كان معارضًا لها ورأى فيها تفريطًا كبيرًا بأهمّ المسلمّات في الرّواية / السّرديّة الفلسطينيّة، وعلى هذه الخلفيّة قدّم استقالته من اللّجنة المركزيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة. على الرّغم من ذلك “عاد”. وهذه المرّة “عاد” ليسكن في رام الله وليس داخل إسرائيل. في كلّ مرّة رغب فيها بزيارة بيته وعائلته كان عليه الحصول على مصادقة السّلطات الإسرائيليّة. مجرّد فكرة اضطرارِهِ للحصول على تصاريح أمنيّة من أجل زيارة أمّه والبيت الذي ترعرع فيه، كانت تُثير فيه مشاعر الغضب والاستياء. في الغالب لم يكن يطلب تصريحًا بل كان “يتسلّل” لبيته. لكنّ الطّريق من رام الله إلى حيفا بدت له كعودة داخل عودة أو عودة بعد عودة، واكتشف أنّ في فلسطين ذاتها مستوياتٍ مختلفةً للعودة. العودة إلى رام الله ليست عودة حقيقيّة، فهي ليست عودة للكرمل أو للقرية التي نشأ فيها، الجدَيْدة، والتي هي في إسرائيل، فيبدو أنّنا نحتاج هنا إلى عودة إضافيّة: العودة إلى البروة، ذلك المكان الذي لم يَعُد قائماً. هذه “العودات” تُنهِك درويش الذي صار يُدرك أنّه مَهْما حاول العودة لن يصل، فلا أحد يعود حقًّا.

هذه الانفصامات المتواصلة تقود درويش إلى فهم الإشكاليّة الكامنة في كلّ هويّة وإلى إدراك معنى الـ “أنا”. “أنا” درويش منفصمة دائمًا ومضطربة دائمًا. هو غير مرتاح “هنا” وغير مرتاح “هناك”. في كلّ منفًى وطن وفي كلّ وطن منفًى. في كلّ “أنا” يوجد “آخر” وفي كلّ “آخر” جزء يُغرَس في الـ “أنا”. لم يحتج درويش لنظريّة ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة ليُدرك هذه الحقيقة. لقد حاول بكلّ بساطة تأمُّل ذاته العميقة ومجرى حياته وسعى إلى تجسيد ما رآه بصدق وأمانة. لقد كان “هنا” وكان “هناك”، وهو نتاج الـ “هنا” والـ “هناك” في نفس الوقت. الشّعب الذي صادر طفولته وحوّلهُ إلى لاجئ هو نفس الشّعب الذي جاءت منه حبيبته الأولى. هو يُدرك أنّه مجموع أجزاءٍ لا تكتمل على الرّغم من رغبتها الشّديدة بالاكتمال. يبدو أحيانًا أنّ ماهيّة درويش تكمن في الاضطراب والشّهوة في سعْيِهِ لتجميع أجزاء الأنا حتّى تصل للاكتمال، مع أنّه يُدرك استحالةَ تحقيق هذا التّكامل.

يتعلّق درويش بالشّعر مع أنّه لا يُعلّق عليه آمالاً كبيرة كوسيلة لتغيير العالم. الشّعر لا يَستبدِل أيّ نضال. في إحدى قصائده التي هي رسالة مفتوحة لصديق عمره الشّاعر سميح القاسم، يَسأل درويش: “أما زلتَ تؤمن أنّ القصائد أقوى من الطّائرات؟ لنا الذّكرياتُ، وللغزوِ ترجمةُ الذّكرياتِ إلى أسلحة ومستوطنات”. دور الشعر بالنسبة لدرويش متواضع جدا فوصفه: “إن الشعر فرح غامض بالتغلب على الصعوبة والخسارة”.

لكن لكي يكون للشّعر أثر ولكي يستطيع دعم الحياة، عليه أن يكون مختلفًا عنها، وليس فعلًا طفيليًّا أو مُلحقًا بالسياسيّ والاجتماعيّ. ولتحقيق ذلك، على الشّعر أن يكون حُرًّا، وذا قيمة بحدّ ذاته، وهذه القيمة هي التي تمنحه تفرّده، هي قيمته الجماليّة. تكون للشّعر أهميّة ومكانة خاصّة في الحياة فقط إذا “خانها” وتجاوَزَها ولم يكتَفِ بالتّعبير عنها. الشّعر- كما كتب درويش أكثر من مرّة – يُحوّل الخيال إلى واقع والواقع إلى خيال.

تظهر أهميّة البعد الجماليّ بالنّسبة لدرويش في إصراره العنيد على مشروعه الفنّي. لقد أدرك درويش أنّه أوّلًا وقبل أيّ شيء شاعر، وأنّ إخلاصه الفنّي هو للشّعر فقط. لا يمكن للسّياسة والأخلاق أن يبرّرا كتابة شعر لا يحمل قيمة جماليّة. على الشّاعر واجب تجاه نفسه وتجاه الشّعر، وهذا هو الواجب لفنّ الشّعر. عليه أن يواظب على تطوير أدواته الفنّيّة: اللّغة، الاستعارات والتّشبيهات المختلفة. درويش حالة نادرة، وربّما وحيدة، في قدرته على الجمع إلى حدّ التّناغم بين الشّكل والمضمون. جزء كبير من شعره هو شعر سياسيّ خالص، لكنّه بعيد كلّ البعد عن السّطحيّة والنّمطيّة. هو شعر سياسيّ من حيث تعامله مع الأسئلة العميقة للوجود الفرديّ والجماعيّ الفلسطينيّ، بمصائبه وخيباته، آماله وأحلامه (مع أنّ شعره المتأخّر يميل إلى الانطواء على تجربته الوجوديّة الشّخصيّة). عندما يطرح درويش أسئلة شخصيّة فإنه يُدرك أنّ الأنا، الذّاتيّة، تعيش في عالم اجتماعيّ، هو جزء من مجتمع كامل؛ ويجب أن يتضمّن التّعبير الشّعريّ عن الأنا هذه العلاقة كشرط فنّي أوّلاً وقبل أيّ شيء. مع ذلك، عندما يتحدّث درويش عن الـ “نحن” أو عن الشّعب، أو عن المجتمع، فإنّه يعي تمامًا أنّه يتحدّث كفرد وأنّه لا يستطيع “تمثيل” المجموع أكثر من حدود قدرته على التّحدّث عن نفسه. لم يشعر درويش أنّه مُلزم بتقديم الشّعر “المُجنّد” أو أنّ عليه إقحام الوطن في شعره. لقد كان يتنفّس الوطن، ولهذا عندما كان يتحدّث عن نفسه كان الوطن حاضرًا، ليس ككائن مستقلّ فرضَ نفسه على الشّعر، إنّما كشرط مؤسِّس للأنا.

من هذا المنطلق نجد أنّ الشّكل الفنّيّ عند درويش لا يفرض نفسه على المضمون، والمضمون لا يفرض وجوده بفظاظة لا تكترث بالشّكل. الشّكل والمضمون يلتقيان بأسلوب يدمج ما بين المصادفة والضّرورة؛ بخِفّةٍ ما، تبدو من القراءة الأولى وكأنّها مصادفة، وكأنّهما التقيتا دون أن يكون للشّاعر أيّ دور؛ لكنّ هذه المصادفة “القدريّة” تظهر بعد قراءة معمّقة ومتكاملة كفعل ضروريّ. وهذا الفعل لا يفرض نفسه إنّما يبزغ بصورة طبيعيّة من بين ثنايا النصّ، وكأنّ شكله ومضمونه وُلدا ليكونا معًا. التّناغم (الهرمونيا) عند درويش يشبه هرمونيا موسيقى الجاز عندما يعرف السّاكسفون متى يدخل بعد أن يُنهي البيانو وصلةً ارتجاليّة. لحظة “الدّخلة” لم تُحدَّد مسبقًا بموجب معادلة ما، لكن عندما نسترجع المعزوفة نكتشف أنّ تلك اللّحظة كانت التّوقيت الأمثل للدّخول. يمكننا تشبيه اللّقاء بين الشّكل والمضمون في شعر درويش كغريبَين، سيُصبحان عاشقَين، يلتقيان مصادفةً في قطار بجبال الألب. فبعد النّظرة الأولى التي تُشعل نار الحبّ سيشعران، بأنهما وإن التقيا صدفة، فقد كان مُقدرًا لهذه الصدفة أن تحدث. الشّعر الجميل هو ذلك الذي يجعلنا نشعر بأنّه قدرٌ انبَتَتْهُ يد المصادفة، أو مصادفة كانت تحمل مشيئة القدر. فكما هو الحال في كل قصة حب حقيقية، تجمع في آن واحد ما بين ذلك الشعور بحرية اختيارنا لشخص المحبوبة، ومع الشعور المُلازم له، بأننا كنا تحت سطوة القدر ومشيئته عندما اخترنا هوية المعشوق.  هذا هو السّحر. ودرويش في هذا المعنى ساحر.

درويش، في شعره ونثره على حدّ سواء، حاضر في وعيي وفي حساسيّاتي الشّخصيّة تجاه العالم، لأنّه قادر على استحضار تكثيف تجارب الحياة بكلّ أشكال احتمالاتها في قصيدة واحدة، بل في بيت شعر يتيم. مقولاته الفلسفيّة تُصاغ دائمًا بجماليّة مذهلة، وجماليّاته لا تكون جوفاء بل مُشرّبة بالحكمة والإدراك، ولهذا يخلو شعره دائمًا من أيّ حسّ وعظيّ. كتابات محمود درويش تخلو أيضًا من التّجريد، بل هي مُشبعة بالاستعارات الحسّيّة. قصائده تقدّم وجبات دسمة من الحياة، فالحياة تنزل علينا ككُلّ واحد كامل (على عكس إدراكنا مثلًا للجامعة التي يمكن اعتبارها تحالفًا لكليّات مختلفة تتعاون لفكّ طلاسم الكون). في شعر محمود درويش يتشابك الأخلاقيّ مع الجماليّ مع السياسيّ، والغوص في شعر درويش هو غوص في الحياة ككُلّ واحد.

____________________________________________________________________________

* د. رائف زريق هو خرّيج كلّيّة الحقوق في الجامعة العبريّة، وواصل تعليمه في جامعتَيّ كولومبيا وهارفارد حيث أكمل شهادة الدكتوراة. تتمحور أبحاثه حول الفلسفة السياسيّة وفي فلسفة القانون، ويكتب في النقد الثقافيّ والأدبيّ. أستاذ فلسفة القانون في الكلّيّة الأكاديميّة كريات أونو وباحث كبير في معهد فان لير. كتابه عن كانط ونضاله للاستقلاليّة صدرَ هذه السّنة بالإنجليزيّة من دار لكسينجتون.

** هذا النص مُترجم عن النص الأصلي باللغة العبرية. ترجمة: نبيل أرملي

موسم الخريف: قد يعتدل وقد يتطرّف

في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.

في كل ذكرٍ لفصل الخريف، يختلف الناس في أرائهم حول فصل الخريف وأحواله، منهم من يتفاءل بتساقط أوراق الشجر ويشبه هذا التساقط ببداية التجديد أو الإنطلاقة لاستقبال خير الشتاء حيث الغيث والوفرة وبداية نمو جديد، فيما يتشاءم حشدٌ آخر ويعتبره موسماً للاكتئاب معلّلاً ذلك بذات التساقط لأوراق الشجر؛ حيث نهاية النمو وبدء استقبال عواصف الشتاء وبرده. كذلك الأدب العالمي، اختلف في وصف أحوال الخريف. في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.

ورد في صحيفة الاتحاد في السادس من تشرين الثاني من العام 1995 تقديماً ومراجعة لكتاب “اعتدال الخريف” للكاتب والروائي اللبناني (جبور الدويهي) من قبل الكاتب (شحادة وازن)، بادئاً ذلك بقوله: “هي سيرة ذاتية، تأملات يومية وسرد قصصي”، فيما أفاض بوصفه: “ليس اعتدال الخريف رواية ولا سرداً ولا سيرة ذاتية ولا مذكرات ولا يوميات. إنه بعض هذه جميعاً يمزجها الكاتب بلغته وأسلوبه ويعمل على دمجها ليضعنا أمام غربة بل دهشة الكتابة”. ربما نأى الكاتب (شحادة وازن) إلى وصف سردية (اعتدال الخريف) بـ “الغربة” أولاً لاختلافها عن الحالة المألوفة والغير طبيعية والتي قد تنعزل أو تُعزَل، إلى مفهوم “الدهشة” بالمعنى الفلسفي المؤدي إلى إنارة العقل والخروج من ظل أفكارنا ومناطق راحتها.

الاتحاد 6 تشرين الثاني 1995
الاتحاد 6 تشرين الثاني 1995

بالإضافة إلى ذلك، أظهر (الدويهي) حالة فصل الخريف بالمبتدأ “اعتدال”، وربما يعزو هذا الوصف لبقعة (دويهي) الجغرافية في لبنان وحوض البحر الأبيض المتوسط بأن جعل الاعتدال حالة لا تنطبق عليها نسبية التعريفات هنا، حيث الاعتدال ما بين الحر والبرد، النهار والليل، بل حتى تباين ألوان الخريف يعتدل بين البهتان والعتمة. فيما عبّر (وازن) عن كل ذلك: “لا يكتب الراوي ذكريات ليحولها إلى ماضٍ، بل يختار بعضاً من صور الماضي ليملأ الحاضر بالأحاسيس ولا يغوص في التفاصيل الكثيرة والأسئلة الكبيرة بل يرسم بإيجاز نظرته الخاصة إلى الأشياء”. أيّ أنّ الروائي (دويهي) قد اعتدل في تفاصيله وأسئلته بإيجاز دون الإبحار العميق، رغبة منه بملء الحاضر بأحاسيس الخريف التي قد تنتهي وتموت أو تنتهي لتتجدّد، كلٌّ ونظرته الخاصة للخريف كنظرة (الدويهي) للأشياء.

لقراءة كامل التقديم في صحيفة الاتحاد

تتغير نظرة الاعتدال نحو موسم الخريف لدى الكاتب الروسي (مكسيم غوركي) في قصته “ليلة في الخريف”، والتي قد نشرت في صحيفة الغد، التي صدرت في مدينة القدس، بتاريخ 14 أيلول من العام 1945. لاختلاف موسم الخريف بين كل من لبنان وروسيا، حيث يكون خريف روسيا بارداً بلا اعتدال، وليلٍ حالِك لا يعتدل وقته مع النهار. أظهر (غوركي) أن ليلته المذكورة في قصته كانت في أواخر تشرين الأول، ووصف بطل قصته بأنّه تائهٌ في مدينة تعجّ بصخب الحياة الفارهة، وأناسٍ منعزلون مع أشباههم الأغنياء. وبيّن كذلك (غوركي) أن بطل قصته نزل في المدينة متشرداً جائعاً.
وتعمّق في وصف الحالة حتى شبّه أن كل شيء في المدينة في هذه الليلة الخريفية يدعو للسقوط والانخفاض؛ حيث الضباب، البرد، الليل الحالك، اللون الحائل وكذلك ملامح البشر المشوّهة، حتى الحديث في ليالي الخريف كان لدى (غوركي) حديثاً ذا لهجة فاترة وبدون حياة.

الغد- القدس: 14 أيلول 1945
الغد- القدس: 14 أيلول 1945

ولتعاسة الخريف الروسي، يلتقي بطل الرواية بـ (ناتاشا) التائهة، الجائعة والباحثة عن الطعام في القمامة، ولكن فجأة نجده ينتعتها بالذكية والجميلة الصغيرة السن. ربما أراد (غوركي) أن يبيّن حالة التيه والغرابة والتضاد والتناقض في ظلمة الخريف الروسي. بل وتنتهي القصة كذلك بوداع نهاريّ بين البطل وناتاشا دون عودة، فيما يستمر البطل ببحثه عن مأوى في هذه المدينة متمنياً الموت لناتاشا لقسوة الحياة معها أو راحة البال لها إن كان حيّة.

لقراءة كامل القصة في صحيفة الغد (القدس)

تنوّعت حكايات الخريف بين الأدباء وبين عامة الناس على مر الزمن وفي كل الأمكنة، إلا أنّه من المؤكد أنّ الحالة الشعورية – مهما كانت – لا تبقى على حالها بل في تقلّب مستمر ودائم كما فصل الخريف وكل فصول السنة.

رحلة في المخطوطات التاريخية حول عنترة بن شداد

قصة عنترة ستصل من خلال المؤرخين بتفاصيل مختلفة نظراً لقدمها في التاريخ، ولكن في نفس الوقت سيكون للحكواتيين قصتهم فهم سيضيفون التفاصيل أيضاً لكي تلائم آذان السامعين.

مخطوطة سيرة عنترة

                      سيرة عنترة بن شداد، مخطوطات المكتبة الوطنية الاسرائيلية

حاول عنترة بن شداد لسنين طويلة الزواج من ابنة عمه، عبلة، دون أن يفلح في ذلك، ولإبطال هذا الزواج، وضع عمه مالك (والد عبلة) العقبات أمامه دوماً، وفي كل مرة كان يوهمه أن الزواج يوشك أن يحصل ثم يُرغمه أحياناً أن يأتي لعبلة برؤوس اللبؤات وأحياناً بعرض مهر ضخم كي لا يتمكن من دفعه، وفي أخرى بألف ناقة من نوق الملك النعمان.

هذه العروض والتحديات، جعلت عنترة موضوعاً كتب عنه نخبة المؤرخين العرب على مر التاريخ؛ كالزركلي في كتابه “الأعلام” وأبو فرج الأصفهاني في “الأغاني”.

كان والد عنترة قاسياً عليه، لم يعتبره كابن له، وبالتالي خسر عنترة حضوره في القبيلة وسطوته، ولكن حروب قبيلة طيء ضد قبيلته؛ قبيلة عبس، حولت عنترة إلى بطل مغوار حين تحوّل إلى الحامي الذي يحمي القبيلة بعد أن جلب الانتصار تلو الانتصار.

بطولات عنترة لم تكن لأجل ذاته، إنما من أجل الحب والحياة، من أجل القبيلة وكرامة أبنائها وهو ما جعل منه رمزاً لحماية القيم والعادات والتقاليد، ومن هنا تحوّلت قصته إلى وسيلة ضرورية للتربية والتثقيف ومن هنا حصلت على كل هذه الشهرة التاريخية.

الصورة المرفقة هي جانب من قصة عنترة بن شداد في بدايات المغامرة، والتي سيصبح بعدها بطلاً، كما سيكتب معلقة ستشكل جزءاً وركناً أساسياً في الأدب العربي على مر التاريخ.

قصة عنترة ستصل من خلال المؤرخين بتفاصيل مختلفة نظراً لقدمها في التاريخ، ولكن في نفس الوقت سيكون للحكواتيين قصتهم فهم سيضيفون التفاصيل أيضاً لكي تلائم آذان السامعين والمتفرجين، ولأن مصادرها موغلة في القدم ودوماً ما اعتمدت على مصادر شفوية، مما خلق تضارباً في الروايات الشفوية، حيث أّن لكل منطقة سيرتها الخاصة بعنترة كالسيرة الشامية والسيرة الحجازية وغيرهما.

السيرة الحجازية لعنترة
السيرة الحجازية لعنترة

اقرأ/ي أيضًا: الشعر العربي: دوواين من الكتب والمخطوطات وآراء في الصحف الفلسطينية.

مع التطور التكنولوجي ودخول وسائل تعبيرية وفنية جديدة، تراجع دور الحكواتي لصالح فنون أخرى، وخلال القرن الأخير أنتجت أكثر من عشرة أعمال سينمائية حول قصة عنترة كان أقدمها فيلم “عنترة وعبلة” الذي أخرجه نيازي مصطفى وكتب حواراته الشاعر “بيرم التونسي” وأدّى دور البطولة سراج منير. وربما كان أحدث الأعمال هو مسلسل “عنترة بن شداد” من إخراج رامي حنا وبطولة فيصل العمري وكندة حنا.

فلسطينياً، أيضاً، حظي عنترة باهتمام ملحوظ حيث كُتبت حوله الكثير من المسرحيات والأعمال الفنية الفلسطينية والتي وثّقت القصة من خلال أعمال مختلفة.

صحيفة فلسطين، 13 أيار 1931       
صحيفة فلسطين، 13 أيار 1931
صحيفة مرآة الشرق، 14 آذار 1929
صحيفة مرآة الشرق، 14 آذار 1929

 

 

 

 

 

 

 

 

لا يزال حتى اليوم الكثير من إرث عنترة في ثقافتنا المحكية، كالأمثال الشعبية في اللغة العربية القادمة من تلك الفترة، مثل “مفكر حالو أبو عنتر” أو حين ينعت شخص بـ “معنتر”، لكنّ حالة “العنترة” ليست كلها قوة، ففيها أيضاً الكثير من الحب والحنين والذكريات، كبداية معلقته وبيت الشعر الشهير:
“هل غـادر الشعـراء من متردم، أم هل عـرفت الـدار بعـد تـوهم”

وهو البيت الذي لا يزال حتى اليوم ذاكرة للأجيال، لكنّ قصة البيت وحكايات أخرى ستظلّ داخل هذه المخطوطات الكثيرة في المكتبة.

 يمكنكم الاطلاع عل المخطوطة والغوص في تفاصيل الحكايات التي وصلتنا عبر التاريخ.

ديوان عنترة بن شداد
ديوان عنترة بن شداد

نظرة على “سفر الخفايا”: “وهكذا تُرضون الملائكة في العلا”!

سفر الخفايا الّذي اكتُشف عام 1963، والّذي يعلّمكم كيف تسخّرون الملائكة لتحقيق أمنياتكم! نظرة خاطفة على أحد الكتب العبريّة الفريدة.

قبل أن نطلق موادًا رقميّة تخصّ المخطوطات العربيّة اليهوديّة في المكتبة، وددنا أن نقدّم لكم نظرة خاطفة على أحد الكتب العبريّة الفريدة من نوعها في التّاريخ، والّتي قُدّمت كذلك بالعربيّة اليهوديّة: سفر الخفايا الّذي اكتُشف عام 1963، والّذي يعلّمكم كيف تسخّرون الملائكة لتحقيق أمنياتكم!

جميعنا نريد أن نشفى من أمراضنا، أن نعرف المستقبل أو حتى أن “ندخل حبّ رجلٍ في قلب امرأة”. يعدُكم كتاب “سفر الخفايا” القديم ان يكون خير دليل لكم لتحقيق كلّ هذا وأكثر. يقدّم “سفر الخفايا” رغم تسميته الغامضة تعليمات واضحة ودقيقة للغاية لتحقيق الأمنيات. وفي صفحاته يتّضح أن كلّ الامنيات ممكنة، فقط إذا تعلّمنا كيف نطلبها من الملائكة بالطّريقة الصّحيحة.

في حزيران عام 1963 تعثّر الباحث مردخاي مرجليوت ببعض الصّفحات المتآكلة في مجموعة “جنيزة القاهرة”[1] على اسم “تايلر شختر” في جامعة كامبريدج. وبين القوائم الّتي حملت أسماء الملائكة وجد مسألةً غريبة، معادلة من خلالها يعدُ الكاتب القرّاء بالفوز بسباقٍ للخيل وأن الخيول ستكون “سريعة الرّوح ولا تسبقها أرجل كائنات أخرى” إذا قام صاحب الرّهان  بأخذ صينيّة من الفضّة مكتوب عليها أسماء الأحصنة وأسماء الملائكة ووزرائهم ثمّ ثقال: “احلّفك أيّتها الملائكة الرّاكضة بين النّجوم والكواكب أن تضعي القوّة في هذه الخيول” ثمّ عليه أن يدفن الصّينيّة بمكان السّباق الّذي يريد الفوز فيه!

سباق الخيل وتعليمات الفوز بالرّهان – من مجموعة تايلر شختر جامعة كامبريدج
سباق الخيل وتعليمات الفوز بالرّهان – من مجموعة تايلر شختر جامعة كامبريدج

تفاجأ باحث الجنيزة بالأمنية الغريبة: لماذا قد يرغب أحدهم بإزعاج الملائكة في العلا لتحقيق امنية تافهة كالفوز برهان؟ بعد الاطّلاع على المزيد من الأمنيات التي رافقت هذه، فهم الباحث أنّه اكتشف أحد أقدم كتب السّحر “سفر الخفايا” بالعبريّة “هرازيم”. المرشد لأعمال السّحر الّتي تستعين بقوى الملائكة.

"هذه أسماء ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تخدم "تيجرا": اخستر، مرسوم، برخيف، خمشو....". من مجمومة تايلر-شختر في جامعة كامبريدج.
“هذه أسماء ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تخدم “تيجرا”: اخستر، مرسوم، برخيف، خمشو….”. من مجمومة تايلر-شختر في جامعة كامبريدج.

يصف سفر الخفايا الّذي تم تحقيقه علميًا ونشره عام 1966-1967 سبع سمواتٍ فوق الأرض. في كلّ سماء تستقرّ معسكراتٌ للملائكة. يعرض الكتاب أسماء رؤساء المعسكرات ووزرائها وأسماء الملائكة كلّها، مئات الأسماء، كما يعرض وظائفها وأعمالها ومسؤوليّاتها وما يلزم من أعمال وهدايا وأدعية حتّى تقوم بتلبية الرّغبات والأمنيات. هذا العمل الذي يدّعي أنه يشرح للقارئ تركيبة العالم الخفيّة يعرض معرفة كونيّة ما إلا أنّ ما يؤكّد عليه المؤلّف في كلّ صفحة هو أن سفر الخفايا يهدف لتوفير معرفةً عمليّة بالأساس، يستطيع من خلالها طالب الأمنية أن يحقق رغباته. على سبيل المثال: ماذا يطلب من الملائكة في كلّ سماء؟ تتراوح الأمنيات بين جعل امرأة تحبّ رجلًا، الشفاء من الأمراض، طرد الأرواح، تفسير الأحلام والرؤى، تنبؤ المستقبل، وحتى منح البصر أو سلبه من شخصٍ ما.

ملائكة السّماء الأولى مثلًا تنقسم بين معسكرين. المعسكر الأول يخدم وزير الملائكة رفانيئيل. وتلك الملائكة مسؤولة عن الطّب: فإذا كانت امنيتك تخصّ مسألةً في الطّب: “قف في السّاعة الأولى أو الثّانية من اللّيل وخذ بيدك البخور واللّبان على الجمر واذكر اسم الملاك الحاكم على المعسكر الأوّل واسمه رفانيئيل واذكر أسماء الملائكة الاثنين وسبعين أمامه سبع مرّات وقل : أطلبُ أنا فلان بن فلان أن يشفي دواؤك فلانَ بن فلان. وطهّر نفسك ولحمك من كلّ نجسٍ وفساد وكلّ ما ستطلبه بالكتابة أو بالقول سيُلبّى”.

أمام ذات المعسكر وفي نفس السّماء الأولى، توجد ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تأتمر بوزير الملائكة “تيجرا”. واسمه يدلّ على اختصاصه: “هذه الملائكة الممتلئة بالغضب والحرقة، مسؤولة عن كل ما يتعلق بالحرب والقتال وهي قادرة على العقاب والتعذيب حتى الموت، ولا رحمة بهم، بل يقذفون بمن يأتي إليهم.  وإن طلبت إرسالهم على أعدائك أو على من يدين لك، او لقلب سفينة أو هدم جدار أو لأذيّة عدوّك، إن أردت نفيه أو إسقاطه عن سريره أو دبّ العمى في عينيه أو أن تُربط أقدامه أو تأذيه أي اذيّة: خذ بيديك مياه من سبع نافورات في اليوم السابع من الشّهر في الساعة السّابعة، خذ جرّة لم تخرج إلى النور قط، لا تخلط المياه سويًا، ضعها تحت النجوم لسبع ليالي وفي الليلة السابعة خذ كأسًا لأعدائك واسكب الماء فيها وخذ الجرّة وارمها في جهات السماء الأربع وقل للجهات :  “ههجريت” التي تجلس في الجهة الشرقية، “سروخيت” التي تجلس في الجهة الشّماليّة، “اولبا” التي تجلس في الجهة الغربيّة، و”كردي” التي تجلس في الجهة الجنوبيّة، “خذي الآن ما رميت إليك هذا لفلان بن فلان لتكسري عظامه وتمزّقي أعضائه وتكسريه كما تكسرين جرّة”.

برغم افتقارنا لنسخة متكاملة من سفر الخفايا، إلا أن النظرة الكونية الخاصة به حول السموات السّبع وصلتنا بوضوحٍ كافٍ. فكلّما تقدّم المؤلّف بالشّرح حول كلّ سماء وسماء يفهم القارئ أن قدرته على إخضاع الملائكة بهذه الأعمال تقلّ كلّما ارتفع بالسماوات إلى الأعلى. في السّموات الأقرب الأرض، أي الأكثر انخفاضًأ، توجد الملائكة الأقلّ شأنًا الّتي يمكن للإنسان أن يطلب منها تحقيق أمنياته الخاصّة. فقط تلك الملائكة تقوم بتنفيذ طلبات البشر. أما الملائكة في السماوات العالية فليس للإنسان عليها تأثير أو قوّة لأن القرب من اللّه، الّذي يجلس في السّماء السّابعة، تطغى على قدرة السّحر.

وهذه فاتحة الوصف للسماء السّابعة، الأعلى من كلّ شيء: “والسّماء السّابعة كلّها نور تشعّ منه القاعات، وبها العرش الأعلى تحيطه أربعة كائنات قدسيّة، وبها كنوز الحياة وكنوز النّفوس، وليس للنور الكبير فهمٌ ولا استبيان.  وهو ينير الارض كلها. والملائكة تمسك بعواميدٍ من نور. والنور يشعّ ولا ينطفئ لأن عيناها كلمع البرق وتقف على أطرافٍ من النور. يمجّدون بتقوى الواحد الذي يجلس على العرش الأعلى، لانه وحده يجلس في مقدسه. يحكم بالعدل واليقين ويتكلم بالاحسان. وأمامه كتب ناريّة مفتوحة. وأمامه أنهار من نار متدفّقة. ومن صرخته تتضعضع العواميد. ومن صوته تهتزّ الأبواب. وكلماته تقف أمامه. لا أحد يرى صورته لانه عصيّ على كل عين ولا يراه أحدٌ ويحيى. رؤيته عصّية على كلّ شيء ويرى كلّ شيء”.

سفر الخفايا مليء بالمفاجآت. ليس تلك المتعلّقة بالعلوم الخفيّة الّتي يعرضها فحسب، بل أيضًا نصوصٍ وأدعية غريبة على كتابٍ من المفترض أنه كتاب يهوديّ في نهاية المطاف. فمثلًا في وصف السّماء الرّابعة تظهر صلاة فريدة من نوعها في الأدبيّات اليهوديّة: صلاة لهلينوس، إله الشمس اليونانيّ. تهليلة لإله الشّمس تحاكي تلك الّتي تظهر في المخطوطات اليونانيّة.

وصف السّماء الرّابعة من مجموعة تايلر شختر في جامعة كامبريدج.
وصف السّماء الرّابعة من مجموعة تايلر شختر في جامعة كامبريدج.

 

الحديث مع الملائكة ووصف السماوات السّبع وصلوة مقتبسة من البرديّات اليونانيّة التي تعود للقرون الأولى بعد الميلاد – كلّ هذه المؤشّرات تطرح السؤال التّالي، من هو مؤلّف “سفر الخفايا”؟ نجهل إلى اليوم اسم المؤلّف ويرجّح أن اسم المؤلّف لم يكن معلومًا أيضًا في الفترة الّتي كُتب فيها الكتاب.  يرجّح مرجليوت، الباحث الّذي اكتشف أوراق الكتاب، أن الكتاب تألف في أرض كنعان بعد القرن الثّالث الميلادي في مدينة عاش بها يهودٌ ويونانيون على ما يبدو، إلا انّ هذا يبقى مجرّد تخمين. المؤكّد هو أن سفر الخفايا يعطينا لمحة هامّة وساحرة، إن جاز التّعبير، على العالم اليهوديّ-اليونانيّ قبل ظهور الإسلام.

على موقع المكتبة الوطنية نسخة رقميّة لمخطوطة يمنيّة تعود للقرن الثّالث عشر ميلادي لسفر الخفايا- هرازيم مكتوبة بالعربيّة اليهوديّة. إن كنتم تقرأون الحروف العبريّة – حاولوا قراءتها!

المخطوطة على موقع المكتبة الوطنيّة

 

 

[1] الجنيزة هي المكان الّذي تحفظ فيه الأوراق الّتي لا يجوز رميها في اليهوديّة لأنها تحتوي على اسم الله أو لأنها كتبت في موضوعات دينيّة. تم اكتشاف جنيزة تاريخيّة في كنيس في القاهرة تضم مجموعة ضخمة من المخطوطات العبريّة القديمة ومنها بعض أوراق سفر الخفايا المكتوبة بالعبريّة.