سعيد بن يوسف الفيومي: التعريف به وبآثاره

أحد أعظم الشخصيات الدينية اليهودية وأغزرها ثقافة وكتابة. ولد في فيوم مصر، ونشط في بغداد، واشتهر بالاسم سعاديا هغاؤون في العالم اليهودي.

تفسير التوراة بالعربية

أحد أعظم الشخصيات الدينية اليهودية وأغزرها ثقافة وكتابة. ولد في دلاص في فيوم مصر، وليس في قرية أبو صوير كما هو شائع في الأدبيات العربية الحديثة، ونشط في بغداد (882-942م)، واشتهر بالاسم سعاديا هغاؤون في العالم اليهودي، ووقف على رأس عمله بصفته رئيس إحدى أهم مدرستين دينيتين يهوديتين في العالم اليهودي وكلتاهما في العراق (منذ القرن الثالث وحتى الحادي عشر الميلادي)، حملت الأولى اسم مدرسة “سورا”، وهي المدينة التي يطلق عليها حاليًا اسم أبو صُخير، مركز قضاء محافظة القادسية في منطقة الفرات الأوسط، وجنوب بغداد. أما الثانية فهي مدرسة “فومبديتا” وهي مدينة الفلوجة، أو إحدى البلدات المجاورة لها. ترأس الفيومي مدرسة سورا بينما كانت تمر في أصعب فترة لها، فأنعشها بعد نقلها إلى بغداد واستمرت حتى وقت متأخر في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي.

انتقل من بلدته في الفيوم في جيل الشباب، ويبدو أنه درس في إحدى مدارس مدينة طبريا الدينية لبضع سنين، وانتقل بعد فترة ما في بلدات سورية إلى الاستقرار في بغداد حيث تولّى رئاسة مدرسة سورا الدينية (في سنة 928م).

نستدل بكتاباته الغزيرة، التي طالت الفقه الديني وعلم الكلام وعلوم اللغة المختلفة والشعر والترجمة والتفسير، على ثقافته الواسعة والغنية في العلوم والفلسفة وصنوف الأدب والشعر. وكان بلا شك مطلعًا على العقائد والديانات والفرق العديدة المنتشرة في العراق بلغاتها ومجموعاتها الإثنية المختلفة، لا سيما في بغداد، تلك المدينة الجديدة التي استقطبت مختلف صنوف الحرف والعلماء والمثقفين.

استفاد الفيومي بشدة من حركة الترجمة من السريانية واليونانية والفارسية والهندية وغيرها إلى العربية، وتركت هذه الثقافات المختلفة أشد الأثر على اصطلاحاته وتوجّهاته التي يمكن التعبير عنها من خلال لفظة “الأدب” بمعانيها الواسعة.

نشر جميع ترجماته وتفسيراته لأسفار الكتاب اليهودي المقدّس، وكذلك كتابه الكلامي الأهم “الأمانات الاعتقادات”، المتأثر بصورة جلية باصطلاحات وتوجّهات علم الكلام المعتزلي، وكتب ومصنّفاته الفقهية والنحوية، بالعربية ولكن بأحرف عبرية مع تطعيمها باقتباسات عبرية وآرامية، وهو الشكل الذي يطلق عليه تعبير “العربية اليهودية”.

تكمن أهمية كتاب “الأمانات” في كونه يعكس لنا طورًا هامًا من أطوار تطوّر علم الكلام الإسلامي المعتزلي وأشكال تأثيره على الأدبيات اليهودية في تلك الحقبة بالغة الأهمية، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى إحداث ثورة فكرة ولاهوتية في اليهودية، والتي بدأها بلا شك الفيومي، ربما بتأثير الفرقة اليهودية القرائية التي انفتحت كثيرًا على العلوم والآداب غير اليهودية لا سيما الإسلامية منها في وقت مبكّر.

تعكس ترجمات الفيومي لعدد كبير من أسفار الكتاب اليهودي المقدّس طورًا متقدمًا من الترجمة التي تركّز على نقل المعاني أكثر من التزامها بحرفية النصوص، وهو ما يميّز ترجمات الفيومي خاصة حتى يومنا هذا.

يعتبر الفيومي أول رجل دين يهود يتمتّع بسلطة دينية وقيادية يضفي الشرعية على الانفتاح على العلوم الحديثة في زمانه، بعد أن كانت محرّمة شرعًا حتى عصره، واتّسمت اليهودية قبله بالانغلاق والخشية من التأثّر من آداب وعلوم غير اليهود. ولهذا، نراه يُحدث ثورة في العالم الثقافي اليهودي ويمدّ اليهودية بصفتها دينًا بأدوات ومعارف جديدة ساهمت بصورة كبيرة في إحداث ثورة فكرية داخل اليهودية.

وأكثر ما يشد انتباهنا في عصرنا الحالي في كتابات الفيومي فهما نقطتان، تتمثّل الأولى في تعريفه التالي للهوية الجمعية لليهود البعيد كل البعد عن أي ملامح إثنية: “لأنَّ أمّتنا بني إسرائيل إنما هي أمّة بشرائعها” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 3). أما الثانية فتتمثّل في مركزية الإنسان في فكره وكتاباته كلّها. فنراه يسعى من خلال كل ما يكتبه إلى “تهذيب” فكر وأخلاق وسبل حياة الإنسان، وبهذا المعنى فهو قريب جدًا من منهج الفيومي ابن عصره وابن مدينته. لن يكون هذا مفاجئًا لنا إذا أدركنا أن التوجّه العام للفيومي يقوم على فرضية أساسية مفادها أن الإنسان هو محور الخليقة وغايتها، فكل ما عداه أدوات لخدمته. وفيما يلي مقتطفات صريحة لهذه الفكرة المركزية في فكره والمستندة كذلك إلى الكتاب اليهودي المقدّس:

  • “إنَّ الإنسان لا يفعل شيئًا إلّا وهو مختار لفعله، إذ لا يجوز أن يفعل مَن لا اختيار له ولا مَن ليس هو مختارًا” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 4).
  • “عرّفنا ربّنا على يد أنبيائه أنه فضّل الإنسان على جميع خلقه “واستولوا على سمك البحر وطائر السَّماء” (التكوين 1: 28)، وعلى ما قال في مزمور: “الَّلهُمَّ يا سيِّدنا ما أعظم اسمك في جميع الأرض” (المزامير 8: 2) إلى آخره؛ وأنه أعطاه القدرة على طاعته ووضعها بين يديه وضعًا ومكّنه وخيّره وأمره أن يختار الخير […] ثمَّ نظرنا بصناعة النظر بما ذا شرّفه فوجدنا وجه تشريفه بالحكمة التي جعلها له وعلّمه إيّاها كما قال: وإنْ سألك الحيوة أعطيتها له، المُعلِّمُ الإنسانَ المعرفة (المزامير 21: 5؛ 94: 10)، فهو بها يحفظ كلّ شيء ماضٍ من الأفعال، وبها ينظر في كثرة من العواقب التي تأتي، وبها يصل إلى تسخير الحيوان ليفلحوا له الأرض وينقلوا إليه غلًاتها، وبها يصل إلى استخراج الماء من عمق الأرض حتى صار على وجهها بل صنع له النواعير التي تستسقى منها، وبها يصل إلى بناء المنازل السريّة ولباس الثياب الفاخرة وإصلاح الأطعمة اللذيذة، وبها يصل إلى قود الجيوش والعساكر وتدبير المَلِك والسلطان حتى انضبط الناس وتسقّموا، وبها يصل إلى علم هيئة الفلك ومسير النجوم ومقادير أجرامها وأبعادها وسائر أحوالها، فإنْ توهّم متوهّم أنَّ المفضَّل هو شي غير الإنسان فليُرِنا هذا المُفضَّل أو بعضه بغيره وذاك كلًا لا يجده فبحقّ أن يكون الإنسان المأمور والمُنهى والمُثاب والمُعاقب إذ هو قطب العالم وقاعدته كقوله: “إنَّ لله أركان الأرض” (صموئيل الأول 2: 8)، وقال: “والصَّالح أساس العالَم” (الأمثال 10: 25). فلمّا تبيّنتُ هذه الأصول وما يتفرّع منها علمتُ أنَّ تشريف الإنسان ليس هو وهمًا وقع في نفوسنا ولا ميل ملنا به إلى محاباته ولا إيثار حملنا وعجب وصلف أن ندّعيه لأنفسنا إلًا حقّ صحيح وصدق مبين. ولم يشرّفه الحكيم بهذا الأمر إلًا لأنه جعله موضعًا لأمره ونهيه، كما قال: “ثمَّ قال للأدميّين إنَّ تقوى الله هي أيضًا حكمة والزوال عن الشرّ فهم أيضًا” (أيوب 28: 28)” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 4).

برغم اهتمام الفيومي بالتدريس وتوفير طلبة علم يهود في عصره، إلّا أن سلسلة الطلّاب هذه لم تستمر لفترة طويلة، بل نراها تتضاءل شيئًا فشيئًا بعد مماته، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى إغلاق مدرسته الدينية في منتصف النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي. أما بعد انتقال مركز العلوم اليهودية إلى أوروبا، بدءًا من القرن الحادي عشر الميلادي، وترجمة بعض نصوص الفيومي إلى العبرية، نشهد أنها نقلت من خلال قوالب لغوية وأدبية يهودية تقليدية، لعدم قدرة اللغة العبرية في حينه على نقل العالم الفكري والثقافي باصطلاحاته وتوجّهاته الغنية التي شاعت في الحواضر الإسلامية.