في مجموعة صور المكتبة الوطنية وجدت صورة مميّزة تعود لعام 1947 في القدس جمعت الملك عبدالله الأول وغلوب باشا القائد البريطاني للجيش العربي الاردني حينها مع جينيرال باركر، المبعد لتوه عن منصب القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين وشرق الاردن. وعلى ظهرها سجّلت ملاحظة على ما يبدو أنها "سرية".
غلوب باشا، الملك عبدالله، جينيرال باركر، 1947، مجموعة صور المكتبة الوطنية
ولد الملك عبدالله في مكّة ابنًا للشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى ضد الحكم العثماني. ترعرع في كنف أبيه وتولّى بنفسه قيادة بعض الهجمات خلال التمرد العربي الذي خرج من الحجاز أملًا ببناء دولة عربيّة شرق أوسطية كبرى تحكمها السلالة الهاشمية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ووقوع كل من الانتداب البريطاني والفرنسي على الاقاليم العربيّة، جرى الاتفاق على تولية أبناء الشريف حسين على شرقي الاردن والعراق، وتولى بذلك الامير عبدالله إمارة شرقي الأردن إلى أن نال الأردن استقلاله في أيار 1946 وتنصيبه ملكًا عليها.
عند مشاركة الجيش الأردني في معارك حرب 1948، تمكّن من إحكام قبضته على القدس القديمة والمناطق التي أصبحت تُعرف لاحقًا بالضّفة الغربيّة وضمّها إلى مناطق حكم الملك. إلّا أنّ هذه النتيجة لم تكن من قبيل الصّدفة الغير مرجوّة، فإذا كانت فلسطين ستنقسم لدولة يهوديّة ودولة عربيّة، فمن الأولى بحكم الدولة العربيّة من أبناء الشريف حسين، الذين بقوا أوفياء لبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثّانية ولم يحصلوا على ما وعدوا به بالكامل؟
علينا تخيّل هذا المنطق؛ حين نسترجع تلك الفترة المشحونة، فالملك عبدالله كان حليفًا موثوقًا لدى الحكومة البريطانيّة، ومع ذلك فهو لم يُمنح أي تأكيد أو وعد على أن تُضمّ الدولة العربيّة الوليدة في فلسطين إلى أراضي حكمه، مع أنه دعم قرار التقسيم وحيدًا في ظلّ رفض عربي قاطع.
في مجموعة صور المكتبة الوطنية، وُجدت صورة مميّزة تعود لعام 1947 في القدس جمعت الملك عبدالله الأول وغلوب باشا القائد البريطاني للجيش العربي الأردني حينها مع الجنرال باركر، المبعد لتوه عن منصب القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن. يظهر في الصّورة الملك عبدالله في الوسط ممسكًا بيد الجنرال باركر ومبتسمًا وكأن الصورة تحتفل بشيء ما.
كان الجنرال باركر رجلًا عسكريًا فذًا خدم في الحرب العالميّة الأولى وتولّى قيادة معركة فرنسا في الحرب العالميّة الثّانية، ولكنه تولى منصب قيادة القوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن لعام واحدٍ فقط (1946-1947).
إذ قدمت شكاوى عديده ضده من قبل الوكالة اليهوديّة بخصوص سياسته بالتعامل مع المعتقلين اليهود وطالبت بنقله، ووفقًا لخبر جاء في صحيفة فلسطين فإنّ نقله كان نتيجة لمساومة غير معلنة بين حكومة الانتداب والحركة الصّهيونيّة إلا أن هذا لم يتأكد. ومن المثير للاهتمام أن على ظهر الصّورة سُجّلت ملاحظة بخط اليد بالإنجليزيّة تقول: “جنرال باركر يقول إلى جنرال غلوب: أتساءل ماذا سيقول اليهود حين يرون هذه الصّورة”، مع التّاريخ 10.2.1947.
المثير للاهتمام أن هذه الصّورة، إذا كان التاريخ المسجل عليها هو تاريخ التقاطها، كانت قبل أيام معدودة من مغادرة الجينيرال باركر فلسطين بلا عودة. ووفقًا لمقالة نشرتها جريدة فلسطين بعد قرابة عشرة أيام من رحيله، فإنه في كلمته الأخيرة للجنود البريطانيين، أعرب عن قلقه من اضطرابات مستقبلية ستحدث في البلاد قائلًا “لا يبدو لي أن السلام سيخيّم على هذه البلاد التعسة في المستقبل القريب، وسيجد الجيش مهامه تزداد وتتضاعف”.
بعد هذه الحادثة بتسعة أشهر صدر قرار تقسيم فلسطين الذي أبدى الملك عبدالله موافقة عليه أملًا بأن تكون أراضي الدولة العربية جزء من الدولة الأردنية حديثة العهد، حتّى أن بعض المصادر تفيد بإجراء لقاءات سرية بين الملك عبدالله وزعامات صهيونيّة للتباحث في هذا الأمر، ومع إبداء الارتياح الضمني للتجاور ما بين الدولة اليهوديّة والمملكة الهاشمية إلا أن للحرب كانت الكلمة الأخيرة، وهذا ما فهمه جميع الأطراف بالتأكيد.
فما الذي دار بين الملك عبدالله والجنرالين غلوب وباركر، وما سرّ هذه الابتسامة والملاحظة المكتوبة على ظهر الصّورة؟ ومن الذي سمع هذا الكلام وسجّل هذه الملاحظة على ظهر الصورة؟
يظهر تحت الملاحظة الختم الخاص بالمصوّر اليهودي تسفي أورون الذي التقط الصورة، عمل تسفي أورون كمصورًا للصحافة وكان المصوّر الرسمي للمندوب السامي البريطاني وللقوات البريطانيّة. وبالتأكيد فإن طبيعة عمل أورون كمصوّر رسمي للقوات البريطانيّة منحته مادة مميزة لعمله مع الصّحافة، وهذه الصّورة بالملاحظة المكتوبة على ظهرها كانت على ما يبدو خبر أراد ان ينقله المصوّر بهذه الطريقة إلى الصّحافة.
روضة الأطفال التي تحولت إلى مقر لقيادة الموساد في المغرب
في الصباح مربية أطفال، وفي المساء عميلة للموساد- إنّها قصة حقيقية وليست فيلم تجسس.
تخيّلوا الموقف التالي: تكلّفون بالسفر إلى دولة أجنبية، يطُلب منكم تأسيس روضة أطفال عبرية لأطفال الجالية اليهودية، وفي صباح أحد الأيام، تكتشفون أنّ الروضة التي أسّستموها- تحولت إلى قاعدة تدريبات للموساد، وأقيم فيها فرع للمنظمة السريّة اليهودية. هل تبدو لكم قصة من فيلم أكشن؟ ربما تكون كذلك، ولكنها قصة حقيقية، وهذا مجرّد غيض من فيض. تحدّثت بطلة القصّة فقط عمّا سمحت الرقابة بنشره: مع اقتراب نهاية عام 2022، نشرت لأول مرة قصة يهوديت يحزقيلي (غليلي)، “بعثة مصيرية”، حيث تحدثت عن التجارب المثيرة التي مرت بها في المغرب.
في عام 1954، كلّفت يهوديت غليلي بالسفر إلى المغرب من قبل قسم الثقافة والتعليم في الوكالة اليهودية. كانت مهمّتها بسيطة: تأسيس روضة أطفال إسرائيلية-عبرية في المغرب، وتعليم اللغة العبرية. في تلك الفترة، كانت غليلي تعمل كمدرّسة في بلدة هارطوڤ، والتي ساهمت في إقامتها، وفي أحد الأيام، وبينما كانت تنتظر القطار عودةً إلى مدينة القدس، أخبرها أحد أصدقائها بأنّ الوكالة تبحث عن مدرّسين للسفر في إطار بعثة إلى دولة المغرب. مع أنّ يهوديت كانت تجهل موقع الدار البيضاء على الخارطة، إلّا أنّها لم تتردد – وبتشجيع من أصدقائها، قررت قبول المهمّة التي كلّفت بها. بعد أن اجتازت جميع المقابلات ومسار القبول، تقلّدت منصبًا رسميًا في المغرب عام 1954، ولم تكن قد تجاوزت بعد سن 24 عامًا.
ولدت غليلي عام 1930 في طبريا، وترعرعت في نيشر. شاركت في صِباها في فعاليات الشبيبة العاملة والمتعلمة ونشطت أيضًا في كتائب الشباب “غدناع”. قبل سفرها إلى المغرب، شاركت في دورة تأهيل قادة عسكريين في القوات البرية الإسرائيلية التابعة للبلماح، قاتلت في عمليات عسكرية وأصيبت في معركة حيفا. في أيار 1948، انضمت إلى لواء هريئيل حيث عملت في مرافقة وإرشاد القوافل الأمنية.
المهمّة: إقامة روضة أطفال في المغرب
كانت مهمّة يهوديت، على الأقل في بداياتها، جوهر النشاط الصهيوني خارج البلاد في تلك الفترة: استقطاب وتقريب يهود المغرب من البلاد، خاصة أبناء الطبقة الوسطى – الثرية، والذين ابتعدوا عن الفكرة الصهيونية وعن دولة إسرائيل. كانت الجالية اليهودية في المغرب أكبر جالية يهودية في البلدان الإسلامية. اعتاد اليهود المثقفون والأثرياء إرسال أبنائهم إلى مؤسسات تعليمية فرنسية بدلًا من الصهيونية، مثل الأليانس ومؤسسات تعليمية أخرى. جزء كبير من هذه الجالية، وقد تمركز العديد من ابنائها في الدار البيضاء ـ (حيث أرسلت يهوديت)، لم يفكروا قط في الهجرة إلى دولة إسرائيل. في تلك الفترة، كانت المغرب لا تزال “دولة واقعة تحت حماية” الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية – وشيكة الزوال. على الرغم من وقوع أحداث عنف معدودة (مثل البوغرومات في وجدة وجرادة والتي وقعت بعد إعلان استقلال دولة إسرائيل)، تمتّع اليهود في المغرب بقدر من الراحة النسبية تحت الحكم الفرنسي، ولكن دولة إسرائيل كانت تعلم أنّ حالة الهدوء لن تدوم طويلًا- ولذلك، أرسلت مبعوثيها لتقريب يهود المغرب من الفكرة الصهيونية، تحسّبًا لأي طارئ.
في السنة الأولى لهذا التكليف، سعت يهوديت لتأسيس روضة أطفال عبرية في الدار البيضاء، وإلى جانبها استوديو لتعليم اللغة العبرية. درّست اللغة العبرية في الروضة، وكانت العبرية اللغة المستخدمة في الروضة التي أدارتها يهوديت والمساعِدة تسيبورا، يهودية محلية تحدثت العبرية. اتبعت الروضة نفس نهج العمل الذي كان متبعًا في رياض الأطفال العبرية في البلاد، ووفقًا لنفس المنهاج. حضر الأطفال إلى الروضة في سفريات خاصة، وكانت معدات ولوازم الروضة عبارة عن تبرّعات قدّمتها جهات صهيونية في إسرائيل ومنظمة الجوينت. أقيمت الروضة في فيلا فخمة في الحي الفرنسي في الدار البيضاء، وخصّص فيها مسكن ليهوديت، والتي طوّرت خلال عملها علاقة وطيدة مع أهالي الأطفال من المجتمع المحلي، والذين كانت لهم لاحقًا مساهمة كبرى. تم لاحقًا تجنيد بعض الأهالي الذين أرسلوا أطفالهم إلى الروضة للانضمام إلى المنظمة السريّة اليهودية في المغرب – “همَسغيرت”. ابتداءً من عام 1954، كان عملاء الجهاز الأمني الإسرائيلي، وعلى رأسهم شلومو حافيليو، يكلفون بالسفر إلى المغرب، لفحص وتقييم وضع اليهود في الدولة. كانت المغرب تسعى لنيل الاستقلال، وكان على اليهود – الذين تحسنت مكانتهم خلال فترة الاستعمار الفرنسي – الاستعداد مجددًا للتغيير الوشيك. في الواقع، فإنّ المهمة الأصلية ليهوديت غليليت كانت مرتبطة بتحقيق هذا الهدف، إذ أنّ التشجيع على الهجرة كان أحد الطرق الرسمية التي اتبعتها إسرائيل للتعامل مع الوضع.
بعد مضي عام على بدء العمل، خرجت يهوديت في إجازة قصيرة. عند عودتها، كانت البلاد في حالة سيئة. فقد تم قبل ذلك نفي السلطان محمد الخامس، حدث في مصر انقلاب وفقدت المنطقة بأسرها أمنها واستقرارها. توقعت دولة إسرائيل انضمام المغرب إلى المعسكر المعادي لإسرائيلي، كسائر البلدان العربية، وساد القلق والخوف على حياة نحو 200,000 يهودي في المغرب. سرّع الموساد عملية تأسيس “همسغيرت”، المنظمة السرية اليهودية في المغرب، وبدأت خلايا المنظمة تنتشر سرًا في مختلف أرجاء الدولة. افتتحت إحداها داخل الروضة التي أسّستها يهوديت غليلي. كان يوم 16 تشرين الأول 1955، وهو يوم عودة ملك المغرب إلى بلاده، نقطة تحول بالنسبة ليهوديت. سعت المنظمة السرية في تلك الفترة لإيجاد غطاء تتستر خلفه، الاندماج بين عملاء الوكالة المخولين رسميًا بالتواجد في الدولة، وتم تجنيد سكان محليين في صفوفها. وعليه، وعند عودة يهوديت من إجازتها القصيرة، اكتشفت أنّ الروضة التي أقيمت في الفيلا باتت تستخدم لأغراض أخرى.
يهوديت غليلي، الاسم المستعار: “نورا”
“عند صعود السلّم باتجاه غرفتي، سمعت أصواتًا غريبة صادرة عن الطابق الثاني (…). هممت بالانصراف بسرعة، ولكنني فوجئت برؤية أشخاص غرباء، وأعتقد أنّهم هم أيضًا ذعروا أكثر مما ذعرت أنا نفسي… كان من المفترض أن يكونوا عملاء “سريين”، تسللوا إلى المغرب كل على حدة، ولم يكن أحد يعلم بوجودهم هنا، وفجأة، يُكتشف مخبأهم أمام إسرائيلية مجهولة….”. هكذا استحضرت يهوديت غليلي لقاءها الأول بنشطاء المنظمة السرية اليهودية في المغرب. كان شلومو يحزقيلي، قائد الخلية ولاحقًا زوج يهوديت، أول من استعاد رباطة جأشه ودعاها للجلوس ومن ثم التحقيق معها بعد أن قدّم نفسه باختصار. “أجبت عن جميع الأسئلة كطفلة مطيعة، وفي النهاية، نفذ صبري. بنبرة غاضبة وواضحة، قلت مندفعة، ما هذه التحقيقات؟ من أنتم؟ بأي حق تدخلون الروضة؟ أنا أسكن هنا وهذه روضتي!”، كتبت يهوديت عن ذاك اللقاء. بعد هذا التعبير الحازم عن موقفها، كُسر الجليد، وفي نهاية المطاف، وجدت يهوديت نفسها مجنّدة للمنظمة السرية اليهودية في المغرب. وافقت على الانضمام مع أنّها لم تكن تعلم ما يدور، وذلك بعد أن اكتشفت أن أعضاء المنظمة يعرفون عنها كل شيء دون أن تنبس ببنت شفة.
في ذاك اللقاء الذي اقتحمته غليليت بدون قصد، قرر أعضاء “همسغيرت” الاستقرار في مبنى الروضة في الدار البيضاء، لتصبح الروضة بذلك مقرًا مؤقتًا للمنظمة السرية اليهودية في المغرب. تم تجهيز وتهيئة قبو الروضة ليصبح مخبأ الأسلحة الأول للتنظيم اليهودي، ومن ثم مقرًا للتدريبات، مقرًا لتفكيك وتركيب الأسلحة والوسائل القتالية ومقرًا للقاءات السريّة لضم المجندين الجدد. انتحل أعضاء المنظمة شخصية عملاء الوكالة، لتتحول المنظمة بذلك من ذراع صهيوني معترف به إلى جهة متداخلة عميقًا في نشاط الموساد. أصبحت يهوديت “المتعلمة” موردًا ثمينًا بالنسبة للمنظمة السرية. عملها كمربية أطفال أتاح لها المجال للتواصل مع السكان المحليين- ابتداءً من أهالي أطفال الروضة وحتى تلاميذ استوديو تدريس اللغة العبرية، الإصغاء للآخرين وفهم الأجواء السائدة- والأهم من ذلك كلّه- إيجاد عملاء محتملين يمكن تجنيدهم. تعلّمت يهوديت كيفية الكتابة بحبر سري وتجهيز مخابئ الأسلحة، تدرّبت على مختلف طرق جمع المواد والمعلومات واستخدمت الاسم المستعار- “نورا”. بالإضافة إلى المهارات أعلاه، أدّت يهوديت دور المبعوثة وهمزة وصل بين المجموعات المختلفة، وبدأت أيضًا بتزوير جوازات سفر لليهود الذين أرادوا الهروب من المغرب.
روضة الأطفال ومقر المنظمة السرية اليهودية
كيف سارت الأمور في الواقع؟ إليكم مثال: حضرت كارميلا، يونا وابنتهما أورلي- عميلا موساد وابنتهما- إلى المغرب كعملاء للوكالة واستقروا في الدار البيضاء. سجّلت الطفلة أورلي في روضة يهوديت، لتسهيل المحادثات بين يهوديت والزوجين. عندما كانت كارميلا تحضر ابنتها إلى الروضة صباحًا، كانت تترك ليهوديت رزمًا ورسائل مصنّفة، لتقوم يهوديت بدورها بتوصيلهما إلى وجهتها. كان يونا نائب شلومو يحزقيلي، قائد المنظمة السرية اليهودية، وكان مسؤولًا عن استلام الأسلحة، تخبئتها والتدريب على استخدامها. كان أيضًا متخصصًا في صنع مغلّفات مزدوجة ذات محتويات سرية. عندما كان يأتي إلى الروضة، كان يهتم بصنع مخابئ مختلفة داخل الفيلا، على سبيل المثال، داخل أصيص كبير أمام الفيلا حيث حفر تجويفًا لتخبئة المناشير. استُخدمت المخابئ لتشفير الرسائل وتخبئة الأسلحة. تزامنًا مع ذلك، أصبحت يهوديت هي أيضًا جاسوسة: كل محادثة مع أهالي أطفال الروضة أصبحت مصدر معلومات تم تمريرها لأعضاء المنظمة السرية. من بين طالبات استوديو تدريس اللغة العبرية، كانت هناك فتيات ونساء عاملات في مكاتب حكومية أو لدى مسؤولين قياديين في مؤسسات مختلفة، وتم تجنيدهن هن أيضًا لجمع المعلومات. استخدمت الروضة أيضًا كمقر لإرسال ممتلكات العائلات اليهودية التي لم يتمكنوا من أخذها عند الهجرة، وفيه شبكة لاسلكية بين المغرب وفرنسا. تدربت في الروضة خلايا سرية لا تعرف شيئًا عن بعضها بعضًا، وكانت فيها أيضًا مناطق تُفتح وتُغلق عند سماع كلمة المرور الصحيحة. تجدر الإشارة إلى أنّ الروضة تابعت نشاطها الاعتيادي إلى جانب هذا النشاط السري.
في بداية حزيران 1956، أصدرت السلطات في المغرب قرارًا بتقليص نطاق النشاط الصهيوني في البلاد. حتى إغلاقها نهائيًا، تابعت روضة غليلي نشاطها مكتملة العدد، إلى جانب كونها مقر المنظّمة السرية “همسغيرت”. بعد إغلاقها، انتقلت المنظمة السرية اليهودية للعمل في مناطق أخرى ومن أماكن مختلفة. لم تغادر يهوديت غليليت المغرب، ولكنها تابعت نشاطها في مخيم المهاجرين “مازاغان” بجوار الدار البيضاء، إلى أن اضطرت لمغادرة البلاد. تابعت لاحقًا نشاطها من مرسيليا من أجل يهود المغرب.
تزوجت لاحقًا من شلومو يحزقيلي، قائد “همسغيرت” في المغرب، والذي التقت به للمرة الأولى في ذاك اليوم المصيري. تابعا معًا نشاطهما الأمني، الاستخباراتي والجماهيري الإسرائيلي في باريس بين 1960 و 1964. سكنا لاحقًا في أفريقيا في إطار منصب رسمي، ومن ثم عادا إلى البلاد. عملت يهوديت في التربية والتعليم والكتابة، وإلى جانب نشاطها التربوي، عملت في الرسم، النحت، تأليف القصص وإنتاج الأفلام. أصدرت تسعة كتب وعشرات المقالات، نظّمت معارض وأنتجت ثلاثة أفلام. فازت خلال حياتها بعدة جوائز، أنجبت من زوجها شلومو غليلي ثلاثة أبناء وأسّست عائلة في إسرائيل. يسرد كتابها الأخير، “بعثة مصيرية”، قصة بعثتها إلى المغرب، وهو يشكّل مرجعًا لكتابة هذه المقالة. القصة متاحة للقراءة عبر الإنترنت. (باللغة العبرية)
الصور في المقالة هي جزء من مشروع شبكة أرشيفات إسرائيل وهي متاحة في إطار تعاون بين ياد يتسحاق بن تسفي، وزارة شؤون القدس والتراث والمكتبة الوطنية الإسرائيلية.
أموال الحالوكاه أو التقسيمة – كيف عاش يهود اليشوف القديم؟
اليشوف القديم مصطلح عبري، ويُقصد به السكان اليهود في البلاد قبل الهجرات الصّهيونيّة، واعتاش هذا المجتمع على أموال التبرعات من يهود العالم. فما "الحالوكاه".
إن فكرة تخصيص الميزانيات لطلبة العلم فكرة مألوفة لدى معظمنا، لكن جذور هذه الفكرة في الديانة اليهودية قديمة وتسمى باتفاقية يَساكار وزبولون. ظهر هذا الاتفاق في سفر التكوين وفيه حدث تحالف بين شخصين – أحدهما لديه المال والآخر طالب ذكي ولكنه فقير؛ الرجل الغني يدعم الطالب الذكي مادياً ويسمح له باستثمار وقته في دراسة التوراة. في المقابل، يُعتبر صاحب المال شريكًا للطالب الذكي في أداء فريضة دراسة التوراة.
ظهرت هذه الممارسة عبر التاريخ بأشكال مختلفة؛ أحدها هو الحالوكاه أو أموال التقسيمة – مصطلح من فترة اليشوف القديم في فلسطين العثمانيّة يشير إلى الحسابات التي كانت تدار على يد يهود الشتات من أجل المستوطنين اليهود في البلاد.
كان سكان اليشوف القديم يمثّلون الشعب اليهودي كله، واعتبر مكوثهم في البلاد عملًا يقرّب الخلاص. لذلك، شعر يهود الشتات بنوع من الالتزام بدعمهم والاهتمام باحتياجاتهم. كانت الأموال التي تم جمعها مخصصة في المقام الأول للفقراء من العلماء الذين كرّسوا حياتهم للصلاة ولدراسة التوراة، وكان يهود اليشوف يذكرون المتبرعين في صلاتهم ويدعون لهم.
مثال على ذلك، الملصق التالي والذي يُظهر الصلاة بمناسبة عيد الميلاد المائة للسيد موشيه مونتفيوري الذي جمع الكثير من الأموال لسكّان اليشوف القديم. كُتبت الصفحة وطُبعت في مطبعة الحاخام يوئيل موشيه شالامان، وطُبع اسم مونتيفيوري بالحبر الذهبي.
تطوّر جمع أموال التقسيمة وتنظيمها في القرن السابع عشر، عندما عرّف حاخامات البلاد أموال التقسيمة كفرض على يهود الشتات وليست صدقة فقط. كانت إحدى الطرق الشائعة لجمع الأموال من خلال تركيب الحصّالة النقدية “الحاخام مئير صاحب المعجزة” في الكُنُس والبيوت، وقُسّمت الأموال التي تم جمعها على المستوطنين اليهود في البلاد، ومن هنا جاء اسم “أموال التقسيم”.
بدأت المشكلة عندما لم يتفق المستوطنون على حساب التّقسيمة، نشأت الخلافات بين الطائفة السفاردية والطائفة الأشكنازية في القدس حول توزيع أموال التقسيمة عندما قرّر السفارديون أن تٌعطى للقادة والعلماء، بينما قرّر الأشكنازيّون تقسيم الأموال وفقًا لمعادلة تم بموجبها تخصيص الثلث للمحتاجين، والثلث للعلماء والثلث للمؤسسات العامة.
على أثر هذه النّزاعات، غادر معظم الأشكنازيين القدس وانتقلوا إلى طبريا وصفد والخليل خلال القرن السابع عشر، ومنذ ذلك الحين، تم إرسال أموال التقسيمة إلى “المدن المقدسة الأربع” وهي القدس والخليل وطبريا وصفد. وفي العام 1786، قررت المجتمعات الأوروبية إنشاء “لجنة الكتّاب والمفوّضين” التي اهتمّت بتنسيق جمع الأموال وتوزيعها بشكلٍ منظّم.
حتى بداية الهجرات الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر كان أهالي اليشوف القديم يعتمدون بشكل تام على أموال التقسيمة لتسيير حياتهم. عملت منظمات وشخصيات يهودية من جميع أنحاء الوجود اليهودي في العالم من الاستيطان القديم، ومن بين أهدافهم كان التأثير على ثقافته، مثل المنظمة اليهودية الفرنسية “كل أصدقاء إسرائيل”، والمتبرعين من عائلة روتشيلد، ورؤساء الجاليات من إنجلترا وعلى رأسهم موشيه مونتفيوري، كما ذكرنا سابقًا، وعائلة ساسون من بغداد ومومباي وغيرهم. يعتقد الباحث موشيه سمت إلى أن نمو الاستيطان القديم وازدهاره كان مخيّبًا لهذا السبب بالتحديد – لأن المستوطنين القدامى لم يتمكنوا من إعالة أنفسهم واعتمدوا على الدعم المستمر من يهود الشتات.
في هذا الإعلان، يحتج السيّد على احتمال توقيف حصوله وعائلته على حصّتهم المعتادة من أموال التقسيمة بسبب افتتاحه لبيت مدراش (مقرّ علم ديني) بالقرب من منزله. وبحسبه، فقد تم تحذيره من أنه إذا لم يغلق البيت “مدراش”، فسوف يتوقف عن تلقي حصته من أموال التقسيمة خوفًا من أن يلجأ إلى جاليات يهودية في الخارج طلبًا لدعم البيت مدراش والتسبب بضرر للأموال المحوّلة إلى نظام التقسيمة.
وفقًا لأهالي الشتات حينها، كان من الأفضل تشجيع المستوطنين القدامى على العمل لكسب قوتهم بأنفسهم حتى يتمكنوا من العيش في البلاد باكتفاء ذاتي وبدون احتياج لتبرّعات من أي نوع. تبنّى هذا التوجّه ودعّمه العديد من المهاجرين الصّهيونيّين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والذين رأوا أن نظام التّقسيمة يتعارض مع اعتقادهم بأن على الاستيطان اليهودي في البلاد أن يقوم على أسس اقتصادية سليمة.
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت قد بدأت فكرة التقسيمة بالتّلاشي. اليوم، بقي استخدام صناديق التمويل في الخارج تحت إدارة الوكالة اليهودية ومنظمات إضافيّة، إلّا انّ هذه الأموال غير موجّهة إلى مواطني إسرائيل مباشرة، إنّما لدعم المنظّمات وأعمالها، ممّا يصبّ في المصلحة الجماعيّة للشعب اليهودي والإسرائيلي.
قرية الغجر لبنانية أم سورية
نستعرض في هذا المقال إشكالية المواطنة في قرية الغجر وجذرها الأول في الخرائط البريطانية.
في الجزء الشمالي الغربي من البلاد، تقع قرية الغجر، وهي صغيرة نائية جدًا، أُغلِقَت على أهلها حتى حزيران من العام 2022. وإلى جانب الظرفين الجغرافي والسياسي، على المستوى الطائفي، أهل القرية هم من الطائفة العلوية. تعتبر القرية من قرى هضبة الجولان وهي على الحدود مع مزارع شبعا اللبنانية، لذلك إذا بحثنا في محرّك جوجل سنجد سؤال البحث الرئيسي: “قرية الغجر لبنانية أم سورية“؟ فما حكاية قرية الغجر ولم هذه الحيرة في الهوية؟
لبنان أم سوريا؟
في أواخر العهد العثماني، بإيعاز من الباب العالي، تولّى الأكراد حكم قرية الغجر وكانوا أوّل من استبدّل اسم القرية من “طرنجه” إلى “الغجر”، وفي ذلك الوقت، كانت القرية تابعة لحوران قضاء القنيطرة السورية. وبعد الحرب العالمية الأولى، شُملت القرية في سيطرة الانتداب الفرنسي الواقع على كل من سوريا ولبنان (في منطقة بلاد الشام)، وكانت جميع سجلّاتها الرسمية في القنيطرة ودمشق. في العام 1932، خلال فترة الانتداب، خُيّر أهالي القرية بشأن المواطنة ما بين لُبنان وسوريا فاختاروا المواطنة السّوريّة حيث الوجود الأكبر للطائفة العلويّة للحفاظ على أمنهم وترابطهم مع باقي الطائفة، وبالفعل حصل أهلها على المواطنة عند استقلال سوريا في عيد الجلاء في 17 نيسان للعام 1942. وفي إحصائيات العام 1960، كانت “الغجر” ضمن إحصائيات سكان الدولة السورية. (الخطيب، 2017)
انتهاء المواطنة السورية، ولبنان ترفُض
أثناء حرب عام 1967 والمعارك الدّائرة على المثلث الحدودي الإسرائيلي – اللبناني – السوري، تحديدًا على أراضي هضبة الجَوْلان، استخدمت الفرق العسكريّة الإسرائيليّة في المنطقة هناك خرائط مسح فلسطين البريطانية التي أظهرت أنّ قرية “الغجر” ضمن الحدود اللبنانيّة ولذلك لم تدخلها القوّات الإسرائيليّة لأن لبنان لم تكن مشتركة في الحرب، وهكذا أصبحت “الغجر” منطقة محرّمة لأنها محل نزاع من قبل طرفان تركاها دون احتلالها لأسباب تعود للخوف أو الشك؛ إذ رفضت لبنان طلب أهالي القرية بضمها إلى مناطق الدولة اللبنانية لأنهم سوريّين. بعد شهرين ونصف من العزلة الاقتصاديّة ونقص المواد الغذائيّة، آثر أهالي القرية الاتّصال ببقيّة قرى الجولان الواقعة تحت الحكم العسكري الإسرائيلي وأعلنوا الخضوع للقوّات الإسرائيليّة في تاريخ 13 حزيران 1967، وافقت القوات الإسرائيليّة على ضمّ قرية الغجر إلى السّيطرة الإسرائيليّة وحصل سكّان القرية على المواطنة الإسرائيلية في العام 1981 مع إعلان قرار ضم الجولان في 14 كانون الأول.
الغجر تحت “الحصار”
من الجدير بالذكر أن أراضي القرية مقسّمة بين لبنان وإسرائيل، إلا أنّ جميع أهالي القرية في الشقيْن اللبناني والإسرائيلي يحملون الجنسيّة الإسرائيلية، والقرية محاطة بسياج عسكري من جميع جهاتها، ولم يكن لها سوى بوابة واحدة شرقي القرية، تغلق في وجه سكان القرية حتى يثبتوا هوياتهم، كما كانت تغلق في وجه الغرباء الذين لا يستصدرون تصريحًا من الجيش الإسرائيلي قبل يوم من الزيارة، وقد منعت القوات الإسرائيلية الصيوف من المبيت عند أصدقائهم وإجبارهم على مغادرة القرية قبل الساعة العاشرة ليلًا. (خطيب، 2017). استمر الوضع على هذا الحال حتى حزيران من العام 2022؛ إذ تم إزالة الحاجز وأصبح بالإمكان الدّخول إلى القرية بدون أي تقييدات.
ما زالت تعاني قرية الغجر من شُحّ الخدمات الحكومية على الرغم من مواطنتها بخلاف باقي قرى الجولان، إلا أنّ وجودها على الحدود الأكثر ارتباكًا أثّر على سكان القرية من جميع مناحي الحياة.