روضة الأطفال التي تحولت إلى مقر لقيادة الموساد في المغرب

في الصباح مربية أطفال، وفي المساء عميلة للموساد- إنّها قصة حقيقية وليست فيلم تجسس.

المربية اليهودية يحزقيلي غليلي (من اليسار) في احتفالات عيد الأنوار في الروضة العبرية الأولى، الدار البيضاء، المغرب.

المربية اليهودية يحزقيلي غليلي (من اليسار) في احتفالات عيد الأنوار في الروضة العبرية الأولى، الدار البيضاء، المغرب.

مُتّرجّم عن: شير أهارون برام

تخيّلوا الموقف التالي: تكلّفون بالسفر إلى دولة أجنبية، يطُلب منكم تأسيس روضة أطفال عبرية لأطفال الجالية اليهودية، وفي صباح أحد الأيام، تكتشفون أنّ الروضة التي أسّستموها- تحولت إلى قاعدة تدريبات للموساد، وأقيم فيها فرع للمنظمة السريّة اليهودية. هل تبدو لكم قصة من فيلم أكشن؟ ربما تكون كذلك، ولكنها قصة حقيقية، وهذا مجرّد غيض من فيض. تحدّثت بطلة القصّة فقط عمّا سمحت الرقابة بنشره: مع اقتراب نهاية عام 2022، نشرت لأول مرة قصة يهوديت يحزقيلي (غليلي)، “بعثة مصيرية”، حيث تحدثت عن التجارب المثيرة التي مرت بها في المغرب.

في عام 1954، كلّفت يهوديت غليلي بالسفر إلى المغرب من قبل قسم الثقافة والتعليم في الوكالة اليهودية.  كانت مهمّتها بسيطة: تأسيس روضة أطفال إسرائيلية-عبرية في المغرب، وتعليم اللغة العبرية. في تلك الفترة، كانت غليلي تعمل كمدرّسة في بلدة هارطوڤ، والتي ساهمت في إقامتها، وفي أحد الأيام، وبينما كانت تنتظر القطار عودةً إلى مدينة القدس، أخبرها أحد أصدقائها بأنّ الوكالة تبحث عن مدرّسين للسفر في إطار بعثة إلى دولة المغرب. مع أنّ يهوديت كانت تجهل موقع الدار البيضاء على الخارطة، إلّا أنّها لم تتردد – وبتشجيع من أصدقائها، قررت قبول المهمّة التي كلّفت بها. بعد أن اجتازت جميع المقابلات ومسار القبول، تقلّدت منصبًا رسميًا في المغرب عام 1954، ولم تكن قد تجاوزت بعد سن 24 عامًا.

ولدت غليلي عام 1930 في طبريا، وترعرعت في نيشر. شاركت في صِباها في فعاليات الشبيبة العاملة والمتعلمة ونشطت أيضًا في كتائب الشباب “غدناع”. قبل سفرها إلى المغرب، شاركت في دورة تأهيل قادة عسكريين في القوات البرية الإسرائيلية التابعة للبلماح، قاتلت في عمليات عسكرية وأصيبت في معركة حيفا. في أيار 1948، انضمت إلى لواء هريئيل حيث عملت في مرافقة وإرشاد القوافل الأمنية.

 

يهوديت غليلي (لاحقًا يحزقيلي) تتدرب على استخدام الأسلحة في تدريبات البلماح
يهوديت غليلي (لاحقًا يحزقيلي) تتدرب على استخدام الأسلحة في تدريبات البلماح

 

تدريبات لأعضاء البلماح وهم يجتازون مستجمعًا مائيًا. يهوديت غليلي يحزقيلي فوق أكتاف أحد الأشخاص
تدريبات لأعضاء البلماح وهم يجتازون مستجمعًا مائيًا. يهوديت غليلي يحزقيلي فوق أكتاف أحد الأشخاص

 

المهمّة: إقامة روضة أطفال في المغرب

كانت مهمّة يهوديت، على الأقل في بداياتها، جوهر النشاط الصهيوني خارج البلاد في تلك الفترة: استقطاب وتقريب يهود المغرب من البلاد، خاصة أبناء الطبقة الوسطى – الثرية، والذين ابتعدوا عن الفكرة الصهيونية وعن دولة إسرائيل. كانت الجالية اليهودية في المغرب أكبر جالية يهودية في البلدان الإسلامية. اعتاد اليهود المثقفون والأثرياء إرسال أبنائهم إلى مؤسسات تعليمية فرنسية بدلًا من الصهيونية، مثل الأليانس ومؤسسات تعليمية أخرى. جزء كبير من هذه الجالية، وقد تمركز العديد من ابنائها في الدار البيضاء ـ (حيث أرسلت يهوديت)، لم يفكروا قط في الهجرة إلى دولة إسرائيل. في تلك الفترة، كانت المغرب لا تزال “دولة واقعة تحت حماية” الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية – وشيكة الزوال. على الرغم من وقوع أحداث عنف معدودة (مثل البوغرومات في وجدة وجرادة والتي وقعت بعد إعلان استقلال دولة إسرائيل)، تمتّع اليهود في المغرب بقدر من الراحة النسبية تحت الحكم الفرنسي، ولكن دولة إسرائيل كانت تعلم أنّ حالة الهدوء لن تدوم طويلًا- ولذلك، أرسلت مبعوثيها لتقريب يهود المغرب من الفكرة الصهيونية، تحسّبًا لأي طارئ.

في السنة الأولى لهذا التكليف، سعت يهوديت لتأسيس روضة أطفال عبرية في الدار البيضاء، وإلى جانبها استوديو لتعليم اللغة العبرية. درّست اللغة العبرية في الروضة، وكانت العبرية اللغة المستخدمة في الروضة التي أدارتها يهوديت والمساعِدة تسيبورا، يهودية محلية تحدثت العبرية. اتبعت الروضة نفس نهج العمل الذي كان متبعًا في رياض الأطفال العبرية في البلاد، ووفقًا لنفس المنهاج. حضر الأطفال إلى الروضة في سفريات خاصة، وكانت معدات ولوازم الروضة عبارة عن تبرّعات قدّمتها جهات صهيونية في إسرائيل ومنظمة الجوينت. أقيمت الروضة في فيلا فخمة في الحي الفرنسي في الدار البيضاء، وخصّص فيها مسكن ليهوديت، والتي طوّرت خلال عملها علاقة وطيدة مع أهالي الأطفال من المجتمع المحلي، والذين كانت لهم لاحقًا مساهمة كبرى. تم لاحقًا تجنيد بعض الأهالي الذين أرسلوا أطفالهم إلى الروضة للانضمام إلى المنظمة السريّة اليهودية في المغرب – “همَسغيرت”. ابتداءً من عام 1954، كان عملاء الجهاز الأمني الإسرائيلي، وعلى رأسهم شلومو حافيليو، يكلفون بالسفر إلى المغرب، لفحص وتقييم وضع اليهود في الدولة. كانت المغرب تسعى لنيل الاستقلال، وكان على اليهود – الذين تحسنت مكانتهم خلال فترة الاستعمار الفرنسي – الاستعداد مجددًا للتغيير الوشيك. في الواقع، فإنّ المهمة الأصلية ليهوديت غليليت كانت مرتبطة بتحقيق هذا الهدف، إذ أنّ التشجيع على الهجرة كان أحد الطرق الرسمية التي اتبعتها إسرائيل للتعامل مع الوضع.

 

صورة جماعية لأطفال الروضة في عيد البوريم، يهوديت غليلي-يحزقيلي (الصف الثاني من اليمين)، نيشر.
صورة جماعية لأطفال الروضة في عيد البوريم، يهوديت غليلي-يحزقيلي (الصف الثاني من اليمين)، نيشر.

بعد مضي عام على بدء العمل، خرجت يهوديت في إجازة قصيرة. عند عودتها، كانت البلاد في حالة سيئة. فقد تم قبل ذلك نفي السلطان محمد الخامس، حدث في مصر انقلاب وفقدت المنطقة بأسرها أمنها واستقرارها. توقعت دولة إسرائيل انضمام المغرب إلى المعسكر المعادي لإسرائيلي، كسائر البلدان العربية، وساد القلق والخوف على حياة نحو 200,000 يهودي في المغرب. سرّع الموساد عملية تأسيس “همسغيرت”، المنظمة السرية اليهودية في المغرب، وبدأت خلايا المنظمة تنتشر سرًا في مختلف أرجاء الدولة. افتتحت إحداها داخل الروضة التي أسّستها يهوديت غليلي. كان يوم 16 تشرين الأول 1955، وهو يوم عودة ملك المغرب إلى بلاده، نقطة تحول بالنسبة ليهوديت. سعت المنظمة السرية في تلك الفترة لإيجاد غطاء تتستر خلفه، الاندماج بين عملاء الوكالة المخولين رسميًا بالتواجد في الدولة، وتم تجنيد سكان محليين في صفوفها. وعليه، وعند عودة يهوديت من إجازتها القصيرة، اكتشفت أنّ الروضة التي أقيمت في الفيلا باتت تستخدم لأغراض أخرى.

 

الملك محمد الخامس ونجله حسن عند عودتهما من المنفى في مدغشقر، داخل مركبة وترافقهما فرقة خيالة، شوارع الدار البيضاء، المغرب. تصوير: يهوديت غليلي.
الملك محمد الخامس ونجله حسن عند عودتهما من المنفى في مدغشقر، داخل مركبة وترافقهما فرقة خيالة، شوارع الدار البيضاء، المغرب. تصوير: يهوديت غليلي.

 

يهوديت غليلي، الاسم المستعار: “نورا”

“عند صعود السلّم باتجاه غرفتي، سمعت أصواتًا غريبة صادرة عن الطابق الثاني (…). هممت بالانصراف بسرعة، ولكنني فوجئت برؤية أشخاص غرباء، وأعتقد أنّهم هم أيضًا ذعروا أكثر مما ذعرت أنا نفسي… كان من المفترض أن يكونوا عملاء “سريين”، تسللوا إلى المغرب كل على حدة، ولم يكن أحد يعلم بوجودهم هنا، وفجأة، يُكتشف مخبأهم أمام إسرائيلية مجهولة….”. هكذا استحضرت يهوديت غليلي لقاءها الأول بنشطاء المنظمة السرية اليهودية في المغرب. كان شلومو يحزقيلي، قائد الخلية ولاحقًا زوج يهوديت، أول من استعاد رباطة جأشه ودعاها للجلوس ومن ثم التحقيق معها بعد أن قدّم نفسه باختصار. “أجبت عن جميع الأسئلة كطفلة مطيعة، وفي النهاية، نفذ صبري. بنبرة غاضبة وواضحة، قلت مندفعة، ما هذه التحقيقات؟ من أنتم؟ بأي حق تدخلون الروضة؟ أنا أسكن هنا وهذه روضتي!”، كتبت يهوديت عن ذاك اللقاء. بعد هذا التعبير الحازم عن موقفها، كُسر الجليد، وفي نهاية المطاف، وجدت يهوديت نفسها مجنّدة للمنظمة السرية اليهودية في المغرب. وافقت على الانضمام مع أنّها لم تكن تعلم ما يدور، وذلك بعد أن اكتشفت أن أعضاء المنظمة يعرفون عنها كل شيء دون أن تنبس ببنت شفة.

 

طفلة تقدّم تبرعًا للصندوق الأزرق الخاص بالصندوق القومي اليهودي، الروضة العبرية، الدار البيضاء، المغرب. في الوسط يهوديت يحزقيلي غليلي. أطفال الروضة متنكرين في عيد البوريم.
طفلة تقدّم تبرعًا للصندوق الأزرق الخاص بالصندوق القومي اليهودي، الروضة العبرية، الدار البيضاء، المغرب. في الوسط يهوديت يحزقيلي غليلي. أطفال الروضة متنكرين في عيد البوريم.

 

في ذاك اللقاء الذي اقتحمته غليليت بدون قصد، قرر أعضاء “همسغيرت” الاستقرار في مبنى الروضة في الدار البيضاء، لتصبح الروضة بذلك مقرًا مؤقتًا للمنظمة السرية اليهودية في المغرب.  تم تجهيز وتهيئة قبو الروضة ليصبح مخبأ الأسلحة الأول للتنظيم اليهودي، ومن ثم مقرًا للتدريبات، مقرًا لتفكيك وتركيب الأسلحة والوسائل القتالية ومقرًا للقاءات السريّة لضم المجندين الجدد. انتحل أعضاء المنظمة شخصية عملاء الوكالة، لتتحول المنظمة بذلك من ذراع صهيوني معترف به إلى جهة متداخلة عميقًا في نشاط الموساد. أصبحت يهوديت “المتعلمة” موردًا ثمينًا بالنسبة للمنظمة السرية. عملها كمربية أطفال أتاح لها المجال للتواصل مع السكان المحليين- ابتداءً من أهالي أطفال الروضة وحتى تلاميذ استوديو تدريس اللغة العبرية، الإصغاء للآخرين وفهم الأجواء السائدة- والأهم من ذلك كلّه- إيجاد عملاء محتملين يمكن تجنيدهم.  تعلّمت يهوديت كيفية الكتابة بحبر سري وتجهيز مخابئ الأسلحة، تدرّبت على مختلف طرق جمع المواد والمعلومات واستخدمت الاسم المستعار- “نورا”. بالإضافة إلى المهارات أعلاه، أدّت يهوديت دور المبعوثة وهمزة وصل بين المجموعات المختلفة، وبدأت أيضًا بتزوير جوازات سفر لليهود الذين أرادوا الهروب من المغرب.

 

مربية الأطفال يهوديت يحزقيلي وأطفال الروضة العبرية الأولى متنكرين في عيد البوريم، الدار البيضاء، المغرب.
مربية الأطفال يهوديت يحزقيلي وأطفال الروضة العبرية الأولى متنكرين في عيد البوريم، الدار البيضاء، المغرب.

 

روضة الأطفال ومقر المنظمة السرية اليهودية

كيف سارت الأمور في الواقع؟ إليكم مثال: حضرت كارميلا، يونا وابنتهما أورلي- عميلا موساد وابنتهما- إلى المغرب كعملاء للوكالة واستقروا في الدار البيضاء. سجّلت الطفلة أورلي في روضة يهوديت، لتسهيل المحادثات بين يهوديت والزوجين. عندما كانت كارميلا تحضر ابنتها إلى الروضة صباحًا، كانت تترك ليهوديت رزمًا ورسائل مصنّفة، لتقوم يهوديت بدورها بتوصيلهما إلى وجهتها. كان يونا نائب شلومو يحزقيلي، قائد المنظمة السرية اليهودية، وكان مسؤولًا عن استلام الأسلحة، تخبئتها والتدريب على استخدامها. كان أيضًا متخصصًا في صنع مغلّفات مزدوجة ذات محتويات سرية.  عندما كان يأتي إلى الروضة، كان يهتم بصنع مخابئ مختلفة داخل الفيلا، على سبيل المثال، داخل أصيص كبير أمام الفيلا حيث حفر تجويفًا لتخبئة المناشير. استُخدمت المخابئ لتشفير الرسائل وتخبئة الأسلحة.  تزامنًا مع ذلك، أصبحت يهوديت هي أيضًا جاسوسة: كل محادثة مع أهالي أطفال الروضة أصبحت مصدر معلومات تم تمريرها لأعضاء المنظمة السرية. من بين طالبات استوديو تدريس اللغة العبرية، كانت هناك فتيات ونساء عاملات في مكاتب حكومية أو لدى مسؤولين قياديين في مؤسسات مختلفة، وتم تجنيدهن هن أيضًا لجمع المعلومات. استخدمت الروضة أيضًا كمقر لإرسال ممتلكات العائلات اليهودية التي لم يتمكنوا من أخذها عند الهجرة، وفيه شبكة لاسلكية بين المغرب وفرنسا. تدربت في الروضة خلايا سرية لا تعرف شيئًا عن بعضها بعضًا، وكانت فيها أيضًا مناطق تُفتح وتُغلق عند سماع كلمة المرور الصحيحة.  تجدر الإشارة إلى أنّ الروضة تابعت نشاطها الاعتيادي إلى جانب هذا النشاط السري.

 

قصة حب. شلومو يحزقيلي، قائد "همسغيرت" وزوجته يهوديت غليلي التي جنّدها للمنظمة السرية، في صف تدريس اللغة العبرية والحساب، الدار البيضاء، المغرب
قصة حب. شلومو يحزقيلي، قائد “همسغيرت” وزوجته يهوديت غليلي التي جنّدها للمنظمة السرية، في صف تدريس اللغة العبرية والحساب، الدار البيضاء، المغرب

 

في بداية حزيران 1956، أصدرت السلطات في المغرب قرارًا بتقليص نطاق النشاط الصهيوني في البلاد. حتى إغلاقها نهائيًا، تابعت روضة غليلي نشاطها مكتملة العدد، إلى جانب كونها مقر المنظّمة السرية “همسغيرت”. بعد إغلاقها، انتقلت المنظمة السرية اليهودية للعمل في مناطق أخرى ومن أماكن مختلفة. لم تغادر يهوديت غليليت المغرب، ولكنها تابعت نشاطها في مخيم المهاجرين “مازاغان” بجوار الدار البيضاء، إلى أن اضطرت لمغادرة البلاد. تابعت لاحقًا نشاطها من مرسيليا من أجل يهود المغرب.

 

غليلي تتابع نشاطها حتى بعد ترحيلها من الدولة. يهوديت غليلي يحزقيلي تكتب على آلة كاتبة قائمة بأسماء المهاجرين غير الشرعيين من المغرب إلى إسرائيل، مرسيليا، فرنسا
غليلي تتابع نشاطها حتى بعد ترحيلها من الدولة. يهوديت غليلي يحزقيلي تكتب على آلة كاتبة قائمة بأسماء المهاجرين غير الشرعيين من المغرب إلى إسرائيل، مرسيليا، فرنسا

 

تزوجت لاحقًا من شلومو يحزقيلي، قائد “همسغيرت” في المغرب، والذي التقت به للمرة الأولى في ذاك اليوم المصيري. تابعا معًا نشاطهما الأمني، الاستخباراتي والجماهيري الإسرائيلي في باريس بين 1960 و 1964. سكنا لاحقًا في أفريقيا في إطار منصب رسمي، ومن ثم عادا إلى البلاد. عملت يهوديت في التربية والتعليم والكتابة، وإلى جانب نشاطها التربوي، عملت في الرسم، النحت، تأليف القصص وإنتاج الأفلام. أصدرت تسعة كتب وعشرات المقالات، نظّمت معارض وأنتجت ثلاثة أفلام. فازت خلال حياتها بعدة جوائز، أنجبت من زوجها شلومو غليلي ثلاثة أبناء وأسّست عائلة في إسرائيل. يسرد كتابها الأخير، “بعثة مصيرية”، قصة بعثتها إلى المغرب، وهو يشكّل مرجعًا لكتابة هذه المقالة. القصة متاحة للقراءة عبر الإنترنت. (باللغة العبرية)

 

كما في فيلم تجسس. يهوديت غليلي يحزقيلي (من اليمين) مع شلومو يحزقيلي في مقهى، الدار البيضاء ـ المغرب
كما في فيلم تجسس. يهوديت غليلي يحزقيلي (من اليمين) مع شلومو يحزقيلي في مقهى، الدار البيضاء ـ المغرب

 

الصور في المقالة هي جزء من مشروع شبكة أرشيفات إسرائيل وهي متاحة في إطار تعاون بين ياد يتسحاق بن تسفي، وزارة شؤون القدس والتراث والمكتبة الوطنية الإسرائيلية.

 

قرية الغجر لبنانية أم سورية

نستعرض في هذا المقال إشكالية المواطنة في قرية الغجر وجذرها الأول في الخرائط البريطانية.

جسر الرومي في قرية الغجر، 1945، أرشيف بن تسفي.

في الجزء الشمالي الغربي من البلاد، تقع قرية الغجر، وهي صغيرة نائية جدًا، أُغلِقَت على أهلها حتى حزيران من العام 2022. وإلى جانب الظرفين الجغرافي والسياسي، على المستوى الطائفي، أهل القرية هم من الطائفة العلوية. تعتبر القرية من قرى هضبة الجولان وهي على الحدود مع مزارع شبعا اللبنانية، لذلك إذا بحثنا في محرّك جوجل سنجد سؤال البحث الرئيسي: “قرية الغجر لبنانية أم سورية“؟ فما حكاية قرية الغجر ولم هذه الحيرة في الهوية؟


لبنان أم سوريا؟

في أواخر العهد العثماني، بإيعاز من الباب العالي، تولّى الأكراد حكم قرية الغجر وكانوا أوّل من استبدّل اسم القرية من “طرنجه” إلى “الغجر”، وفي ذلك الوقت، كانت القرية تابعة لحوران قضاء القنيطرة السورية. وبعد الحرب العالمية الأولى، شُملت القرية في سيطرة الانتداب الفرنسي الواقع على كل من سوريا ولبنان (في منطقة بلاد الشام)، وكانت جميع سجلّاتها الرسمية في القنيطرة ودمشق. في العام 1932، خلال فترة الانتداب، خُيّر أهالي القرية بشأن المواطنة ما بين لُبنان وسوريا فاختاروا المواطنة السّوريّة حيث الوجود الأكبر للطائفة العلويّة للحفاظ على أمنهم وترابطهم مع باقي الطائفة، وبالفعل حصل أهلها على المواطنة عند استقلال سوريا في عيد الجلاء في 17 نيسان للعام 1942. وفي إحصائيات العام 1960، كانت “الغجر” ضمن إحصائيات سكان الدولة السورية. (الخطيب، 2017)

خريطة ألمانية 1900
خريطة ألمانية، 1900، من مجموعة عيران لَئور للخرائط


انتهاء المواطنة السورية، ولبنان ترفُض

أثناء حرب عام 1967 والمعارك الدّائرة على المثلث الحدودي الإسرائيلي – اللبناني – السوري، تحديدًا على أراضي هضبة الجَوْلان، استخدمت الفرق العسكريّة الإسرائيليّة في المنطقة هناك خرائط مسح فلسطين البريطانية التي أظهرت أنّ قرية “الغجر” ضمن الحدود اللبنانيّة ولذلك لم تدخلها القوّات الإسرائيليّة لأن لبنان لم تكن مشتركة في الحرب، وهكذا أصبحت “الغجر” منطقة محرّمة لأنها محل نزاع من قبل طرفان تركاها دون احتلالها لأسباب تعود للخوف أو الشك؛ إذ رفضت لبنان طلب أهالي القرية بضمها إلى مناطق الدولة اللبنانية لأنهم سوريّين. بعد شهرين ونصف من العزلة الاقتصاديّة ونقص المواد الغذائيّة، آثر أهالي القرية الاتّصال ببقيّة قرى الجولان الواقعة تحت الحكم العسكري الإسرائيلي وأعلنوا الخضوع للقوّات الإسرائيليّة في تاريخ 13 حزيران 1967، وافقت القوات الإسرائيليّة على ضمّ قرية الغجر إلى السّيطرة الإسرائيليّة وحصل سكّان القرية على المواطنة الإسرائيلية في العام 1981 مع إعلان قرار ضم الجولان في 14 كانون الأول.

خريطة طرابلس وتظهر فيها قرية الغجر، 1918، مجموعة عيران لئور
خريطة طرابلس وتظهر فيها قرية الغجر، 1918، مجموعة عيران لئور


الغجر تحت “الحصار”

من الجدير بالذكر أن أراضي القرية مقسّمة بين لبنان وإسرائيل، إلا أنّ جميع أهالي القرية في الشقيْن اللبناني والإسرائيلي يحملون الجنسيّة الإسرائيلية، والقرية محاطة بسياج عسكري من جميع جهاتها، ولم يكن لها سوى بوابة واحدة شرقي القرية، تغلق في وجه سكان القرية حتى يثبتوا هوياتهم، كما كانت تغلق في وجه الغرباء الذين لا يستصدرون تصريحًا من الجيش الإسرائيلي قبل يوم من الزيارة، وقد منعت القوات الإسرائيلية الصيوف من المبيت عند أصدقائهم وإجبارهم على مغادرة القرية قبل الساعة العاشرة ليلًا. (خطيب، 2017). استمر الوضع على هذا الحال حتى حزيران من العام 2022؛ إذ تم إزالة الحاجز وأصبح بالإمكان الدّخول إلى القرية بدون أي تقييدات.

مثلث الحيرة على مزارع شبعا
مثلث الحيرة على مزارع شبعا. صحيفة الاتحاد: 11 أيار 2001
 الغجر، قرية يمزقها صراع الشرق الأوسط
الغجر، قرية يمزقها صراع الشرق الأوسط. صحيفة الاتحاد: 7 أيلول 2001

ما زالت تعاني قرية الغجر من شُحّ الخدمات الحكومية على الرغم من مواطنتها بخلاف باقي قرى الجولان، إلا أنّ وجودها على الحدود الأكثر ارتباكًا أثّر على سكان القرية من جميع مناحي الحياة.

الحجاج الألمان الذي التقطوا للبلاد صورًا بألوان طبيعية

مجموعة بطاقات بريدية صدرت في ميونخ في عام 1932 تستعرض صورًا للأماكن المقدسة واليشوف العبري الناشئ، وذلك قبل صعود النازيين إلى سدة الحكم بأقل من سنة.

باب الخليل

باب الخليل

تُرجِم عن: حِن مَلول

إلى جانب عشرات آلاف الكتب التي تصل المكتبة الوطنية سنويًا، نتلقى أيضًا عشرات ومئات القطع التاريخية الإضافية: ألبومات صور، ملصقات، رسائل، وفي أحيان متباعدة – صناديق سريّة من الورق المقوى. يظهر على أحد الصناديق، والتي تم التبرّع بها مؤخرًا من مكتبة حانا ويورام هريئيل، وصف بالألمانية يعطي رمزًا أوليًا لمحتوى الصندوق، وجاء فيه: “الأرض المقدسة، 126 بطاقة بريدية بألوان طبيعية. برايس وشركاؤه، ميونخ”.

عند فتح الصندوق نكتشف المحتوى المرتقب: عشرات البطاقات البريدية تستعرض صورًا مختلفة لمشاهد طبيعية من البلاد، خارطتين لفلسطين (شمالًا وجنوبًا)، خارطة للقدس وكراسة باللغة الألمانية. إذا تأملنا البطاقات عميقًا، نكتشف أنّ الصور فيها ليس بألوان عادية، وأنّ الوصف “ألوان طبيعية” يرمز إلى البطاقات البريدية التي أنتجت بتقنية التلوين الضوئي.

شاب بدوي
شاب بدوي

 

مشاهد طبيعية من الأرض المقدسة

بعد مرور عقدين من الزمن على إنتاج أول صورة فوتوغرافية في عام 1880، قام طابِعٌ سويسري يُدعى أوريل فوسلي ( (Orell Füssli  بتطوير تقنية أخرى لإنتاج صور ملونة، سميّت بتقنية التلوين الضوئي. خلافًا للتصوير بالألوان، الذي يلتقط الألوان الطبيعية لمحتوى الصورة، فإنّ التلوين الضوئي هو تقنية قائمة على إعادة الطباعة بالألوان لصورة بالأبيض والأسود. الابتكار الذي طرحه فوسلي هو استخدام تقنية ينتج فيها اللون بواسطة الطباعة الحجرية- وهي طريقة طباعة قائمة منذ قرون.

للمفارقة، فـأنّ تقنية التلوين الضوئي التي طورها فوسلي، وكان الغرض من ورائها التعويض عن النقص في الصور الملونة الموثوقة وغير والمكلفة، أسفرت عن وضعًا معاكسًا: في حال عدم إعطاء الطابعين تعليمات واضحة ودقيقة بخصوص الألوان الأصلية في الصورة المطلوب تلوينها، كانوا يستعينون بخيالهم ومنطقهم لإنتاج الصور.

هذا هو حال عدد كبير من ألبومات التلوين الضوئي، حيث تكون العلاقة بين الألوان الطبيعية لمحتوى الصورة والألوان التي أضيفت إليها محض الصدفة في كثير من الأحيان. ولكن في البطاقات التي أمامنا، يبدو أنّ شركة Uvachrom التي أصدرتها عملت جاهدة للاقتراب قدر الإمكان من الواقع المصوّر.

عند قراءة الكراسة المرفقة، تتضح أمامنا خلفية الموضوع. الصور المشمولة في المجموعة، وعددها 126، التقطت أثناء “رحلة ربيعية إلى الأراضي المقدسة في عام 1931″، قبل طباعة البطاقات في ميونخ بعام واحد. الشعار الكاثوليكي لمدينة القدس الظاهر على صفحة الغلاف ، وجملة “بمباركة الراعي الأكبر” Mit oberhirtlicher Druckgenehmigung)) الظاهرة في الصفحة التالية يدلان على الدافع وراء إصدار البطاقات البريدية. يرجّح أنّ مجموعة البطاقات أصدرت من أجل الجمهور الألماني الكاثوليكي، وطبت بموافقة أسقف كبير، ربما الباب بنفسه.

 

صور الأراضي المقدسة


صور من الأراضي المقدسة

ولكن لا تدعوا هذه الحقيقة تضللكم، فعلى الرغم من التمثيل الكبير للأماكن المقدسة للمسيحيين في مجموعة البطاقات هذه (بما في ذلك كنيسة رقاد السيدة العذراء التي أقيمت بعد زيارة القيصر الألماني فيلهلم الثاني إلى الأراضي المقدسة)، يستعرض عددٌ كبيرٌ من البطاقات تقدّم المشروع الصهيوني في البلاد- على سبيل المثال، الجامعة العبرية، المكتبة الوطنية في مقرها السابق في جبل المشارف، ضريح الحاخام ميئير في طبريا ومحطة توليد الكهرباء الذي أقامها بنحاس روتينبيرغ.

ضريح الحاخام ميئير في طبريا
ضريح الحاخام ميئير في طبريا

80 بطاقة من أصل بطاقات المجموعة الـ 126 حُفظت في الصندوق الأصلي. أما البقية، فيبدو أنّ أصحاب مجموعة البطاقات أرسلوها للأصدقاء والعائلة. يقودنا ذلك إلى طرح السؤال الحتمي التالي: لمن أعدّت المجموعة؟ هوية المالك الأصلي للمجموعة مجهولة بالنسبة لنا، ولكن الإجابة عن السؤال حول الزبائن المحتملين لهذه المجموعة وردت في الكراسة المرفقة، حيث جاء أنّ المجموعة هي “تذكار لكل من تسنى له رؤية البلاد بأم عينه، وفرصة للآخرين لتأمل جمال البلاد”.

تحتوى الكراسة المكونة من 67 صفحة على معلومات كثيرة عن الأراضي المقدسة: معلومات عانة عن التضاريس، النقص الدائم في المياه، تاريخ الصهيونية واللغة العبرية، تناول موضوع القدس بشكل معمق بما في ذلك الحرم القدسي الشريف وحائط المبكى، بالإضافة إلى المراحل الحياتية المختلفة للسيد المسيح في القدس وفي البلاد كلها. تحتوى الكراسة أيضًا على رسم تخطيطي لباحة الحرم القدسي الشريف.

تكمن في تاريخ إصدار مجموعة البطاقات أهمية تاريخية كبيرة. صدرت المجموعة في ميونخ في ألمانيا، في عام 1932. بعد مرور أقل من عام، تحديدًا في كانون الثاني 1933، عيّن هتلر مستشارًا لألمانيا.

 

كنيس يوحنان بن زكاي في القدس
كنيس يوحنان بن زكاي في القدس

 

الحي اليهودي في القدس
الحي اليهودي في القدس

 

أطفال القدس يتلذذون بتناول برتقال أرض إسرائيل
أطفال القدس يتلذذون بتناول برتقال أرض إسرائيل

 

ضريح الحاخام عاكيفا
ضريح الحاخام عاكيفا

 

قبر راحيل
قبر راحيل

 

"مكتبة الجامعة اليهودية" هي المكتبة الأولى في مقرها الأصلي في جبل المشارف
“مكتبة الجامعة اليهودية” هي المكتبة الأولى في مقرها الأصلي في جبل المشارف

 

الجامعة العبرية
الجامعة العبرية

 

قبة الصخرة
قبة الصخرة

 

ساهم في كتابة المقالة د. ستيفان ليط، أمين مجموعة العلوم الإنسانية في المكتبة الوطنية

 

حكاية لم تنتهِ بعد: عن أرشيف سلمان ناطور الرّقمي

كنز من المواد الجماهيريّة والشّخصيّة الخاصّة بالأديب الرّاحل سلمان ناطور سيصبح متاحًا عمّا قريب على موقع المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة. تعرّفوا على الأرشيف وصاحبه في هذه المقالة.

سلمان ناطور في مكتبه

“قد لا تعني أحدًا تفاصيل سيرتنا الذّاتيّة لأننّا نعيش مثل غيرنا وسنموت مثلهم. لكن لأنّنا وُلدنا بعد الحرب الأولى فقد صرنا شهادة تاريخيّة”.

سلمان ناطور

وُلد سلمان ناطور لعائلة درزيّة في دالية الكرمل جنوب حيفا عام 1949. في أواخر السّتينيّات، التحق بجامعة حيفا لدراسة الفلسفة، وبدأ مساره الأدبي ونشاطه السّياسي الّذي استمر إلى آخر حياته.

في بداية مساره انضمّ سلمان ناطور إلى أطر ونشاطات سياسيّة متنوّعة، فانضمّ إلى الحزب الشّيوعي الإسرائيلي، ولجنة المبادرة العربيّة الدّرزيّة، كما عمل في بداية الثّمانينيّات في حركة التّضامن مع أهالي الجولان في إضرابهم واحتجاجهم على ضمّ الجولان لإسرائيل.

طالع/ي أيضًا:
هضبة الجولان

عمل خلال هذه الفترة كمحرّرًا لقسم الثّقافة في جريدة الاتّحاد في مدينة حيفا وحرّر مجلّة “الجديد” للأدب والفنّ وكتب المقالات السّاخرة في مجلّة “المهماز”. وترك في أعداد هذه الدّوريّات المئات من مقالات الرأي والقصص القصيرة والنّصوص المتنوّعة.

لمقالات سلمان ناطور في أرشيف جرايد

شغل سلمان ناطور أيضًا مناصب إداريّة في عددٍ من المؤسّسات العربيّة في إسرائيل منها الثّقافيّة والحقوقيّة منها جمعيّة تطوير الموسيقى العربيّة ومركز إعلام للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل ومركز عدالة ومركز مساواة لحقوق المواطنين العرب ومعهد إميل توما للدّراسات الفلسطينيّة الإسرائيليّة. كما شارك في محافل ومبادرات ثقافيّة فلسطينيّة عديدة.

قصّة لسلمان ناطور من جريدة الاتّحاد في تاريخ 18 آب عام 1978، أرشيف جرايد الرّقمي
قصّة لسلمان ناطور من جريدة الاتّحاد في تاريخ 18 آب عام 1978، أرشيف جرايد الرّقمي

 

اهتمّ سلمان ناطور بالتّعرف على الثّقافة الإسرائيليّة وعلى المجتمع الإسرائيلي فأجرى العديد من المقابلات والمراسلات والنّقاشات مع كتّاب عبرييّن وكان من مؤسّسي اتّحاد المبدعين الإسرائيليّين والفلسطينيّين ضد الاحتلال.

كتب سلمان ناطور الشّعر والنّصوص السّاخرة والرّواية، والمقالة الصّحافيّة والتّاريخ الشّفوي والخواطر والانطباعات والدراسات، كما شارك في كتابة جزء من “وثائق الرؤية المستقبليّة للعرب الفلسطينيّين في إسرائيل“. وترك أكثر من ثلاثين مؤلّفًا وترجم عددًا من المؤلّفات العبريّة إلى اللّغة العربيّة.


أرشيف سلمان ناطور في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة

سلمان ناطور وزوجته يلتقطان صورة ذاتيّة في سنوات الثّمانينيّات، أرشيف سلمان ناطور

سلمان ناطور وزوجته يلتقطان صورة ذاتيّة في سنوات الثّمانينات، أرشيف سلمان ناطور
سلمان ناطور وزوجته يلتقطان صورة ذاتيّة في سنوات الثّمانينات، أرشيف سلمان ناطور

توصّلت المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة إلى موافقة من عائلة الأديب والرّوائي الرّاحل سلمان ناطور من أجل أرشفة نسخة رقميّة عن أرشيفه الشّخصي وإتاحته إلى جمهور المهتمّين والباحثين على موقعها، وقد تمّ تصنيف المواد وفهرستها وهي في مرحلة المسح الرّقمي الآن، وبعد ذلك سيتمّ إتاحتها عن بُعد.

يتكوّن أرشيف سلمان ناطور من حوالي تسعة آلاف مادّة تحتوي على نصوص أدبية، مقالات، مسوّدات بخط اليد، مراسلات شخصيّة ورسميّة، صور فوتوغرافية وتذكاريّة، وثائق متنوّعة، وثائق وقُصاصات من عمله الجماهيري والسياسي، قُصاصات صحافية، فيديوهات وأشرطة تسجيليّة، وقد استغرقت عمليّة الفهرسة أكثر من ستّة أشهر، وعمّا قريب سيكون معظمها في متناول أيديكم.


المرحلة الأولى – النّشاط الجماهيري والسّياسي والعمل الصّحافي

يمكّننا أرشيف سلمان ناطور من تقسيم نشاطه الأدبي وحياته إلى مرحلتين مختلفتين من حيث انشغالاته واهتماماته، وينعكس هذا التّقسيم بالنّظر إلى عناوين مؤلّفاته وآثاره المنشورة أيضًا. فتبدأ المرحلة الأولى بدراسة الفلسفة في الجامعة العبريّة وثمّ في حيفا، في هذه الفترة طالب سلمان ناطور التسريح المبكّر من الخدمة العسكريّة واستبدالها بالخدمة المدنيّة في سلك التّربية والتعليم، إلّا أن طلبه قوبل بالرّفض ومع ذلك رفض ناطور الاستمرار بالخدمة العسكريّةـ وعلى أثر ذلك عوقب بالسّجن لمدّة ستّة أشهر تقريبًا.  بدأ بمناهضة فرض الخدمة العسكريّة على الدّروز و أصدر كتابه الأوّل “أنت القاتل يا شيخ” (رواية)، انضمّ لاحقًا للعمل في لجنة المبادرة الدّرزية وعمل محرّرًا في جريدة الاتّحاد، وفي أواخر السّبعينيّات انضمّ إلى الحزب الشّيوعي، وبرز نشاطه في الحزب وفي حركة التّضامن مع أهالي الجولان في سنوات الثّمانينيّات.


اقرأ/ي أيضًا:
الشيخ أمين طريف: رجل حمل همّ توحيد الطائفة الدرزية

تبدأ هذه المرحلة من حياة سلمان ناطور من أواخر السّتّينيّات وتمتدّ إلى سنوات السّبعينيّات وإلى الثّمانينيّات، وهي المرحلة الّتي تزوّج بها من رفيقة دربه السّيدة ندى ناطور وأنجب منها أبناءه الأربعة.

في هذه الفترة، استغرق سلمان ناطور بالعمل الجماعي والجماهيري بشكل شبه كامل، بدأ بالنّشاط والمخاطبة في مجتمعه الدّرزي الأصغر ثمّ امتدّ للكتابة باسم الإنسان الفلسطيني في إسرائيل والفلسطينيّين عمومًا.

دعوة حفل زفاف سلمان ناطور من زوجته ندى حامد عام 1973، أرشيف سلمان ناطور
دعوة حفل زفاف سلمان ناطور من زوجته ندى حامد عام 1973، أرشيف سلمان ناطور


أصدر سلمان ناطور في هذه المرحلة عددًا من المؤلّفات منها:

آراء ودراسات في الفكر والفلسفة(مقالات)- القدس 1971
ما وراء الكلمات (قصص قصيرة) – القدس 1972
أنت القاتل يا شيخ (رواية) – القدس 1976
الشّجرة الّتي تمتدّ جذورها إلى صدري (قصص قصيرة) -عكّا 1979
ساعة واحدة وألف معسكر(مجموعة ساخرة) – حيفا 1980
ابو العبد يغازل مدم مندلوفيتش (مجموعة ساخرة) – بيروت 1981
وما نسينا (مسلسل تسجيلي) – حيفا 1982
كاتب غضب (مونولوج إسرائيلي)-  حيفا 1984
حكاية لم تنته بعد – حيفا 1985

طالع/ي أيضًا: الطائفة الدرزية مواد مصوّرة وأعياد دينية

في أرشيف سلمان ناطور من هذه الفترة، يوجد مسوّدات لجزء من أعماله ومقالاته بخطّ اليد ونصوص لم تُنشر، بالإضافة إلى مراسلات شخصيّة ومهنيّة ووثائق رسميّة وغير رسميّة تتعلّق بنشاطه الجماهيري والسّياسي.

رسالة من أنطون شمّاس إلى سلمان ناطور يعتذر بها عن حضور حفل زفافه
رسالة من أنطون شمّاس إلى سلمان ناطور يعتذر بها عن حضور حفل زفافه

 

المرحلة الثّانية – التّعرف والكتابة عن المجتمع الإسرائيلي، أنشطة السّلام وأخيرًا الكتابة الذّاتيّة

يمكننا القول أنّ المرحلة الأولى انتهت بوضوح باستقالة سلمان ناطور من عمله في جريدة الاتّحاد في بداية التّسعينيّات وأيضًا من الحزب الشّيوعي بهدف التّفرّغ للكتابة. في هذه الفترة وتحديدًا منذ أواخر الثمانينيّات، يبدأ تحوّل ما بالظّهور في أرشيف سلمان ناطور من حيث كمّ النّشاطات والمبادرات والاهتمامات المتعلّقة بالسّلام وبالتّعرّف على المجتمع الإسرائيلي، ومن أبرز هذه المبادرات كتابه “يمشون على الرّيح” الّذي وضع فيه خلاصة لعشرات المقابلات الّتي أجراها في بلدة بيت شان وسمّاه أيضًا “عودة إلى بيسان” وجزء من تسجيلات هذه المقابلات محفوظًا أيضًا في أرشيفه. ذهب سلمان ناطور إلى بيت شان كما يقول في كتابه “يبحث عن الإنسان”. يلتقي بعشرات السكّان الإسرائيليّين ويلخّص تجربته وانطباعاته في هذا الكتاب.

من المشاريع الّتي ظهرت في هذه الفترة أيضًا “كحبّات المسبحة”، وهو مشروع يستكشف آراء طلبة الابتدائيّة اليهود بالطّلبة العرب والعكس. أسسّ سلمان ناطور في هذه الفترة اتّحاد المبدعين الإسرائيليّين والفلسطينيّين ضد الاحتلال عام 1986، وترجم مؤلّفات عبرية لكتّاب إسرائيليّين مثل يشعياهو ليبوفيتش وشمعون ليفي وغيرهم إلى العربيّة. كما بدأت كتاباته أيضًا بالاتّجاه نحو الذّاتية والعاطفة وأدب الأطفال. وبالرغم من استقالته من العمل الصّحافي بشكل دائم، فقد استمرّ بكتابة المقالات في صحف متنوّعة بين الفينة والأخرى، وعمل كاتبًا في برامج تلفزيونيّة أيضًا.

صدر لسلمان ناطور في هذه الفترة مؤلّفات عديدة منها:

يمشون على الرّيح – النّاصرة 1992
من هناك حتّى ثورة النّعناع سبع سنوات من الحوار مع الكتّاب العبريين – دالية الكرمل 1995
فلسطيني على الطريق – رام الله 2000
ذاكرة – بيت لحم 2006
سفر على سفر – رام الله 2008
ستّون عامًا رحلة الصّحراء – عمّان – رامالله 2009
هي أنا والخريف (رواية) حيفا 2011

في أرشيف سلمان ناطور من هذه المرحلة مسوّدات لكتاباته أيضًا، والكثير من المراسلات مع كتّاب عبريّين من أبرزهم شموئيل موريه ونير شوحط، بالإضافة إلى وثائق متنوّعة وتسجيلات صوتيّة وفيديو.

يعرّف سلمان ناطور عن نفسه من خلال ثيمات متكرّرة في نصوصه الأدبيّة: الذّاكرة الّتي تحدّثه وتمضي، الحنين واللّانهاية والسّفر، ويتساءل كثيرًا عن معنى ولادته في هذا المكان والزّمان. لم يتردد بخوض التّجارب الجماعيّة والفرديّة من أجل الإجابة عن هذه التساؤلات، إلّا أنّه دائمًا ما كان يجد المزيد من الأسئلة تنتظره، ودائمًا ما كان يجد طريقًا لأن يسخر منها. لم يخجل من إظهار تعبه وحيرته وشعوره بالتّيه أحيانًا، لكنّه كثيرًا ما أظهر صراحةً مدى إدراكه لأهميّة تجاربه، فهو يرى في قصّته قصّة جيل كامل، وأنّ حياته عبارة عن “شهادة تاريخيّة”.

لا شكّ أنّ رحلة سلمان ناطور في البحث عن إجابات لأسئلته الكثيرة تستحقّ الاهتمام والاطّلاع، وتستطيعون استكشافها من خلال قراءة مؤلّفاته وتصفّح أرشيفه الرّقميّ الّذي سيظهر على موقع المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة قريبًا.