“أتعرفين؟ طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم …ولكن أبداً، أبداً لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك فحين فتحوها هم، بدا لي الأمر مرعباً وسخيفاً وإلى حدٍّ كبيرٍ مُهيناّ تماماً … قد أكون مجنوناً لو قلتُ لكِ إن كل الأبواب يجب ألاّ تفتح إلا من جهةٍ واحدةٍ، وإنها إذا فُتحت من الجهة الأخرى، فيجب اعتبارها مغلقةً لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة”.
لم تكن كلمات الروائي غسان كنفاني إلا انعكاسًا لنتائج حرب حزيران عام 1967، والتي أسفرت بشكل أساسي عن ضم الجزء المتبقي من مدينة القدس وتوحيدها تحت السيادة الإسرائيلية وهدم ما تبقى من بوابة مندلبوم التي كانت تفصل بين الشطر الغربي والشرقي من القدس. بعد 55 عامًا، لا يزال معظم الإسرائيليين يحتفلون بما يُعرف بيوم التوحيد لشطري مدينة القدس.
في الثّامن والعشرين من الشّهر الثّامن في التّقويم العبريّ يحتفل الإسرائيليّون بيوم القدس، ومن أشهر تقاليد هذا العيد مسيرة ترقيص الأعلام الّتي يجوب بها الآلاف بلدة القدس القديمة. فما قصّة هذا الاحتفال وما هي مراسمه؟
يوم القدس هو عيد وطني يحتفل فيه الإسرائيليّون بذكرى توحيد مدينة القدس بشقّيها الغربي مع الشّرقي خلال حرب عام 1967 ويُسمّى أيضًا بيوم توحيد القدس ويوم تحرير القدس. من التّقاليد الشّهيرة في هذا اليوم كلّ عام مسيرة ترقيص الأعلام الّتي تنطلق من غرب المدينة وتدخل البلدة القديمة من أبوابها لتلتقي عشرات الآلاف من الشّبيبة في ساحة الحائط الغربيّ. فكيف تشكّلت هذه التّقاليد؟
في العام التّالي للسّيطرة الإسرائيليّة على شرقيّ مدينة القدس قام نشطاء من حركات ومدارس دينيّة-قوميّة بالمطالبة بإقامة وقفة احتفاليّة عند الحائط الغربيّ احتفالًا بذكرى الانتصار إلّا أنّهم لم يحصلوا على موافقة الحكومة فقاموا بإحياء الاحتفال خارج أسوار البلدة القديمة بقيادة رجال دين بارزين استمرّوا بالعمل على ترسيخ الثّامن والعشرين من الشّهر الثّامن للسّنة العبريّة ذكرى وطنيّة لحيازة القدس كاملة. إلّا أنه في ذلك الوقت، انطلق بعض تلاميذ المدرسة الدّينيّة مركاز هراف ليلًا بقيادة أستاذهم راف تسفي يهودا كوك ليسيروا رقصًا من مركز المدينة في شارع يافا وحتّى الحائط الغربيّ في البلدة القديمة. تحوّلت هذه المسيرة فيما بعد إلى حدث جماهيري كبير يتكرّر كلّ عام، ففي عام 1974 تمّ إشراك عدد كبير من المدارس الدّينيّة ومنذ ذلك الحين ما زالت المسيرة مستمرّة، وتشكّل إحدى الأحداث الأكثر بروزًا على رزنامة التّيار الصّهيونيّة الدّينيّة في إسرائيل.
يمثّل هذا اليوم بالنّسبة للمحتفلين فيه مناسبة للفخر وللتأكيد على السّيادة اليهوديّة والإسرائيليّة على كامل القدس، ويتغيّر مسار المسيرة أحيانًا بحسب الظّروف ورغبة القائمين عليها، لكنّها دومًا ما تبدأ من غرب المدينة وتتجّه نحو البلدة القديمة لتدخلها من أبوابها وتصل إلى ساحة الحائط الغربيّ. تستمرّ مراسم مسيرة الرّقص بالأعلام حتّى ساعات المساء، ويشارك بها عشرات الآلاف من شبيبة التّيار الدّيني-القومي.
في العادة، يتمّ دخول البلدة القديمة من عدّة أبواب من ضمنها باب العامود وباب الخليل، في الماضي تمّ منع المسيرة من دخول البلدة القديمة من باب الأسباط لعدّة سنوات إلّا أن المنع تم إبطاله في عام 2017. أما باب العامود فهو جزء من المسار التّقليدي لمسيرة الأعلام، وقد تمّ منع المسيرة من المرور فيه فقط في العام الماضي 2021.
بالرّغم من كون هذه المسيرة تقليد قائم منذ أواخر السّتينيّات، أي تمامًا بعد إتمام السّيطرة العسكريّة لإسرائيل على شرق القدس، إلّا أن “يوم القدس” لم يغدُ عيدًا وطنيًا رسميًا في دولة إسرائيل سوى بعد اتّفاقيّات أوسلو وبدء الحديث حول مبادرة السّلام العربيّة بسنوات قليلة، ففي العام 1998 وافق الكنيست أخيرًا على اعتبار التّاريخ المحدّد مناسبة وطنيّة للدّولة تحت عنوان “يوم يروشلايم” أي يوم القدس.
بهذه المناسبة، بالإضافة إلى مسيرة الرّقص بالأعلام، يُقام احتفالٌ رسميّ للدولة في موقع إحدى أهمّ المعارك على القدس عام 1967 في تلة الذخيرة، بالإضافة إلى الجولات الميدانيّة والاحتفالات المتفرّقة للمواطنين، وكذلك مراسم دينيّة معيّنة. ومن الجدير بالذّكر أن مسيرة الأعلام لم تكن الأولى من نوعها في شرق المدينة، فقد أقامت الدّولة مسيرة عسكريّة هناك هناك في يوم الاستقلال لعام 1968.