كان الهمّ الدرزي الأول منذ العهد العثماني في فلسطين هو الاستقلال عن باقي الطوائف العربية والدينية وذلك لاختلاف النهج الديني، الثقافي وكذلك الاجتماعي. في ذلك الوقت، بدأ استقلال الطوائف والأقليات الدينية في الأحكام القضائية والتشريعية الدينية، وقوانين الأحوال الشخصية. وقد استقلّ كذلك الدروز في سوريّة ولبنان وأصبح لهم محاكمهم ومجالسهم الدينية الخاصة بهم، باستثناء دروز البلاد الذين عانوا وجاهدوا في سبيل تحقيق توحيدهم واستقلاليتهم. لأجل ذلك، قاد الشيخ أمين طريف (1898 – 1993)، ابن قرية جولِس، هذه المهمة ومهمات أخرى لاحقة كانت تهدف إلى استقلالية المجالس القضائية، الدينية وحتى التربوية. كيف بدأت الحكاية إذن؟
في شتاء العام 1954، توجه الشيخ أمين طريف إلى مكتب رئيس الحكومة، موشيه شاريت حينها، مطالبًا إيّاه بالتدخل في شؤون الطائفة الدرزية في جبل الدروز في سورية وذلك كي يحميهم من هجمات أديب الشيشكلي. كان ذلك اللقاء في مدينة القدس، إلّا أنّه قوبل بالرفض من قبل الحكومة الإسرائيلية؛ إذ اعتبر حينها تدخلًا في الشأن السوري العام قبل الدرزي.
لقد تطّلع الشيخ أمين طريف إلى حماية الطائفة الدرزية في كل البلدان، فاعتنى بدروز لبنان وسورية كاعتنائه بدروز البلاد، كيف لا وهو الأب الروحي للطائفة عامة بعيدًا عن كل التقسيمات السياسية التي على ما يبدو اختار الشيخ – في بعض الأحيان – عدم الالتفات لها. في العام 1956، أصبحت الخدمة في الجيش الإسرائيلي خدمة إجبارية على دروز البلاد، وهذا القرار السياسي والعسكري مكّن الشيخ أمين طريف من استخدامه كورقة للضغط على الحكومة لحفظ حقوق الدروز، طقوسهم، أعيادهم، وحقّهم بتأسيس مؤسسات رسمية برئاسة درزية مستقلة، في ظل الحكومة الإسرائيلية كأقلية داخل البلاد. وقد واجه الشيخ العديد من العقبات كان من أبرزها أنّ الاعتراف باستقلالية الطوائف كان أمرًا متوارثًا من فترة فلسطين العثمانية، وقد أخذه الانتداب البريطاني كيفما كان سائدًا ولاحقاً استخدمته الحكومة الإسرائيلية.
لماذا لم يستقلّ الدروز في فلسطين في ذلك الوقت؟
بدأت القصة مع الوالي العثماني رشيد بك في بيروت وتحديدًا في العام 1909 إذ أوعز إلى القضاة المسلمين في مدينتيْ عكا وحيفا بعدم التدخّل في شؤون الدروز القضائية والأحوال الاجتماعية وإعطائهم كامل الاستقلالية كما هو الحال مع دروز لبنان، إلّا أن هذا الإيعاز قوبِل بالمماطلة لأنه لم يكن “فرمانًا” أي أمرًا قضائيًا من السّلطان أو حتى الباب العالي. لأجل ذلك، ربما قد عانى الدروز في القضايا التي تتعلق بالميراث، الزواج والطلاق وأمور أخرى داخل المحاكم القضائية الإسلامية أو المدنية أو غيرها من الجهات القضائية والتشريعية.
في العام 1957، نال الدروز الاعتراف، وذلك بفضل الشيخ أمين طريف، إذ تم الاعتراف بهم كطائفة مستقلة لها كامل الحق بإقامة مؤسساتها الدينية والقضائية، كباقي الطوائف في البلاد. ويخبرنا في هذا السياق الصحفي ومفتش المعارف السابق سلمان حمود فلاح في كتابه “أربعون عامًا من التعاون والعمل المشترك مع طيب الذكر المرحوم الشيخ أمين طريف“، أنّ الاعتراف بالدروز كان على مراحل، إذ تمّ أولًا الاعتراف بالطائفة بصورة قضائية. ثانيًا، وفي العام 1961، تم الاعتراف بها بصورة دينية روحية؛ حيث أصدر رئيس الحكومة ووزير الأديان أيضًا دافيد بن غوريون – في ذلك الوقت – أمرًا يسمح للدروز بتأسيس مجلس ديني برئاسة الشيخ أمين طريف وبعضوية كل من أحمد خير وكمال معدي.
لم ينتهي المطاف مع الشيخ أمين طريف إلى هذا الحد، بل سعى أيضًا إلى توحيد شؤون الطائفة الدرزية في بلاد الشام كافة، في سنوات الثمانينيّات، استقبل الشيخ العديد من الوفود الدرزية على خط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان للتشاور في الشؤون السياسية والقضائية الخاصة بالطائفة بعيدًا عن أيّ تدخل خارجي. وقد كانت الزيارات على شكل جولات دورية، تأخذ طابع المناسبات والزيارات الرسمية بالنسبة لأبناء المنطقة التي كان يزورها.
ختامًا، قد يختلف البعض مع منهجية الشيخ أمين طريف باستقلال الطائفة الدرزية في البلاد، وقد يوافق جمع آخر مع منهجيته، إلا أنّ هذا لا ينافي مدى نجاح الشيخ بتوحيد الطائفة الدرزية والاستقلال بها في أكثر بقاع الأرض صراعًا على مفهوم الاستقلال. ويبقى السؤال الأول والأخير: كيف تسعى الأقليات بالاستقلال وحماية ذاتها؟ بالاندماج مع السلطات الحاكمة أو بالتمرّد عليها؟
كيف نشأ عيدٌ من العدم؟ ينص قانون يوم الاستقلال لعام 1949 على حلول يوم الاستقلال في الخامس من شهر أيار حسب التقويم العبري، وينظّم مسألة تبكيره أو تأجيله إذا حلّ يوم السبت. وفقًا للقانون، كُلّف رئيس الحكومة بالاهتمام بمسألة رموز العيد وطبيعة الاحتفالات، والسماح برفع الأعلام. يُطرح هنا سؤال مركّب مفاده كيف أخذ يوم الاستقلال شكله الحالي. نرغب أولًا في العودة إلى لحظة عينيّة، إلى الخامس من شهر أيار 5709 حسب التقويم العبري- بعد إعلان قيام الدولة بعام واحدٍ، وبعد ثلاثة أسابيع على سنّ القانون سابق الذكر.
سادت في ذلك اليوم، الخامس من أيار، حالة من الضبابية وعدم الوضوح. فالخامس من أيار للعام 5709 لم يكن “يوم الاستقلال الأول”، بل سبقه “يوم الدولة” الذي أقيم في 27 تموز 1948، بعد مرور بضعة أيام على إعلان الاستقلال. اختير هذا التاريخ لأنّه ذكرى وفاة بنيامين زيئيف هرتسل، وأرادت سلطات الدولة تسليط الضوء على الرابط بين رؤية هرتسل ودولة إسرائيل الفتية. ولأول مرة، اقتصر الاحتفال الرئيسي في “يوم الدولة” على موكب عسكري للجيش الإسرائيلي حديث الإنشاء.
استعدادًا لموكب الجيش الإسرائيلي في يوم الاستقلال الأول في تل أبيب، حامل راية يرفع علم إسرائيل: تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
ولكن لنعود إلى الخامس من أيار لعام 5709 حسب التقويم العبري، أي الرابع عشر من أيار-مايو لعام 1949 حسب التقويم الميلادي. كيف احتفلوا بالاستقلال؟ لا أحد يعرف بالضبط، مع ذلك، كانت هناك أمور بديهية، مثل الرقص في الشوارع، وإحياء ذكرى الـ 29 من نوفمبر 1947. في يوم الاستقلال الأول، خططت البلديات في جميع أنحاء البلاد لبرامج احتفالية تشمل إضاءة المشاعل، رفع أعلام، نصب منصّات لعروض ترفيهية (حيث عزفت الأوركسترا البلدية- وليس أشهر المغنين والمغنيات، كما اعتدنا نحن) والعديد من المسيرات والمواكب. في الجليل، أضاؤوا المشاعل، وأقيمت مسيرات مشاعل في مدن مختلفة مثل رمات غان، حولون وبيتاح تيكفا. في رياض الأطفال والمدارس، أقيمت استعراضات احتفالية ورفعوا الأعلام، وقد حضرها بعض السياسيين لإلقاء خطابات.
عشية عيد الاستقلال، ألقى رئيس الحكومة دافيد بن غوريون خطابًا خاصًا بيوم الاستقلال، والذي نشر في الصحيفة في اليوم التالي. في حينه، لم يكن قد تحدد بعد يوم ذكرى شهداء معارك إسرائيل، مع أنّه كانت تُتلى أحيانًا الصلاة التذكارية “يزكور” خلال برامج العيد. بالإضافة إلى ذلك، استضاف بن غوريون في المركز الحكومي في تل أبيب وجهاء من خارج البلاد الذين حضروا حفل استقبال رسمي خاص لمناسبة استقلال دول إسرائيل المتجددة.
كانت ذروة الاحتفالات عبارة عن موكب عسكري للجيش إلإسرائيلي، “جيش الانتصار والتحرير”. لم يُخطط لموكبٍ واحد فقط، بل اثنين، في القدس وفي تل أبيب. انطلق موكب القدس بدون أحداث استثنائية، ولكن القصة الرئيسية ليوم الاستقلال الأول كانت الاستعراض العسكري في تل أبيب.
في اليوم التالي، تصدّر العنوان “الموكب الذي لم يكمل مساره” الصفحة الرئيسية لصحيفة “معاريف”. انغرس هذا العنوان في الذاكرة، ولم ينسَ منذ ذلك الحين. كتب محرر معاريف في حينه، د. عزريئيل كريلباخ، عن الواقعة، قائلًا: “وقف الناس وبكوا. كالأطفال تمامًا. كنا جميعًا كالأطفال يوم أمس. بكوا كطفل انكسرت بين يديه لعبته المفضّلة. استيقظوا فجرًا وانطلقوا نحو المدينة، تجولوا فيها، ولم تكن لديهم أية خطة، لم يكن لديهم أي شيء يفعلونه- سوى انتظار حدث اليوم، الموكب.
وعندما قيل لهم أنّ هذا “المسيح المنتظر” لن يأتي- ضحكوا. هذا مستحيل. فقد شعروا بقدومه بكلّ حواسهم. وعندما قيل لهم مجددًا إنّ الموكب لن يأتي- لم يستوعبوا ذلك… وعندما قيل لهم ذلك للمرة الثالثة، لأن الموكب لم يتمكن من إخلاء الطريق من ميدان مُغربي حتى شارع إيدلسون، أي مسافة 200 متر تقريبًا- لم يصدّقوا، لا يمكن لذلك أن يكون صحيحًا. جيشنا؟ الذي وصل إلى إيلات، وأمكنه دخول دمشق بسهولة- لا يستطيع دخول شارع إليعيزر بن يهودا؟ هذا عبث”.
في البداية، تمكّن الموكب من الانطلاق، وقد شارك فيه مندوبون عن مختلف الفيالق: سلاح البحرية، الهيئة الطبية العسكرية ومقاتلو “الهاغاناه” الذين استعرضوا سلاحهم. ملأت الشوارع سيارات الجيب، وعُرضت المدافع، بينما حلّق الطيارون من حين لآخر بالطائرات القليلة التي كانت متوفرة للجيش الإسرائيلي في حينه. برز بين مشاركي الموكب مندوبون عن الأقليات، أي جنود دروز خدموا هم أيضًا في الجيش الإسرائيلي. شاركت في الموكب أيضًا أوركسترا، كما يليق بموكب عسكري مهيب.
ولكن قرابة الساعة الرابعة، حينما ترقب الجميع وصول الموكب إلى المنصة الشرفية لتأدية مراسم التحية العسكرية أمام قادة الدولة، كبار المسؤولين وضيوف من خارج البلاد، شاع نبأ إلغاء الموكب، وأنّه لن يتمكن من الوصول إلى المنصة الشرفية في شارع ديزنغوف بسبب الاكتظاظ الشديد عند التقاء شارع ألنبي بشارع بن يهودا. الجماهير الغفيرة التي أتت لمشاهدة الموكب ملأت الشوارع وسدّت الطرقات، وجميع المحاولات التي بذلتها الشرطة المتواجدة في المكان لفتح هذه الشوارع باءت بالفشل. في نهاية المطاف، وكما ذكر آنفًا، أعلنوا عن إلغاء الموكب، واضطر الجمهور للمغادرة، خائب الأمل. “جيش الدفاع الإسرائيلي تمكّن من احتلال كل مكان، سوى شوارع تل أبيب”، هذا ما جاء على لسان أحد كبار ضباط الجيش الذي تواجد في المكان، واقتُبس في صحيفة “حيروت”.
بنظرة للوراء، يبدو أنّ هذا الوضع نتج عن إخفاقات تنظيمية. يبدو أنّ منظّمي الموكب لم يتوقعوا حضور هذا الكم الهائل من الناس لمشاهدة الموكب العسكري. يُقال أنّ مئات الآلاف حضروا من جميع أنحاء البلاد- في دولة لا يزيد عدد سكانها عن 800 ألف نسمة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطرقات لم تغلق أمام حركة المرور إلا قبل موعد انطلاق الموكب بوقت قصير. في اليوم التالي، بشّرت الصحف بتشكيل لجنة تحقيق لاستيضاح أسباب الإخفاق.
على ضوء هذا الموقف المحرج الذي حصل في تل أبيب، تقرر الاحتفال بـ “يوم الدولة” مجددًا في 17 تموز 1949. أجريت في حينه مسيرة احتفالية، على نطاق أضيق، لاستكمال الموكب الذي لم يكمل مساره، وزّعت أيضًا نياشين بطولة على 12 مقاتلًا من مقاتلي حرب الاستقلال. كانت تلك المرة الأخيرة التي يُحتفل فيها باستقلال إسرائيل في ذكرى وفاة هرتسل، وأصبح الخامس من أيار، حسب التقويم العبري، يوم الاستقلال الرسمي لدولة إسرائيل.
في عام 1951، تقرر تخصيص يوم لإحياء ذكرى شهداء معارك إسرائيل، وفي نفس السنة، تمت لأول مرة إضاءة المشاعل على جبل هرتسل، في عام 1953، وزّعت لأول مرة جوائز إسرائيل، وفي عام 1958، بعد مرور عقد على قيام الدولة، أطلقت مسابقة الكتاب المقدّس (التناخ) الأولى. هكذا تبلور يوم الاستقلال الإسرائيلي كما نعرفه اليوم.
جميع الصور في هذه المقالة- إلّا إذا أشير إلى خلاف ذلك- مأخوذة من أرشيف المصوّر بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية. وثّق روتينبيرغ بعدسته مواضيع كثيرة في العقود الأولى لدولة إسرائيل. يمكنم رؤية نماذج إضافية لصور التقطت بعدسته هنا، هنا و هنا.
نزاع بين عائلتيّ قدورة والنحوي في صفد!
تعرّفوا على قصّة الشّيخ أسعد أفندي وعلي بك رضا النّحوي من خلال أخبار الصحف الفلسطينية في أرشيف جرايد.
تعرّفوا على قصّة الشّيخ أسعد أفندي وعلي بك رضا النّحوي الجزء الأوّل
تحظى القصص العائليّة والبنى الاجتماعيّة للفلسطينيّين في عهد الانتداب البريطانيّ باهتمامٍ واسعٍ في السّنوات الأخيرة، ما زال يكشف لنا شيئًا فشيئًا تفاصيل تعمّق من فهمنا لما حدث في هذه المرحلة الانتقاليّة من حياة الفلسطينييّن. ومن المصادر الّتي توفّر لنا معرفة من هذا النّوع، إلى جانب التأريخ العائليّ والوثائق المؤرشفة، هي أرشيفات الصّحف الفلسطينيّة المختلفة، إذ تناولت الصّحافة الفلسطينيّة أخبار الحياة اليوميّة لسكّان المدن والقرى الفلسطينيّة كافّة، من حفلات الزّفاف والتّبريكات والوفيّات والمسابقات الرّياضيّة وحتّى المظاهرات أو الاشتباكات ضد حكومة الانتداب والاستيطان اليهوديّ.
في هذه المقالة، نستعرض لكم خلفيّة قصة نزاع بين عائلتين من العائلات الفلسطينيّة الكبرى في مدينة صفد خلال فترة الانتداب البريطاني، عائلتيّ قدّورة والنّحوي. إذ بدأنا بتتبّع هذه القصّة المبعثرة من خبرٍ مبهم ورد في صحيفة اللّواء في تاريخ 31 من كانون الثّاني عام 1936، مفاده بأن الخلاف الّذي بدأ بين هاتين العائلتين حول انتخابات البلديّة لم ينته بعد، بل تحوّل إلى نزاع ما زال يكبر، حتّى أن أهالي صفد وعكّا يطالبون مفتي البلاد (الحاج أمين الحسيني) بالتّدخّل من أجل إنهاء الأزمة!
رغم أنّ السبب الّذي يقترحه علينا النّص يبدو بديهيًا ومفهومًا، ألا أنّ القليل من البحث حول الأسماء الّتي وردت في الخبر يكشف لنا عن خلاف أوسع من مجرّد نزاع حول تسلّم سلطة محليّة. بل هو لربّما، مرآة صغيرة لصراعات ظهرت في صفوف الحركة الفلسطينيّة الوطنيّة في عصر الإنتداب، صراعات اتّخذت طابعًا عائليّا إلا أنها حملت في طيّاتها اختلافًا في الرؤى والممارسة الوطنيّة من جهة والصراع على النّفوذ والطّموح الفردي من جهة أخرى.
في نصّ الخبر، ورد اسمان: الشّيخ أسعد أفندي قدّورة؛ مفتي المدينة سابقًا وقاضيها في فترة الانتداب، وعلي رضا بك النّحوي؛ مأمور أوقاف شمال عكّا. وإنّ تتبّع الأخبار حول هذين الاسمين في الصّحف المتنوّعة كفيل بأن يظهر لنا شيء من طبيعة الاختلاف في توجّهات كلّ منهما كشخصيّتين من وجاهات المدينة منذ أواخر العهد العثمانيّ. إلّا أن مقالتين على وجه التّحديد ضمن سلسلة “في المرآة” في صحيفة مرآة الشّرق عام 1927 تعرضان سيرة كلّ من الرّجلين بشيء من النّقد والمديح، وقد نشرت المقالتين خلال شهرين متتاليين، مما يثير فضولنا أكثر حول هذا النّزاع العائليّ وتاريخه الممتدّ لأكثر من عشر سنوات. فمن هو الشّيخ أسعد أفندي؟ ومن هو علي رضا بك؟
قدّمت صحيفة مرآة الشّرق العشرات من المقالات الّتي عرّفت بالوجاهات الدّينيّة والشّخصيّات البارزة في الحلبة السّياسيّة الفلسطينيّة، فكانت سلسلة “في المرآة” مرجع اتأكت عليه العديد من الأبحاث في التّاريخ الفلسطيني والّتي وجدت في هذه المقالات معلومات أساسيّة حول أسماء وردت في سجلات وأوراق هامّة لكّننا لا نعرف عنها الكثير.
فهكذا مثلًا، اعتمد مصطفى العبّاسي في جزء كبير من تعريفه بفترة نفوذ الشّيخ أسعد أفندي في صفد على مقالة “في المرآة” حول الشّيخ أسعد أفندي عام 1927. إذ يتناول المقال سيرة الشّيخ ودراسته في الأزهر ومن ثمّ استلامه منصب مفتي صفد. ثم لا يتوانى كاتب المقال عن إبداء نقده بين السّطور في عدّة مواضعٍ، فيمدح به ويوقّره من جهة ومن ثمّ يعود لينتقده من جهة أخرى. فمثلًا، يصف حنكته الاجتماعيّة وتصرّفاته بين النّاس، “يدخّن كثيرًا ويشرب القهوة السّادة ويقول “القهوة السّادة للسّادة”، يستضيف أصدقائه ويتفقّد القربى ويستعرض الجماعات وقد يكثر الزّيارات ليلاحظ النّعرات الحزبيّة ويدرس القوم، ومن ثمّ يتحدّث عن انخراطه في الحركة الوطنيّة ويثني على قوميّته ودفعه وبذله أمواله في سبيلها، إلا أنه يعود ويذكّر بأنّه لم يقطع علاقته بالحكومة الانتدابيّة، ثم يلتمس له الأعذار. وهكذا طيلة المقال، يصفه بالشّجاعة والكرم تارة، وضعف العزيمة والإصرار على التربع في منصبه تارة أخرى. ويذكر المقال حنكة الشّيخ في التّعامل مع خصومه، إلا أنه لا يتطرّق لتلك الخصومات أو يتّخذ منها موقفًا.
في الشّهر التّالي، تقوم مرآة الشّرق بنشر مقالة من ذات السّلسلة “في المرآة” عن علي رضا بك النّحوي، سليل العائلة العلميّة منذ القدم في صفد، والّذي كان يعمل متصرّفًا في إربد، إلا أنه سئم الوظائف وقرّر أن يكون مدرّسًا للتعاليم الدّينيّة، كتبت هذه المقالة بأسلوب يختلف تمامًا عن تلك الأولى، إذ يعرض كاتبها جميع التفاصيل حول شخصيّة على بك رضا من خلال سرد تفاصيل لقائه بشخص غريب في مقهى فندق في القدس كأنه يحكي قصّة بأسلوب أدبيّ ماهر، إلا أنه من خلال هذه القصّة يلمّح لقضايا معيّنة ويحاول إيصال شكوى النّحوي حول عدم حصوله على وظيفة في حكومة الانتداب، وأن مثله لا يستطيع أن يحصل على الوساطة المناسبة، وأن هذه المناصب لا يحصل عليها إلا من كان متصلًّا بجمعيّة الشّبان المسيحيّين، وهي جهة منتقدة من قبل الوجاهات الدّينيّة والوطنيّة الفلسطينيّة.
نفهم من هاتين المقالتين أن في عام 1927 تمتّع الشّيخ أسعد قدورة بنفوذٍ أكبر في صفد كما بعلاقة أفضل مع حكومة الانتداب، خاصّة وأن المقالة ذكرت أن الشّيخ لا يغادر بلده إلا للضرورة القصوى، خوفًا على مكانته ومنصبه من المنافسين. في حين أن على بك رضا كان يعمل في شرق الأردن لسنوات، وكان قد عاد مجددًا إلى صفد كمعلّم دين بغير منصب ذو نفوذ. فما الّذي تغيّر حتّى عام 1936؟ وهل تنافس الرّجلان على انتخابات البلديّة؟ ولماذا استنجد أهالي صفد بمفتي البلاد لحلّ النّزاع بين العائلتين؟
ترقّبوا الجزء الثّاني!
هدية صغيرة تعبيرًا عن الشكر والامتنان: ألبوم الصور الجويّة المدنيّة الأول للبلاد
مجموعة من الصور الجوية للبلاد والفريدة من نوعها في أراشيف المكتبة.
داخل صندوق كرتونيّ مغلّف بقماش الكتّان الفاخر، حُفظت 40 صورة جويّة عالية الجودة للبلاد. لم يُكتب شيء على الصندوق، ولكن الورقة المائلة للصفرة داخل الصندوق، الموضوعة فوق الصور وقد كُتب عليها إهداء بالعبرية والألمانية، تسرد القصّة بأكملها.
هذه ثمرة تعاون فريد من نوعه بين رجل أعمال، فاعل خير وناشر وبين أحد أهم المصورين الذين نشطوا في البلاد. أسفرت العلاقة بينهما عن إنتاج سلسلة الصور الجويّة المدنيّة الأولى للبلاد، لأغراض غير عسكرية.
في الفترة العصيبة ما بين الأحداث الدامية في البلاد وحكم هتلر في ألمانيا، أقيمت في القدس حفلة عيد الميلاد الستّين لشلومو زيلمان شوكن. في الطابق الثاني لمبنى المكتبة التي صمّمها له المهندس المعماري الشهير آريخ مندلسون، جمع شوكن في 23 تشرين الأول 1937 مجموعة صغيرة ومختارة من الزملاء والمقرّبين. لم يكن لرجل الأعمال الصارم وصاحب الأملاك والنفوذ أصدقاء حقيقيون. مع ذلك، سعى الكثيرون لتمجيد راعي الكتاب العبري الذي جمع حوله نخبةً من الطاقات الإبداعية في “اليشوف” العبري الصغير في تلك الفترة.
اتخذ هذا الشخص، الذي تمكّن من إقامة شبكة متاجر ناجحة في ألمانيا، واعتبرَ أحد ملوك المال في موطنه، خطوة حكيمة عندما قرر بناء منزل خاص به في القدس، حيث نقل الجزء الأكبر من مكتبته، والتي اعتبرت موردًا ثقافيًا من الدرجة الأولى. ببلوغه سن الستين، كان شوكن قد احتل مكانة مرموقة كشخصية عامة في البلاد. شغل مناصب عليا مثل رئيس الهيئة الإدارية للجامعة العبرية وعضو هيئة إدارية في الوكالة اليهودية، وقبل ذلك بعام، اقتنى لابنه صحيفة هآرتس، إحدى أهم الصحف اليومية في “اليشوف” العبري في حينه. وإلى جانب محاولة استرجاع ممتلكاته التي نهبها النازيون، كرّس جلّ جهوده للمشاريع المبتكرة، أهمّها- إدارة دار شوكن للنشر.
ترأس الكاتب شموئيل يوسف عجنون مجموعة الأدباء التي تبنّاها ودعمها شوكن، وحرص بكل سخاء على تعزيز رفاههم وحسن حالهم. في تلك الفترة، حصل حاييم هزاز، شاؤول طشرينخوفسكي وآخرون على منح معيشية قدّمها شوكن، مقابل نيل الحقوق الحصرية لنشر أعمالهم. لا شك أنّ شوكن لعب في تلك الفترة دور راعي الأدب العبري، وقد شكّلت المعاهد البحثية التي أسّسها ورعاها (معهد دراسات الشعر العبري، أبحاث الكابالا وغير ذلك) ملجأ آمنًا لكبار المثقفين اليهود عندما كانت اليهودية في أوروبا على وشك الانهيار.
ولكن رغم الشهرة الواسعة التي حظي بها نشاط شوكن في المجال الأدبي والبحثي، إلّا أنّ هناك مراجع قليلة جدًا حول مبادرته المبتكرة لالتقاط صور جويّة للبلاد. من كان حلقة الوصل في عام 1937 بينه وبين نحمان شيفرين، مدير “الشركة الشرقية للصور الصحفيّة”؟ حتى لحظة كتابة هذه السطور، لا توجد لدينا إجابة واضحة، ولكن لا شكّ في أنّ العلاقة بين الاثنين أسفرت عن أحد المشاريع الطلائعية التي تركت أثرًا في تاريخ التصوير في البلاد.
فنانو التصوير يهاجرون إلى البلاد
قبل ذلك بأربع سنوات، قام شيفرين ببيع وكالة الصور الصحفية الكبيرة التي كان يملكها في برلين، وهاجر إلى البلاد مع احد أفضل المصورين الذي عملوا معه، زولتان كلوغر. القيود التي فرضها النازيون على نشاط المصورين الصحافيين اليهود، من الأشهر الأولى لاعتلاء هتلر سدة الحكم، دفعت شيفرين إلى اتخاذ القرار بالهجرة إلى البلاد. أدركَ شيفرين أنّ المؤسّسات الوطنية في البلاد بحاجة لصور عالية الجودة، في إطار عمل أقسام الدعاية والإعلان، التي اكتسبت زخمًا متزايدًا.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ شيفرين كان رجل أعمال موهوب، متمرّس وداهية، ولكنه لم يكون مصوّرًا، بل علّق آماله على مصوّر متواضع، واسع الاطلاع وعلى قدر عال من الموهبة، سطع نجمه في برلين في أواخر العشرينيّات: إنّه زولتان كلوغر، ابن مدينة كيكسكيميت في هنغاريا.
الجودة التقنية والفنية الرائعة للصور التي التقطها كلوغر للمؤسّسات الوطنية، فور قدومه إلى البلاد في تشرين الثاني 1933، إلى جانب الأداء الدقيق والسريع الذي حرص عليه وكيله، نحمان شيفرين، جعلا منه المصوّر المفضّل لدى مؤسسة “كيرن هيسود” والصندوق القومي اليهودي.
ولكن النجاح الفوري الذي حققه كلوغر وشيفرين لم يمنعهما من البحث عن قنوات عمل جديدة، التي ستزيد من عمق الفجوة بينهما وبين سائر المصوّرين الصحافيين في البلاد في تلك الفترة.
جلبت الهجرة الخامسة معها مجموعة كبيرة من المصوّرين المهنيين من أوروبا الوسطى ، حظي البعض منهم بشهرة عالمية، وساهموا في تنشيط المجال وتطوره المهني- وخلقوا منافسة حامية الوطيس.
تخوّف شيفرين من الشكاوى التي قدّمها بعض المصوّرين للمؤسّسات الوطنية، بحيث طرحوا إشكالية عدم الإنصاف في العمل شبه الحصري مع كلوغر. العلاقة المهنية الجريئة، التي جلبت لشيفرين وكلوغر عملًا كثيرًا، كانت مهمّة للغاية، وأخذ الاثنان يفكّران في مشروع جديد في مجال التصوير- مشروع جريء ومبتكر، يُبرز تفوّقهما على سائر المصوّرين في البلاد.
البلاد من نظرة جوية
هل خَدَم كلوغر كمصوّر في سلاح الجو النمساوي-المجري في الحرب العالمية الأولى، وهو من طرح فكرة التقاط صور جوية للبلاد؟ أم أنّها كانت أصلًا فكرة نحمان شيرفين، رجل الأعمال المفعم بالنشاط والحيوية؟ أم أنّ الحقوق على الصور الجويّة الأولى محفوظة لشلومو زيلمان شوكن، الذي اشتهر هو أيضًا بأفكاره المبتكرة، خاصة في مجال الدعاية والإعلان؟
على أيّ حال، كان لشوكِن دور مركزي في مبادرة استئجار طائرة مدنية وتوثيق البلاد، لأول مرة في تاريخها، بواسطة التصوير الجوي. حتى ذلك الحين، اقتصر التصوير الجوي على الكوادر العسكرية فقط، وذلك في إطار السلاح الجوي الألماني والبريطاني، خاصةً خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن بفضل التمويل السخي الذي قدّمه شوكن لكلوغر وشيرفين، أصبح من الممكن استئجار خدمات شركة “أفيرون”، شركة الطيران الأولى في “اليشوف” العبري، وصعود كلوغر على متن إحدى طائراتها، مع كاميرته.
.
الصور الرائعة التي التقطها كلوغر لم تخيّب الآمال يومًا: مشاهد جويّة ساحرة لصحراء يهودا، غور الأردن، تل-حاي، عين حارود، بيت-يوسف وطيرات تسفي، بالإضافة إلى البلدات الساحلية، وعلى رأسها تل أبيب، كل ذلك كان ابتكارًا وتجديدًا حقيقيًا في جاليري صور البلاد. ولكن الروائع الحقيقية في سلسلة الصور هذه كانت الصور الجوية لمدينة القدس.
تكريمًا لراعي المشروع، شلومو زيلمان شوكن، (وربّما بناء على طلب واضح؟)، صوّر كلوغر منزل شوكن ومكتبته على مشارف حي الطالبية، منازل فخمة صمّمت من قِبل المهندس المعماري العالمي آريخ مندلسون، وفتحت أبوابها قبل فترة وجيزة من تصويرها. البركة والحديقة التي أحاطت بفيلا شوكن، وقد اعتنى بها بستانيّ استدعيَ خصيصًا من ألمانيا، هي جزء من التفاصيل الدقيقة الرائعة التي يمكن تمييزها في الصور. هذه الصور الجوية هي توثيقات مهمة جدًا للأبحاث حول مدينة القدس وعلاقتها باليهود في فترة الانتداب، وهي تنضم إلى سلسلة صور جوية جميلة لمنطقة جبل المشارف، ومن ضمنها مبنى المكتبة الوطنية.
“كلّما تقدّم بنا العمر، نصبح أكثر امتنانًا”، كتب مارتن بوبر، وأضاف قائلًا: “من يوجّه إليك كلمة شكر، فإنه يقول لك: سأذكرك دائمًا”. شوكن، الذي كان معجبًا ببوبر وشاركه الرأي حول مواضيع عديدة، تبنّى وجهة النظر هذه أيضًا. في سيرورة دامت طويلًا، بسبب اهتمام شوكِن الشديد بكل تفصيلة، تحوّلت صور كلوغِر الجويّة إلى ألبومات، حيث ألصقت مطبوعات فضية عالية الجودة على ألواح كرتونية وحُفظت في صندوق. أُرفق إليها شوكِن ورقة طُبعت عليها الجملة التالية بالألمانية والعبرية: “يسعدني أن أرسل لحضرتكم، ولو في وقت متأخر، مجموعة صور جوية للبلاد، كهدية صغيرة ردًا على تهنئتكم بمناسبة عيد ميلادي الستين”.
تحت هذا الإهداء، أضاف شوكن بضع كلمات بالألمانية، بخط يده الصغير، ووقع باسمه. يرجّح أنّ الإنتاج عالي الجودة للألبوم، الذي أدى إلى إصداره “المتأخّر”، كان مكلفًا جدًا. قرر شوكن، رجل الأعمال المتزن والحَذِر في الشؤون المالية، إنتاج كمية محدودة من الألبومات، تحتوي على 40 صورة جوية عالية الجودة اختارها بنفسه.
أضاف إليها ألبومين صغيرين، يحتويان على مجموعة أصغر من الصور: ست صور واثنتي عشرة صورة فقط. من فاز بالألبوم الكبير، ومن فاز بالألبومات الأصغر؟ تجدون إجابة جزئية في قسم الأرشيفات في المكتبة الوطنية، حيث توجد بضع نسخ من الألبومات، وترافقها الأرشيفات الشخصية لبعض المقرّبين من شوكن.
أدى اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى تقييد الطيران المدني في البلاد، ومن ضمنه حظر التصوير الجوي. وبهذا، بقي المشروع المشترك لكلوغر، شيفرين وشوكِن التوثيق غير العسكري الوحيد لهذه البلاد لسنوات طويلة. حتى في الوقت الحاضر، بعد نحو ثمانين عامًا، لا يزال هذا التوثيق موضع إعجاب ومصدر إلهام لجماله وجودته.