وجه الدولة: هكذا كان شكل اليوم الأول بعد تأسيس إسرائيل

كيف احتفلوا بالاستقلال قبل الاستقلال؟ ما هو "الموكب الذي لم يُكمل مساره؟ هذا ما ستكشفه لنا صور التقطت بعدسة بينو روتنبيرغ

تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

كيف نشأ عيدٌ من العدم؟ ينص  قانون يوم الاستقلال لعام 1949 على حلول يوم الاستقلال في الخامس من شهر أيار حسب التقويم العبري، وينظّم مسألة تبكيره أو تأجيله إذا حلّ يوم السبت. وفقًا للقانون، كُلّف رئيس الحكومة بالاهتمام بمسألة رموز العيد وطبيعة الاحتفالات، والسماح برفع الأعلام. يُطرح هنا سؤال مركّب مفاده كيف أخذ يوم الاستقلال شكله الحالي. نرغب أولًا في العودة إلى لحظة عينيّة، إلى الخامس من شهر أيار 5709 حسب التقويم العبري- بعد إعلان قيام الدولة بعام واحدٍ، وبعد ثلاثة أسابيع على سنّ القانون سابق الذكر.

سادت في ذلك اليوم، الخامس من أيار، حالة من الضبابية وعدم الوضوح. فالخامس من أيار للعام 5709 لم يكن “يوم الاستقلال الأول”، بل سبقه “يوم الدولة” الذي أقيم في 27 تموز 1948، بعد مرور بضعة أيام على إعلان الاستقلال. اختير هذا التاريخ لأنّه ذكرى وفاة بنيامين زيئيف هرتسل، وأرادت سلطات الدولة تسليط الضوء على الرابط بين رؤية هرتسل ودولة إسرائيل الفتية. ولأول مرة، اقتصر الاحتفال الرئيسي في “يوم الدولة” على موكب عسكري للجيش الإسرائيلي حديث الإنشاء.

تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

 

استعدادًا لموكب الجيش الإسرائيلي في يوم الاستقلال الأول في تل أبيب، حامل راية يرفع علم إسرائيل:  تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

ولكن لنعود إلى الخامس من أيار لعام 5709 حسب التقويم العبري، أي الرابع عشر من أيار-مايو لعام 1949 حسب التقويم الميلادي. كيف احتفلوا بالاستقلال؟ لا أحد يعرف بالضبط، مع ذلك، كانت هناك أمور بديهية، مثل الرقص في الشوارع، وإحياء ذكرى الـ 29 من نوفمبر 1947. في يوم الاستقلال الأول، خططت البلديات في جميع أنحاء البلاد لبرامج احتفالية تشمل إضاءة المشاعل، رفع أعلام، نصب منصّات لعروض ترفيهية (حيث عزفت الأوركسترا البلدية- وليس أشهر المغنين والمغنيات، كما اعتدنا نحن) والعديد من المسيرات والمواكب. في الجليل، أضاؤوا المشاعل، وأقيمت مسيرات مشاعل في مدن مختلفة مثل رمات غان، حولون وبيتاح تيكفا. في رياض الأطفال والمدارس، أقيمت استعراضات احتفالية ورفعوا الأعلام، وقد حضرها بعض السياسيين لإلقاء خطابات.

من مجموعة البوسترات، المكتبة الوطنية
برنامج ليوم الاستقلال لعام 1949،  من مجموعة البوسترات، المكتبة الوطنية

عشية عيد الاستقلال، ألقى رئيس الحكومة دافيد بن غوريون خطابًا خاصًا بيوم الاستقلال، والذي نشر في الصحيفة في اليوم التالي. في حينه، لم يكن قد تحدد بعد يوم ذكرى شهداء معارك إسرائيل، مع أنّه كانت تُتلى أحيانًا الصلاة التذكارية “يزكور” خلال برامج العيد. بالإضافة إلى ذلك، استضاف بن غوريون في المركز الحكومي في تل أبيب وجهاء من خارج البلاد الذين حضروا حفل استقبال رسمي خاص لمناسبة استقلال دول إسرائيل المتجددة.

استضاف رئيس الحكومة دافيد بن غوريون  وزوجته بولا عدة وجهاء في حفل استقبال رسمي عشية  يوم  الاستقلال الأول. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
استضاف رئيس الحكومة دافيد بن غوريون  وزوجته بولا عدة وجهاء في حفل استقبال رسمي عشية  يوم  الاستقلال الأول. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

كانت ذروة الاحتفالات عبارة عن موكب عسكري للجيش إلإسرائيلي، “جيش الانتصار والتحرير”. لم يُخطط لموكبٍ واحد فقط، بل اثنين، في القدس وفي تل أبيب. انطلق موكب القدس بدون أحداث استثنائية، ولكن القصة الرئيسية ليوم الاستقلال الأول كانت الاستعراض العسكري في تل أبيب.

في اليوم التالي، تصدّر العنوان “الموكب الذي لم يكمل مساره” الصفحة الرئيسية لصحيفة “معاريف”. انغرس هذا العنوان في الذاكرة، ولم ينسَ منذ ذلك الحين. كتب محرر معاريف في حينه، د. عزريئيل كريلباخ، عن الواقعة، قائلًا: “وقف الناس وبكوا. كالأطفال تمامًا. كنا جميعًا كالأطفال يوم أمس. بكوا كطفل انكسرت بين يديه لعبته المفضّلة. استيقظوا فجرًا وانطلقوا نحو المدينة، تجولوا فيها، ولم تكن لديهم أية خطة، لم يكن لديهم أي شيء يفعلونه- سوى انتظار حدث اليوم، الموكب.

وعندما قيل لهم أنّ هذا “المسيح المنتظر” لن يأتي- ضحكوا. هذا مستحيل. فقد شعروا بقدومه بكلّ حواسهم. وعندما قيل لهم مجددًا إنّ الموكب لن يأتي- لم يستوعبوا ذلك… وعندما قيل لهم ذلك للمرة الثالثة، لأن الموكب لم يتمكن من إخلاء الطريق من ميدان مُغربي حتى شارع إيدلسون، أي مسافة 200 متر تقريبًا- لم يصدّقوا، لا يمكن لذلك أن يكون صحيحًا. جيشنا؟ الذي وصل إلى إيلات، وأمكنه دخول دمشق بسهولة- لا يستطيع دخول شارع إليعيزر بن يهودا؟ هذا عبث”.

 

طائرة تحلق فوق الجمهور الذي ملأ شوارع تل أبيب. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
طائرة تحلق فوق الجمهور الذي ملأ شوارع تل أبيب. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

 

في البداية، تمكّن الموكب من الانطلاق، وقد شارك فيه مندوبون عن مختلف الفيالق: سلاح البحرية، الهيئة الطبية العسكرية ومقاتلو “الهاغاناه” الذين استعرضوا سلاحهم. ملأت الشوارع سيارات الجيب، وعُرضت المدافع، بينما حلّق الطيارون من حين لآخر بالطائرات القليلة التي كانت متوفرة للجيش الإسرائيلي في حينه. برز بين مشاركي الموكب مندوبون عن الأقليات، أي جنود دروز خدموا هم أيضًا في الجيش الإسرائيلي. شاركت في الموكب أيضًا أوركسترا، كما يليق بموكب عسكري مهيب.

مقاتلو "الهاغاناه" القدماء يسيرون في الموكب. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
مقاتلو “الهاغاناه” القدماء يسيرون في الموكب. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

 

رفع الأعلام في ميدان تسينا ديزنغوف. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
رفع الأعلام في ميدان تسينا ديزنغوف. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

 

جنود دروز يسيرون في الموكب. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
جنود دروز يسيرون في الموكب. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

 

ولكن قرابة الساعة الرابعة، حينما ترقب الجميع وصول الموكب إلى المنصة الشرفية لتأدية مراسم التحية العسكرية أمام قادة الدولة، كبار المسؤولين وضيوف من خارج البلاد، شاع نبأ إلغاء الموكب، وأنّه لن يتمكن من الوصول إلى المنصة الشرفية في شارع ديزنغوف بسبب الاكتظاظ الشديد عند التقاء شارع ألنبي بشارع بن يهودا. الجماهير الغفيرة التي أتت لمشاهدة الموكب ملأت الشوارع وسدّت الطرقات، وجميع المحاولات التي بذلتها الشرطة المتواجدة في المكان لفتح هذه الشوارع باءت بالفشل. في نهاية المطاف، وكما ذكر آنفًا، أعلنوا عن إلغاء الموكب، واضطر الجمهور للمغادرة، خائب الأمل. “جيش الدفاع الإسرائيلي تمكّن من احتلال كل مكان، سوى شوارع تل أبيب”، هذا ما جاء على لسان أحد كبار ضباط الجيش الذي تواجد في المكان، واقتُبس في صحيفة “حيروت”.

مدفع في موكب الجيش الإسرائيلي  في يوم الاستقلال الأول في تل أبيب، تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
مدفع في موكب الجيش الإسرائيلي  في يوم الاستقلال الأول في تل أبيب، تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

بنظرة للوراء، يبدو أنّ هذا الوضع نتج عن إخفاقات تنظيمية. يبدو أنّ منظّمي الموكب لم يتوقعوا حضور هذا الكم الهائل من الناس لمشاهدة الموكب العسكري. يُقال أنّ مئات الآلاف حضروا من جميع أنحاء البلاد- في دولة لا يزيد عدد سكانها عن 800 ألف نسمة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطرقات لم تغلق أمام حركة المرور إلا قبل موعد انطلاق الموكب بوقت قصير.  في اليوم التالي، بشّرت الصحف بتشكيل لجنة تحقيق لاستيضاح أسباب الإخفاق.

 

رجال الشرطة  يحاولون إخلاء الجمهور.  تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
رجال الشرطة  يحاولون إخلاء الجمهور.  تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
محاولة لشق الطريق بين المشاهدين . تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
محاولة لشق الطريق بين المشاهدين . تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

 

عناصر الشرطة يحاولون منع الجمهور من النزول إلى الشارع. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
عناصر الشرطة يحاولون منع الجمهور من النزول إلى الشارع. تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية

 

على ضوء هذا الموقف المحرج الذي حصل في تل أبيب، تقرر الاحتفال بـ “يوم الدولة” مجددًا في 17 تموز 1949. أجريت في حينه مسيرة احتفالية، على نطاق أضيق، لاستكمال الموكب الذي لم يكمل مساره، وزّعت أيضًا نياشين بطولة على 12 مقاتلًا من مقاتلي حرب الاستقلال. كانت تلك المرة الأخيرة التي يُحتفل فيها باستقلال إسرائيل في ذكرى وفاة هرتسل، وأصبح الخامس من أيار، حسب التقويم العبري، يوم الاستقلال الرسمي لدولة إسرائيل.

في عام 1951، تقرر تخصيص يوم لإحياء ذكرى شهداء معارك إسرائيل، وفي نفس السنة، تمت لأول مرة إضاءة المشاعل على جبل هرتسل، في عام 1953، وزّعت لأول مرة جوائز إسرائيل، وفي عام 1958، بعد مرور عقد على قيام الدولة، أطلقت مسابقة الكتاب المقدّس (التناخ) الأولى. هكذا تبلور يوم الاستقلال الإسرائيلي كما نعرفه اليوم.

جميع الصور في هذه المقالة- إلّا إذا أشير إلى خلاف ذلك- مأخوذة من أرشيف المصوّر بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية. وثّق روتينبيرغ بعدسته مواضيع كثيرة في العقود الأولى لدولة إسرائيل. يمكنم رؤية نماذج إضافية لصور التقطت بعدسته هنا، هنا و هنا.

هدية صغيرة تعبيرًا عن الشكر والامتنان: ألبوم الصور الجويّة المدنيّة الأول للبلاد

مجموعة من الصور الجوية للبلاد والفريدة من نوعها في أراشيف المكتبة.

داخل صندوق كرتونيّ مغلّف بقماش الكتّان الفاخر، حُفظت 40 صورة جويّة عالية الجودة للبلاد. لم يُكتب شيء على الصندوق، ولكن الورقة المائلة للصفرة داخل الصندوق، الموضوعة فوق الصور وقد كُتب عليها إهداء بالعبرية والألمانية، تسرد القصّة بأكملها.

 

هذه ثمرة تعاون فريد من نوعه بين رجل أعمال، فاعل خير وناشر وبين أحد أهم المصورين الذين نشطوا في البلاد. أسفرت العلاقة بينهما عن إنتاج سلسلة الصور الجويّة المدنيّة الأولى للبلاد، لأغراض غير عسكرية.

للألبوم الكامل

في الفترة العصيبة ما بين الأحداث الدامية في البلاد وحكم هتلر في ألمانيا، أقيمت في القدس حفلة عيد الميلاد الستّين لشلومو زيلمان شوكن. في الطابق الثاني لمبنى المكتبة التي صمّمها له المهندس المعماري الشهير آريخ مندلسون، جمع شوكن في 23 تشرين الأول 1937 مجموعة صغيرة ومختارة من الزملاء والمقرّبين. لم يكن لرجل الأعمال الصارم وصاحب الأملاك والنفوذ أصدقاء حقيقيون. مع ذلك، سعى الكثيرون لتمجيد راعي الكتاب العبري الذي جمع حوله نخبةً من الطاقات الإبداعية في “اليشوف” العبري الصغير في تلك الفترة.

القدس. نرى في الجهة اليسرى "بيت أغيون"، والذي سيصبح لاحقًا المقر الرسميّ لرئيس الوزراء. نرى في الجهة اليمنى بيت زيلمان شوكن، "فيلا شوكن"، وفي أعلى الصورة: كلية تراسنطا.
القدس. نرى في الجهة اليسرى “بيت أغيون”، والذي سيصبح لاحقًا المقر الرسميّ لرئيس الوزراء. نرى في الجهة اليمنى بيت زيلمان شوكن، “فيلا شوكن”، وفي أعلى الصورة: كلية تراسنطا.

اتخذ هذا الشخص، الذي تمكّن من إقامة شبكة متاجر ناجحة في ألمانيا، واعتبرَ أحد ملوك المال في موطنه، خطوة حكيمة عندما قرر بناء منزل خاص به في القدس، حيث نقل الجزء الأكبر من مكتبته، والتي اعتبرت موردًا ثقافيًا من الدرجة الأولى. ببلوغه سن الستين، كان شوكن قد احتل مكانة مرموقة كشخصية عامة في البلاد. شغل مناصب عليا مثل رئيس الهيئة الإدارية للجامعة العبرية وعضو هيئة إدارية في الوكالة اليهودية، وقبل ذلك بعام، اقتنى لابنه صحيفة هآرتس، إحدى أهم الصحف اليومية في “اليشوف” العبري في حينه. وإلى جانب محاولة استرجاع ممتلكاته التي نهبها النازيون، كرّس جلّ جهوده للمشاريع المبتكرة، أهمّها- إدارة دار شوكن للنشر.

البلدة القديمة في القدس
البلدة القديمة في القدس

ترأس الكاتب شموئيل يوسف عجنون مجموعة الأدباء التي تبنّاها ودعمها شوكن، وحرص بكل سخاء على تعزيز رفاههم وحسن حالهم. في تلك الفترة، حصل حاييم هزاز، شاؤول طشرينخوفسكي وآخرون على منح معيشية قدّمها شوكن، مقابل نيل الحقوق الحصرية لنشر أعمالهم. لا شك أنّ شوكن لعب في تلك الفترة دور راعي الأدب العبري، وقد شكّلت المعاهد البحثية التي أسّسها ورعاها (معهد دراسات الشعر العبري، أبحاث الكابالا وغير ذلك) ملجأ آمنًا لكبار المثقفين اليهود عندما كانت اليهودية في أوروبا على وشك الانهيار.

ولكن رغم الشهرة الواسعة التي حظي بها نشاط شوكن في المجال الأدبي والبحثي، إلّا أنّ هناك مراجع قليلة جدًا حول مبادرته المبتكرة لالتقاط صور جويّة للبلاد. من كان حلقة الوصل في عام 1937 بينه وبين نحمان شيفرين، مدير “الشركة الشرقية للصور الصحفيّة”؟ حتى لحظة كتابة هذه السطور، لا توجد لدينا إجابة واضحة، ولكن لا شكّ في أنّ العلاقة بين الاثنين أسفرت عن أحد المشاريع الطلائعية التي تركت أثرًا في تاريخ التصوير في البلاد.

فنانو التصوير يهاجرون إلى البلاد

 

قبل ذلك بأربع سنوات، قام شيفرين ببيع وكالة الصور الصحفية الكبيرة التي كان يملكها في برلين، وهاجر إلى البلاد مع احد أفضل المصورين الذي عملوا معه، زولتان كلوغر. القيود التي فرضها النازيون على نشاط المصورين الصحافيين اليهود، من الأشهر الأولى لاعتلاء هتلر سدة الحكم، دفعت شيفرين إلى اتخاذ القرار بالهجرة إلى البلاد.  أدركَ شيفرين أنّ المؤسّسات الوطنية في البلاد بحاجة لصور عالية الجودة، في إطار عمل أقسام الدعاية والإعلان، التي اكتسبت زخمًا متزايدًا.

تل أبيب
تل أبيب

 

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ شيفرين كان رجل أعمال موهوب، متمرّس وداهية، ولكنه لم يكون مصوّرًا، بل علّق آماله على مصوّر متواضع، واسع الاطلاع وعلى قدر عال من الموهبة، سطع نجمه في برلين في أواخر العشرينيّات: إنّه زولتان كلوغر، ابن مدينة كيكسكيميت في هنغاريا.

الجودة التقنية والفنية الرائعة للصور التي التقطها كلوغر للمؤسّسات الوطنية، فور قدومه إلى البلاد في تشرين الثاني 1933، إلى جانب الأداء الدقيق والسريع الذي حرص عليه وكيله، نحمان شيفرين، جعلا منه المصوّر المفضّل لدى مؤسسة “كيرن هيسود” والصندوق القومي اليهودي.

ولكن النجاح الفوري الذي حققه كلوغر وشيفرين لم يمنعهما من البحث عن قنوات عمل جديدة، التي ستزيد من عمق الفجوة بينهما وبين سائر المصوّرين الصحافيين في البلاد في تلك الفترة.

جلبت الهجرة الخامسة معها مجموعة كبيرة من المصوّرين المهنيين من أوروبا الوسطى ، حظي البعض منهم بشهرة عالمية، وساهموا في تنشيط المجال وتطوره المهني- وخلقوا منافسة حامية الوطيس.

محطّة توليد الطاقة الكهربائية في الباقورة
محطّة توليد الطاقة الكهربائية في الباقورة

 

تخوّف شيفرين من الشكاوى التي قدّمها بعض المصوّرين للمؤسّسات الوطنية، بحيث طرحوا إشكالية عدم الإنصاف في العمل شبه الحصري مع كلوغر. العلاقة المهنية الجريئة، التي جلبت لشيفرين وكلوغر عملًا كثيرًا، كانت مهمّة للغاية، وأخذ الاثنان يفكّران في مشروع جديد في مجال التصوير- مشروع جريء ومبتكر، يُبرز تفوّقهما على سائر المصوّرين في البلاد.

البلاد من نظرة جوية

هل خَدَم كلوغر كمصوّر في سلاح الجو النمساوي-المجري في الحرب العالمية الأولى، وهو من طرح فكرة التقاط صور جوية للبلاد؟ أم أنّها كانت أصلًا فكرة نحمان شيرفين، رجل الأعمال المفعم بالنشاط والحيوية؟ أم أنّ الحقوق على الصور الجويّة الأولى محفوظة لشلومو زيلمان شوكن، الذي اشتهر هو أيضًا بأفكاره المبتكرة، خاصة في مجال الدعاية والإعلان؟

على أيّ حال، كان لشوكِن دور مركزي في مبادرة استئجار طائرة مدنية وتوثيق البلاد، لأول مرة في تاريخها، بواسطة التصوير الجوي. حتى ذلك الحين، اقتصر التصوير الجوي على الكوادر العسكرية فقط، وذلك في إطار السلاح الجوي الألماني والبريطاني، خاصةً خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن بفضل التمويل السخي الذي قدّمه شوكن لكلوغر وشيرفين، أصبح من الممكن استئجار خدمات شركة “أفيرون”، شركة الطيران الأولى في “اليشوف” العبري، وصعود كلوغر على متن إحدى طائراتها، مع كاميرته.

.

نهلال
نهلال

 

الصور الرائعة التي التقطها كلوغر لم تخيّب الآمال يومًا: مشاهد جويّة ساحرة لصحراء يهودا، غور الأردن، تل-حاي، عين حارود، بيت-يوسف وطيرات تسفي، بالإضافة إلى البلدات الساحلية، وعلى رأسها تل أبيب، كل ذلك كان ابتكارًا وتجديدًا حقيقيًا في جاليري صور البلاد. ولكن الروائع الحقيقية في سلسلة الصور هذه كانت الصور الجوية لمدينة القدس.

تكريمًا لراعي المشروع، شلومو زيلمان شوكن، (وربّما بناء على طلب واضح؟)، صوّر كلوغر منزل شوكن ومكتبته على مشارف حي الطالبية، منازل فخمة صمّمت من قِبل المهندس المعماري العالمي آريخ مندلسون،  وفتحت أبوابها قبل فترة وجيزة من تصويرها. البركة والحديقة التي أحاطت بفيلا شوكن، وقد اعتنى بها بستانيّ استدعيَ خصيصًا من ألمانيا،  هي جزء من التفاصيل الدقيقة الرائعة  التي يمكن تمييزها في الصور. هذه الصور الجوية هي توثيقات مهمة جدًا للأبحاث حول مدينة القدس وعلاقتها باليهود في فترة الانتداب، وهي تنضم إلى سلسلة صور جوية جميلة لمنطقة جبل المشارف، ومن ضمنها مبنى المكتبة الوطنية.

 القدس: نظرة من الشرق إلى الغرب. يظهر في وسط الصورة جبل المشارف وفيه مبنى المكتبة الجامعية والقومية، وسائر مرافق الجامعة.
القدس: نظرة من الشرق إلى الغرب. يظهر في وسط الصورة جبل المشارف وفيه مبنى المكتبة الجامعية والقومية، وسائر مرافق الجامعة.

“كلّما تقدّم بنا العمر، نصبح أكثر امتنانًا”، كتب مارتن بوبر، وأضاف قائلًا: “من يوجّه إليك كلمة شكر، فإنه يقول لك: سأذكرك دائمًا”. شوكن، الذي كان معجبًا ببوبر وشاركه الرأي حول مواضيع عديدة، تبنّى وجهة النظر هذه أيضًا. في سيرورة دامت طويلًا، بسبب اهتمام شوكِن الشديد بكل تفصيلة، تحوّلت صور كلوغِر الجويّة إلى ألبومات، حيث ألصقت مطبوعات فضية عالية الجودة على ألواح كرتونية  وحُفظت في صندوق. أُرفق إليها شوكِن ورقة طُبعت عليها الجملة التالية بالألمانية والعبرية: “يسعدني أن أرسل لحضرتكم، ولو في وقت متأخر، مجموعة صور جوية للبلاد، كهدية صغيرة ردًا على تهنئتكم بمناسبة عيد ميلادي الستين”.

تحت هذا الإهداء، أضاف شوكن بضع كلمات بالألمانية، بخط يده الصغير، ووقع باسمه. يرجّح أنّ الإنتاج عالي الجودة للألبوم، الذي أدى إلى إصداره “المتأخّر”، كان مكلفًا جدًا. قرر شوكن، رجل الأعمال المتزن والحَذِر في الشؤون المالية، إنتاج كمية محدودة من الألبومات، تحتوي على 40 صورة جوية عالية الجودة اختارها بنفسه.

أضاف إليها ألبومين صغيرين، يحتويان على مجموعة أصغر من الصور: ست صور واثنتي عشرة صورة فقط. من فاز بالألبوم الكبير، ومن فاز بالألبومات الأصغر؟ تجدون إجابة جزئية في قسم الأرشيفات في المكتبة الوطنية، حيث توجد بضع نسخ من الألبومات، وترافقها الأرشيفات الشخصية لبعض المقرّبين من شوكن.

عتليت
عتليت

 

أدى اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى تقييد الطيران المدني في البلاد، ومن ضمنه حظر التصوير الجوي. وبهذا، بقي المشروع المشترك لكلوغر، شيفرين وشوكِن التوثيق غير العسكري الوحيد لهذه البلاد لسنوات طويلة. حتى في الوقت الحاضر، بعد نحو ثمانين عامًا، لا يزال هذا التوثيق موضع إعجاب ومصدر إلهام لجماله وجودته.

 

وادي الحوارث – أندلس القرن العشرين

يعتبر وادي الحوارث فاجعة الفلسطينيين الأولى؛ إذ تعكس الصحف الفلسطينية التاريخية ردة فعل الناس عقب أحداث طرد السكان العرب من هناك.

هديل عبد الحي عنبوسي

وادي الحوارث سهل منبسط فسيح، مترامي الأطراف، ويشكّل قسمًا كبيرًا من السّاحل الغربي في سورية الجنوبيّة في قضاء طولكرم سابقُا. جيّد التّربة والهواء، مساحته لا تقل عن خمسين ألف دونم، إذ يعتبر من السهول الكبيرة، ولا يعدّ وادي الحوارث واديًا بين جبلين كما يتبادر إلى الذّهن من كلمة “وادي”، بل هو السهل الساحلي الذي يقل عن نظيره من السهول ليس في البلاد فحسب، إنّما في خير الأرضين والبقاع في العالم.

وقد سُمّي بسهل وادي الحوارث نسبة إلى اسم أهل الوادي؛ عرب الحوارث، وهم قبائل ينتمون بمعظمهم إلى بني حارثة، وأصلهم من نجد، جاؤوا من سوريا ونزلوا حماة، ومن حماة نزحوا إلى فلسطين. يتكونّ وادي الحوارث من قسمين: شرقيّ وغربيّ، في القسم الشرقي يتكوّن من وادي القبّاني، ومنطقة لاستثمار الحكومة، بينما في القسم الغربي، يوجد وادي التيان، أرض السمارة، ورمال.

 

قضيّة وادي الحوارث

بدأت هجرة عرب الحوارث من واديهم قبل العام 1948، وتحديدًا في العام 1928 بحسب مقالات الصحف الفلسطينية في أرشيف جرايد. لذا، يمكن القول إن هجرة عرب الحوارث هي التهجير الفعلي الأول. وفقًا للمصادر، طُرد فلاحو الحوارث من أراضيهم بلا مأوى وبلا معيشة على يد مسؤولين بريطانيين ويهود، رغم مقاومتهم ومحاولات البقاء والصّمود في أراضيهم قدر المستطاع، بيد أنّ بساطتهم وقلّة الإمكانيّات جعلتهم مُشرّدين وبلا ملاذ.

وادي الحوارث وعائلة سرقس وانفجار بيروت

ما يُميّز حكاية وادي الحوارث أنّها من أولى الفاجعات الفلسطينية، نسبيًّا حدثت قديمًا، فكيف لها أن ترتبط مع حدثٍ معاصر كانفجار بيروت والذي وقع في آب من العام 2020؟!

السّر عند الليدي إيفون سرقس..

الليدي سرقس هي سيدة لبنانيّة مسيحيّة من عائلة أرستقراطيّة معروفة وفاحشة الثّراء والأملاك. والدها ألفرد موسى سرقس ابن عائلة مالكة الأراضي الكُبرى في الوطن العربي، وأمّها الدونا ماريا دي كاسنو وهي من عائلة إيطاليّة من سلالة عائلة الفيفيور. وقد ورثت الليدي عن عائلتها مئات آلاف الدونمات لأراضٍ في منطقة مرج ابن عامر، الجليل الغربي، وادي الحوارث، حيفا ويافا.

في انفجار بيروت، كانت الليدي سرقس إحدى الضحايا، فقصرها العائلي المُنيف، والذي قطنت فيه في آخر سنوات حياتها، يقع في حيّ الأشرفيّة في بيروت، وقد لحقت به أضرارًا جسيمة، وعانت الليدي في المستشفى لمدة 27 يوم بعد إصابتها في الانفجار حتى وافتها المنيّة في 31 آب 2020 عن عمر يُناهز 98 عام.

كانت معظم أراضي وادي الحوارث تحت سيطرة عائلة سرقس حيث كانت تمتلك 30 ألف دونم من أصل 50 ألف، وقد بيعت مساحة العائلة من الوادي للحركات الصهيونية بينما تبقّى بحيازة الفلسطينيين 20 ألف دونم، ولا نعلم كيف تمّ التصرف بها، والاحتمال الأكبر هو أن يكون عن طريق السماسرة الذين عاونوا الحركات الصهيونيّة وسهلّوا لهم بيع الأراضي، حيث لم يكن لفلاحي عرب الحوارث والسكان الأصليين للوادي أي سلطة في تسليم الأراضي أو بيعها.

بالإضافة إلى ما سبق، يجب تسليط الضوء على قانون أملاك الغائبين والذي سُنّ في العام 1950، وينصّ بموجبه “أنّ كل من هُجّر أو نزح خارج الحدود الفلسطينيّة حتى تاريخ تشرين الثاني من العام 1947 يعتبر إما غائبًا أو مفقودًا”، وبهذا التعريف، فإنّ الحكومة مخوّلة في السيطرة على أملاك هؤلاء الغائبين (كريتشمر 2012: 75). ومن شروط حالات الغائب والتي وقعت على الليدي سرقس هي حالة حيازة أملاك في فلسطين الانتدابية، ولكن مالكها مواطن في البلاد العربية أو بلاد العدوّ، أو يسكن في فلسطين (شرق القدس والضفة الغربية).

للصحف الفلسطينية كلمة…

عكست الصحف الفلسطينية القديمة وبيّنت ردة فعل عامة الناس حول ما يحدث في وادي الحوارث، كذلك قامت العديد من الصحف بكتابة أخبار ومقالات رأي حول هذه الفاجعة.

على سبيل المثال، ورد في صحيفة فلسطين في 20 تشرين الثاني 1929 وتحديدًا في الصفحة الثالثة التالي:

“ذهب اليوم مأمور الإجراء مع قوة من البوليس البريطاني والفلسطيني وستة من اليهود لإخلاء عرب وادي الحوارث البالغ عددهم ألفي نسمة من أراضيهم وتبلغ مساحتها 35 ألف دونم وتسليمها لليهود رغم القضايا العديدة التي أقاموها في تثبيت ملكيتهم لقسم كبير من هذه الأراضي. ولما كان رئيس المحكمة المركزية في نابلس أصدر أمرا بتأجيل المحاكمة عاد اليهود واستحصلوا على أمر بإخراجهم من أراضيهم بعد أن قدّموا كفالة ماليّة. إنّ عرب وادي الحوارث مصممون على عدم الخروج من أراضيهم التي عاشوا فيها منذ مئات السنين وليس لهم أي محل آخر يلجؤون إليه أو يعيشون منه ولذلك فالأفكار عندنا مضطربة لهذا الأمر. وقد علمنا أن مثل هذا الخبر قد أرسل للجمعية الإسلاميّة المسيحيّة لتقابل سعادة حاكم اللواء وتحتج لديه على هذا العمل!”

وقد خبّرت ذات الصحيفة بعد ثلاثة أيام، في يوم 23 تشرين الثاني 1929، أنّه قد “جاء 200 يهودي اليوم (الجمعة) للمرة الثانية من مستعمرة الخضيرة إلى وادي الحوارث ليحرثوا الأرض فيه فتجمهر عليهم العرب وأخرجوهم بضرب العصي ووقف نحو 1000 عربي على الحدود ليمنعوا دخول اليهود إلى أراضيهم بعد الآن”

بالإضافة إلى صحف أخرى مثل اليرموك، الحياة والجامعة العربية.

 

الجامعة العربية: 11 تشرين الأوّل 1928
الجامعة العربية: 11 تشرين الأوّل 1928

 

 

الحياة: 16 آذار 1931
الحياة: 16 آذار 1931

 

اليرموك: 14 أيلول 1928
اليرموك: 14 أيلول 1928

 

في الختام، تكرر مصطلح “الأندلس” في الصحف الفلسطينيّة، إذ شُبّهِت فلسطين بالأندلس، فمنهم من ذكر “وغدت فلسطين أندلسًا أُخرى“، “أندلس القرن العشرين“. ونرى أنّ عرب الحوارث كغيرهم، كانوا من “الغائبين الحاضرين” إن صحّ التعبير، فهم موجودون في أرضهم جسدًا وروحًا، لكنّه تم السيطرة على أراضيهم قمعًا وقسرًا.

 

نبذة حول هديل عبد الحي عنبوسي طالبة دراسات شرق أوسط وعلم آثار في جامعة بن غوريون في النقب. مهتمّة بدراسة القضايا الفلسطينية وتاريخ البلاد وآثاراتها من مختلف الفترات الزمنية توازيا مع تاريخ الإسلام في الشمال الافريقي وبلاد الأندلس.

 

الشّركس في البلاد: من جبال القوقاز حتّى الجليل

الشّركس أو الأديغة كما يسمّون أنفسهم شعب تعود أصوله إلى شمال غرب القوقاز، ما بين روسيا وتركيا وإيران. تعرّفوا على الشعب الشركسي عن قرب.

شركس في كفر كما

بقلم: شير برام

كلّ من تعلّم في جهاز التّربية الإسرائيليّ تعوّد على إحياء أيام للذّكرى الوطنيّة، يوم تذكّر ضحايا المحرقة ويوم تذكّر قتلى الجيش الإسرائيلي، يوم ذكرى إسحاق رابين وغيرهم. إلّا أنّ مدرستيّ كادوري وساسا في الجليل تحتفيان بإحياء ذكرى إضافيّة: ذكرى مجزرة الشّعب الشّركسي وتهجيره من موطنه. وهما المدرستين اللّتان تقدّما الخدمات إلى أبناء قريتيّ كفر كما والرّيحانيّة في الجليل، حيث يقطن معظم الشّركس في البلاد. الشّركس أقليّة فريدة ذات خصائص مميّزة في البلاد، ويحمل أبناؤها تاريخ هام على الصّعيد المحلّي والعالميّ.

من جبال القوقاز إلى شمال البلاد: عن إجلاء الشّركس

الشّركس أو الأديغة كما يسمّون أنفسهم شعب تعود أصوله إلى شمال غرب القوقاز، شرقًا من شواطئ البحر الأسود، ما بين روسيا وتركيا وإيران. عاشوا في أراضيهم بحريّة نسبيًا دون الحاجة إلى إقامة “دولة”، وعادة ما يتمّ التعريف عنهم كشعب مكوّن من إثني عشر قبيلة (على أنه في الواقع هناك المزيد من القبائل الشّركسيّة). رأى عموم الشّركس أنفسهم كشعب واحد منذ نهاية القرن الثّامن عشر. حاولت روسيا الاستيلاء على منطقة القوقاز بهدف توطين فئات أخرى إلا أنّ مقاومة الشّركس للاحتلال الرّوسي استمرّت مائة عام حتّى قام الرّوس في نهاية المطاف بعمليّة تطهير عرقيّ للشّركس في المراحل النّهائيّة من حرب 1854-1860، حيث أحرقوا مئات القرى وارتكبوا المجازر، وتهجّر من نجا من القوقاز، فوجد مليون منهم ملجأ في أراضي الدّولة العثمانيّة ومن بينها فلسطين.

 القوقاز، موطن الشركس
القوقاز، موطن الشركس

تكوّن حينها ثلاثة تجمّعات سكّانيّة للشركس في البلاد وبقي منها اثنان: قرية كفر كما الّتي أعادوا تأسيسها في الجليل الأوسط بين مدينتيّ النّاصرة وطبريا وقرية الرّيحانيّة في الجليل الأعلى شمال صفد. تأسست “القرية القديمة” في كفر كما تحت كنف الحكم العثمانيّ عام 1878، كانت القرى الشّركسيّة في القوقاز تُبنى على مساحات شاسعة، اختار الشركس بناء ما يسمّى بـ “قرية الجدار” حيث تصطفّ البيوت إلى جانب بعضهها البعض لتشكّل سور يحيط الأماكن العامّة للقرية بدافع الأمن والحماية، وتعتبر قرية كفركما من الأمثلة المدهشة للعمارة المحلّية النّاجية من نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين.

اقرأ/ي أيضًا: الشركس: صور وأخبار من البلاد في المكتبة الوطنية

كان الشّركس من مصدّري الحداثة في كلّ مكان وصلوا إليه. بالإضافة للجليل، أقاموا ثلاثة عشر تجمّعا سكنيًّا في هضبة الجولان، كما أقاموا في الأردن وأنشأوا مدينة عمّان المعاصرة. لقد قدّم الشّركس إلى المنطقة تقنيّات بناء لم تكن معروفة بها، بالإضافة إلى الحرف وصناعة الخشب والفلز، ونمط البناء والحياة الأوروبيّة، فتحوّلت كفر كما إلى مركز هام في المنطقة في نهاية الحكم العثمانيّ وخلال فترة الانتداب، وأقيمت في مركز القرية القديمة محطّة قمح حديثة؟ حيث التقى جميع سكّان القريّة من فلّاحين عرب، بدو، يهود وشركس. في حرب عام 1948 اختار الشّركس أن يقاتلوا إلى جانب اليهود، ومنذ ذلك الحين يتجنّد الشّركس في الخدمة الإجباريّة في الجيش الإسرائيليّ.

رجال من الشركس في كفر كما في سنوات السّتينيّات، أرشيف بوريس كارمي
رجال من الشركس في كفر كما في سنوات السّتينيّات، أرشيف بوريس كارمي

الشّركس شعب وليسوا “طائفة” كما يخطئ البعض في تسميتهم وهم أقليّة قوميّة في إسرائيل، علاقتهم وطيدة ببعضهم البعض في البلاد وخارجها ولا ينسون للحظة حلمهم بالعودة إلى موطنهم الأصلي. إلا أنهم في الوقت نفسه إسرائيليون ويندمجون في كل مجالات الحياة في البلاد. ورغم عددهم القليل في البلاد (قرابة 5000 إنسان من بين ملايين الشّركس في المنفى)، إلا أن الجالية الشركسيّة في البلاد سبّاقة في حفظ التّراث الشّركسي الواسع، ويعتبر يوم 21 من مايو من كلّ عام يوم ذكرى مجزرة الشّعب الشّركسي وتهجيره، والأهم هو حفظم للغتهم الأصليّة “الأديغيّة”. وهي لغة محكيّة فقط بالأصل إلا أنها تحوّلت إلى الكتابة الحرفيّة فقط في القرن التّاسع عشر (على أنه كان للشّركس كتابة رمزيّة في الماضي بقيت اليوم في رموز العائلات المختلفة)، حيث تُدرّس في المدارس الابتدائية والإعداديّة الّتي يدرس بها الشّركس. يتعلّم كلّ طفل شركسي العبريّة والإنجليزيّة والأديغيّة والعربيّة، وهناك من يدرسون الرّوسيّة والتّركيّة أيضًا. المدارس في قريتيّ كفركما والرّيحانيّة هي المدارس الوحيدة في العالم الّتي يدرس بها طلّاب مسلمون بالعبريّة كلغة أساسية.

طلّاب مدرسة في كفر كما في يوم العلم الشّركسي، تصوير حن بيرام
طلّاب مدرسة في كفر كما في يوم العلم الشّركسي، تصوير حن بيرام

الـ “أديغة خابزة” والتّعاليم الشّركسيّة: كانوا وما زالوا قوم أشدّاء

معظم الشّركس من المسلمين السّنة. اعتنقوا الإسلام في مرحلة متأخرة نسبيّا وقبل ذلك اعتنقوا المسيحيّة ومن قبلها الوثنيّة. وبالرّغم من ذلك، فإن كانوا مسلمين أو مسيحيّين، يتشارك جميع الشّراكسة في منظومة من القواعد والقوانين الخاصّة بهم والتّي توجّه تصرّفاتهم ونمط حياتهم وتسمّى “خابزة”. تعلّم الخابزة الإنسان الشّركسي كيف يتصرّف في حياته اليوميّة، كيف يربّي أبناءه على القيم والأخلاق الشّركسيّة. كما للأديغيين ميثولوجيا شعبيّة خاصّة بهم ما زالوا يورّثونها من جيلٍ إلى جيل، وبها أبطال تراثيون وقصص شعبية بشخصيّات محفورة في الوجدان الشّركسي.

رجل في اللباس الشركسيّ التّراثي في قرية كما سنوات السّبعينيّات، ارشيف بوريس كارمي
رجل في اللباس الشركسيّ التّراثي في قرية كما سنوات السّبعينيّات، ارشيف بوريس كارمي

يُقصد بالعبارة “أديغة خابزة” الطريقة الّتي ينبغي على الشّركسيّ أن يتصرّف بها. والإصرار على حفظ هذه الطريقة للعيش أمر هام جدًا، ومن لا يحترمها ويقيمها فمصيره الـ “حيناف” أي العار. توجّه الخابزة التّربية والقواعد الاجتماعيّة وكيفيّة الاحترام، الزّواج والطقوس والحياة اليوميّة. يفضّل معظم الشّركس التزاوج مع شركسيين فقط من أجل حفظ التراث الشركسيّ والهويّة. إلى جانب هذا، يحافظ الشّركس على إحياء تقاليدهم في الرّقص والموسيقى التّراثيّة. وتستخدم في الرّقصات الشركسيّة الألبسة التّراثيّة ومنها الـ “شركسكه”: حلّة المحارب وفي واجهتها مكان مخصّص للرّصاصات وهو لباس استخدم كذلك لدى شعوب أخرى في القوقاز.

طفل من قرية كفر كما في سنوات السّبعينيّات، يرتدي حلّة "شركسكه" التّراثيّة وعلى خصره خنجر شركسيّ
طفل من قرية كفر كما في سنوات السّبعينيّات، يرتدي حلّة “شركسكه” التّراثيّة وعلى خصره خنجر شركسيّ

اندمج الشّركس في المجتمع الإسرائيليّ في طرقٍ عدّة. في الماضي اعتاد الكثيرون منهم العمل في قوات الأمن حتى بعد انتهاء الخدمة الإجباريّة. ويعمل الكثيرون في شتّى المجالات من العلوم والبحث حتّى التعليم والصّناعة. يخرج الكثيرون للتّعلم في الجامعات إلا أنّ معظمهم يفضّل العودة للعيش في قراهم من أجل الحفاظ على الهويّة القوميّة والتّراثيّة كما يشتركون في الرّياضة: كابتن فريق كرة القدم الإسرائيليّة بيبرس ناتخو شركسيّ من كفر كما: وقريبته نيلي ناتخو الراحلة كانت لاعبة كرة سلّة واعدة وقياديّة. تتميّز الأقليّة الشركسيّة في إسرائيل بنسبة تعليم أكاديمي عالية، وفي السّنوات الأخيرة يتم تطوير مسار دراسي خاصّ حول الشّركس في البلاد.

كفر كما: مشهد ثقافي استثنائي في البلاد

الرّقص الشركسي من مركز التّراث في كفر كما، تصوير شير أهارون برام
الرّقص الشركسي من مركز التّراث في كفر كما، تصوير شير أهارون برام

بُنيت قرية كفر كما على آثار قرية بيزنطيّة قديمة، وبني مسجدها البازلتيّ بإلهام من نمط معماريّ ساد في البلاد في فترة أخرى من التّاريخ كان الشّركس حاضرون بها وهي فترة حكم المماليك، إذ كان الشركس إحدى المجموعات العرقيّة الّتي حكمت الدّولة المملوكيّة بالإضافة للأتراك والكرد والأرمن.

اقرأ/ي أيضًا: حضارة وثقافات: طوائف وجماعات وشعوب شكلوا طابع البلاد الفسيفسائي

عند زيارة البلدة القديمة في كفر كما يُنصح بالانتباه للتّفاصيل، لنمط عمارة البيوت، والتّحدث مع المحليّين المضيافين. كما يُنصح بتذوّق مأكولات المطبخ الشّركسيّ المميّزة والّتي يمكن اقتناؤها في القرية، ومنها الجبنة الشّركسيّة الشّهيرة والمخبوزات المحليّة. يعمل في كفر كما اليوم مركزًا تراثيًا للشّركس وإلى جانبه متحف يعرضان قصّة حفظ الشّركس لتاريخهم وهويّتهم.