كيف نشأ عيدٌ من العدم؟ ينص قانون يوم الاستقلال لعام 1949 على حلول يوم الاستقلال في الخامس من شهر أيار حسب التقويم العبري، وينظّم مسألة تبكيره أو تأجيله إذا حلّ يوم السبت. وفقًا للقانون، كُلّف رئيس الحكومة بالاهتمام بمسألة رموز العيد وطبيعة الاحتفالات، والسماح برفع الأعلام. يُطرح هنا سؤال مركّب مفاده كيف أخذ يوم الاستقلال شكله الحالي. نرغب أولًا في العودة إلى لحظة عينيّة، إلى الخامس من شهر أيار 5709 حسب التقويم العبري- بعد إعلان قيام الدولة بعام واحدٍ، وبعد ثلاثة أسابيع على سنّ القانون سابق الذكر.
سادت في ذلك اليوم، الخامس من أيار، حالة من الضبابية وعدم الوضوح. فالخامس من أيار للعام 5709 لم يكن “يوم الاستقلال الأول”، بل سبقه “يوم الدولة” الذي أقيم في 27 تموز 1948، بعد مرور بضعة أيام على إعلان الاستقلال. اختير هذا التاريخ لأنّه ذكرى وفاة بنيامين زيئيف هرتسل، وأرادت سلطات الدولة تسليط الضوء على الرابط بين رؤية هرتسل ودولة إسرائيل الفتية. ولأول مرة، اقتصر الاحتفال الرئيسي في “يوم الدولة” على موكب عسكري للجيش الإسرائيلي حديث الإنشاء.
استعدادًا لموكب الجيش الإسرائيلي في يوم الاستقلال الأول في تل أبيب، حامل راية يرفع علم إسرائيل: تصوير: بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية
ولكن لنعود إلى الخامس من أيار لعام 5709 حسب التقويم العبري، أي الرابع عشر من أيار-مايو لعام 1949 حسب التقويم الميلادي. كيف احتفلوا بالاستقلال؟ لا أحد يعرف بالضبط، مع ذلك، كانت هناك أمور بديهية، مثل الرقص في الشوارع، وإحياء ذكرى الـ 29 من نوفمبر 1947. في يوم الاستقلال الأول، خططت البلديات في جميع أنحاء البلاد لبرامج احتفالية تشمل إضاءة المشاعل، رفع أعلام، نصب منصّات لعروض ترفيهية (حيث عزفت الأوركسترا البلدية- وليس أشهر المغنين والمغنيات، كما اعتدنا نحن) والعديد من المسيرات والمواكب. في الجليل، أضاؤوا المشاعل، وأقيمت مسيرات مشاعل في مدن مختلفة مثل رمات غان، حولون وبيتاح تيكفا. في رياض الأطفال والمدارس، أقيمت استعراضات احتفالية ورفعوا الأعلام، وقد حضرها بعض السياسيين لإلقاء خطابات.
عشية عيد الاستقلال، ألقى رئيس الحكومة دافيد بن غوريون خطابًا خاصًا بيوم الاستقلال، والذي نشر في الصحيفة في اليوم التالي. في حينه، لم يكن قد تحدد بعد يوم ذكرى شهداء معارك إسرائيل، مع أنّه كانت تُتلى أحيانًا الصلاة التذكارية “يزكور” خلال برامج العيد. بالإضافة إلى ذلك، استضاف بن غوريون في المركز الحكومي في تل أبيب وجهاء من خارج البلاد الذين حضروا حفل استقبال رسمي خاص لمناسبة استقلال دول إسرائيل المتجددة.
كانت ذروة الاحتفالات عبارة عن موكب عسكري للجيش إلإسرائيلي، “جيش الانتصار والتحرير”. لم يُخطط لموكبٍ واحد فقط، بل اثنين، في القدس وفي تل أبيب. انطلق موكب القدس بدون أحداث استثنائية، ولكن القصة الرئيسية ليوم الاستقلال الأول كانت الاستعراض العسكري في تل أبيب.
في اليوم التالي، تصدّر العنوان “الموكب الذي لم يكمل مساره” الصفحة الرئيسية لصحيفة “معاريف”. انغرس هذا العنوان في الذاكرة، ولم ينسَ منذ ذلك الحين. كتب محرر معاريف في حينه، د. عزريئيل كريلباخ، عن الواقعة، قائلًا: “وقف الناس وبكوا. كالأطفال تمامًا. كنا جميعًا كالأطفال يوم أمس. بكوا كطفل انكسرت بين يديه لعبته المفضّلة. استيقظوا فجرًا وانطلقوا نحو المدينة، تجولوا فيها، ولم تكن لديهم أية خطة، لم يكن لديهم أي شيء يفعلونه- سوى انتظار حدث اليوم، الموكب.
وعندما قيل لهم أنّ هذا “المسيح المنتظر” لن يأتي- ضحكوا. هذا مستحيل. فقد شعروا بقدومه بكلّ حواسهم. وعندما قيل لهم مجددًا إنّ الموكب لن يأتي- لم يستوعبوا ذلك… وعندما قيل لهم ذلك للمرة الثالثة، لأن الموكب لم يتمكن من إخلاء الطريق من ميدان مُغربي حتى شارع إيدلسون، أي مسافة 200 متر تقريبًا- لم يصدّقوا، لا يمكن لذلك أن يكون صحيحًا. جيشنا؟ الذي وصل إلى إيلات، وأمكنه دخول دمشق بسهولة- لا يستطيع دخول شارع إليعيزر بن يهودا؟ هذا عبث”.
في البداية، تمكّن الموكب من الانطلاق، وقد شارك فيه مندوبون عن مختلف الفيالق: سلاح البحرية، الهيئة الطبية العسكرية ومقاتلو “الهاغاناه” الذين استعرضوا سلاحهم. ملأت الشوارع سيارات الجيب، وعُرضت المدافع، بينما حلّق الطيارون من حين لآخر بالطائرات القليلة التي كانت متوفرة للجيش الإسرائيلي في حينه. برز بين مشاركي الموكب مندوبون عن الأقليات، أي جنود دروز خدموا هم أيضًا في الجيش الإسرائيلي. شاركت في الموكب أيضًا أوركسترا، كما يليق بموكب عسكري مهيب.
ولكن قرابة الساعة الرابعة، حينما ترقب الجميع وصول الموكب إلى المنصة الشرفية لتأدية مراسم التحية العسكرية أمام قادة الدولة، كبار المسؤولين وضيوف من خارج البلاد، شاع نبأ إلغاء الموكب، وأنّه لن يتمكن من الوصول إلى المنصة الشرفية في شارع ديزنغوف بسبب الاكتظاظ الشديد عند التقاء شارع ألنبي بشارع بن يهودا. الجماهير الغفيرة التي أتت لمشاهدة الموكب ملأت الشوارع وسدّت الطرقات، وجميع المحاولات التي بذلتها الشرطة المتواجدة في المكان لفتح هذه الشوارع باءت بالفشل. في نهاية المطاف، وكما ذكر آنفًا، أعلنوا عن إلغاء الموكب، واضطر الجمهور للمغادرة، خائب الأمل. “جيش الدفاع الإسرائيلي تمكّن من احتلال كل مكان، سوى شوارع تل أبيب”، هذا ما جاء على لسان أحد كبار ضباط الجيش الذي تواجد في المكان، واقتُبس في صحيفة “حيروت”.
بنظرة للوراء، يبدو أنّ هذا الوضع نتج عن إخفاقات تنظيمية. يبدو أنّ منظّمي الموكب لم يتوقعوا حضور هذا الكم الهائل من الناس لمشاهدة الموكب العسكري. يُقال أنّ مئات الآلاف حضروا من جميع أنحاء البلاد- في دولة لا يزيد عدد سكانها عن 800 ألف نسمة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطرقات لم تغلق أمام حركة المرور إلا قبل موعد انطلاق الموكب بوقت قصير. في اليوم التالي، بشّرت الصحف بتشكيل لجنة تحقيق لاستيضاح أسباب الإخفاق.
على ضوء هذا الموقف المحرج الذي حصل في تل أبيب، تقرر الاحتفال بـ “يوم الدولة” مجددًا في 17 تموز 1949. أجريت في حينه مسيرة احتفالية، على نطاق أضيق، لاستكمال الموكب الذي لم يكمل مساره، وزّعت أيضًا نياشين بطولة على 12 مقاتلًا من مقاتلي حرب الاستقلال. كانت تلك المرة الأخيرة التي يُحتفل فيها باستقلال إسرائيل في ذكرى وفاة هرتسل، وأصبح الخامس من أيار، حسب التقويم العبري، يوم الاستقلال الرسمي لدولة إسرائيل.
في عام 1951، تقرر تخصيص يوم لإحياء ذكرى شهداء معارك إسرائيل، وفي نفس السنة، تمت لأول مرة إضاءة المشاعل على جبل هرتسل، في عام 1953، وزّعت لأول مرة جوائز إسرائيل، وفي عام 1958، بعد مرور عقد على قيام الدولة، أطلقت مسابقة الكتاب المقدّس (التناخ) الأولى. هكذا تبلور يوم الاستقلال الإسرائيلي كما نعرفه اليوم.
جميع الصور في هذه المقالة- إلّا إذا أشير إلى خلاف ذلك- مأخوذة من أرشيف المصوّر بينو روتينبيرغ، من مجموعة ميتار، المكتبة الوطنية. وثّق روتينبيرغ بعدسته مواضيع كثيرة في العقود الأولى لدولة إسرائيل. يمكنم رؤية نماذج إضافية لصور التقطت بعدسته هنا، هنا و هنا.