نشر نيكوس كازانتزاكيس (1883-1957)، صاحب رواية “زوربا اليوناني”، انطباعاته عن رحلته إلى فلسطين، والقدس بشكلٍ خاصّ في الصحف، ثمّ أعاد صياغتها أكثر من مرّة لتقترب من أسلوبه الأدبيّ، وقد تُرجمت إلى العربيّة عن الصيغة النهائيّة في كتاب “رحلة إلى فلسطين” (1989، مؤسسة خلدون – عمان).
منذ البداية، يعطينا كازانتزاكيس الانبطاع بأنّ الرحلة التي يخوضها هي رحلةٌ في أعماقه وهواجسه الشخصيّة قبل أن تكون في المكان، كأنّه حين ينتقل بين النقطتين أ و ب في الخارج، عليه أن يمرّ عبر نقطةٍ وسطى داخليّةٍ بينهما، فيعجّ كتابه بتأملات صوفيّة ومونولوجات قلقة وذكريات مستعادة، حتّى تصبح ما كانت في الأصل مقالاتٍ صحفيّة، قصائدَ نثرٍ تطفح بصورٍ لا تأبه بالتاريخ والجغرافيا إلّا حين يمرّا عبر غربال الشعر.
تُوصف كنيسة القيامة أثناء سبت النور بخليّة النحل، وهي صورةٌ يتركها الكاتب لتأمّل القارئ، وتساهم في تأويلها الفقرات المكتوبة فيما بعد. فكأنّ كلّ مؤمنٍ من المؤمنين الذين تعجّ بهم الكنيسة يصبّ عسل الإيمان من أعماقه في خلايا شمعيّةً تساهم في خروج النور من القبر المقدّس.
تنبعث أمامنا أثناء القراءة طقوس الجماعة وهي تنتظر لحظة الذروة. يندفع حشدٌ من الرجال المتصبّبين عرقًا لينضموا إلى البحر الهائج من المتعبّدين. تهبّ الروائح المختلفة زكيها وكريها من خمرٍ وثومٍ وشموعٍ محترقةٍ وبخورٍ وزهور ربيع. تصبّ موجةٌ جديدةٌ من العرب في الساحة، يحيط بهم أطفالٌ من جميع الجوانب يحملون شموعًا وفوانيس بحجم أجسادهم. يقفز عجوزٌ من كتفٍ إلى كتفٍ، ملوّحًا بسيفين، تزنّر خصره لهب الشمعات. تأتي موجاتٌ جديدةٌ من الأرمن والأقباط والأحباش والبدو والموارنة، تتبعهم نساءُ بيت لحم بعصائب رؤوسهنّ وشالاتهنّ البيضاء. يفقد أحدهم وعيه من النشوة الصوفيّة التي انبعثت في أجساد المحتفلين. تحلّ روحٌ لامرئيةٌ في الجمع كأنّها الردّ على خلافات الطوائف في تقاسمهم المكان المقدّس. يبدأ إيقاعٌ قرب المذبح تصنعه التراتيل والطَرْقُ بالعصيّ على القرميد، ثمّ يتصاعد الإيقاع حتّى يغدو احتفالات بالأجراس والأيدي المرتفعة ورقصات الأقدام وصيحات القلوب. يدخل البطريرك حجرة القبر المقدّس، فيحلّ السكون. تتكثّف انتظارات المؤمنين مصوّبين حوّاسهم كلّها نحو باب القبر ترقّبًا للولادة. ثمّ يظهر البطريرك، لحظة الذروة، كالخارج من الرحم، حاملًا شموعًا مضاءةً بالنور المقدّس، فتعلن ولادة المسيح من بين الأموات، ويفيض الوهج إذ يتلقّفه المحتفلون بشموعهم فيغطّي أجزاء الكنيسة كلّها، ثمّ يحملونه إلى الخارج ليضيء بيوت القدس، كما أضاء سراج المسيح في بيتٍ في الناصرة بيوتًا في الأصقاع كلّها.
لكنّ كازانتزاكيس يوحي إلينا أنّ هذا النور صنعته الأجساد المتعرّقة للمؤمنين، وأنّه انبعث منها هي، لا من شموع البطريرك، فيقول بأنّه حتّى لو لم يَحْضُر الرهبان والمثقفون، فإنّ الفلّاحين بحرارة هيبة الربّ في قلوبهم كانوا قادرين وحدهم على بعث الربّ ونوره. فنتذكّر هنا، دون أن يشير لنا الكاتب مباشرةً، وصفه البارد قبل بضع صفحاتٍ لزيارته إلى موسكو الشيوعيّة أو “القدس الجديدة” كما وصفها، وحال العمّال والفلّاحين من جميع الأجناس هناك الذين شبّهم بخليّة النمل (تظهر المفارقة بين الوصف السابق للمؤمنين بخليّة النحل وهذا الوصف، كأنّهم في حكم الشيوعيّة فقدوا أجنحتهم وقدرتهم على صنع العسل والشمع)، وحجّهم بظُهورهم المقوّسة إلى قبر لينين “المقدّس” الرماديّ.
ثمّ حين نستدعي حواره أثناء طقوس سبت النور مع راهبٍ أرثوذكسيّ تمنّى طرد باقي الطوائف، وكيف قام كازانتزاكيس بتوبيخه على ذلك، نشعر أنّ تصويره لاختلاف أشكال وأعراق جماعات المحتفلين في داخل الكنيسة، وقدرة أجسادهم الموحّدة في جسدٍ واحدٍ على بعث نور الربّ، يوحيان بنوعٍ من شيوعيّةٍ مسيحيّةٍ أو صوفيّة، ما يجعلنا ربّما نعذره على أوصافه المزعجة ذات النبرة الاستشراقيّة أحيانًا للمصلّين قبل انبعاث النور، حيث تكثر النعوت الجسديّة لهم بـ “السمنة” و”القباحة” و”النحافة” و”الترهل” و”كثرة الشحم” و”الشعور الزيتيّة” و”النتانة”، حتّى أنّه يشبّه رائحة العرب بـ “رائحة الماعز”، لكنّ حدّة هذه الأوصاف ذات النبرة الاستشراقيّة تخفت في لحظة الذروة، لحظة النور المنبعث من جوهر قلوب المؤمنين المتّحدة.
كذلك، تجعلنا هذه النعوت، وأوصافٌ أخرى في الكتاب لأبنية البلدة القديمة “الجرداء” و”المتآكلة المحتوتة” التي تشبه بنوافذها “الجماجم”، نبصر القدس لا كمدينةٍ مثاليّةٍ مشيّدةٍ فوق الغيوم، بل كجسرٍ أرضيٍّ من لحمٍ ودمٍ وعرقٍ نحو سماءٍ قد تكون في الأعلى أو في دواخلنا، وذلك ما يخالف صورة القدس في أذهان المسيحيّين في العصور الوسطى. فعلى سبيل المثال، تصوّر خريطة “ورقة البرسيم” القدس كمركزٍ يعجّ بالخضرة تنبعث منه القارات “القديمة” الثلاث، الأمر الذي يتشابه مع تصوّرهم إيّاها كجنّة الله على الأرض، أو المكان الذي يعاد فيه تمثيل قصص شخصيّات الكتاب المقدّس مرارًا وتكرارًا.
لذلك، فإنّنا نعثر على صورة القدس المثاليّة في عيون كازانتزاكيس منبعثةً من سكّانها الأرضيّين المرتديين ملابس الضعف والشفقة الإنسانيّة، كأنهم هم المسيح بجروحه التي أثخنته، أو طائر السيمرغ (رمز الله) الذي بحثت عنه الطيور في كتاب “منطق الطير” للعطّار، حتّى أدركت في نهاية رحلتها أنها هي ذاتها في جوهرها ذلك الطائر المنشود، أليسوا هم من نحتوا بإزميل شفاه حبّهم موضع إنزال جسد المسيح عن الصليب؟ فلنتأمل معًا الفقرة التالية لنيكوس كازانتزاكيس صفحة 34 من كتاب “رحلة إلى فلسطين”:
“رقعة المرمر العظيمة، التي تغطّي قطعة الأرض التي مُدِّدَ عليها السيّد المسيح بعد الصلب، كانت قد مُسحت وحُتَّت بفعل القُبَل. فمنذ قرون عديدة، وهذه الحشود البشريّة تنحني فوقها، تقبّلها، وتمرّر كفوفها ملامسةً إيّاها برفقٍ، ثمّ تمرّغ وجوهها وأعناقها عليها ثلاث مرّات. وكما يقول بوذا، فإنّه لو مرّت يوميًّا خلال ألف سنةٍ ريشةٌ من ريش الطاووس على جبل غرانيتي، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي”.