رحلة كازانتزاكيس إلى فلسطين الانتدابية: الانغماس في سبت النور بحثًا عن الجوهر

كيف وصف الأديب اليونانيّ الشهير نيكوس كازانتزاكيس تجربته أثناء طقوس الاحتفال بسبت النور في القدس في العام 1926؟

نيكوس كازانتزاكيس

نيكوس كازانتزاكيس

نشر نيكوس كازانتزاكيس (1883-1957)، صاحب رواية “زوربا اليوناني”، انطباعاته عن رحلته إلى فلسطين، والقدس بشكلٍ خاصّ في الصحف، ثمّ أعاد صياغتها أكثر من مرّة لتقترب من أسلوبه الأدبيّ، وقد تُرجمت إلى العربيّة عن الصيغة النهائيّة في كتاب رحلة إلى فلسطين” (1989، مؤسسة خلدون – عمان).

منذ البداية، يعطينا كازانتزاكيس الانبطاع بأنّ الرحلة التي يخوضها هي رحلةٌ في أعماقه وهواجسه الشخصيّة قبل أن تكون في المكان، كأنّه حين ينتقل بين النقطتين أ و ب في الخارج، عليه أن يمرّ عبر نقطةٍ وسطى داخليّةٍ بينهما، فيعجّ كتابه بتأملات صوفيّة ومونولوجات قلقة وذكريات مستعادة، حتّى تصبح ما كانت في الأصل مقالاتٍ صحفيّة، قصائدَ نثرٍ تطفح بصورٍ لا تأبه بالتاريخ والجغرافيا إلّا حين يمرّا عبر غربال الشعر.

تُوصف كنيسة القيامة أثناء سبت النور بخليّة النحل، وهي صورةٌ يتركها الكاتب لتأمّل القارئ، وتساهم في تأويلها الفقرات المكتوبة فيما بعد. فكأنّ كلّ مؤمنٍ من المؤمنين الذين تعجّ بهم الكنيسة يصبّ عسل الإيمان من أعماقه في خلايا شمعيّةً تساهم في خروج النور من القبر المقدّس.

تنبعث أمامنا أثناء القراءة طقوس الجماعة وهي تنتظر لحظة الذروة. يندفع حشدٌ من الرجال المتصبّبين عرقًا لينضموا إلى البحر الهائج من المتعبّدين. تهبّ الروائح المختلفة زكيها وكريها من خمرٍ وثومٍ وشموعٍ محترقةٍ وبخورٍ وزهور ربيع. تصبّ موجةٌ جديدةٌ من العرب في الساحة، يحيط بهم أطفالٌ من جميع الجوانب يحملون شموعًا وفوانيس بحجم أجسادهم. يقفز عجوزٌ من كتفٍ إلى كتفٍ، ملوّحًا بسيفين، تزنّر خصره لهب الشمعات. تأتي موجاتٌ جديدةٌ من الأرمن والأقباط والأحباش والبدو والموارنة، تتبعهم نساءُ بيت لحم بعصائب رؤوسهنّ وشالاتهنّ البيضاء. يفقد أحدهم وعيه من النشوة الصوفيّة التي انبعثت في أجساد المحتفلين. تحلّ روحٌ لامرئيةٌ في الجمع كأنّها الردّ على خلافات الطوائف في تقاسمهم المكان المقدّس. يبدأ إيقاعٌ قرب المذبح تصنعه التراتيل والطَرْقُ بالعصيّ على القرميد، ثمّ يتصاعد الإيقاع حتّى يغدو احتفالات بالأجراس والأيدي المرتفعة ورقصات الأقدام وصيحات القلوب. يدخل البطريرك حجرة القبر المقدّس، فيحلّ السكون. تتكثّف انتظارات المؤمنين مصوّبين حوّاسهم كلّها نحو باب القبر ترقّبًا للولادة. ثمّ يظهر البطريرك، لحظة الذروة، كالخارج من الرحم، حاملًا شموعًا مضاءةً بالنور المقدّس، فتعلن ولادة المسيح من بين الأموات، ويفيض الوهج إذ يتلقّفه المحتفلون بشموعهم فيغطّي أجزاء الكنيسة كلّها، ثمّ يحملونه إلى الخارج ليضيء بيوت القدس، كما أضاء سراج المسيح في بيتٍ في الناصرة بيوتًا في الأصقاع كلّها.

النور المقدّس في كنيسة القيامة.
النور المقدّس في كنيسة القيامة.

 

لكنّ كازانتزاكيس يوحي إلينا أنّ هذا النور صنعته الأجساد المتعرّقة للمؤمنين، وأنّه انبعث منها هي، لا من شموع البطريرك، فيقول بأنّه حتّى لو لم يَحْضُر الرهبان والمثقفون، فإنّ الفلّاحين بحرارة هيبة الربّ في قلوبهم كانوا قادرين وحدهم على بعث الربّ ونوره. فنتذكّر هنا، دون أن يشير لنا الكاتب مباشرةً، وصفه البارد قبل بضع صفحاتٍ لزيارته إلى موسكو الشيوعيّة أو “القدس الجديدة” كما وصفها، وحال العمّال والفلّاحين من جميع الأجناس هناك الذين شبّهم بخليّة النمل (تظهر المفارقة بين الوصف السابق للمؤمنين بخليّة النحل وهذا الوصف، كأنّهم في حكم الشيوعيّة فقدوا أجنحتهم وقدرتهم على صنع العسل والشمع)، وحجّهم بظُهورهم المقوّسة إلى قبر لينين “المقدّس” الرماديّ.

ثمّ حين نستدعي حواره أثناء طقوس سبت النور مع راهبٍ أرثوذكسيّ تمنّى طرد باقي الطوائف، وكيف قام كازانتزاكيس بتوبيخه على ذلك، نشعر أنّ تصويره لاختلاف أشكال وأعراق جماعات المحتفلين في داخل الكنيسة، وقدرة أجسادهم الموحّدة في جسدٍ واحدٍ على بعث نور الربّ، يوحيان بنوعٍ من شيوعيّةٍ مسيحيّةٍ أو صوفيّة، ما يجعلنا ربّما نعذره على أوصافه المزعجة ذات النبرة الاستشراقيّة أحيانًا للمصلّين قبل انبعاث النور، حيث تكثر النعوت الجسديّة لهم بـ “السمنة” و”القباحة” و”النحافة” و”الترهل” و”كثرة الشحم” و”الشعور الزيتيّة” و”النتانة”، حتّى أنّه يشبّه رائحة العرب بـ “رائحة الماعز”، لكنّ حدّة هذه الأوصاف ذات النبرة الاستشراقيّة تخفت في لحظة الذروة، لحظة النور المنبعث من جوهر قلوب المؤمنين المتّحدة.

كذلك، تجعلنا هذه النعوت، وأوصافٌ أخرى في الكتاب لأبنية البلدة القديمة “الجرداء” و”المتآكلة المحتوتة” التي تشبه بنوافذها “الجماجم”، نبصر القدس لا كمدينةٍ مثاليّةٍ مشيّدةٍ فوق الغيوم، بل كجسرٍ أرضيٍّ من لحمٍ ودمٍ وعرقٍ نحو سماءٍ قد تكون في الأعلى أو في دواخلنا، وذلك ما يخالف صورة القدس في أذهان المسيحيّين في العصور الوسطى. فعلى سبيل المثال، تصوّر خريطة “ورقة البرسيم” القدس كمركزٍ يعجّ بالخضرة تنبعث منه القارات “القديمة” الثلاث، الأمر الذي يتشابه مع تصوّرهم إيّاها كجنّة الله على الأرض، أو المكان الذي يعاد فيه تمثيل قصص شخصيّات الكتاب المقدّس مرارًا وتكرارًا.

 

خريطة ورقة البرسيم، رسمها هاينريخ بونتينغ عام 1581 وتظهر القدس في قلب العالم
خريطة ورقة البرسيم، رسمها هاينريخ بونتينغ عام 1581 وتظهر القدس في قلب العالم

 

لذلك، فإنّنا نعثر على صورة القدس المثاليّة في عيون كازانتزاكيس منبعثةً من سكّانها الأرضيّين المرتديين ملابس الضعف والشفقة الإنسانيّة، كأنهم هم المسيح بجروحه التي أثخنته، أو طائر السيمرغ (رمز الله) الذي بحثت عنه الطيور في كتاب “منطق الطير” للعطّار، حتّى أدركت في نهاية رحلتها أنها هي ذاتها في جوهرها ذلك الطائر المنشود، أليسوا هم من نحتوا بإزميل شفاه حبّهم موضع إنزال جسد المسيح عن الصليب؟ فلنتأمل معًا الفقرة التالية لنيكوس كازانتزاكيس صفحة 34 من كتاب “رحلة إلى فلسطين”:

“رقعة المرمر العظيمة، التي تغطّي قطعة الأرض التي مُدِّدَ عليها السيّد المسيح بعد الصلب، كانت قد مُسحت وحُتَّت بفعل القُبَل. فمنذ قرون عديدة، وهذه الحشود البشريّة تنحني فوقها، تقبّلها، وتمرّر كفوفها ملامسةً إيّاها برفقٍ، ثمّ تمرّغ وجوهها وأعناقها عليها ثلاث مرّات. وكما يقول بوذا، فإنّه لو مرّت يوميًّا خلال ألف سنةٍ ريشةٌ من ريش الطاووس على جبل غرانيتي، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي”.

موضع إنزال جسد المسيح في كنيسة القيامة 2018، تصوير غابي لارون
موضع إنزال جسد المسيح في كنيسة القيامة 2018، تصوير غابي لارون

 

الشقيقتان المصريّتان، ذواتا الهويّة اليهوديّة السرّيّة، اللتان احترفتا الرقص الشرقيّ

تعرّفوا إلى ليلى ولمياء جمال، الشقيقتان المتشابهتان حدّ التطابق، اللتان اجتاحت شهرتهما مصر بحركاتهما الراقصة المثيرة للابتهاج.

الشقيقتان جمال

نُقِل عن “حِن مَلول” من العبرية

ساهم الجنود الأجانب، الذين عجّت بهم المدن المصريّة الرئيسيّة في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، في إحداث العديد من التغييرات في ثقافة الترفيه المحليّة. تمّ افتتاح العديد من الملاهي الليليّة، واستفاد الموسيقيّون والممثّلون والراقصون -ذكورًا وإناثًا- من التعطّش الشديد إلى الترفيه، وكانوا متحمّسين للغاية من أجل توفيره.

كان “قصر الحلميّة”، الواقع في أحد أحياء القاهرة، واحدًا من أفضل وأشهر الملاهي الليليّة في تلك الفترة. لم يكن الترفيه الفنّيّ الذي يقدّمه صاحب هذا الملهى عاديًّا، فالاهتمام بأدقّ تفاصيل الأزياء، وبإطلالات الموسيقيّين الماهرين، وبالتصميم الرهيف للرقصات، جعل من الملهى أرضًا خصبةً لثقافةٍ شرقيّةٍ جديدة.

شكّلت “التوأم جمال” جوهرتا تاج قصر الحلميّة، وهما الراقصتان الشرقيّتان اللتان ابتكرتا أسلوبًا جديدًا في هذا النوع الشرقيّ القديم من الرقص. ومع اقتراب عهد الملك فاروق الأوّل من نهايته، أصبحت الشقيقتان، ليلى ولمياء، أهمّ نجمتين في المشهد الترفيهيّ المصريّ. كان المكان يكتظّ بحشودٍ من الجمهور، وكان العاهل المصريّ من أشدّ المعجبين بهما. لكن، ما سرّ سحرهما الذي أطلق مسيرتهما نحو النجوميّة؟

كان الرقص الشرقيّ المتوسّطيّ أحد اختصاصاتهما. قام الموسيقيّون الذين رافقوا الثنائيّ بالتدريب معهما مرّاتٍ كثيرةٍ وساعات طويلة لخلق التناسق بين الحركات الراقصة والقطع الموسيقيّة المختارة بعناية. أثمرت جلسات التدريب الشاقّة، والتمارين اللانهائيّة، وبروفات الرقص اليوميّة عن نتائج مدهشة. كان أداء الشقيقتين جمال مبهرًا ومبتكرًا، حيث تمايلت الراقصتان في انسجامٍ أخّاذٍ بينهما، يصحبه تناغمٌ آخر تامٌّ بين الرقص والموسيقى.

لم يكن أداؤهما، الذي استخدمتا فيه أيضًا دعائم مسرحيّةٍ عديدة، مجرّد رقصٍ مصدره شرقٌ غريبٌ لم يعتده الجمهور. كانتا قادرتين على صُنْع صورةٍ متناسقةٍ بينهما، كأنّ إحداهما صورة المرآة لجسد الأخرى، ثمّ عَكْس الاتّجاه ببراعةٍ فنّيّة، بينما تحافظان على التعبير المتّقد عن الموسيقى التي كانتا تتحرّكان وفقها. كان التواصل بينهما وبين الموسيقيّين حيويًّا ومثيرًا للجمهور.

لم تكن المواهب الموسيقيّة للشقيقتين جمال مفاجئةً على الإطلاق، إذ كانتا ابنتين لموسيقيَّيْن، وقد تعلّمتا العزف على الآلات الموسيقيّة منذ طفولتهما المبكّرة. كان والدهما، فيشِل ألبرت، عازف كمان في أوركسترا فيّينا السيمفونيّة. ويكشف اسمه عن أصله اليهوديّ إذ انتقل من تشيرنويتز إلى العاصمة النمساويّة، حيث أصبح موسيقيَّا محترفًا. أمّا السبب وراء هجرته إلى مصر في العشرينيّات من القرن الماضي، فغير معروف. وقد يكون ذلك ناجمًا عن الأزمة الاقتصاديّة الكبيرة التي دفعته بعيدًا عن أوروبا، إلى مكانٍ سيحظى فيه على مكانةٍ لائقةٍ ودخلٍ جيّد.

في الإسكندريّة، التقى فيشِل بزوجته جيني (جانين) إلبرت، المغنّية الأوبراليّة ابنة مهاجرين يهوديّين. أسر قبله حضورها الساحر وجمالها الأخّاذ. وُلِدَت ابنتهما الكبرى هيلينا بعد عامٍ واحدٍ فقط من زواجهما، ووُلِدَت شقيقتها الأصغر بيرثا بعد عامين ونصف، في عام 1932.

نشأت هيلينا وبيرثا في بيتٍ موسيقيّ، وتمّ إرسالهما من قبل والدهما ووالدتهما إلى دروس الباليه منذ سنٍّ صغيرة، لكن يبدو أنّ البيئة التي نشأتا فيها أثّرت عليهما كي لا تقتصرا على الدروس المعتادة للباليه الكلاسيكيّ، فبدأت الشقيقتان كذلك في دراسة الرقص المتوسّطيّ، وأُصيب أساتذتهما بالدهشة البالغة عندما كشفتا عن موهبةٍ استثنائيّةٍ في تأدية حركات الرقص الشرقيّ. ولم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تبدآ في تلقّي العروض للظهور أمام الجمهور. وبالنسبة إلى أمّهما، فقد أدّى ذلك إلى تفكيرٍ جدّيٍّ في الموضوع من طرفها، إذ كانت قلقةً بشأن مستقبل ابنتيها الصغيرتين، اللتين لا يتجاوز عمرهما 12 و 14 سنة، واللتين ستجدان أنفسهما في جلبة عالمٍ تراه الأمّ فاسقًا وفضائحيًّا. لكن، من ناحيةٍ أخرى، فقد كان إغراء هذه الفرصة كبيرًا.

ففي تلك الفترة، فقد زوجها مصدر دخله الثابت، وواجهت العائلة مشاكل ماليّة. لم تجرؤ جيني على إخباره عن العروض التي تقدّمها الفتاتان، وقررن أن يبقين الأمر سرًّا بينهن. رافقت الأمّ المتفانية ابنتيها إلى كلّ تمرينٍ وعرض، محافظةً بقوّةٍ على براءتهما. استمرّت بفعل ذلك لسنواتٍ عديدة، حيث رافقتهما أيضًا في رحلاتهما الخارجيّة.

مع ذلك، لم تتمكّن نساء عائلة ألبرت الثلاث من إخفاء سرّهنّ عن ربّ أسرتهنّ لفترةٍ طويلة. فقد أصبحت هاتان الشقيقتان الموهوبتان نجمتين بين ليلةٍ وضحاها، وكان نجاحهما باهرًا حقًّا. وبمساعدةٍ من أمّهما وأساتذتهما، أبدعتا أداءً مبتكرًا يبرز مرونتهما وقدراتهما كراقصتين محترفتين.

اختارت الشقيقتان اسمَيْن فنّيَّين هما ليلى ولمياء (أو: ليز ولين)، واحتاج الاسمان إلى اسمٍ عائليٍّ وقصّةٍ تخفي أصلهما وتجذب اهتمام الجمهور. لذلك، أصبحت هيلينا وبيرثا ألبيرت، ابنتا فيشِل من تشيرنويتز، “التوأم جمال”.

كان الملهى الليليّ “قصر الحلمية” نقطة الانطلاق فقط التي صعدت منها الشقيقتان نحو الشهرة العالميّة. كانت أدوارهما في سلسلةٍ من الأفلام المصريّة قصيرةً للغاية في البداية رغم أهمّيتها للحبكة، ثمّ أصبحت أدوارهما أطول وأكثر أهمّيّةً بسبب الطلب الكبير عليهما من الجمهور. سرعان ما انتشر اسماهما في جميع أنحاء العالم العربيّ. لا يبدو أنهما أنّكرتا ديانتهما اليهوديّة، بيد أنّهما كانتا ناجحتين في إخفاء أصولهما. كانت القصّة المستعملة لذلك مثاليّة، ونستطيع أن نفترض أنّ لا أحد من المعجبين العديدين بهما -في مصر وخارجها- قد أدرك أنّ هاتين الفتاتين لم تكونا عربيّتين.

غيّر الانقلاب العسكريّ في مصر وصعود جمال عبد الناصر إلى السلطة تدريجيًّا الأجواء في البلد، التي أسهمت في السابق في صعود نجم الشقيقتين. تمّت دعوتهما إلى المزيد من العروض خارج بلدهما الأصليّ، وقد حظيتا بشعبيّتهما الأكبر في كلٍّ من سنغافورة والهند.

حظرت الرقابة أحد مشاهد الرقص في واحدٍ من الأفلام الهنديّة التي شاركتا فيه بسبب “عدم الاحتشام”. أصبحت السلطات العسكريّة في مصر متشكّكةً في الرحلات المتكرّرة للأختين جمال، وربّما كان مردّ هذا الشكّ معرفتها بأصولهما اليهوديّة.

في أواخر عام 1957، أثناء جولةٍ ناجحةٍ في الشرق الأقصى، تلقّى والدهما، الذي بقي في القاهرة، برقيّةً مفاجئة. بسرعةٍ كبيرةٍ حذّر الفتاتين، اللتين ترافقهما أمّهما كالعادة، من العودة إلى مصر. فقد أصدرت الشرطة المصريّة أمرًا باعتقالهما، إذ كانتا مطلوبتين للتحقيق معهما بتهمة التجسّس.

لم يكن صعبًا على الشقيقتين جمال أن تعثرا على متعهد حفلاتٍ ليدعوهما إلى تأدية العروض في الولايات المتّحدة. لقد أثارت اهتمامهما أمريكا لفترةٍ من الزمن، واعتبرتاها مكانًا مناسبًا للجوء. كانت لديهما في الوقت الراهن مشكلةٌ واحدةٌ مزعجة: كيف ستتمكّنان من الحصول بسرعةٍ على التأشيرات اللازمة لدخول الولايات المتّحدة؟

في ذلك المساء تحديدًا، حضر وفدٌ من أعضاء الكونغرس الأمريكيّ، كان في زيارةٍ إلى بومباي، إلى الملهى الليليّ حيث كانت فقرة الأختين جمال من ضمن برنامج العروض. كان إعجابهم بأدائهما في فقرة الرقص الشرقيّ لا حدود له. وفي صباح اليوم التالي، كانت تأشيرات الدخول التي أرادتاها بين أيديهما.

بأذرعٍ مفتوحة، رحّب المشهد الفنّيّ النابض بالحياة في الحيّ اللاتينيّ في نيويورك بالشقيتين جمال. اندمجت الطاقة الجديدة، التي جلبتاها معهما من الشرق، بسلاسةٍ مع الاتّجاهات الفنّيّة المختلفة التي كانت تحظى بشعبيّةٍ شديدةٍ في أمريكا في الخمسينيّات. ساهم تعاونهما مع الموسيقيّ إيدي “الشيخ” كوتشاك وفرقته في نجاحهما.

لسوء الحظّ، ليس من الواضح ما الذي دفع الشقيقتان، المعروفتان الآن ببساطة باسمَيْ لين وليز، إلى التخلّي عن مسيرتهما المهنيّة الناجحة. هل كانت والدتهما اليهوديّة هي التي ضغطت عليهما من أجل الزواج بسرعةٍ وترك المجال الترفيهيّ؟

سرعان ما استقرّت الشقيقتان، واحدةً تلو الأخرى، مع زوجين جديدَين، بعد فترةٍ ليست بالطويلة من وصولهما إلى أمريكا. ويبدو أنّ الرجلَيْن اللذَيْن اختارتا مشاركة حياتهما معهما، واللذَيْن كانا رَجُلَيْ أعمالٍ محترمَيْن، لم يكونا معجبَيْن كثيرًا بحياتهما المهنيّة كراقصتين في الملاهي الليليّة.

في غضون وقتٍ قصير، تقلّص جدول عروض الشقيقتين جمال. وقد قامتا بالتعبير عن شغفهما إلى الرقص والموسيقى، الذي لا يزال مشتعلًا داخلهما، من خلال تدريس الرقص الشرقيّ في سياقاتٍ وطرقٍ متنوّعة. وخلال فترة الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، اعتُبِرَت الشقيقتان -لا سيّما ليز- من أكثر المعلّمين احترافيّةً في هذا المجال في الغرب.

توفّيت لين في لونغ آيلاند في عام 1992، وعاشت ليز لسنواتٍ عديدة بعد وفاة شقيقتها، إلى أن توفّيت في عام 2016. كانت قد تزوّجت مرّةً أخرى من رجلٍ يدعى ديفيك ماركس، وهو ناجٍ من المحرقة قَدِمَ إلى البلاد قبل سنةٍ من تأسيس الدولة اليهوديّة على متن قارب الهجرة غير القانونيّة “موليدِت”، ثمّ انتقل فيما بعد إلى أمريكا، حيث حقّق نجاحًا في صناعة الأثاث.

كانت ألبومات الصور والتذكارات والقصص التي تعود إلى أيّام مجد زوجته ليز دائمًا مصدر جذبٍ لديفيد. وكرجلٍ عايش بنفسه تقلّبات الحياة اليهوديّة في القرن العشرين، كان يعتقد أنّ قصّة زوجته يجب أن تشكّل أيضًا قطعةً من الفسيفساء متعدّدة الألوان التي توثّق قصّة الشعب اليهوديّ. وفي نيسان عام 2017، تبرّع بأرشيفها الشخصيّ إلى المكتبة الوطنيّة. ليز، أو بيرثا ألبرت، مستخدمين اسمها الحقيقيّ، سوف ترقص الآن إلى الأبد في أرشيف المكتبة الوطنيّة، وستظلّ قصّة الشقيقتين جمال حيّةً دائمًا.

مخطوطٌ مُقدس أم كتابٌ ملعون؟ سحر شَمس المعارف وتعاليم البوني السرّية

تعمق في هذا المقال أكثر لكشف الحقيقة وراء هذا كتاب "شمس المعارف"، حيث ينطمس الخط الرفيع بين الممارسات الروحية الموقرة والسحر والتنجيم.

جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف

جدول أسماء الملائكة والبروج، مخطوطة شمس المعارف، 1679-1688

يقترن كتاب شَمس المَعارف الشهير باسم كاتبه الأَصلي أحمد البوني الذي تتوفر معلومات محدودة حول أُصوله ووجوده. تشير الروايات التاريخية إلى أن اسمه الكامل ربما كان أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف القريشي البوني، ونشأ في بونا في الجزائر. قضى معظم حياته في شمال أفريقيا، لا سيما مصر، معاصرًا للشخصية الصوفية الشهيرة محي الدين بن عربي. أحمد البوني، الذي وُصف بالساحر في الكثير من الأحيان، كان أكثر من ذلك بكثير.

على الرغم من تسميته بالساحر، كان أحمد البوني بالأساس معلمًا في التصوف، وتأثر بتعاليم ابن عربي. إذ شكل تركيزهما على الجوهر الروحي للتصوف، خاصة القوى السحرية التي تتجلى في حروف اللغة العربية، أساس تعاليمهما.

الآن، دعونا نتحدث عن “شمس المعارف”، الكتاب الأسطوري الذي نُسب إلى البوني. هذه الموسوعة الواسعة في علوم السحر تضم تمائم لجلب الجن والحبيب والرزق وسرّ قوى حروف اللغة العربية. ولكن ها هي اللفتة الفارقة: لم يكن البوني، الصوفي في جوهره، ينظر إلى الكتاب على أنه كتاب سحر بالمعنى المعروف، بل صاغه لجمهور محدد من طلاب التصوف المبتدئين ليعلمهم تعاليمه، بل وحظر نشره للعامة.

لقد كشف هذا الكتاب، الذي يحظى بالتبجيل بسبب رؤاه الروحية ويُخشى بسبب مخاطره المفترضة، عن نسيج غني من الحكمة القديمة.

يعد “شمس المعارف الكبرى” نصًا جوهريًا ضمن علوم السحر والتنجيم، إنه يقع ضمن إطار صوفي تأملي، يستكشف علم الكون المعقد حيث كل شيء مترابط. يتناول الكتاب موضوعات متنوعة، بدءًا من قوى الحروف العربية وارتباطها بالأجرام السماوية والأبراج والملائكة وأسماء الله الحسنى غيرها.

جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688
جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688

 

لا يقتصر النص على تقديم الفوائد الروحية ولكنه يقدم أيضًا تعليمات عملية، بدءًا من تعويذات لجذب الحبيب إلى علاج الأمراض أو حتى تلبية النوايا الخبيثة مثل إيذاء الأعداء. وعلى الرغم من تقديم تعليمات حول كيفية تلبية هذه الرغبات، إلا أن الكاتب يُحَذِّرُ منها، ويُسَلِّط الضوء على العَواقب المحتملة لها في الحياة الآخرة. لذا فهو يعطي تعليمات ولكنه أيضًا يقول “ربما لا ينبغي عليك اتباعها”.

يتعمق المخطوط في العلاقة بين الحروف الأبجدية العربية الثمانية والعشرين ومنازل القمر الثمانية والعشرين، ويربطها بمجالات كوكبية وملائكة محددين. تلعب الأرقام دورًا مهمًا، خاصة في بناء التعويذات باستخدام “الجيماتريا”، أي ربط كل حرف بقيمة عددية معينة واستخلاص قيم للكلمات. كل حرف من الحروف الأبجدية يقابل رقمًا معينًا، فحرف الألف يقابل واحدًا والباء يقابل اثنين، الجيم يقابل ثلاثة، الدال يقابل أربعة وهكذا. وعندما تكتب كلمات باستخدام هذه الحروف، فإن الكلمة ككل لها قيمة عددية أيضًا حيث يتم جمع أرقام الحروف مما يؤدي إلى خلق تعويذات.

يمكن أن تتخذ التمائم أشكال عديدة ولكنها غالبًا ما تتضمن دائرة أو مربعًا سحريًا. على سبيل المثال، لتسخير قوة كوكب المشتري الذي يتمتع بنوع من طاقة الوقاية والحظ، يمكنك إنشاء مربع سحري لذلك، تأخذ الحرف المرتبط بكوكب المشتري دال الذي له القيمة العددية للرقم أربعة. وبذلك تقوم بعمل مربع سحري أربعة في أربعة أي ثماني مربعات ثم تكتب حرف الدال 35 مرة.

على سبيل المثال أيضا، يتم اقتراح علاجات مثل استخدام الماء الممزوج بالحبر، وكتابة كلمات معينة، وإعطاء الماء المنقوع لشخص مريض لحمايته من الحمى الناجمة عن لدغة العقرب. أو كتابة مربعات تحتوي اسم من أسماء الله الحسنى وأرقام معينة لطلب الرزق.

 

تميمة لنيل القبول، مخطوطة شمس المعارف،1688-1679
تميمة لنيل القبول، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688

 

يمكنك أيضًا كتابة التعويذات على قطعة من الحرير الأصفر، من المفضل فعل ذلك أثناء وجود القمر في برج السرطان أو كوكب المشتري.كما يمكن حرق أي بخور ذو رائحة طيبة، إذا فعلت ذلك وحملته معك يعدك الكتاب بتحقيق كل أهدافك ومُرادك من سلطة وشهرة وستحبك النساء أيضًا.

مَع مرور السنين، حظيت تعاليم البوني بالاعترافِ والنقد على حد سواء. رغم تقديرها من قبل العلماء والفلاسفة والمتصوفة، اتُهمت تلك التعاليم في بعض الأحيان بالسحر، مما أثر على قبولها في الفكر الإسلامي التقليدي. لكن كتاباته استمرت في التأثير، وشكّلت تقليدًا سحريًا يتجاوز الزمن يُمارسُ الى الآن.

سعيد بن يوسف الفيومي: التعريف به وبآثاره

أحد أعظم الشخصيات الدينية اليهودية وأغزرها ثقافة وكتابة. ولد في فيوم مصر، ونشط في بغداد، واشتهر بالاسم سعاديا هغاؤون في العالم اليهودي.

تفسير التوراة بالعربية

أحد أعظم الشخصيات الدينية اليهودية وأغزرها ثقافة وكتابة. ولد في دلاص في فيوم مصر، وليس في قرية أبو صوير كما هو شائع في الأدبيات العربية الحديثة، ونشط في بغداد (882-942م)، واشتهر بالاسم سعاديا هغاؤون في العالم اليهودي، ووقف على رأس عمله بصفته رئيس إحدى أهم مدرستين دينيتين يهوديتين في العالم اليهودي وكلتاهما في العراق (منذ القرن الثالث وحتى الحادي عشر الميلادي)، حملت الأولى اسم مدرسة “سورا”، وهي المدينة التي يطلق عليها حاليًا اسم أبو صُخير، مركز قضاء محافظة القادسية في منطقة الفرات الأوسط، وجنوب بغداد. أما الثانية فهي مدرسة “فومبديتا” وهي مدينة الفلوجة، أو إحدى البلدات المجاورة لها. ترأس الفيومي مدرسة سورا بينما كانت تمر في أصعب فترة لها، فأنعشها بعد نقلها إلى بغداد واستمرت حتى وقت متأخر في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي.

انتقل من بلدته في الفيوم في جيل الشباب، ويبدو أنه درس في إحدى مدارس مدينة طبريا الدينية لبضع سنين، وانتقل بعد فترة ما في بلدات سورية إلى الاستقرار في بغداد حيث تولّى رئاسة مدرسة سورا الدينية (في سنة 928م).

نستدل بكتاباته الغزيرة، التي طالت الفقه الديني وعلم الكلام وعلوم اللغة المختلفة والشعر والترجمة والتفسير، على ثقافته الواسعة والغنية في العلوم والفلسفة وصنوف الأدب والشعر. وكان بلا شك مطلعًا على العقائد والديانات والفرق العديدة المنتشرة في العراق بلغاتها ومجموعاتها الإثنية المختلفة، لا سيما في بغداد، تلك المدينة الجديدة التي استقطبت مختلف صنوف الحرف والعلماء والمثقفين.

استفاد الفيومي بشدة من حركة الترجمة من السريانية واليونانية والفارسية والهندية وغيرها إلى العربية، وتركت هذه الثقافات المختلفة أشد الأثر على اصطلاحاته وتوجّهاته التي يمكن التعبير عنها من خلال لفظة “الأدب” بمعانيها الواسعة.

نشر جميع ترجماته وتفسيراته لأسفار الكتاب اليهودي المقدّس، وكذلك كتابه الكلامي الأهم “الأمانات الاعتقادات”، المتأثر بصورة جلية باصطلاحات وتوجّهات علم الكلام المعتزلي، وكتب ومصنّفاته الفقهية والنحوية، بالعربية ولكن بأحرف عبرية مع تطعيمها باقتباسات عبرية وآرامية، وهو الشكل الذي يطلق عليه تعبير “العربية اليهودية”.

تكمن أهمية كتاب “الأمانات” في كونه يعكس لنا طورًا هامًا من أطوار تطوّر علم الكلام الإسلامي المعتزلي وأشكال تأثيره على الأدبيات اليهودية في تلك الحقبة بالغة الأهمية، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى إحداث ثورة فكرة ولاهوتية في اليهودية، والتي بدأها بلا شك الفيومي، ربما بتأثير الفرقة اليهودية القرائية التي انفتحت كثيرًا على العلوم والآداب غير اليهودية لا سيما الإسلامية منها في وقت مبكّر.

تعكس ترجمات الفيومي لعدد كبير من أسفار الكتاب اليهودي المقدّس طورًا متقدمًا من الترجمة التي تركّز على نقل المعاني أكثر من التزامها بحرفية النصوص، وهو ما يميّز ترجمات الفيومي خاصة حتى يومنا هذا.

يعتبر الفيومي أول رجل دين يهود يتمتّع بسلطة دينية وقيادية يضفي الشرعية على الانفتاح على العلوم الحديثة في زمانه، بعد أن كانت محرّمة شرعًا حتى عصره، واتّسمت اليهودية قبله بالانغلاق والخشية من التأثّر من آداب وعلوم غير اليهود. ولهذا، نراه يُحدث ثورة في العالم الثقافي اليهودي ويمدّ اليهودية بصفتها دينًا بأدوات ومعارف جديدة ساهمت بصورة كبيرة في إحداث ثورة فكرية داخل اليهودية.

وأكثر ما يشد انتباهنا في عصرنا الحالي في كتابات الفيومي فهما نقطتان، تتمثّل الأولى في تعريفه التالي للهوية الجمعية لليهود البعيد كل البعد عن أي ملامح إثنية: “لأنَّ أمّتنا بني إسرائيل إنما هي أمّة بشرائعها” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 3). أما الثانية فتتمثّل في مركزية الإنسان في فكره وكتاباته كلّها. فنراه يسعى من خلال كل ما يكتبه إلى “تهذيب” فكر وأخلاق وسبل حياة الإنسان، وبهذا المعنى فهو قريب جدًا من منهج الفيومي ابن عصره وابن مدينته. لن يكون هذا مفاجئًا لنا إذا أدركنا أن التوجّه العام للفيومي يقوم على فرضية أساسية مفادها أن الإنسان هو محور الخليقة وغايتها، فكل ما عداه أدوات لخدمته. وفيما يلي مقتطفات صريحة لهذه الفكرة المركزية في فكره والمستندة كذلك إلى الكتاب اليهودي المقدّس:

  • “إنَّ الإنسان لا يفعل شيئًا إلّا وهو مختار لفعله، إذ لا يجوز أن يفعل مَن لا اختيار له ولا مَن ليس هو مختارًا” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 4).
  • “عرّفنا ربّنا على يد أنبيائه أنه فضّل الإنسان على جميع خلقه “واستولوا على سمك البحر وطائر السَّماء” (التكوين 1: 28)، وعلى ما قال في مزمور: “الَّلهُمَّ يا سيِّدنا ما أعظم اسمك في جميع الأرض” (المزامير 8: 2) إلى آخره؛ وأنه أعطاه القدرة على طاعته ووضعها بين يديه وضعًا ومكّنه وخيّره وأمره أن يختار الخير […] ثمَّ نظرنا بصناعة النظر بما ذا شرّفه فوجدنا وجه تشريفه بالحكمة التي جعلها له وعلّمه إيّاها كما قال: وإنْ سألك الحيوة أعطيتها له، المُعلِّمُ الإنسانَ المعرفة (المزامير 21: 5؛ 94: 10)، فهو بها يحفظ كلّ شيء ماضٍ من الأفعال، وبها ينظر في كثرة من العواقب التي تأتي، وبها يصل إلى تسخير الحيوان ليفلحوا له الأرض وينقلوا إليه غلًاتها، وبها يصل إلى استخراج الماء من عمق الأرض حتى صار على وجهها بل صنع له النواعير التي تستسقى منها، وبها يصل إلى بناء المنازل السريّة ولباس الثياب الفاخرة وإصلاح الأطعمة اللذيذة، وبها يصل إلى قود الجيوش والعساكر وتدبير المَلِك والسلطان حتى انضبط الناس وتسقّموا، وبها يصل إلى علم هيئة الفلك ومسير النجوم ومقادير أجرامها وأبعادها وسائر أحوالها، فإنْ توهّم متوهّم أنَّ المفضَّل هو شي غير الإنسان فليُرِنا هذا المُفضَّل أو بعضه بغيره وذاك كلًا لا يجده فبحقّ أن يكون الإنسان المأمور والمُنهى والمُثاب والمُعاقب إذ هو قطب العالم وقاعدته كقوله: “إنَّ لله أركان الأرض” (صموئيل الأول 2: 8)، وقال: “والصَّالح أساس العالَم” (الأمثال 10: 25). فلمّا تبيّنتُ هذه الأصول وما يتفرّع منها علمتُ أنَّ تشريف الإنسان ليس هو وهمًا وقع في نفوسنا ولا ميل ملنا به إلى محاباته ولا إيثار حملنا وعجب وصلف أن ندّعيه لأنفسنا إلًا حقّ صحيح وصدق مبين. ولم يشرّفه الحكيم بهذا الأمر إلًا لأنه جعله موضعًا لأمره ونهيه، كما قال: “ثمَّ قال للأدميّين إنَّ تقوى الله هي أيضًا حكمة والزوال عن الشرّ فهم أيضًا” (أيوب 28: 28)” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 4).

برغم اهتمام الفيومي بالتدريس وتوفير طلبة علم يهود في عصره، إلّا أن سلسلة الطلّاب هذه لم تستمر لفترة طويلة، بل نراها تتضاءل شيئًا فشيئًا بعد مماته، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى إغلاق مدرسته الدينية في منتصف النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي. أما بعد انتقال مركز العلوم اليهودية إلى أوروبا، بدءًا من القرن الحادي عشر الميلادي، وترجمة بعض نصوص الفيومي إلى العبرية، نشهد أنها نقلت من خلال قوالب لغوية وأدبية يهودية تقليدية، لعدم قدرة اللغة العبرية في حينه على نقل العالم الفكري والثقافي باصطلاحاته وتوجّهاته الغنية التي شاعت في الحواضر الإسلامية.