نُقِل عن “حِن مَلول” من العبرية
ساهم الجنود الأجانب، الذين عجّت بهم المدن المصريّة الرئيسيّة في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، في إحداث العديد من التغييرات في ثقافة الترفيه المحليّة. تمّ افتتاح العديد من الملاهي الليليّة، واستفاد الموسيقيّون والممثّلون والراقصون -ذكورًا وإناثًا- من التعطّش الشديد إلى الترفيه، وكانوا متحمّسين للغاية من أجل توفيره.
كان “قصر الحلميّة”، الواقع في أحد أحياء القاهرة، واحدًا من أفضل وأشهر الملاهي الليليّة في تلك الفترة. لم يكن الترفيه الفنّيّ الذي يقدّمه صاحب هذا الملهى عاديًّا، فالاهتمام بأدقّ تفاصيل الأزياء، وبإطلالات الموسيقيّين الماهرين، وبالتصميم الرهيف للرقصات، جعل من الملهى أرضًا خصبةً لثقافةٍ شرقيّةٍ جديدة.
شكّلت “التوأم جمال” جوهرتا تاج قصر الحلميّة، وهما الراقصتان الشرقيّتان اللتان ابتكرتا أسلوبًا جديدًا في هذا النوع الشرقيّ القديم من الرقص. ومع اقتراب عهد الملك فاروق الأوّل من نهايته، أصبحت الشقيقتان، ليلى ولمياء، أهمّ نجمتين في المشهد الترفيهيّ المصريّ. كان المكان يكتظّ بحشودٍ من الجمهور، وكان العاهل المصريّ من أشدّ المعجبين بهما. لكن، ما سرّ سحرهما الذي أطلق مسيرتهما نحو النجوميّة؟
كان الرقص الشرقيّ المتوسّطيّ أحد اختصاصاتهما. قام الموسيقيّون الذين رافقوا الثنائيّ بالتدريب معهما مرّاتٍ كثيرةٍ وساعات طويلة لخلق التناسق بين الحركات الراقصة والقطع الموسيقيّة المختارة بعناية. أثمرت جلسات التدريب الشاقّة، والتمارين اللانهائيّة، وبروفات الرقص اليوميّة عن نتائج مدهشة. كان أداء الشقيقتين جمال مبهرًا ومبتكرًا، حيث تمايلت الراقصتان في انسجامٍ أخّاذٍ بينهما، يصحبه تناغمٌ آخر تامٌّ بين الرقص والموسيقى.
لم يكن أداؤهما، الذي استخدمتا فيه أيضًا دعائم مسرحيّةٍ عديدة، مجرّد رقصٍ مصدره شرقٌ غريبٌ لم يعتده الجمهور. كانتا قادرتين على صُنْع صورةٍ متناسقةٍ بينهما، كأنّ إحداهما صورة المرآة لجسد الأخرى، ثمّ عَكْس الاتّجاه ببراعةٍ فنّيّة، بينما تحافظان على التعبير المتّقد عن الموسيقى التي كانتا تتحرّكان وفقها. كان التواصل بينهما وبين الموسيقيّين حيويًّا ومثيرًا للجمهور.
لم تكن المواهب الموسيقيّة للشقيقتين جمال مفاجئةً على الإطلاق، إذ كانتا ابنتين لموسيقيَّيْن، وقد تعلّمتا العزف على الآلات الموسيقيّة منذ طفولتهما المبكّرة. كان والدهما، فيشِل ألبرت، عازف كمان في أوركسترا فيّينا السيمفونيّة. ويكشف اسمه عن أصله اليهوديّ إذ انتقل من تشيرنويتز إلى العاصمة النمساويّة، حيث أصبح موسيقيَّا محترفًا. أمّا السبب وراء هجرته إلى مصر في العشرينيّات من القرن الماضي، فغير معروف. وقد يكون ذلك ناجمًا عن الأزمة الاقتصاديّة الكبيرة التي دفعته بعيدًا عن أوروبا، إلى مكانٍ سيحظى فيه على مكانةٍ لائقةٍ ودخلٍ جيّد.
في الإسكندريّة، التقى فيشِل بزوجته جيني (جانين) إلبرت، المغنّية الأوبراليّة ابنة مهاجرين يهوديّين. أسر قبله حضورها الساحر وجمالها الأخّاذ. وُلِدَت ابنتهما الكبرى هيلينا بعد عامٍ واحدٍ فقط من زواجهما، ووُلِدَت شقيقتها الأصغر بيرثا بعد عامين ونصف، في عام 1932.
نشأت هيلينا وبيرثا في بيتٍ موسيقيّ، وتمّ إرسالهما من قبل والدهما ووالدتهما إلى دروس الباليه منذ سنٍّ صغيرة، لكن يبدو أنّ البيئة التي نشأتا فيها أثّرت عليهما كي لا تقتصرا على الدروس المعتادة للباليه الكلاسيكيّ، فبدأت الشقيقتان كذلك في دراسة الرقص المتوسّطيّ، وأُصيب أساتذتهما بالدهشة البالغة عندما كشفتا عن موهبةٍ استثنائيّةٍ في تأدية حركات الرقص الشرقيّ. ولم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تبدآ في تلقّي العروض للظهور أمام الجمهور. وبالنسبة إلى أمّهما، فقد أدّى ذلك إلى تفكيرٍ جدّيٍّ في الموضوع من طرفها، إذ كانت قلقةً بشأن مستقبل ابنتيها الصغيرتين، اللتين لا يتجاوز عمرهما 12 و 14 سنة، واللتين ستجدان أنفسهما في جلبة عالمٍ تراه الأمّ فاسقًا وفضائحيًّا. لكن، من ناحيةٍ أخرى، فقد كان إغراء هذه الفرصة كبيرًا.
ففي تلك الفترة، فقد زوجها مصدر دخله الثابت، وواجهت العائلة مشاكل ماليّة. لم تجرؤ جيني على إخباره عن العروض التي تقدّمها الفتاتان، وقررن أن يبقين الأمر سرًّا بينهن. رافقت الأمّ المتفانية ابنتيها إلى كلّ تمرينٍ وعرض، محافظةً بقوّةٍ على براءتهما. استمرّت بفعل ذلك لسنواتٍ عديدة، حيث رافقتهما أيضًا في رحلاتهما الخارجيّة.
مع ذلك، لم تتمكّن نساء عائلة ألبرت الثلاث من إخفاء سرّهنّ عن ربّ أسرتهنّ لفترةٍ طويلة. فقد أصبحت هاتان الشقيقتان الموهوبتان نجمتين بين ليلةٍ وضحاها، وكان نجاحهما باهرًا حقًّا. وبمساعدةٍ من أمّهما وأساتذتهما، أبدعتا أداءً مبتكرًا يبرز مرونتهما وقدراتهما كراقصتين محترفتين.
اختارت الشقيقتان اسمَيْن فنّيَّين هما ليلى ولمياء (أو: ليز ولين)، واحتاج الاسمان إلى اسمٍ عائليٍّ وقصّةٍ تخفي أصلهما وتجذب اهتمام الجمهور. لذلك، أصبحت هيلينا وبيرثا ألبيرت، ابنتا فيشِل من تشيرنويتز، “التوأم جمال”.
كان الملهى الليليّ “قصر الحلمية” نقطة الانطلاق فقط التي صعدت منها الشقيقتان نحو الشهرة العالميّة. كانت أدوارهما في سلسلةٍ من الأفلام المصريّة قصيرةً للغاية في البداية رغم أهمّيتها للحبكة، ثمّ أصبحت أدوارهما أطول وأكثر أهمّيّةً بسبب الطلب الكبير عليهما من الجمهور. سرعان ما انتشر اسماهما في جميع أنحاء العالم العربيّ. لا يبدو أنهما أنّكرتا ديانتهما اليهوديّة، بيد أنّهما كانتا ناجحتين في إخفاء أصولهما. كانت القصّة المستعملة لذلك مثاليّة، ونستطيع أن نفترض أنّ لا أحد من المعجبين العديدين بهما -في مصر وخارجها- قد أدرك أنّ هاتين الفتاتين لم تكونا عربيّتين.
غيّر الانقلاب العسكريّ في مصر وصعود جمال عبد الناصر إلى السلطة تدريجيًّا الأجواء في البلد، التي أسهمت في السابق في صعود نجم الشقيقتين. تمّت دعوتهما إلى المزيد من العروض خارج بلدهما الأصليّ، وقد حظيتا بشعبيّتهما الأكبر في كلٍّ من سنغافورة والهند.
حظرت الرقابة أحد مشاهد الرقص في واحدٍ من الأفلام الهنديّة التي شاركتا فيه بسبب “عدم الاحتشام”. أصبحت السلطات العسكريّة في مصر متشكّكةً في الرحلات المتكرّرة للأختين جمال، وربّما كان مردّ هذا الشكّ معرفتها بأصولهما اليهوديّة.
في أواخر عام 1957، أثناء جولةٍ ناجحةٍ في الشرق الأقصى، تلقّى والدهما، الذي بقي في القاهرة، برقيّةً مفاجئة. بسرعةٍ كبيرةٍ حذّر الفتاتين، اللتين ترافقهما أمّهما كالعادة، من العودة إلى مصر. فقد أصدرت الشرطة المصريّة أمرًا باعتقالهما، إذ كانتا مطلوبتين للتحقيق معهما بتهمة التجسّس.
لم يكن صعبًا على الشقيقتين جمال أن تعثرا على متعهد حفلاتٍ ليدعوهما إلى تأدية العروض في الولايات المتّحدة. لقد أثارت اهتمامهما أمريكا لفترةٍ من الزمن، واعتبرتاها مكانًا مناسبًا للجوء. كانت لديهما في الوقت الراهن مشكلةٌ واحدةٌ مزعجة: كيف ستتمكّنان من الحصول بسرعةٍ على التأشيرات اللازمة لدخول الولايات المتّحدة؟
في ذلك المساء تحديدًا، حضر وفدٌ من أعضاء الكونغرس الأمريكيّ، كان في زيارةٍ إلى بومباي، إلى الملهى الليليّ حيث كانت فقرة الأختين جمال من ضمن برنامج العروض. كان إعجابهم بأدائهما في فقرة الرقص الشرقيّ لا حدود له. وفي صباح اليوم التالي، كانت تأشيرات الدخول التي أرادتاها بين أيديهما.
بأذرعٍ مفتوحة، رحّب المشهد الفنّيّ النابض بالحياة في الحيّ اللاتينيّ في نيويورك بالشقيتين جمال. اندمجت الطاقة الجديدة، التي جلبتاها معهما من الشرق، بسلاسةٍ مع الاتّجاهات الفنّيّة المختلفة التي كانت تحظى بشعبيّةٍ شديدةٍ في أمريكا في الخمسينيّات. ساهم تعاونهما مع الموسيقيّ إيدي “الشيخ” كوتشاك وفرقته في نجاحهما.
لسوء الحظّ، ليس من الواضح ما الذي دفع الشقيقتان، المعروفتان الآن ببساطة باسمَيْ لين وليز، إلى التخلّي عن مسيرتهما المهنيّة الناجحة. هل كانت والدتهما اليهوديّة هي التي ضغطت عليهما من أجل الزواج بسرعةٍ وترك المجال الترفيهيّ؟
سرعان ما استقرّت الشقيقتان، واحدةً تلو الأخرى، مع زوجين جديدَين، بعد فترةٍ ليست بالطويلة من وصولهما إلى أمريكا. ويبدو أنّ الرجلَيْن اللذَيْن اختارتا مشاركة حياتهما معهما، واللذَيْن كانا رَجُلَيْ أعمالٍ محترمَيْن، لم يكونا معجبَيْن كثيرًا بحياتهما المهنيّة كراقصتين في الملاهي الليليّة.
في غضون وقتٍ قصير، تقلّص جدول عروض الشقيقتين جمال. وقد قامتا بالتعبير عن شغفهما إلى الرقص والموسيقى، الذي لا يزال مشتعلًا داخلهما، من خلال تدريس الرقص الشرقيّ في سياقاتٍ وطرقٍ متنوّعة. وخلال فترة الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، اعتُبِرَت الشقيقتان -لا سيّما ليز- من أكثر المعلّمين احترافيّةً في هذا المجال في الغرب.
توفّيت لين في لونغ آيلاند في عام 1992، وعاشت ليز لسنواتٍ عديدة بعد وفاة شقيقتها، إلى أن توفّيت في عام 2016. كانت قد تزوّجت مرّةً أخرى من رجلٍ يدعى ديفيك ماركس، وهو ناجٍ من المحرقة قَدِمَ إلى البلاد قبل سنةٍ من تأسيس الدولة اليهوديّة على متن قارب الهجرة غير القانونيّة “موليدِت”، ثمّ انتقل فيما بعد إلى أمريكا، حيث حقّق نجاحًا في صناعة الأثاث.
كانت ألبومات الصور والتذكارات والقصص التي تعود إلى أيّام مجد زوجته ليز دائمًا مصدر جذبٍ لديفيد. وكرجلٍ عايش بنفسه تقلّبات الحياة اليهوديّة في القرن العشرين، كان يعتقد أنّ قصّة زوجته يجب أن تشكّل أيضًا قطعةً من الفسيفساء متعدّدة الألوان التي توثّق قصّة الشعب اليهوديّ. وفي نيسان عام 2017، تبرّع بأرشيفها الشخصيّ إلى المكتبة الوطنيّة. ليز، أو بيرثا ألبرت، مستخدمين اسمها الحقيقيّ، سوف ترقص الآن إلى الأبد في أرشيف المكتبة الوطنيّة، وستظلّ قصّة الشقيقتين جمال حيّةً دائمًا.