الشقيقتان المصريّتان، ذواتا الهويّة اليهوديّة السرّيّة، اللتان احترفتا الرقص الشرقيّ

تعرّفوا إلى ليلى ولمياء جمال، الشقيقتان المتشابهتان حدّ التطابق، اللتان اجتاحت شهرتهما مصر بحركاتهما الراقصة المثيرة للابتهاج.

الشقيقتان جمال

نُقِل عن “حِن مَلول” من العبرية

ساهم الجنود الأجانب، الذين عجّت بهم المدن المصريّة الرئيسيّة في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، في إحداث العديد من التغييرات في ثقافة الترفيه المحليّة. تمّ افتتاح العديد من الملاهي الليليّة، واستفاد الموسيقيّون والممثّلون والراقصون -ذكورًا وإناثًا- من التعطّش الشديد إلى الترفيه، وكانوا متحمّسين للغاية من أجل توفيره.

كان “قصر الحلميّة”، الواقع في أحد أحياء القاهرة، واحدًا من أفضل وأشهر الملاهي الليليّة في تلك الفترة. لم يكن الترفيه الفنّيّ الذي يقدّمه صاحب هذا الملهى عاديًّا، فالاهتمام بأدقّ تفاصيل الأزياء، وبإطلالات الموسيقيّين الماهرين، وبالتصميم الرهيف للرقصات، جعل من الملهى أرضًا خصبةً لثقافةٍ شرقيّةٍ جديدة.

شكّلت “التوأم جمال” جوهرتا تاج قصر الحلميّة، وهما الراقصتان الشرقيّتان اللتان ابتكرتا أسلوبًا جديدًا في هذا النوع الشرقيّ القديم من الرقص. ومع اقتراب عهد الملك فاروق الأوّل من نهايته، أصبحت الشقيقتان، ليلى ولمياء، أهمّ نجمتين في المشهد الترفيهيّ المصريّ. كان المكان يكتظّ بحشودٍ من الجمهور، وكان العاهل المصريّ من أشدّ المعجبين بهما. لكن، ما سرّ سحرهما الذي أطلق مسيرتهما نحو النجوميّة؟

كان الرقص الشرقيّ المتوسّطيّ أحد اختصاصاتهما. قام الموسيقيّون الذين رافقوا الثنائيّ بالتدريب معهما مرّاتٍ كثيرةٍ وساعات طويلة لخلق التناسق بين الحركات الراقصة والقطع الموسيقيّة المختارة بعناية. أثمرت جلسات التدريب الشاقّة، والتمارين اللانهائيّة، وبروفات الرقص اليوميّة عن نتائج مدهشة. كان أداء الشقيقتين جمال مبهرًا ومبتكرًا، حيث تمايلت الراقصتان في انسجامٍ أخّاذٍ بينهما، يصحبه تناغمٌ آخر تامٌّ بين الرقص والموسيقى.

لم يكن أداؤهما، الذي استخدمتا فيه أيضًا دعائم مسرحيّةٍ عديدة، مجرّد رقصٍ مصدره شرقٌ غريبٌ لم يعتده الجمهور. كانتا قادرتين على صُنْع صورةٍ متناسقةٍ بينهما، كأنّ إحداهما صورة المرآة لجسد الأخرى، ثمّ عَكْس الاتّجاه ببراعةٍ فنّيّة، بينما تحافظان على التعبير المتّقد عن الموسيقى التي كانتا تتحرّكان وفقها. كان التواصل بينهما وبين الموسيقيّين حيويًّا ومثيرًا للجمهور.

لم تكن المواهب الموسيقيّة للشقيقتين جمال مفاجئةً على الإطلاق، إذ كانتا ابنتين لموسيقيَّيْن، وقد تعلّمتا العزف على الآلات الموسيقيّة منذ طفولتهما المبكّرة. كان والدهما، فيشِل ألبرت، عازف كمان في أوركسترا فيّينا السيمفونيّة. ويكشف اسمه عن أصله اليهوديّ إذ انتقل من تشيرنويتز إلى العاصمة النمساويّة، حيث أصبح موسيقيَّا محترفًا. أمّا السبب وراء هجرته إلى مصر في العشرينيّات من القرن الماضي، فغير معروف. وقد يكون ذلك ناجمًا عن الأزمة الاقتصاديّة الكبيرة التي دفعته بعيدًا عن أوروبا، إلى مكانٍ سيحظى فيه على مكانةٍ لائقةٍ ودخلٍ جيّد.

في الإسكندريّة، التقى فيشِل بزوجته جيني (جانين) إلبرت، المغنّية الأوبراليّة ابنة مهاجرين يهوديّين. أسر قبله حضورها الساحر وجمالها الأخّاذ. وُلِدَت ابنتهما الكبرى هيلينا بعد عامٍ واحدٍ فقط من زواجهما، ووُلِدَت شقيقتها الأصغر بيرثا بعد عامين ونصف، في عام 1932.

نشأت هيلينا وبيرثا في بيتٍ موسيقيّ، وتمّ إرسالهما من قبل والدهما ووالدتهما إلى دروس الباليه منذ سنٍّ صغيرة، لكن يبدو أنّ البيئة التي نشأتا فيها أثّرت عليهما كي لا تقتصرا على الدروس المعتادة للباليه الكلاسيكيّ، فبدأت الشقيقتان كذلك في دراسة الرقص المتوسّطيّ، وأُصيب أساتذتهما بالدهشة البالغة عندما كشفتا عن موهبةٍ استثنائيّةٍ في تأدية حركات الرقص الشرقيّ. ولم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تبدآ في تلقّي العروض للظهور أمام الجمهور. وبالنسبة إلى أمّهما، فقد أدّى ذلك إلى تفكيرٍ جدّيٍّ في الموضوع من طرفها، إذ كانت قلقةً بشأن مستقبل ابنتيها الصغيرتين، اللتين لا يتجاوز عمرهما 12 و 14 سنة، واللتين ستجدان أنفسهما في جلبة عالمٍ تراه الأمّ فاسقًا وفضائحيًّا. لكن، من ناحيةٍ أخرى، فقد كان إغراء هذه الفرصة كبيرًا.

ففي تلك الفترة، فقد زوجها مصدر دخله الثابت، وواجهت العائلة مشاكل ماليّة. لم تجرؤ جيني على إخباره عن العروض التي تقدّمها الفتاتان، وقررن أن يبقين الأمر سرًّا بينهن. رافقت الأمّ المتفانية ابنتيها إلى كلّ تمرينٍ وعرض، محافظةً بقوّةٍ على براءتهما. استمرّت بفعل ذلك لسنواتٍ عديدة، حيث رافقتهما أيضًا في رحلاتهما الخارجيّة.

مع ذلك، لم تتمكّن نساء عائلة ألبرت الثلاث من إخفاء سرّهنّ عن ربّ أسرتهنّ لفترةٍ طويلة. فقد أصبحت هاتان الشقيقتان الموهوبتان نجمتين بين ليلةٍ وضحاها، وكان نجاحهما باهرًا حقًّا. وبمساعدةٍ من أمّهما وأساتذتهما، أبدعتا أداءً مبتكرًا يبرز مرونتهما وقدراتهما كراقصتين محترفتين.

اختارت الشقيقتان اسمَيْن فنّيَّين هما ليلى ولمياء (أو: ليز ولين)، واحتاج الاسمان إلى اسمٍ عائليٍّ وقصّةٍ تخفي أصلهما وتجذب اهتمام الجمهور. لذلك، أصبحت هيلينا وبيرثا ألبيرت، ابنتا فيشِل من تشيرنويتز، “التوأم جمال”.

كان الملهى الليليّ “قصر الحلمية” نقطة الانطلاق فقط التي صعدت منها الشقيقتان نحو الشهرة العالميّة. كانت أدوارهما في سلسلةٍ من الأفلام المصريّة قصيرةً للغاية في البداية رغم أهمّيتها للحبكة، ثمّ أصبحت أدوارهما أطول وأكثر أهمّيّةً بسبب الطلب الكبير عليهما من الجمهور. سرعان ما انتشر اسماهما في جميع أنحاء العالم العربيّ. لا يبدو أنهما أنّكرتا ديانتهما اليهوديّة، بيد أنّهما كانتا ناجحتين في إخفاء أصولهما. كانت القصّة المستعملة لذلك مثاليّة، ونستطيع أن نفترض أنّ لا أحد من المعجبين العديدين بهما -في مصر وخارجها- قد أدرك أنّ هاتين الفتاتين لم تكونا عربيّتين.

غيّر الانقلاب العسكريّ في مصر وصعود جمال عبد الناصر إلى السلطة تدريجيًّا الأجواء في البلد، التي أسهمت في السابق في صعود نجم الشقيقتين. تمّت دعوتهما إلى المزيد من العروض خارج بلدهما الأصليّ، وقد حظيتا بشعبيّتهما الأكبر في كلٍّ من سنغافورة والهند.

حظرت الرقابة أحد مشاهد الرقص في واحدٍ من الأفلام الهنديّة التي شاركتا فيه بسبب “عدم الاحتشام”. أصبحت السلطات العسكريّة في مصر متشكّكةً في الرحلات المتكرّرة للأختين جمال، وربّما كان مردّ هذا الشكّ معرفتها بأصولهما اليهوديّة.

في أواخر عام 1957، أثناء جولةٍ ناجحةٍ في الشرق الأقصى، تلقّى والدهما، الذي بقي في القاهرة، برقيّةً مفاجئة. بسرعةٍ كبيرةٍ حذّر الفتاتين، اللتين ترافقهما أمّهما كالعادة، من العودة إلى مصر. فقد أصدرت الشرطة المصريّة أمرًا باعتقالهما، إذ كانتا مطلوبتين للتحقيق معهما بتهمة التجسّس.

لم يكن صعبًا على الشقيقتين جمال أن تعثرا على متعهد حفلاتٍ ليدعوهما إلى تأدية العروض في الولايات المتّحدة. لقد أثارت اهتمامهما أمريكا لفترةٍ من الزمن، واعتبرتاها مكانًا مناسبًا للجوء. كانت لديهما في الوقت الراهن مشكلةٌ واحدةٌ مزعجة: كيف ستتمكّنان من الحصول بسرعةٍ على التأشيرات اللازمة لدخول الولايات المتّحدة؟

في ذلك المساء تحديدًا، حضر وفدٌ من أعضاء الكونغرس الأمريكيّ، كان في زيارةٍ إلى بومباي، إلى الملهى الليليّ حيث كانت فقرة الأختين جمال من ضمن برنامج العروض. كان إعجابهم بأدائهما في فقرة الرقص الشرقيّ لا حدود له. وفي صباح اليوم التالي، كانت تأشيرات الدخول التي أرادتاها بين أيديهما.

بأذرعٍ مفتوحة، رحّب المشهد الفنّيّ النابض بالحياة في الحيّ اللاتينيّ في نيويورك بالشقيتين جمال. اندمجت الطاقة الجديدة، التي جلبتاها معهما من الشرق، بسلاسةٍ مع الاتّجاهات الفنّيّة المختلفة التي كانت تحظى بشعبيّةٍ شديدةٍ في أمريكا في الخمسينيّات. ساهم تعاونهما مع الموسيقيّ إيدي “الشيخ” كوتشاك وفرقته في نجاحهما.

لسوء الحظّ، ليس من الواضح ما الذي دفع الشقيقتان، المعروفتان الآن ببساطة باسمَيْ لين وليز، إلى التخلّي عن مسيرتهما المهنيّة الناجحة. هل كانت والدتهما اليهوديّة هي التي ضغطت عليهما من أجل الزواج بسرعةٍ وترك المجال الترفيهيّ؟

سرعان ما استقرّت الشقيقتان، واحدةً تلو الأخرى، مع زوجين جديدَين، بعد فترةٍ ليست بالطويلة من وصولهما إلى أمريكا. ويبدو أنّ الرجلَيْن اللذَيْن اختارتا مشاركة حياتهما معهما، واللذَيْن كانا رَجُلَيْ أعمالٍ محترمَيْن، لم يكونا معجبَيْن كثيرًا بحياتهما المهنيّة كراقصتين في الملاهي الليليّة.

في غضون وقتٍ قصير، تقلّص جدول عروض الشقيقتين جمال. وقد قامتا بالتعبير عن شغفهما إلى الرقص والموسيقى، الذي لا يزال مشتعلًا داخلهما، من خلال تدريس الرقص الشرقيّ في سياقاتٍ وطرقٍ متنوّعة. وخلال فترة الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، اعتُبِرَت الشقيقتان -لا سيّما ليز- من أكثر المعلّمين احترافيّةً في هذا المجال في الغرب.

توفّيت لين في لونغ آيلاند في عام 1992، وعاشت ليز لسنواتٍ عديدة بعد وفاة شقيقتها، إلى أن توفّيت في عام 2016. كانت قد تزوّجت مرّةً أخرى من رجلٍ يدعى ديفيك ماركس، وهو ناجٍ من المحرقة قَدِمَ إلى البلاد قبل سنةٍ من تأسيس الدولة اليهوديّة على متن قارب الهجرة غير القانونيّة “موليدِت”، ثمّ انتقل فيما بعد إلى أمريكا، حيث حقّق نجاحًا في صناعة الأثاث.

كانت ألبومات الصور والتذكارات والقصص التي تعود إلى أيّام مجد زوجته ليز دائمًا مصدر جذبٍ لديفيد. وكرجلٍ عايش بنفسه تقلّبات الحياة اليهوديّة في القرن العشرين، كان يعتقد أنّ قصّة زوجته يجب أن تشكّل أيضًا قطعةً من الفسيفساء متعدّدة الألوان التي توثّق قصّة الشعب اليهوديّ. وفي نيسان عام 2017، تبرّع بأرشيفها الشخصيّ إلى المكتبة الوطنيّة. ليز، أو بيرثا ألبرت، مستخدمين اسمها الحقيقيّ، سوف ترقص الآن إلى الأبد في أرشيف المكتبة الوطنيّة، وستظلّ قصّة الشقيقتين جمال حيّةً دائمًا.

سعيد بن يوسف الفيومي: التعريف به وبآثاره

أحد أعظم الشخصيات الدينية اليهودية وأغزرها ثقافة وكتابة. ولد في فيوم مصر، ونشط في بغداد، واشتهر بالاسم سعاديا هغاؤون في العالم اليهودي.

تفسير التوراة بالعربية

أحد أعظم الشخصيات الدينية اليهودية وأغزرها ثقافة وكتابة. ولد في دلاص في فيوم مصر، وليس في قرية أبو صوير كما هو شائع في الأدبيات العربية الحديثة، ونشط في بغداد (882-942م)، واشتهر بالاسم سعاديا هغاؤون في العالم اليهودي، ووقف على رأس عمله بصفته رئيس إحدى أهم مدرستين دينيتين يهوديتين في العالم اليهودي وكلتاهما في العراق (منذ القرن الثالث وحتى الحادي عشر الميلادي)، حملت الأولى اسم مدرسة “سورا”، وهي المدينة التي يطلق عليها حاليًا اسم أبو صُخير، مركز قضاء محافظة القادسية في منطقة الفرات الأوسط، وجنوب بغداد. أما الثانية فهي مدرسة “فومبديتا” وهي مدينة الفلوجة، أو إحدى البلدات المجاورة لها. ترأس الفيومي مدرسة سورا بينما كانت تمر في أصعب فترة لها، فأنعشها بعد نقلها إلى بغداد واستمرت حتى وقت متأخر في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي.

انتقل من بلدته في الفيوم في جيل الشباب، ويبدو أنه درس في إحدى مدارس مدينة طبريا الدينية لبضع سنين، وانتقل بعد فترة ما في بلدات سورية إلى الاستقرار في بغداد حيث تولّى رئاسة مدرسة سورا الدينية (في سنة 928م).

نستدل بكتاباته الغزيرة، التي طالت الفقه الديني وعلم الكلام وعلوم اللغة المختلفة والشعر والترجمة والتفسير، على ثقافته الواسعة والغنية في العلوم والفلسفة وصنوف الأدب والشعر. وكان بلا شك مطلعًا على العقائد والديانات والفرق العديدة المنتشرة في العراق بلغاتها ومجموعاتها الإثنية المختلفة، لا سيما في بغداد، تلك المدينة الجديدة التي استقطبت مختلف صنوف الحرف والعلماء والمثقفين.

استفاد الفيومي بشدة من حركة الترجمة من السريانية واليونانية والفارسية والهندية وغيرها إلى العربية، وتركت هذه الثقافات المختلفة أشد الأثر على اصطلاحاته وتوجّهاته التي يمكن التعبير عنها من خلال لفظة “الأدب” بمعانيها الواسعة.

نشر جميع ترجماته وتفسيراته لأسفار الكتاب اليهودي المقدّس، وكذلك كتابه الكلامي الأهم “الأمانات الاعتقادات”، المتأثر بصورة جلية باصطلاحات وتوجّهات علم الكلام المعتزلي، وكتب ومصنّفاته الفقهية والنحوية، بالعربية ولكن بأحرف عبرية مع تطعيمها باقتباسات عبرية وآرامية، وهو الشكل الذي يطلق عليه تعبير “العربية اليهودية”.

تكمن أهمية كتاب “الأمانات” في كونه يعكس لنا طورًا هامًا من أطوار تطوّر علم الكلام الإسلامي المعتزلي وأشكال تأثيره على الأدبيات اليهودية في تلك الحقبة بالغة الأهمية، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى إحداث ثورة فكرة ولاهوتية في اليهودية، والتي بدأها بلا شك الفيومي، ربما بتأثير الفرقة اليهودية القرائية التي انفتحت كثيرًا على العلوم والآداب غير اليهودية لا سيما الإسلامية منها في وقت مبكّر.

تعكس ترجمات الفيومي لعدد كبير من أسفار الكتاب اليهودي المقدّس طورًا متقدمًا من الترجمة التي تركّز على نقل المعاني أكثر من التزامها بحرفية النصوص، وهو ما يميّز ترجمات الفيومي خاصة حتى يومنا هذا.

يعتبر الفيومي أول رجل دين يهود يتمتّع بسلطة دينية وقيادية يضفي الشرعية على الانفتاح على العلوم الحديثة في زمانه، بعد أن كانت محرّمة شرعًا حتى عصره، واتّسمت اليهودية قبله بالانغلاق والخشية من التأثّر من آداب وعلوم غير اليهود. ولهذا، نراه يُحدث ثورة في العالم الثقافي اليهودي ويمدّ اليهودية بصفتها دينًا بأدوات ومعارف جديدة ساهمت بصورة كبيرة في إحداث ثورة فكرية داخل اليهودية.

وأكثر ما يشد انتباهنا في عصرنا الحالي في كتابات الفيومي فهما نقطتان، تتمثّل الأولى في تعريفه التالي للهوية الجمعية لليهود البعيد كل البعد عن أي ملامح إثنية: “لأنَّ أمّتنا بني إسرائيل إنما هي أمّة بشرائعها” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 3). أما الثانية فتتمثّل في مركزية الإنسان في فكره وكتاباته كلّها. فنراه يسعى من خلال كل ما يكتبه إلى “تهذيب” فكر وأخلاق وسبل حياة الإنسان، وبهذا المعنى فهو قريب جدًا من منهج الفيومي ابن عصره وابن مدينته. لن يكون هذا مفاجئًا لنا إذا أدركنا أن التوجّه العام للفيومي يقوم على فرضية أساسية مفادها أن الإنسان هو محور الخليقة وغايتها، فكل ما عداه أدوات لخدمته. وفيما يلي مقتطفات صريحة لهذه الفكرة المركزية في فكره والمستندة كذلك إلى الكتاب اليهودي المقدّس:

  • “إنَّ الإنسان لا يفعل شيئًا إلّا وهو مختار لفعله، إذ لا يجوز أن يفعل مَن لا اختيار له ولا مَن ليس هو مختارًا” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 4).
  • “عرّفنا ربّنا على يد أنبيائه أنه فضّل الإنسان على جميع خلقه “واستولوا على سمك البحر وطائر السَّماء” (التكوين 1: 28)، وعلى ما قال في مزمور: “الَّلهُمَّ يا سيِّدنا ما أعظم اسمك في جميع الأرض” (المزامير 8: 2) إلى آخره؛ وأنه أعطاه القدرة على طاعته ووضعها بين يديه وضعًا ومكّنه وخيّره وأمره أن يختار الخير […] ثمَّ نظرنا بصناعة النظر بما ذا شرّفه فوجدنا وجه تشريفه بالحكمة التي جعلها له وعلّمه إيّاها كما قال: وإنْ سألك الحيوة أعطيتها له، المُعلِّمُ الإنسانَ المعرفة (المزامير 21: 5؛ 94: 10)، فهو بها يحفظ كلّ شيء ماضٍ من الأفعال، وبها ينظر في كثرة من العواقب التي تأتي، وبها يصل إلى تسخير الحيوان ليفلحوا له الأرض وينقلوا إليه غلًاتها، وبها يصل إلى استخراج الماء من عمق الأرض حتى صار على وجهها بل صنع له النواعير التي تستسقى منها، وبها يصل إلى بناء المنازل السريّة ولباس الثياب الفاخرة وإصلاح الأطعمة اللذيذة، وبها يصل إلى قود الجيوش والعساكر وتدبير المَلِك والسلطان حتى انضبط الناس وتسقّموا، وبها يصل إلى علم هيئة الفلك ومسير النجوم ومقادير أجرامها وأبعادها وسائر أحوالها، فإنْ توهّم متوهّم أنَّ المفضَّل هو شي غير الإنسان فليُرِنا هذا المُفضَّل أو بعضه بغيره وذاك كلًا لا يجده فبحقّ أن يكون الإنسان المأمور والمُنهى والمُثاب والمُعاقب إذ هو قطب العالم وقاعدته كقوله: “إنَّ لله أركان الأرض” (صموئيل الأول 2: 8)، وقال: “والصَّالح أساس العالَم” (الأمثال 10: 25). فلمّا تبيّنتُ هذه الأصول وما يتفرّع منها علمتُ أنَّ تشريف الإنسان ليس هو وهمًا وقع في نفوسنا ولا ميل ملنا به إلى محاباته ولا إيثار حملنا وعجب وصلف أن ندّعيه لأنفسنا إلًا حقّ صحيح وصدق مبين. ولم يشرّفه الحكيم بهذا الأمر إلًا لأنه جعله موضعًا لأمره ونهيه، كما قال: “ثمَّ قال للأدميّين إنَّ تقوى الله هي أيضًا حكمة والزوال عن الشرّ فهم أيضًا” (أيوب 28: 28)” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 4).

برغم اهتمام الفيومي بالتدريس وتوفير طلبة علم يهود في عصره، إلّا أن سلسلة الطلّاب هذه لم تستمر لفترة طويلة، بل نراها تتضاءل شيئًا فشيئًا بعد مماته، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى إغلاق مدرسته الدينية في منتصف النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي. أما بعد انتقال مركز العلوم اليهودية إلى أوروبا، بدءًا من القرن الحادي عشر الميلادي، وترجمة بعض نصوص الفيومي إلى العبرية، نشهد أنها نقلت من خلال قوالب لغوية وأدبية يهودية تقليدية، لعدم قدرة اللغة العبرية في حينه على نقل العالم الفكري والثقافي باصطلاحاته وتوجّهاته الغنية التي شاعت في الحواضر الإسلامية.

صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ

تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم في العصور الوسطى.

صورة الأرض ‏ل‏لشريف الإدريسي، نسخة 1951، مجموعة عيران لئور للخرائط، المكتبة الوطنية

صورة الأرض ‏ل‏لشريف الإدريسي، نسخة 1951، مجموعة عيران لئور للخرائط، المكتبة الوطنية

إيمان الأنصاري

لقب بالصّقليّ لأنّه اتّخذ جزيرة صقلية موطناً له بعد سقوط الدّولة الإسلاميّة. ولقب بسطرابون العرب نسبة للجغرافيّ الإغريقيّ الكبير سطرابون. هل عرفتم من هو؟ إنّه أطلس العرب، العالم المسلم الجغرافيّ الكبير “أبو عَبد الله مُحَمَّدٌ بن مُحَمَّدٌ الإِدْرِيسي الْهَاشِمِيّ الْقُرَشِيّ“. يا تُرى لماذا ننسبه إلى الغرب؟ وهو الرّائد في مجاله؟ لماذا ننسبه إلى صقلية وهو ابن المغرب؟ لماذا نلقبه بسطرابون العرب وهو أوّل من رسم خرائط دقيقة، وقام بإعادة تحديد خطوط الطّول والعرض، وهو من مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة وأوّل من صمّم مجسم الكرة الأرضيّة ورسم خارطة العالم. بصراحة القائمة بوصفه تطول، وتأثيره حتى يومنا هذا يجول، هل تودون معرفة المزيد عنه؟

فلنتحدث بداية عن نسبه، لُقب بالشّريف الإدريسيّ نسبة إلى سلالة الأسرة الإدريسيّة العربيّة المغربيّة التي ينتهي نسبها إلى النبي محمد ﷺ، وقد حكمت المغرب ما بين 788 م – 974 م. وُلد الشّريف الإدريسيّ عام 1100 م في سبتة (المغرب سابقًا) واليوم هي تحت حكم إسبانيا وتُوفي عام 1165 م. بالإضافة لكونه جغرافيًّا، كتب في الأدب والشّعر والنّبات ودرس الفلسفة والطّب والنّجوم في قرطبة لذلك لُقب أيضا بالقرطبيّ. اشتهر بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” الذي ألفه بناءً على طلب الملك النّورمانيّ روجر الثّاني ملك صقلية، لذلك سُمي أيضا ب “كتاب روجر”، ويُعتبر أحد أهم الأعمال الجغرافيّة في العصور الوسطى. حيث قام الإدريسيّ بجمع كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته في هذا العمل، ويحتوي أيضًا على عدّة خرائط لكل العالم، ومعلومات عن المدن الرئيسيّة، وقد بقي مرجعًا لعلماء أوروبا لمدة تزيد عن 300 سنة.

في فترة الملك النورمانيّ كانت العلاقات الإسلاميّة والمسيحيّة في أوجها، وُلد روجر الثّاني عام 1095 م، وكان مهتمًا بعلوم الجغرافيا، ولم يكن راضيًّا وقتها عن الأوصاف للأرض في وقته، فقد كانت لديه خريطة مستمدة من أهم اثني عشر عملًا موجودة في وقته والتي أظهرت أنها تناقض بعضها البعض في كل مكان تقريبًا. فقرر أن يبدأ مشروعًا به وصف مفصّل للأرض والمعالم الجغرافيّة في ذلك الوقت، لذلك استعان بأفضل جغرافيّ كان في زمانه وهو الشّريف الإدريسيّ.

بعد سقوط دولة المرابطين الإسلاميّة، اختار الإدريسيّ الانتقال إلى صقلية بعد سقوط الحكومة الإسلاميّة، لأن الملك النورمانيّ في ذلك الوقت «روجر الثّاني» كان مُحبًّا للمعرفة، فدعاه للبقاء معه مشيرًا إلى أنّه ينحدر من عائلة الخلفاء السّابقة، وسيشعر الخليفة الجديد بالرّيبة بسبب بقاءه في البلاد، ووعده بالاعتناء به. فكانت له مكانة كبيرة عند الملك روجر الثّاني، حتى أنّه كان يقوم لتحيّته بإجلال عند لقاءه. فعمل الادريسيّ على مشروع استجواب الرّحالة بشكل فرديّ أو جماعيّ بمساعدة المترجمين الفوريين للمسائل الجغرافيّة المختلفة لمدة 15 عامًا بدون انقطاع، فمثلًا سأل الرّحالة عن المسافات بين مواقع الأماكن وفقًا لخطوط الطّول والعرض. والأجوبة التي تمّ الاتّفاق عليها قد ثبتت في عمله، والمعلومات التي عليها خلاف ذلك تمّ استثنائها.

تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم لمدّة تزيد عن 300 سنة في العصور الوسطى. حيث جمع به كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته، ووصف المدن ورسم خرائط دقيقة أظهرت كافة التضاريس من بحار، وأنهار، وجبال بدقة، ورسم كذلك خطوط الطّول والعرض. ويلاحظ أن الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النّصراني. وقد رسمها بناء على طلب ملك صقلية روجر الثّاني الذي كان مهتمًّا بالعلم والمعرفة. في الكتاب هناك أيضا معلومات تاريخيّة، وثقافيّة، ودينيّة مهمّة. بفضل الإدريسيّ وخارطته أصبحت صقلية وجهة جذابة للدّراسة والاستكشاف. جمع أجزاء الخارطة المتفرقة المستشرق الألمانيّ كونراد ميلر باللغة اللاتينية في سنة (1926-1931) م. يمكنكم الاطلاع عليها هنا في فهارس المكتبة الوطنية، وأعادها إلى أصلها العربيّ الأستاذ محمد بهجة والدّكتور جواد علي عضوا المجمع العلميّ العراقيّ، ويمكنكم الإطّلاع عليها هنا.

على الرّغم من أنّ عمر الخارطة يتجاوز ال 800 عامًا، وهي خارطة ثريّة بحيث تحتوي على 2064 اسم مدينة، (في أفريقيا 365، في أوروبا 740، في آسيا 959 اسم مدينة)، من بينها تقريبًا جميع المدن المزدهرة والمكتظة بالسّكاّن في أفريقيا، لا يزال من الممكن التّعرف على الكثير من المدن وتحديدها حتّى اليوم بالرّغم من اندثار العديد منها. لم تنجو الخريطة كخريطة كليّة، ولكن يمكن العثور عليها في أجزاء من الكتب، حيث تتكوّن من 70 ورقة فرديّة. تتكون الخارطة في الأصل من 7 طبقات أفقيّة، تسمى الأقاليم السّبعة (أي الأماكن التي تقع على نفس خطّ العرض الجغرافيّ)، وقسّم كل إقليم إلى عشرة أقسام متساوية، ورسم لكل قسم خريطة، وبذلك تنقسم الخريطة بأكملها إلى 70 قسمًا.

 

صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ
صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ

أما في هذه الصّورة أعلاه تمّ رسم هذه الخارطة بالمقلوب! أي أنّ اتّجاه الجنوب هو في الأعلى والشّمال إلى الأسفل، رسمها الشّريف الإدريسيّ القرشيّ إلى ملك صقلية روجر الثّاني. وفي هذا المقطع من الخارطة يظهر العالم العربيّ والشرق الأوسط. يلاحظ أنّ الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النصرانّي. في هذا القسم من الخارطة، تظهر شبه الجزيرة العربيّة بشكل واضح، وأيضًا بإمكاننا أن نرى بلاد الشّام، وفلسطين، والقدس، وممكن بوضوح رؤية بحيرة طبرية، والبحر الميت، ونهر الأردن.

بعدما تعلمنا عن الادريسيّ، وفهمنا دوره الكبير في تطوير علم الجغرافيا؛ إذ كان للعرب إنجازات وإسهامات في تطوّر العلوم والمعرفة، فلولاها لما وصل العالم إلى ما هو عليه اليوم من التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ. لن ننسى دور الإدريسيّ في الجغرافيا، ودور الخوارزميّ في الرياضيات، ودور ابن الهيثم في العلوم، وغيرهم من العلماء العرب والمسلمين. وبطبيعة الحال، كان هناك دورًا للأمم السّابقة في بناء الحضارات، فالحضارة الإنسانيّة عبارة عن سلسلة، كل أمّة من الأمم تُضيف حلقة في هذه السّلسة، فالاكتشافات والاختراعات الحديثة لا تُجيّر إلى الحضارة الغربيّة المعاصرة، لأنها بنت علومها على علوم الأمم السّابقة.

قائمة المراجع:

Erläuterungen zu der von K. Miller, Stuttgart, 1928 zum erstenmal herausgegebenen grossen farbigen Weltkarte des Idrisi.

Miller, Konrad. Mappae Arabicae – arabische Welt-und Länderkarten.  Band I/II. Die Weltkarte des Idrisi vom Jahr 1154. Stuttgart : Selbstverlag, 1926.

Idrisi map – German – w 106 – 990025938860205171
Idrisi map – Arabic – w 106.1 – 990043688830205171

السبت: يوم مبارك ومقدّس ويوم عطلة

السبت هو يوم مبارك ومقدّس ويوم استراحة وعطلة من جميع الأعمال في الديانة اليهودية، ويرمز إلى عقيدة الخلق في ستة أيام.

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – القرنان 16-17م، صفحة من صدر الكتاب

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – القرنان 16-17م، صفحة من صدر الكتاب.

يعتبر يوم السبت يومًا مميزًا في اليهودية على ثلاثة مستويات، فهو اليوم الوحيد في التوراة الذي باركه الرّب وقدّسه وفرضه كيوم عطلة. نقرأ في التوراة: “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه” (التكوين 2: 3، وكذلك نقرأ في سفر الخروج 20: 11). أما على المستوى الثالث، فقد أمر الرّب عطلة في يوم السبت، بمعنى أنه يوم يتمتّع بحرمة، مثلما نقرأ: “وأما اليوم السابع فهو “سبت للرّب إلهك، لا تصنع فيه عملًا ما” (الخروج 20: 8-9)؛ وقد أكّد الفقهاء اليهود على طول العصور على ذلك ووضعوا الأنظمة والصلوات والتسابيح التي تؤكّد على ذلك.

توراتيًا، تعتبر فريضة الحفاظ على حرمة السبت وقدسيته إحدى أهم الشرائع المفروضة على كل يهودي (وعددها 613 فريضة) كما نقرأ في أسفار التوراة وأدب الفقهاء السلف. وردت هذه الفريضة بداية ضمن قائمة الوصايا العشر (الخروج 20)، وذكرت مرات عديدة في بقية الأسفار. ولكن متى يبدأ وينتهي اليوم في اليهودية؟ وفق تقسيم اليوم فقهيًا، ينتهي النهار ويبدأ اليوم الجديد فترة قصيرة بعد غروب الشمس عند الشفق، وهو أول ظلمة الليل بعد الغروب، ويبدأ الليل عند الغسق وهو أول ظلمته، وكل هذا يعود إلى قصة خلق آدم المخلوق في فترة زمنية يطلق عليها الفقهاء تعبير “بين الشموس”، والمقصود بها الفترة التي تفصل بين الشفق والغسق، وهو بداية اليوم. فالسبت يبدأ إذًا منذ لحظة الغسق وينتهي في الشفق بعد غروب الشمس بعد النهار التالي.

على سبيل المثال، نقرأ في سفر الخروج: “اذكر يوم السبت لتقدّسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرّب إلهك. لا تصنع فيه عملًا ما” (20: 8-9)؛ “سبوتي تحفظونها … فتحفظون السبت ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدّس للرّب … فيحفظ بنو إسرائيل السبت” (31: 13- 16)؛ “ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدّس للرّب … لا تشعلوا نارًا في جميع مساكنكم يوم السبت” (35: 2- 3).

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – 1914، اليمن
مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – 1914، اليمن

 

كتاب المشنا (ترجمة متن التلمود)
كتاب المشنا (ترجمة متن التلمود)

ولكن، لا تكتفي أسفار التوراة بذكر الفرض فقط، بل تزيد وتشير إلى علّته وسببه والفائدة منه والحكم المفروض على كل يهودي ينتهكه. نقرأ في سفر التكوين أن قدسية يوم السبت نابعة من حقيقة أن الرّب قد “استراح”، أو أنهى عملية الخلق، في اليوم السابع (السبت): “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا (التكوين 2: 3). كما ونقرأ في سفر الخروج كذلك أن حرمة السبت وقدسيته نابعة من عدة أسباب وعلل أخرى. الأول، أنه علامة بين الرّب وبني إسرائيل تفيد “إني أنا الرّب الذي يقدّسكم” (الخروج 31: 13)، بمعنى أن الرّب قد جعل السبت علامة لتقديس الرّب لبني إسرائيل؛ ويضيف في الثاني والثالث سببين إضافيّين غير مرتبطين بقدسية بني إسرائيل ويفيدان الإطلاق، الثاني: لأنه يوم “مقدّس لكم” (31: 13)، والثالث لأنه “مقدّس للرّب” (35: 2)، بمعنى “إنه سبت للرّب” (اللاويّين 23: 3؛ التثنية 5: 14)، كما ونقرأ في سفر النبي إشعياء اصطلاحين يفيدان نفس هذا المعنى: “يوم قُدسيومقدّس الرب” (إشعياء 58: 13). أما السبب الرابع، وهو السبب الأول المذكور في التكوين، فيفيد معنى آخر مختلفًا تمامًا: “اذكر يوم السبت لتقدّسه … لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت وقدّسه” (الخروج 20: 8- 11)، وكذلك: “لأنه في ستة أيام صنع الرّب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفّس” (الخروج 31: 17). ونقرأ في موضع آخر إضافة سبب خامس مفاجئ يختلف كليًا عن جميع الأسباب السابقة ومفاده أن فرض الحفاظ على قدسية السبت نابع من تحرير أبناء إسرائيل من عبودية مصر بقوة شديدة: “احفظ يوم السبت لتقدّسه كما أوصاك الرّب إلهك … واذكر أنك كنت عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة، لأجل ذلك أوصاك الرّب إلهك أن تحفظ يوم السبت” (التثنية 5: 12- 15).

 

تتجسّد قدسية السبت وحرمته في الامتناع عن ممارسة بعض الأعمال، وعددها 39 عملًا، وهي الأعمال المقابلة لتلك الأعمال التي نفّذت في بناء هيكل سليمان (الخروج 31)، ويطلق عليها السلف تعبير “أمّهات الأعمال” ومنها تتولّد أعمال إضافية. وتشمل هذه الأعمال جميع أنواع العمل المعتمدة في الزراعة، من غرس وزرع وحصاد وقطف للثمار وتقليم للأشجار وحرث للأرض ودرس للحبوب وتنقيتها وغيرها الكثير؛ والأعمال المخصّصة لصناعة الملابس والأقمشة بجميع تفاصيلها؛ وكذلك الصيد والذبح وكل الأعمال المرافقة لذلك من سلخ وتنظيف وغيرها؛ وإشعال النار وإخمادها؛ والطبخ وكل ما يتخلّله؛ والسفر؛ والخروج من حيّز المدينة، كما تخبرنا مجاميع الأحكام (المشناه، السبت 7ب؛ موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها (سفر همتسڤوت)، الفريضة رقم 329، وهي الفريضة 24 بحسب ترتيبها في التوراة).

أما العقوبة التوراتية المفروضة على منتهك حرمة السبت وقدسيته فهي القتل بصورة صريحة: “فتحفظون السبت لأنه مقدّس لكم، من دنَّسه يقتل قتلًا. إن كل من صنع فيه عملًا تقطع تلك النفس من بين شعبها … كل من صنع عملًا في يوم السبت يقتل قتلًا” (الخروج 31: 14- 15). أما الحاخامات السلف فقد بدّلوه بعقاب تقديم الأضاحي للتكفير عن هذا الاثم (المشناه، السبت 7أ؛ بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها، الفريضة رقم 320، وهي الفريضة 32 بحسب ترتيبها في التوراة)، وذلك لأنهم اعتبروا أن انتهاك حرمة السبت يتم “سهوًا” لا “قصدًا”.

لاهوتيًا، تتعقّد مسألة تقديس السبت بعض الشيء، ولطالما بدأ النقاش بالتساؤل الأساسي حول تقسيم الأفعال: فمنها فعل عبث الذي لا يُقصد منه أي غاية؛ وفعل اللعب هو ذلك الفعل الذي لا يُقصد به أمرًا ضروريًا أو مفيدًا؛ والفعل الباطل هو الفعل الذي يقصد به فاعله غاية ما ولكنها لا تتحقّق؛ أما الفعل الأخير فهو “الفعل الجيد الحسن”، وهو “الفعل الذي يفعله فاعله لقصد غاية شريفة، أعني ضرورية أو نافعة، وتحصل تلك الغاية”، كما جاء عند بن ميمون. ويخبرنا بن ميمون كذلك قائلًا: “إنه لا يتّسع لذي عقل أن يقول إن شيئًا من أفعال الله باطل أو عبث أو لعب”، ويضيف أن المؤمنين بشريعة موسى يرون أن جميع أفعال الرّب “كلّها جيدة حسنة جدًا، [فقد] قال: “ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جدًا” (التكوين 1: 31). فكل ما فعله تعالى من أجل شيء، فإن ذلك الفعل ضروري في وجود ذلك الشيء المقصود أو مفيد جدًا … وهكذا هو أيضًا الرأي الفلسفي أن ليس في الأمور الطبيعية كلّها شيء على جهة العبث” (موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، طبعة حسين آتاي، الجزء الثالث، الفصل 25، ص 565- 567). وينتهي بن ميمون، وهو يعكس توجّه التفسير الذي يرد في تراث السلف والمتأخرين على حد سواء، إلى أن الشرائع الإلهية جميعها تبتغي غاية ما وهي حسنة وجيدة: “إن كل أمر ونهي منها تابع لحكمة أو المقصود به غاية ما؛ وأن الشرائع كلّها معلّلة، ومن أجل فائدة ما شرع بها؛ أما كونها كلّها لها علّة ونحن نجهل علل بعضها، ولا نعلم وجه الحكمة فيه، فهو مذهبنا كلّنا الجمهور والخواص”. أما غاية الشريعة جميعها فهي صلاح نفس الإنسان وصلاح جسمه (المرجع السابق، الفصل 26، ص 570- 571؛ الفصل 27، ص 575).

بخلاف الرأي الخاطئ الشائع بين العامة الذي يعاين السبت من خلال اصطلاحات الجهد المبذول، أي أن السبت مقدّس بمعنى أنه يحرم على المؤمن اليهود أن يبذل أي جهد، والحقيقة أنه يمكن أن نستشفّ ذلك من خلال السياقات التي تذكر قدسية السبت في التوراة، فإن جوهر التحريم سببه، وفق التراث الطويل من التفسيرات وتعليقات الفقهاء على مدار مئات السنين، أن يكون المؤمن سببًا في إحداث تغيير ما طيلة يوم السبت. على سبيل المثال، لماذا يحرّم إشعال أو إخماد النار، أو تشغيل الكهرباء، أو الطبخ، أو فتح قارورة كانت محكمة الإغلاق في السبت؟ لا بسبب ضرورة بذل جهود معينة لتنفيذها، بل لأن أي من هذه الأفعال يتسبّب في إحداث تغيير وبداية سيرورة، كذلك الأمر بخصوص الطبخ والزراعة والعمل بالقماش وغيرها. وبمفهوم معين، فإن هذا التحريم يفرض مشابهة بين فعل الإنسان وفعل الرّب عند خلقه الكون، فكما أن الرّب عمل وأبدع طيلة ستة أيام وفي اليوم السابع “استراح”، بمعنى التوقّف عن الخلق، لا بمعنى الراحة الجسدية الصادرة عن بذل جهد، كذلك يجب على اليهودي أن يفعل. ومن خلال “عطلة” أو “استراحة” المؤمن في السبت، فإنه يعود بذلك على قصة الخلق مرة تلو الأخرى، كما ويعود ويؤكّد كل أسبوع من جديد على أن الرّب خلق الدنيا في ستة أيام وأنه لم يكن فكان من لا شيء قبله. فالسبت تذكرنا من هو خالق العالم. وقد عبّر النبي سليمان عن هذا “التذكير” حين قال “إنْ وُجد شيء يقال عنه: انظر، هذا جديد!، فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا” (سفر الجامعة 1: 10). فكل ما “يكتشفه” الإنسان إنما كان قائمًا منذ الخلق، ولكن الإنسان يعثر عليه ليس إلّا. فقوة الكهرباء وموجات الراديو وقوة الجاذبية وكذلك الإنترنت وأشعة الليزر كانت قائمة في الخليقة، ولكن ما يفعله الإنسان أنه يعثر عليها فقط. فكل شيء قد خُلق في ستة أيام الخليقة. وحين يعمل الإنسان على مدار ستة أيام ويستريح يوم السبت فهو إنما يتشبّه بالخالق ويصبح بمثابة “خالق” صغير، كما وأنه حين يتوقّف عن عمله يوم السبت فإنما يؤكّد بذلك على أنه ليس “سيّد” العالم بل هو منصاع إلى سلطان الكون.