في عالَمِ العُلوم الإسلامية المتنوعة التي ازدهرت في العصور الوسطى، يَظهرُعِلم التَّنجيم، ممزوج بالجدل تارة وبالانبهار تارة أخرى. ورفض علماء بارزون مثل ابن تيمية هذا العلم و حذروا منه باعتباره علماً زائفاً ومحفولاً بالسيئات. كما ونال انتقادات شعبية كبيرة نظرًا لاختلافه عن علم الفلك، الذي يراقب حركة الأجرام السماوية فقط دون الخوض في تَفسيرها. أما علم التنجيم فتجاوز ذلك بربطه بين الأجرام السماوية و ساكني الكرة الأرضية. في هذا المجال بَرَزَ أبو معشر البلخي كواضعٍ لحجر الأساس لعلم النجوم والكائنات السماوية .
ينحدر أبو معشر من مدينة بلخ بأفغانستان، ويعدٌّ من أحد أشهر علماء الرياضيات والفلك المسلمين في التاريخ الإسلامي. قادته رحلته الفكرية إلى كشف أسرار الكون، ومزج علم الكونيات اليوناني مع رؤاه الحكيمة. تُرجمت الكثير من أعماله إلى اللغة اللاتينية، واشتهر في أوروبا في علم الفلك، كما ألَّف الكثير من المؤلفات في الرياضيات، وأحوال المناخ وغيرها. ومن الجدير بالذكر أن عمله المحوري “المدخل الى علم أحكام النجوم” أظهر فهمه العميق للديناميكيات السماوية، مما جعله شخصية رئيسية في استكشاف الكون في العصور الوسطى. تدعونا مساهمات أبو معشَر إلى التَّعمق في تعقيدات السيمفونية السماوية التي فك شفرتها ببراعة.
انظروا في موقع المكتبة الوطنية: تاريخ العلوم عند المسلمين
النّجوم وتأثيرها علينا
نُشر “المدخل الى علم أحكام النجوم” عام 850 ميلادية، وهو بمثابة شهادة على تراث أبي معشر الفريد. يتألف الكتاب من ثمانية أقسام بفصول متعددة، وشكَّلَ دَليل شامل لمختلف جوانب علم الَتنجيم. ومن الجدير بالذكر أنَّه يَشرح تأثير القمر على حركتي المد والجزر، مما اكتسب مكانته كمرجع محوري خلال عصر العصور الوسطى. علاوة على ذلك، فهو بمثابة كتاب تمهيدي مضيء في علم التنجيم، حيث يوضح المبادئ الأساسية التي شكلت الأحكام الفلكية.
أَيَّدت وِجهَةُ نظر أبو معشر حقيقة مقبولة على نطاق واسع وهي أن الأرض، أو العالم المادّي، هي النقطة المركزية في الكون. في هذا النموذج، تنبثق سلسلة من المجالات الضوئية مُتَّحدة المركز إلى الخارج، وكل مجال مرتبط بشكل دقيق بكوكب معين. وقد تميزت هذه المجالات بحركتها، وتَكَوُّنِها من مادة أثيرية غير مادية فريدة، مما أضاف طبقة من التعقيد إلى البنية الكونية التي تصورها أبو معشر.

بالنّسبة لهذا العالِم الفريد، فإن الأجرام السّماوية والنجوم والكواكب لها تأثير عميق من خلال الدفء أو الضوء الذي تبعثه. ويؤكد أن هذا التأثير يمتد إلى كل ما يتواجد على الأرض بما فيها نحن ، مما يُنبأ بالتغيرات والتحولات على الأشخاص وحياتهم. ويوضح منظوره الفريد الدور المزدوج للأجرام السماوية، فَهُم يَجمعون بين الجانب المادي (الشكل) والجزء الروحي، مما يخلق توازنًا بين الجسد والأرواح، و يُشَّكل هذا الاتصال حلقة وصل بين السماء والأرض. ونتيجة لذلك فإن الكائنات الموجودة على الأرض تتغير وتتحول وفقاً لحركة هذه الأجرام.

يدّعي أبو معشر على سبيل المثال بأن حركة الأجرام السماوية قد تساعد بالاستدلال على جنس الجنين في بطن الحامل وطباع وصفات أشخاص يعيشون في بقعة جغرافية معينة، كما تحدد طبيعة الكائنات على الأرض من جماد أو انسان أو حيوان.
وبينما نَكشِفُ النّقاب عن السيمفونية السماوية التي ألفها أبو معشر، لا يسع المرء إلا أن يفكر في الجدل الدائر حول علم التنجيم. هل التأثير الكوني الذي يصفه ببلاغة له ثقل في نسيج حياتنا، أم أنه مجرد نتاج للخيال القديم؟
