الجسر بَين الأرض والسماء: مدخل أبو معشر التَّنجيمي

تكشِفُ المقال عالمَ التنجيم من خلال عُيون العالم الإسلامي أبو معشر، وكيف تؤثر النجوم والكواكب على الأرض وتتجلى في حياة البشر.

715 537 2

مخطوطة المدخل الى علم أحكام النجوم، 1508، متوفرة بالمكتبة الوطنية.

 

في عالَمِ العُلوم الإسلامية المتنوعة التي ازدهرت في العصور الوسطى، يَظهرُعِلم التَّنجيم، ممزوج بالجدل تارة وبالانبهار تارة أخرى. ورفض علماء بارزون مثل ابن تيمية هذا العلم و حذروا منه باعتباره علماً زائفاً ومحفولاً بالسيئات. كما ونال انتقادات شعبية كبيرة نظرًا لاختلافه عن علم الفلك، الذي يراقب حركة الأجرام السماوية فقط دون الخوض في تَفسيرها. أما علم التنجيم فتجاوز ذلك بربطه بين الأجرام السماوية و ساكني الكرة الأرضية. في هذا المجال بَرَزَ أبو معشر البلخي كواضعٍ لحجر الأساس لعلم النجوم والكائنات السماوية .

 ينحدر أبو معشر من مدينة بلخ بأفغانستان، ويعدٌّ  من أحد أشهر علماء الرياضيات والفلك المسلمين في التاريخ الإسلامي. قادته رحلته الفكرية إلى كشف أسرار الكون، ومزج علم الكونيات اليوناني مع رؤاه الحكيمة.  تُرجمت الكثير من أعماله إلى اللغة اللاتينية، واشتهر في أوروبا في علم الفلك، كما ألَّف الكثير من المؤلفات في الرياضيات، وأحوال المناخ وغيرها. ومن الجدير بالذكر أن عمله المحوري “المدخل الى علم أحكام النجوم” أظهر فهمه العميق للديناميكيات السماوية، مما جعله شخصية رئيسية في استكشاف الكون في العصور الوسطى. تدعونا مساهمات أبو معشَر إلى التَّعمق في تعقيدات السيمفونية السماوية التي فك شفرتها ببراعة.


انظروا في موقع المكتبة الوطنية: تاريخ العلوم عند المسلمين

النّجوم وتأثيرها علينا

نُشر “المدخل الى علم أحكام النجوم” عام 850 ميلادية، وهو بمثابة شهادة على تراث أبي معشر الفريد. يتألف الكتاب من ثمانية أقسام بفصول متعددة، وشكَّلَ دَليل شامل لمختلف جوانب علم الَتنجيم. ومن الجدير بالذكر أنَّه يَشرح تأثير القمر على حركتي المد والجزر، مما اكتسب مكانته كمرجع محوري خلال عصر العصور الوسطى. علاوة على ذلك، فهو بمثابة كتاب تمهيدي مضيء في علم التنجيم، حيث يوضح المبادئ الأساسية التي شكلت الأحكام الفلكية.

أَيَّدت وِجهَةُ نظر أبو معشر حقيقة مقبولة على نطاق واسع وهي أن الأرض، أو العالم المادّي، هي النقطة المركزية في الكون. في هذا النموذج، تنبثق سلسلة من المجالات الضوئية مُتَّحدة المركز إلى الخارج، وكل مجال مرتبط بشكل دقيق بكوكب معين. وقد تميزت هذه المجالات بحركتها، وتَكَوُّنِها من مادة أثيرية غير مادية فريدة، مما أضاف طبقة من التعقيد إلى البنية الكونية التي تصورها أبو معشر.

Inkeddedupmrg743571072 Ie214210895 Fl214211260 Li
مخطوطة المدخل الى علم أحكام النجوم، 1508، متوفرة بالمكتبة الوطنية


بالنّسبة لهذا العالِم الفريد، فإن الأجرام السّماوية والنجوم والكواكب لها تأثير عميق من خلال الدفء أو الضوء الذي تبعثه. ويؤكد أن هذا التأثير يمتد إلى كل ما يتواجد على الأرض بما فيها نحن ، مما يُنبأ بالتغيرات والتحولات على الأشخاص وحياتهم. ويوضح منظوره الفريد الدور المزدوج للأجرام السماوية، فَهُم يَجمعون بين الجانب المادي (الشكل) والجزء الروحي، مما يخلق توازنًا بين الجسد والأرواح، و يُشَّكل هذا الاتصال حلقة وصل بين السماء والأرض. ونتيجة لذلك فإن الكائنات الموجودة على الأرض تتغير وتتحول وفقاً لحركة هذه الأجرام.

Inked990034839800205171 1 Li
مخطوطة المدخل الى علم أحكام النجوم،1508،متوفرة بالمكتبة الوطنية

يدّعي أبو معشر على سبيل المثال بأن حركة الأجرام السماوية قد تساعد بالاستدلال على جنس الجنين في بطن الحامل وطباع وصفات أشخاص يعيشون في بقعة جغرافية معينة، كما تحدد طبيعة الكائنات على الأرض من جماد أو انسان أو حيوان.

 وبينما نَكشِفُ النّقاب عن السيمفونية السماوية التي ألفها أبو معشر، لا يسع المرء إلا أن يفكر في الجدل الدائر حول علم التنجيم. هل التأثير الكوني الذي يصفه ببلاغة له ثقل في نسيج حياتنا، أم أنه مجرد نتاج للخيال القديم؟

Inkeddedupmrg743571072 Ie214210895 Fl214211252 Li
مخطوطة المدخل الى علم أحكام النجوم،1508،متوفرة بالمكتبة الوطنية

مذكرات خالدة: هدى شعراوي تكشف النقاب عن حياتها.

تعتبرُ مذكراتِ هدى شعراوي مرآةً تعكسُ تفانِيَها لتحقيق المساواة بين الجنسين، وفي هذا المقال، نفك شيفرة رحلتها الملهمة من خلال تجاربها الشخصية.

هدى شعراوي

صورة لهدى شعراوي من Google Arts & Culture

في أواخرِ القرنِ التاسعِ عشر، في عالمٍ تَكتنفه التقاليد ، كان مقدرًا لفتاة صغيرة تدعى هدى شعراوي أن تتحدى الوضع الراهن وتستيقظ على إمكاناتها الحقيقية.

وُلِدَت هُدى فيما يعرفُ بعصرِ الحَريم في مِصر، وهي حِقبة تاريخية تميّزت بالفصل الصارمِ بين الجنسين، حتى داخل المنازل. لدى هدى والدتين اعتزت بهما، والدتها البيولوجية، وزوجة والدها، التي كانت تناديها بـ “ماما الكبيرة” والتي كانت ملجأ و بيت أسرار هدى الصغيرة.

وفي أوقاتِ الأعياد، كان المنزلُ ينبض بالحياة، وتتجمع عائلة هدى بأعداد كبيرة. وكان الأطفال يجلسون على مراتب ناعمة حول فانوسٍ ضخم، لأن الكهرباء كانت لا تزال نادرة في تلك الأيام. و كانت الخادِمات والمربيات يمتعونهم بقصص آسرة من بلادهم، ويقنعونهم بلطف بالنوم مع حلول الليل.

حصلت هدى على تعليم خاصٍ غنيّ، إذ لم يكن يسمح آنذاك بتعليم الفتيات بالمدارس. كان معلموها يعلمونها التركية والفرنسية وكانَ ذكاؤها واضحًا لجميع من عرفها، ولكن كونها فتاة في أواخر القرن التاسع عشر جعلها تواجه واقع التفرقة بين الجنسين.

كان لهدى أخ كبير، اسمه إسماعيل، الطفل الذهبي للعائلة، صبيٌ تلقى حنانَ الجميع. عومل اسماعيل كما لو كان هشًا، جوهرة ثمينة يجب حمايتها بأي ثمن. وفي الناحية الأخرى، غالبًا ما شعرت هدى كشخصية ثانوية في حياة عائلتها. “أحسّت هدى بعداءً تجاه شقيقها مع تقدمها في العمر، اذ تتذكر بوضوح  في مذكراتها عندما لم يُعرها أحدٌ اهتماماً حينَ مرضت بشدة. ومع ذلك، عندما استسلم شقيقها لنفس المَرض بعدَ بِضعة أسابيع، أصيبت الأسرة بأكملها بالجنون. بكت أمهاتها، وسهِرت فرق الأطباء بجانبه باستمرار. لقد تقاسموا نَفس الغرفة، لكن العيون كلها كانت عليه فقط.

في ظلِّ تعطشها للعلم، كانت هدى تتسلل بسريةٍ إلى جلسات تدريسِ شَقيقها الخاصة، وتَلتهم كل قطعة من المعرفة يمكنها الحصول عليها. وعلى الرغم من التفاوتات بينهما، الا أن اسماعيل ظل رفيقها الداعم الحقيقي طوال حياتها.

“أشار الطبيب الذي كان يعالج أخي أن يشتروا له مهرًا صغيرًا ركوب الخيل — وهو إذ ذاك في السابعة من عمره — لأن الركوب رياضة سامية تقوي الجسم وتنشط حركة الأمعاء وفي الوقت نفسه لا تتطلب مجهودًا كبيرًا، فطلبت أنا أيضًا أن يشتروا لي مهرًا لأركب مثله، وحاولوا إقناعي بأن ركوب الخيل لا يليق بالبنات، ولكني دحضت زعمهم هذا بحجة دامغة، فضربت لهم مثلًا بجارتنا ابنة الضابط لمعي بك التي تركب الخيل وتقود عربتها الصغيرة بنفسها، ولما عجزت والدتي عن إقناعي، خيرتني بين الحصان والبيانو، وكانت تعرف ميلي الشديد للموسيقى فنجحت إذ فضلت البيانو على الحصان، قائلة في نفسي: أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخي كلما أردت” (هدى شعراوي في مذكراتها)

عند وَفاة والدها، كانت هدى في الخامسة من عمرها فقط، وكان شَقيقها في السابعة من عمره. والغريب أن العائلة اختارت إخفاءَ خبرِ وفاةِ والدها عن شقيقها لعدة أشهر. كانت هدى هي التي قررت أخيرًا الكشف عن الحقيقة لأخيها، في تلك اللحظة بدأ تحالفهما ضد عالم الكبار.

ولكن عندما بلغت هدى الحادية عشرة من عمرها، تغير العالم من حولها. لقد شاركت طفولتها مع أبناء جيرانها الذكور الذين أصبحوا أصدقاء لها. ومع ذلك، فرضت الأعراف المجتمعية عليها أن تقتصر صحبتها على الفتيات والنساء، وكان هذا التحول مؤلمًا. شعرت هدى وكأنها غريبة عن عالم الفتيات، وعاداتهم ومفاهيمهم مختلفة تمامًا عن تلك التي نشأت معها.

نادرًا ما كانت تغادر نساء مجتمعها المنزل دون إخفاء وجوههن؛ إذ رمز الحجاب انذاك إلى مكانتهم الطبقية العليا، وكان  رمزًا للهوية والتقاليد المصرية آنذاك.

صقلت السنوات الأولى من حياة هدى الشعراوي شخصيتها التّي وصفت بالقوية والعازمة. دفعتها طفولتها غير العادلة في نهاية المطاف إلى تحدي التقاليد الاجتماعية وأن تصبح شعلة للحركة النسّوية في مصر، رحلة ستغير مجرى حياتها وحياة العديد من النساء اللواتي سيتبعنها.


ه
ُدى الثائريين
بدأت رحلة هدى كناشطة في سن مبكرة حين حاولت عائلتها  تزويجها في سن الثالثة عشرة. على الرغم من المقاومة الأولية، وجدت هدى نفسها متزوجة في سن الرابعة عشرة من ابن عمتها. ومع ذلك، كان زواجها قصير المدى بسبب فشل زوجها في الامتثال لالتزامه بالزواج الأحادي. وقد أدى رفضها لهذا الزواج في النهاية إلى مفاوضة مبتكرة: لن تقبل هدى بالزواج إلا إذا وافق زوجها على علاقة أحادية، متحديةً بذلك العرف السائد في تلك الحقبة.

وبدعم من أخيها انطلقت هدى في رحلة اكتشاف ذاتها دون القيود. لاكتساب المعرفة وتمكين النساء، انضمت هدى إلى الصالونات النسائية والأندية الفكرية. إذ سمحت هذه المساحات للنساء بالحوار الفكري وتحدي الأعراف المجتمعية ، بعيدًا عن أعين الرجال.

مع ظهور حركات النسوية في أوروبا، نشأ نفس الوعي في الإمبراطورية العثمانية، ووجدت  هدى نفسها في الصدارة لهذا التحول المجتمعي. أصبحت شخصية بارزة في معركتها من أجل حقوق النساء، سواء في مصر أو على الصعيدين العربي و الدولي. وشاركت في تأسيس الاتحاد النسائي المصري الذي دعى إلى تعزيزِ تَعليم المرأة، وإصلاح عادات الزواج المبكر، وتشجيع الصحة العامة، ومكافحة الخرافات. كما هَدفَ من خلال الدعوة الصحفية إلى نَشر مبادئهم وإنشاء مجتمع أكثر إنصافًا.

صحيفة الدفاع،4 شباط 1944
صحيفة الدفاع،4 شباط 1944

 

في عام 1923، قامت هدى بعملُ جريء بإزالة النقاب عن وجهها في محطة القطار بالقاهرة عند عودتها من المؤتمر الدولي للنساء في روما. أثارت هذه الفعلة فضيحةً ًكبيرة بالطبع، لكن هدى بقيت ثابتة.و مَثَّل عملها تحولًا في فكرة النقاب، اذ لم يعد يُنظر إليه كرمز للامتياز بل للخضوع.

تقرير عن زيارة هدى للبلاد، صحيفة فلسطين، 16 أيلول 1944
تقرير عن زيارة هدى للبلاد، صحيفة فلسطين، 16 أيلول 1944

يستمر إرث هدى شعراوي كشهادة على تفانيها اللاهدأ في النضال لحقوق النساء والتقدم الاجتماعي. ساهمت جهودها في تربية جيل جديد من النساء المتعلمات ليس في مصر بل كافة العالم العربي.

وإن كان من الصعب اختصار فكر هدى الذي يختلف الكثيرونَ إلى الآن معه، نَختم باقتباس لها لعله يلخص ما كانت تؤمن “أن الإنسان ميال بفطرته لتشبهه بمن هو أرفع منه قدرًا، فإذا حاولت المرأة المهضومة الحقوق أن تتشبه بالرجل، فلأنها تراه أرفع منها وأعز سلطانًا في الهيئة الاجتماعية لتمتعه بكل حقوقه. وإن اليوم الذي تصل فيه المرأة إلى حقوقها وتتبوأ مركزها بجانب الرجل، تحتفظ بأنوثتها ومميزاتها كما يحتفظ الرجل برجولته ومميزاته.”

الشقيقتان المصريّتان، ذواتا الهويّة اليهوديّة السرّيّة، اللتان احترفتا الرقص الشرقيّ

تعرّفوا إلى ليلى ولمياء جمال، الشقيقتان المتشابهتان حدّ التطابق، اللتان اجتاحت شهرتهما مصر بحركاتهما الراقصة المثيرة للابتهاج.

الشقيقتان جمال

نُقِل عن “حِن مَلول” من العبرية

ساهم الجنود الأجانب، الذين عجّت بهم المدن المصريّة الرئيسيّة في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، في إحداث العديد من التغييرات في ثقافة الترفيه المحليّة. تمّ افتتاح العديد من الملاهي الليليّة، واستفاد الموسيقيّون والممثّلون والراقصون -ذكورًا وإناثًا- من التعطّش الشديد إلى الترفيه، وكانوا متحمّسين للغاية من أجل توفيره.

كان “قصر الحلميّة”، الواقع في أحد أحياء القاهرة، واحدًا من أفضل وأشهر الملاهي الليليّة في تلك الفترة. لم يكن الترفيه الفنّيّ الذي يقدّمه صاحب هذا الملهى عاديًّا، فالاهتمام بأدقّ تفاصيل الأزياء، وبإطلالات الموسيقيّين الماهرين، وبالتصميم الرهيف للرقصات، جعل من الملهى أرضًا خصبةً لثقافةٍ شرقيّةٍ جديدة.

شكّلت “التوأم جمال” جوهرتا تاج قصر الحلميّة، وهما الراقصتان الشرقيّتان اللتان ابتكرتا أسلوبًا جديدًا في هذا النوع الشرقيّ القديم من الرقص. ومع اقتراب عهد الملك فاروق الأوّل من نهايته، أصبحت الشقيقتان، ليلى ولمياء، أهمّ نجمتين في المشهد الترفيهيّ المصريّ. كان المكان يكتظّ بحشودٍ من الجمهور، وكان العاهل المصريّ من أشدّ المعجبين بهما. لكن، ما سرّ سحرهما الذي أطلق مسيرتهما نحو النجوميّة؟

كان الرقص الشرقيّ المتوسّطيّ أحد اختصاصاتهما. قام الموسيقيّون الذين رافقوا الثنائيّ بالتدريب معهما مرّاتٍ كثيرةٍ وساعات طويلة لخلق التناسق بين الحركات الراقصة والقطع الموسيقيّة المختارة بعناية. أثمرت جلسات التدريب الشاقّة، والتمارين اللانهائيّة، وبروفات الرقص اليوميّة عن نتائج مدهشة. كان أداء الشقيقتين جمال مبهرًا ومبتكرًا، حيث تمايلت الراقصتان في انسجامٍ أخّاذٍ بينهما، يصحبه تناغمٌ آخر تامٌّ بين الرقص والموسيقى.

لم يكن أداؤهما، الذي استخدمتا فيه أيضًا دعائم مسرحيّةٍ عديدة، مجرّد رقصٍ مصدره شرقٌ غريبٌ لم يعتده الجمهور. كانتا قادرتين على صُنْع صورةٍ متناسقةٍ بينهما، كأنّ إحداهما صورة المرآة لجسد الأخرى، ثمّ عَكْس الاتّجاه ببراعةٍ فنّيّة، بينما تحافظان على التعبير المتّقد عن الموسيقى التي كانتا تتحرّكان وفقها. كان التواصل بينهما وبين الموسيقيّين حيويًّا ومثيرًا للجمهور.

لم تكن المواهب الموسيقيّة للشقيقتين جمال مفاجئةً على الإطلاق، إذ كانتا ابنتين لموسيقيَّيْن، وقد تعلّمتا العزف على الآلات الموسيقيّة منذ طفولتهما المبكّرة. كان والدهما، فيشِل ألبرت، عازف كمان في أوركسترا فيّينا السيمفونيّة. ويكشف اسمه عن أصله اليهوديّ إذ انتقل من تشيرنويتز إلى العاصمة النمساويّة، حيث أصبح موسيقيَّا محترفًا. أمّا السبب وراء هجرته إلى مصر في العشرينيّات من القرن الماضي، فغير معروف. وقد يكون ذلك ناجمًا عن الأزمة الاقتصاديّة الكبيرة التي دفعته بعيدًا عن أوروبا، إلى مكانٍ سيحظى فيه على مكانةٍ لائقةٍ ودخلٍ جيّد.

في الإسكندريّة، التقى فيشِل بزوجته جيني (جانين) إلبرت، المغنّية الأوبراليّة ابنة مهاجرين يهوديّين. أسر قبله حضورها الساحر وجمالها الأخّاذ. وُلِدَت ابنتهما الكبرى هيلينا بعد عامٍ واحدٍ فقط من زواجهما، ووُلِدَت شقيقتها الأصغر بيرثا بعد عامين ونصف، في عام 1932.

نشأت هيلينا وبيرثا في بيتٍ موسيقيّ، وتمّ إرسالهما من قبل والدهما ووالدتهما إلى دروس الباليه منذ سنٍّ صغيرة، لكن يبدو أنّ البيئة التي نشأتا فيها أثّرت عليهما كي لا تقتصرا على الدروس المعتادة للباليه الكلاسيكيّ، فبدأت الشقيقتان كذلك في دراسة الرقص المتوسّطيّ، وأُصيب أساتذتهما بالدهشة البالغة عندما كشفتا عن موهبةٍ استثنائيّةٍ في تأدية حركات الرقص الشرقيّ. ولم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تبدآ في تلقّي العروض للظهور أمام الجمهور. وبالنسبة إلى أمّهما، فقد أدّى ذلك إلى تفكيرٍ جدّيٍّ في الموضوع من طرفها، إذ كانت قلقةً بشأن مستقبل ابنتيها الصغيرتين، اللتين لا يتجاوز عمرهما 12 و 14 سنة، واللتين ستجدان أنفسهما في جلبة عالمٍ تراه الأمّ فاسقًا وفضائحيًّا. لكن، من ناحيةٍ أخرى، فقد كان إغراء هذه الفرصة كبيرًا.

ففي تلك الفترة، فقد زوجها مصدر دخله الثابت، وواجهت العائلة مشاكل ماليّة. لم تجرؤ جيني على إخباره عن العروض التي تقدّمها الفتاتان، وقررن أن يبقين الأمر سرًّا بينهن. رافقت الأمّ المتفانية ابنتيها إلى كلّ تمرينٍ وعرض، محافظةً بقوّةٍ على براءتهما. استمرّت بفعل ذلك لسنواتٍ عديدة، حيث رافقتهما أيضًا في رحلاتهما الخارجيّة.

مع ذلك، لم تتمكّن نساء عائلة ألبرت الثلاث من إخفاء سرّهنّ عن ربّ أسرتهنّ لفترةٍ طويلة. فقد أصبحت هاتان الشقيقتان الموهوبتان نجمتين بين ليلةٍ وضحاها، وكان نجاحهما باهرًا حقًّا. وبمساعدةٍ من أمّهما وأساتذتهما، أبدعتا أداءً مبتكرًا يبرز مرونتهما وقدراتهما كراقصتين محترفتين.

اختارت الشقيقتان اسمَيْن فنّيَّين هما ليلى ولمياء (أو: ليز ولين)، واحتاج الاسمان إلى اسمٍ عائليٍّ وقصّةٍ تخفي أصلهما وتجذب اهتمام الجمهور. لذلك، أصبحت هيلينا وبيرثا ألبيرت، ابنتا فيشِل من تشيرنويتز، “التوأم جمال”.

كان الملهى الليليّ “قصر الحلمية” نقطة الانطلاق فقط التي صعدت منها الشقيقتان نحو الشهرة العالميّة. كانت أدوارهما في سلسلةٍ من الأفلام المصريّة قصيرةً للغاية في البداية رغم أهمّيتها للحبكة، ثمّ أصبحت أدوارهما أطول وأكثر أهمّيّةً بسبب الطلب الكبير عليهما من الجمهور. سرعان ما انتشر اسماهما في جميع أنحاء العالم العربيّ. لا يبدو أنهما أنّكرتا ديانتهما اليهوديّة، بيد أنّهما كانتا ناجحتين في إخفاء أصولهما. كانت القصّة المستعملة لذلك مثاليّة، ونستطيع أن نفترض أنّ لا أحد من المعجبين العديدين بهما -في مصر وخارجها- قد أدرك أنّ هاتين الفتاتين لم تكونا عربيّتين.

غيّر الانقلاب العسكريّ في مصر وصعود جمال عبد الناصر إلى السلطة تدريجيًّا الأجواء في البلد، التي أسهمت في السابق في صعود نجم الشقيقتين. تمّت دعوتهما إلى المزيد من العروض خارج بلدهما الأصليّ، وقد حظيتا بشعبيّتهما الأكبر في كلٍّ من سنغافورة والهند.

حظرت الرقابة أحد مشاهد الرقص في واحدٍ من الأفلام الهنديّة التي شاركتا فيه بسبب “عدم الاحتشام”. أصبحت السلطات العسكريّة في مصر متشكّكةً في الرحلات المتكرّرة للأختين جمال، وربّما كان مردّ هذا الشكّ معرفتها بأصولهما اليهوديّة.

في أواخر عام 1957، أثناء جولةٍ ناجحةٍ في الشرق الأقصى، تلقّى والدهما، الذي بقي في القاهرة، برقيّةً مفاجئة. بسرعةٍ كبيرةٍ حذّر الفتاتين، اللتين ترافقهما أمّهما كالعادة، من العودة إلى مصر. فقد أصدرت الشرطة المصريّة أمرًا باعتقالهما، إذ كانتا مطلوبتين للتحقيق معهما بتهمة التجسّس.

لم يكن صعبًا على الشقيقتين جمال أن تعثرا على متعهد حفلاتٍ ليدعوهما إلى تأدية العروض في الولايات المتّحدة. لقد أثارت اهتمامهما أمريكا لفترةٍ من الزمن، واعتبرتاها مكانًا مناسبًا للجوء. كانت لديهما في الوقت الراهن مشكلةٌ واحدةٌ مزعجة: كيف ستتمكّنان من الحصول بسرعةٍ على التأشيرات اللازمة لدخول الولايات المتّحدة؟

في ذلك المساء تحديدًا، حضر وفدٌ من أعضاء الكونغرس الأمريكيّ، كان في زيارةٍ إلى بومباي، إلى الملهى الليليّ حيث كانت فقرة الأختين جمال من ضمن برنامج العروض. كان إعجابهم بأدائهما في فقرة الرقص الشرقيّ لا حدود له. وفي صباح اليوم التالي، كانت تأشيرات الدخول التي أرادتاها بين أيديهما.

بأذرعٍ مفتوحة، رحّب المشهد الفنّيّ النابض بالحياة في الحيّ اللاتينيّ في نيويورك بالشقيتين جمال. اندمجت الطاقة الجديدة، التي جلبتاها معهما من الشرق، بسلاسةٍ مع الاتّجاهات الفنّيّة المختلفة التي كانت تحظى بشعبيّةٍ شديدةٍ في أمريكا في الخمسينيّات. ساهم تعاونهما مع الموسيقيّ إيدي “الشيخ” كوتشاك وفرقته في نجاحهما.

لسوء الحظّ، ليس من الواضح ما الذي دفع الشقيقتان، المعروفتان الآن ببساطة باسمَيْ لين وليز، إلى التخلّي عن مسيرتهما المهنيّة الناجحة. هل كانت والدتهما اليهوديّة هي التي ضغطت عليهما من أجل الزواج بسرعةٍ وترك المجال الترفيهيّ؟

سرعان ما استقرّت الشقيقتان، واحدةً تلو الأخرى، مع زوجين جديدَين، بعد فترةٍ ليست بالطويلة من وصولهما إلى أمريكا. ويبدو أنّ الرجلَيْن اللذَيْن اختارتا مشاركة حياتهما معهما، واللذَيْن كانا رَجُلَيْ أعمالٍ محترمَيْن، لم يكونا معجبَيْن كثيرًا بحياتهما المهنيّة كراقصتين في الملاهي الليليّة.

في غضون وقتٍ قصير، تقلّص جدول عروض الشقيقتين جمال. وقد قامتا بالتعبير عن شغفهما إلى الرقص والموسيقى، الذي لا يزال مشتعلًا داخلهما، من خلال تدريس الرقص الشرقيّ في سياقاتٍ وطرقٍ متنوّعة. وخلال فترة الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، اعتُبِرَت الشقيقتان -لا سيّما ليز- من أكثر المعلّمين احترافيّةً في هذا المجال في الغرب.

توفّيت لين في لونغ آيلاند في عام 1992، وعاشت ليز لسنواتٍ عديدة بعد وفاة شقيقتها، إلى أن توفّيت في عام 2016. كانت قد تزوّجت مرّةً أخرى من رجلٍ يدعى ديفيك ماركس، وهو ناجٍ من المحرقة قَدِمَ إلى البلاد قبل سنةٍ من تأسيس الدولة اليهوديّة على متن قارب الهجرة غير القانونيّة “موليدِت”، ثمّ انتقل فيما بعد إلى أمريكا، حيث حقّق نجاحًا في صناعة الأثاث.

كانت ألبومات الصور والتذكارات والقصص التي تعود إلى أيّام مجد زوجته ليز دائمًا مصدر جذبٍ لديفيد. وكرجلٍ عايش بنفسه تقلّبات الحياة اليهوديّة في القرن العشرين، كان يعتقد أنّ قصّة زوجته يجب أن تشكّل أيضًا قطعةً من الفسيفساء متعدّدة الألوان التي توثّق قصّة الشعب اليهوديّ. وفي نيسان عام 2017، تبرّع بأرشيفها الشخصيّ إلى المكتبة الوطنيّة. ليز، أو بيرثا ألبرت، مستخدمين اسمها الحقيقيّ، سوف ترقص الآن إلى الأبد في أرشيف المكتبة الوطنيّة، وستظلّ قصّة الشقيقتين جمال حيّةً دائمًا.

مخطوطٌ مُقدس أم كتابٌ ملعون؟ سحر شَمس المعارف وتعاليم البوني السرّية

تعمق في هذا المقال أكثر لكشف الحقيقة وراء هذا كتاب "شمس المعارف"، حيث ينطمس الخط الرفيع بين الممارسات الروحية الموقرة والسحر والتنجيم.

جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف

جدول أسماء الملائكة والبروج، مخطوطة شمس المعارف، 1679-1688

يقترن كتاب شَمس المَعارف الشهير باسم كاتبه الأَصلي أحمد البوني الذي تتوفر معلومات محدودة حول أُصوله ووجوده. تشير الروايات التاريخية إلى أن اسمه الكامل ربما كان أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف القريشي البوني، ونشأ في بونا في الجزائر. قضى معظم حياته في شمال أفريقيا، لا سيما مصر، معاصرًا للشخصية الصوفية الشهيرة محي الدين بن عربي. أحمد البوني، الذي وُصف بالساحر في الكثير من الأحيان، كان أكثر من ذلك بكثير.

على الرغم من تسميته بالساحر، كان أحمد البوني بالأساس معلمًا في التصوف، وتأثر بتعاليم ابن عربي. إذ شكل تركيزهما على الجوهر الروحي للتصوف، خاصة القوى السحرية التي تتجلى في حروف اللغة العربية، أساس تعاليمهما.

الآن، دعونا نتحدث عن “شمس المعارف”، الكتاب الأسطوري الذي نُسب إلى البوني. هذه الموسوعة الواسعة في علوم السحر تضم تمائم لجلب الجن والحبيب والرزق وسرّ قوى حروف اللغة العربية. ولكن ها هي اللفتة الفارقة: لم يكن البوني، الصوفي في جوهره، ينظر إلى الكتاب على أنه كتاب سحر بالمعنى المعروف، بل صاغه لجمهور محدد من طلاب التصوف المبتدئين ليعلمهم تعاليمه، بل وحظر نشره للعامة.

لقد كشف هذا الكتاب، الذي يحظى بالتبجيل بسبب رؤاه الروحية ويُخشى بسبب مخاطره المفترضة، عن نسيج غني من الحكمة القديمة.

يعد “شمس المعارف الكبرى” نصًا جوهريًا ضمن علوم السحر والتنجيم، إنه يقع ضمن إطار صوفي تأملي، يستكشف علم الكون المعقد حيث كل شيء مترابط. يتناول الكتاب موضوعات متنوعة، بدءًا من قوى الحروف العربية وارتباطها بالأجرام السماوية والأبراج والملائكة وأسماء الله الحسنى غيرها.

جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688
جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688

 

لا يقتصر النص على تقديم الفوائد الروحية ولكنه يقدم أيضًا تعليمات عملية، بدءًا من تعويذات لجذب الحبيب إلى علاج الأمراض أو حتى تلبية النوايا الخبيثة مثل إيذاء الأعداء. وعلى الرغم من تقديم تعليمات حول كيفية تلبية هذه الرغبات، إلا أن الكاتب يُحَذِّرُ منها، ويُسَلِّط الضوء على العَواقب المحتملة لها في الحياة الآخرة. لذا فهو يعطي تعليمات ولكنه أيضًا يقول “ربما لا ينبغي عليك اتباعها”.

يتعمق المخطوط في العلاقة بين الحروف الأبجدية العربية الثمانية والعشرين ومنازل القمر الثمانية والعشرين، ويربطها بمجالات كوكبية وملائكة محددين. تلعب الأرقام دورًا مهمًا، خاصة في بناء التعويذات باستخدام “الجيماتريا”، أي ربط كل حرف بقيمة عددية معينة واستخلاص قيم للكلمات. كل حرف من الحروف الأبجدية يقابل رقمًا معينًا، فحرف الألف يقابل واحدًا والباء يقابل اثنين، الجيم يقابل ثلاثة، الدال يقابل أربعة وهكذا. وعندما تكتب كلمات باستخدام هذه الحروف، فإن الكلمة ككل لها قيمة عددية أيضًا حيث يتم جمع أرقام الحروف مما يؤدي إلى خلق تعويذات.

يمكن أن تتخذ التمائم أشكال عديدة ولكنها غالبًا ما تتضمن دائرة أو مربعًا سحريًا. على سبيل المثال، لتسخير قوة كوكب المشتري الذي يتمتع بنوع من طاقة الوقاية والحظ، يمكنك إنشاء مربع سحري لذلك، تأخذ الحرف المرتبط بكوكب المشتري دال الذي له القيمة العددية للرقم أربعة. وبذلك تقوم بعمل مربع سحري أربعة في أربعة أي ثماني مربعات ثم تكتب حرف الدال 35 مرة.

على سبيل المثال أيضا، يتم اقتراح علاجات مثل استخدام الماء الممزوج بالحبر، وكتابة كلمات معينة، وإعطاء الماء المنقوع لشخص مريض لحمايته من الحمى الناجمة عن لدغة العقرب. أو كتابة مربعات تحتوي اسم من أسماء الله الحسنى وأرقام معينة لطلب الرزق.

 

تميمة لنيل القبول، مخطوطة شمس المعارف،1688-1679
تميمة لنيل القبول، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688

 

يمكنك أيضًا كتابة التعويذات على قطعة من الحرير الأصفر، من المفضل فعل ذلك أثناء وجود القمر في برج السرطان أو كوكب المشتري.كما يمكن حرق أي بخور ذو رائحة طيبة، إذا فعلت ذلك وحملته معك يعدك الكتاب بتحقيق كل أهدافك ومُرادك من سلطة وشهرة وستحبك النساء أيضًا.

مَع مرور السنين، حظيت تعاليم البوني بالاعترافِ والنقد على حد سواء. رغم تقديرها من قبل العلماء والفلاسفة والمتصوفة، اتُهمت تلك التعاليم في بعض الأحيان بالسحر، مما أثر على قبولها في الفكر الإسلامي التقليدي. لكن كتاباته استمرت في التأثير، وشكّلت تقليدًا سحريًا يتجاوز الزمن يُمارسُ الى الآن.