في أواخرِ القرنِ التاسعِ عشر، في عالمٍ تَكتنفه التقاليد ، كان مقدرًا لفتاة صغيرة تدعى هدى شعراوي أن تتحدى الوضع الراهن وتستيقظ على إمكاناتها الحقيقية.
وُلِدَت هُدى فيما يعرفُ بعصرِ الحَريم في مِصر، وهي حِقبة تاريخية تميّزت بالفصل الصارمِ بين الجنسين، حتى داخل المنازل. لدى هدى والدتين اعتزت بهما، والدتها البيولوجية، وزوجة والدها، التي كانت تناديها بـ “ماما الكبيرة” والتي كانت ملجأ و بيت أسرار هدى الصغيرة.
وفي أوقاتِ الأعياد، كان المنزلُ ينبض بالحياة، وتتجمع عائلة هدى بأعداد كبيرة. وكان الأطفال يجلسون على مراتب ناعمة حول فانوسٍ ضخم، لأن الكهرباء كانت لا تزال نادرة في تلك الأيام. و كانت الخادِمات والمربيات يمتعونهم بقصص آسرة من بلادهم، ويقنعونهم بلطف بالنوم مع حلول الليل.
حصلت هدى على تعليم خاصٍ غنيّ، إذ لم يكن يسمح آنذاك بتعليم الفتيات بالمدارس. كان معلموها يعلمونها التركية والفرنسية وكانَ ذكاؤها واضحًا لجميع من عرفها، ولكن كونها فتاة في أواخر القرن التاسع عشر جعلها تواجه واقع التفرقة بين الجنسين.
كان لهدى أخ كبير، اسمه إسماعيل، الطفل الذهبي للعائلة، صبيٌ تلقى حنانَ الجميع. عومل اسماعيل كما لو كان هشًا، جوهرة ثمينة يجب حمايتها بأي ثمن. وفي الناحية الأخرى، غالبًا ما شعرت هدى كشخصية ثانوية في حياة عائلتها. “أحسّت هدى بعداءً تجاه شقيقها مع تقدمها في العمر، اذ تتذكر بوضوح في مذكراتها عندما لم يُعرها أحدٌ اهتماماً حينَ مرضت بشدة. ومع ذلك، عندما استسلم شقيقها لنفس المَرض بعدَ بِضعة أسابيع، أصيبت الأسرة بأكملها بالجنون. بكت أمهاتها، وسهِرت فرق الأطباء بجانبه باستمرار. لقد تقاسموا نَفس الغرفة، لكن العيون كلها كانت عليه فقط.
في ظلِّ تعطشها للعلم، كانت هدى تتسلل بسريةٍ إلى جلسات تدريسِ شَقيقها الخاصة، وتَلتهم كل قطعة من المعرفة يمكنها الحصول عليها. وعلى الرغم من التفاوتات بينهما، الا أن اسماعيل ظل رفيقها الداعم الحقيقي طوال حياتها.
“أشار الطبيب الذي كان يعالج أخي أن يشتروا له مهرًا صغيرًا ركوب الخيل — وهو إذ ذاك في السابعة من عمره — لأن الركوب رياضة سامية تقوي الجسم وتنشط حركة الأمعاء وفي الوقت نفسه لا تتطلب مجهودًا كبيرًا، فطلبت أنا أيضًا أن يشتروا لي مهرًا لأركب مثله، وحاولوا إقناعي بأن ركوب الخيل لا يليق بالبنات، ولكني دحضت زعمهم هذا بحجة دامغة، فضربت لهم مثلًا بجارتنا ابنة الضابط لمعي بك التي تركب الخيل وتقود عربتها الصغيرة بنفسها، ولما عجزت والدتي عن إقناعي، خيرتني بين الحصان والبيانو، وكانت تعرف ميلي الشديد للموسيقى فنجحت إذ فضلت البيانو على الحصان، قائلة في نفسي: أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخي كلما أردت” (هدى شعراوي في مذكراتها)
عند وَفاة والدها، كانت هدى في الخامسة من عمرها فقط، وكان شَقيقها في السابعة من عمره. والغريب أن العائلة اختارت إخفاءَ خبرِ وفاةِ والدها عن شقيقها لعدة أشهر. كانت هدى هي التي قررت أخيرًا الكشف عن الحقيقة لأخيها، في تلك اللحظة بدأ تحالفهما ضد عالم الكبار.
ولكن عندما بلغت هدى الحادية عشرة من عمرها، تغير العالم من حولها. لقد شاركت طفولتها مع أبناء جيرانها الذكور الذين أصبحوا أصدقاء لها. ومع ذلك، فرضت الأعراف المجتمعية عليها أن تقتصر صحبتها على الفتيات والنساء، وكان هذا التحول مؤلمًا. شعرت هدى وكأنها غريبة عن عالم الفتيات، وعاداتهم ومفاهيمهم مختلفة تمامًا عن تلك التي نشأت معها.
نادرًا ما كانت تغادر نساء مجتمعها المنزل دون إخفاء وجوههن؛ إذ رمز الحجاب انذاك إلى مكانتهم الطبقية العليا، وكان رمزًا للهوية والتقاليد المصرية آنذاك.
صقلت السنوات الأولى من حياة هدى الشعراوي شخصيتها التّي وصفت بالقوية والعازمة. دفعتها طفولتها غير العادلة في نهاية المطاف إلى تحدي التقاليد الاجتماعية وأن تصبح شعلة للحركة النسّوية في مصر، رحلة ستغير مجرى حياتها وحياة العديد من النساء اللواتي سيتبعنها.
هُدى الثائريين
بدأت رحلة هدى كناشطة في سن مبكرة حين حاولت عائلتها تزويجها في سن الثالثة عشرة. على الرغم من المقاومة الأولية، وجدت هدى نفسها متزوجة في سن الرابعة عشرة من ابن عمتها. ومع ذلك، كان زواجها قصير المدى بسبب فشل زوجها في الامتثال لالتزامه بالزواج الأحادي. وقد أدى رفضها لهذا الزواج في النهاية إلى مفاوضة مبتكرة: لن تقبل هدى بالزواج إلا إذا وافق زوجها على علاقة أحادية، متحديةً بذلك العرف السائد في تلك الحقبة.
وبدعم من أخيها انطلقت هدى في رحلة اكتشاف ذاتها دون القيود. لاكتساب المعرفة وتمكين النساء، انضمت هدى إلى الصالونات النسائية والأندية الفكرية. إذ سمحت هذه المساحات للنساء بالحوار الفكري وتحدي الأعراف المجتمعية ، بعيدًا عن أعين الرجال.
مع ظهور حركات النسوية في أوروبا، نشأ نفس الوعي في الإمبراطورية العثمانية، ووجدت هدى نفسها في الصدارة لهذا التحول المجتمعي. أصبحت شخصية بارزة في معركتها من أجل حقوق النساء، سواء في مصر أو على الصعيدين العربي و الدولي. وشاركت في تأسيس الاتحاد النسائي المصري الذي دعى إلى تعزيزِ تَعليم المرأة، وإصلاح عادات الزواج المبكر، وتشجيع الصحة العامة، ومكافحة الخرافات. كما هَدفَ من خلال الدعوة الصحفية إلى نَشر مبادئهم وإنشاء مجتمع أكثر إنصافًا.
في عام 1923، قامت هدى بعملُ جريء بإزالة النقاب عن وجهها في محطة القطار بالقاهرة عند عودتها من المؤتمر الدولي للنساء في روما. أثارت هذه الفعلة فضيحةً ًكبيرة بالطبع، لكن هدى بقيت ثابتة.و مَثَّل عملها تحولًا في فكرة النقاب، اذ لم يعد يُنظر إليه كرمز للامتياز بل للخضوع.
يستمر إرث هدى شعراوي كشهادة على تفانيها اللاهدأ في النضال لحقوق النساء والتقدم الاجتماعي. ساهمت جهودها في تربية جيل جديد من النساء المتعلمات ليس في مصر بل كافة العالم العربي.
وإن كان من الصعب اختصار فكر هدى الذي يختلف الكثيرونَ إلى الآن معه، نَختم باقتباس لها لعله يلخص ما كانت تؤمن “أن الإنسان ميال بفطرته لتشبهه بمن هو أرفع منه قدرًا، فإذا حاولت المرأة المهضومة الحقوق أن تتشبه بالرجل، فلأنها تراه أرفع منها وأعز سلطانًا في الهيئة الاجتماعية لتمتعه بكل حقوقه. وإن اليوم الذي تصل فيه المرأة إلى حقوقها وتتبوأ مركزها بجانب الرجل، تحتفظ بأنوثتها ومميزاتها كما يحتفظ الرجل برجولته ومميزاته.”