مذكرات خالدة: هدى شعراوي تكشف النقاب عن حياتها.

تعتبرُ مذكراتِ هدى شعراوي مرآةً تعكسُ تفانِيَها لتحقيق المساواة بين الجنسين، وفي هذا المقال، نفك شيفرة رحلتها الملهمة من خلال تجاربها الشخصية.

هدى شعراوي

صورة لهدى شعراوي من Google Arts & Culture

في أواخرِ القرنِ التاسعِ عشر، في عالمٍ تَكتنفه التقاليد ، كان مقدرًا لفتاة صغيرة تدعى هدى شعراوي أن تتحدى الوضع الراهن وتستيقظ على إمكاناتها الحقيقية.

وُلِدَت هُدى فيما يعرفُ بعصرِ الحَريم في مِصر، وهي حِقبة تاريخية تميّزت بالفصل الصارمِ بين الجنسين، حتى داخل المنازل. لدى هدى والدتين اعتزت بهما، والدتها البيولوجية، وزوجة والدها، التي كانت تناديها بـ “ماما الكبيرة” والتي كانت ملجأ و بيت أسرار هدى الصغيرة.

وفي أوقاتِ الأعياد، كان المنزلُ ينبض بالحياة، وتتجمع عائلة هدى بأعداد كبيرة. وكان الأطفال يجلسون على مراتب ناعمة حول فانوسٍ ضخم، لأن الكهرباء كانت لا تزال نادرة في تلك الأيام. و كانت الخادِمات والمربيات يمتعونهم بقصص آسرة من بلادهم، ويقنعونهم بلطف بالنوم مع حلول الليل.

حصلت هدى على تعليم خاصٍ غنيّ، إذ لم يكن يسمح آنذاك بتعليم الفتيات بالمدارس. كان معلموها يعلمونها التركية والفرنسية وكانَ ذكاؤها واضحًا لجميع من عرفها، ولكن كونها فتاة في أواخر القرن التاسع عشر جعلها تواجه واقع التفرقة بين الجنسين.

كان لهدى أخ كبير، اسمه إسماعيل، الطفل الذهبي للعائلة، صبيٌ تلقى حنانَ الجميع. عومل اسماعيل كما لو كان هشًا، جوهرة ثمينة يجب حمايتها بأي ثمن. وفي الناحية الأخرى، غالبًا ما شعرت هدى كشخصية ثانوية في حياة عائلتها. “أحسّت هدى بعداءً تجاه شقيقها مع تقدمها في العمر، اذ تتذكر بوضوح  في مذكراتها عندما لم يُعرها أحدٌ اهتماماً حينَ مرضت بشدة. ومع ذلك، عندما استسلم شقيقها لنفس المَرض بعدَ بِضعة أسابيع، أصيبت الأسرة بأكملها بالجنون. بكت أمهاتها، وسهِرت فرق الأطباء بجانبه باستمرار. لقد تقاسموا نَفس الغرفة، لكن العيون كلها كانت عليه فقط.

في ظلِّ تعطشها للعلم، كانت هدى تتسلل بسريةٍ إلى جلسات تدريسِ شَقيقها الخاصة، وتَلتهم كل قطعة من المعرفة يمكنها الحصول عليها. وعلى الرغم من التفاوتات بينهما، الا أن اسماعيل ظل رفيقها الداعم الحقيقي طوال حياتها.

“أشار الطبيب الذي كان يعالج أخي أن يشتروا له مهرًا صغيرًا ركوب الخيل — وهو إذ ذاك في السابعة من عمره — لأن الركوب رياضة سامية تقوي الجسم وتنشط حركة الأمعاء وفي الوقت نفسه لا تتطلب مجهودًا كبيرًا، فطلبت أنا أيضًا أن يشتروا لي مهرًا لأركب مثله، وحاولوا إقناعي بأن ركوب الخيل لا يليق بالبنات، ولكني دحضت زعمهم هذا بحجة دامغة، فضربت لهم مثلًا بجارتنا ابنة الضابط لمعي بك التي تركب الخيل وتقود عربتها الصغيرة بنفسها، ولما عجزت والدتي عن إقناعي، خيرتني بين الحصان والبيانو، وكانت تعرف ميلي الشديد للموسيقى فنجحت إذ فضلت البيانو على الحصان، قائلة في نفسي: أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخي كلما أردت” (هدى شعراوي في مذكراتها)

عند وَفاة والدها، كانت هدى في الخامسة من عمرها فقط، وكان شَقيقها في السابعة من عمره. والغريب أن العائلة اختارت إخفاءَ خبرِ وفاةِ والدها عن شقيقها لعدة أشهر. كانت هدى هي التي قررت أخيرًا الكشف عن الحقيقة لأخيها، في تلك اللحظة بدأ تحالفهما ضد عالم الكبار.

ولكن عندما بلغت هدى الحادية عشرة من عمرها، تغير العالم من حولها. لقد شاركت طفولتها مع أبناء جيرانها الذكور الذين أصبحوا أصدقاء لها. ومع ذلك، فرضت الأعراف المجتمعية عليها أن تقتصر صحبتها على الفتيات والنساء، وكان هذا التحول مؤلمًا. شعرت هدى وكأنها غريبة عن عالم الفتيات، وعاداتهم ومفاهيمهم مختلفة تمامًا عن تلك التي نشأت معها.

نادرًا ما كانت تغادر نساء مجتمعها المنزل دون إخفاء وجوههن؛ إذ رمز الحجاب انذاك إلى مكانتهم الطبقية العليا، وكان  رمزًا للهوية والتقاليد المصرية آنذاك.

صقلت السنوات الأولى من حياة هدى الشعراوي شخصيتها التّي وصفت بالقوية والعازمة. دفعتها طفولتها غير العادلة في نهاية المطاف إلى تحدي التقاليد الاجتماعية وأن تصبح شعلة للحركة النسّوية في مصر، رحلة ستغير مجرى حياتها وحياة العديد من النساء اللواتي سيتبعنها.


ه
ُدى الثائريين
بدأت رحلة هدى كناشطة في سن مبكرة حين حاولت عائلتها  تزويجها في سن الثالثة عشرة. على الرغم من المقاومة الأولية، وجدت هدى نفسها متزوجة في سن الرابعة عشرة من ابن عمتها. ومع ذلك، كان زواجها قصير المدى بسبب فشل زوجها في الامتثال لالتزامه بالزواج الأحادي. وقد أدى رفضها لهذا الزواج في النهاية إلى مفاوضة مبتكرة: لن تقبل هدى بالزواج إلا إذا وافق زوجها على علاقة أحادية، متحديةً بذلك العرف السائد في تلك الحقبة.

وبدعم من أخيها انطلقت هدى في رحلة اكتشاف ذاتها دون القيود. لاكتساب المعرفة وتمكين النساء، انضمت هدى إلى الصالونات النسائية والأندية الفكرية. إذ سمحت هذه المساحات للنساء بالحوار الفكري وتحدي الأعراف المجتمعية ، بعيدًا عن أعين الرجال.

مع ظهور حركات النسوية في أوروبا، نشأ نفس الوعي في الإمبراطورية العثمانية، ووجدت  هدى نفسها في الصدارة لهذا التحول المجتمعي. أصبحت شخصية بارزة في معركتها من أجل حقوق النساء، سواء في مصر أو على الصعيدين العربي و الدولي. وشاركت في تأسيس الاتحاد النسائي المصري الذي دعى إلى تعزيزِ تَعليم المرأة، وإصلاح عادات الزواج المبكر، وتشجيع الصحة العامة، ومكافحة الخرافات. كما هَدفَ من خلال الدعوة الصحفية إلى نَشر مبادئهم وإنشاء مجتمع أكثر إنصافًا.

صحيفة الدفاع،4 شباط 1944
صحيفة الدفاع،4 شباط 1944

 

في عام 1923، قامت هدى بعملُ جريء بإزالة النقاب عن وجهها في محطة القطار بالقاهرة عند عودتها من المؤتمر الدولي للنساء في روما. أثارت هذه الفعلة فضيحةً ًكبيرة بالطبع، لكن هدى بقيت ثابتة.و مَثَّل عملها تحولًا في فكرة النقاب، اذ لم يعد يُنظر إليه كرمز للامتياز بل للخضوع.

تقرير عن زيارة هدى للبلاد، صحيفة فلسطين، 16 أيلول 1944
تقرير عن زيارة هدى للبلاد، صحيفة فلسطين، 16 أيلول 1944

يستمر إرث هدى شعراوي كشهادة على تفانيها اللاهدأ في النضال لحقوق النساء والتقدم الاجتماعي. ساهمت جهودها في تربية جيل جديد من النساء المتعلمات ليس في مصر بل كافة العالم العربي.

وإن كان من الصعب اختصار فكر هدى الذي يختلف الكثيرونَ إلى الآن معه، نَختم باقتباس لها لعله يلخص ما كانت تؤمن “أن الإنسان ميال بفطرته لتشبهه بمن هو أرفع منه قدرًا، فإذا حاولت المرأة المهضومة الحقوق أن تتشبه بالرجل، فلأنها تراه أرفع منها وأعز سلطانًا في الهيئة الاجتماعية لتمتعه بكل حقوقه. وإن اليوم الذي تصل فيه المرأة إلى حقوقها وتتبوأ مركزها بجانب الرجل، تحتفظ بأنوثتها ومميزاتها كما يحتفظ الرجل برجولته ومميزاته.”

مخطوطٌ مُقدس أم كتابٌ ملعون؟ سحر شَمس المعارف وتعاليم البوني السرّية

تعمق في هذا المقال أكثر لكشف الحقيقة وراء هذا كتاب "شمس المعارف"، حيث ينطمس الخط الرفيع بين الممارسات الروحية الموقرة والسحر والتنجيم.

جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف

جدول أسماء الملائكة والبروج، مخطوطة شمس المعارف، 1679-1688

يقترن كتاب شَمس المَعارف الشهير باسم كاتبه الأَصلي أحمد البوني الذي تتوفر معلومات محدودة حول أُصوله ووجوده. تشير الروايات التاريخية إلى أن اسمه الكامل ربما كان أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف القريشي البوني، ونشأ في بونا في الجزائر. قضى معظم حياته في شمال أفريقيا، لا سيما مصر، معاصرًا للشخصية الصوفية الشهيرة محي الدين بن عربي. أحمد البوني، الذي وُصف بالساحر في الكثير من الأحيان، كان أكثر من ذلك بكثير.

على الرغم من تسميته بالساحر، كان أحمد البوني بالأساس معلمًا في التصوف، وتأثر بتعاليم ابن عربي. إذ شكل تركيزهما على الجوهر الروحي للتصوف، خاصة القوى السحرية التي تتجلى في حروف اللغة العربية، أساس تعاليمهما.

الآن، دعونا نتحدث عن “شمس المعارف”، الكتاب الأسطوري الذي نُسب إلى البوني. هذه الموسوعة الواسعة في علوم السحر تضم تمائم لجلب الجن والحبيب والرزق وسرّ قوى حروف اللغة العربية. ولكن ها هي اللفتة الفارقة: لم يكن البوني، الصوفي في جوهره، ينظر إلى الكتاب على أنه كتاب سحر بالمعنى المعروف، بل صاغه لجمهور محدد من طلاب التصوف المبتدئين ليعلمهم تعاليمه، بل وحظر نشره للعامة.

لقد كشف هذا الكتاب، الذي يحظى بالتبجيل بسبب رؤاه الروحية ويُخشى بسبب مخاطره المفترضة، عن نسيج غني من الحكمة القديمة.

يعد “شمس المعارف الكبرى” نصًا جوهريًا ضمن علوم السحر والتنجيم، إنه يقع ضمن إطار صوفي تأملي، يستكشف علم الكون المعقد حيث كل شيء مترابط. يتناول الكتاب موضوعات متنوعة، بدءًا من قوى الحروف العربية وارتباطها بالأجرام السماوية والأبراج والملائكة وأسماء الله الحسنى غيرها.

جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688
جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688

 

لا يقتصر النص على تقديم الفوائد الروحية ولكنه يقدم أيضًا تعليمات عملية، بدءًا من تعويذات لجذب الحبيب إلى علاج الأمراض أو حتى تلبية النوايا الخبيثة مثل إيذاء الأعداء. وعلى الرغم من تقديم تعليمات حول كيفية تلبية هذه الرغبات، إلا أن الكاتب يُحَذِّرُ منها، ويُسَلِّط الضوء على العَواقب المحتملة لها في الحياة الآخرة. لذا فهو يعطي تعليمات ولكنه أيضًا يقول “ربما لا ينبغي عليك اتباعها”.

يتعمق المخطوط في العلاقة بين الحروف الأبجدية العربية الثمانية والعشرين ومنازل القمر الثمانية والعشرين، ويربطها بمجالات كوكبية وملائكة محددين. تلعب الأرقام دورًا مهمًا، خاصة في بناء التعويذات باستخدام “الجيماتريا”، أي ربط كل حرف بقيمة عددية معينة واستخلاص قيم للكلمات. كل حرف من الحروف الأبجدية يقابل رقمًا معينًا، فحرف الألف يقابل واحدًا والباء يقابل اثنين، الجيم يقابل ثلاثة، الدال يقابل أربعة وهكذا. وعندما تكتب كلمات باستخدام هذه الحروف، فإن الكلمة ككل لها قيمة عددية أيضًا حيث يتم جمع أرقام الحروف مما يؤدي إلى خلق تعويذات.

يمكن أن تتخذ التمائم أشكال عديدة ولكنها غالبًا ما تتضمن دائرة أو مربعًا سحريًا. على سبيل المثال، لتسخير قوة كوكب المشتري الذي يتمتع بنوع من طاقة الوقاية والحظ، يمكنك إنشاء مربع سحري لذلك، تأخذ الحرف المرتبط بكوكب المشتري دال الذي له القيمة العددية للرقم أربعة. وبذلك تقوم بعمل مربع سحري أربعة في أربعة أي ثماني مربعات ثم تكتب حرف الدال 35 مرة.

على سبيل المثال أيضا، يتم اقتراح علاجات مثل استخدام الماء الممزوج بالحبر، وكتابة كلمات معينة، وإعطاء الماء المنقوع لشخص مريض لحمايته من الحمى الناجمة عن لدغة العقرب. أو كتابة مربعات تحتوي اسم من أسماء الله الحسنى وأرقام معينة لطلب الرزق.

 

تميمة لنيل القبول، مخطوطة شمس المعارف،1688-1679
تميمة لنيل القبول، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688

 

يمكنك أيضًا كتابة التعويذات على قطعة من الحرير الأصفر، من المفضل فعل ذلك أثناء وجود القمر في برج السرطان أو كوكب المشتري.كما يمكن حرق أي بخور ذو رائحة طيبة، إذا فعلت ذلك وحملته معك يعدك الكتاب بتحقيق كل أهدافك ومُرادك من سلطة وشهرة وستحبك النساء أيضًا.

مَع مرور السنين، حظيت تعاليم البوني بالاعترافِ والنقد على حد سواء. رغم تقديرها من قبل العلماء والفلاسفة والمتصوفة، اتُهمت تلك التعاليم في بعض الأحيان بالسحر، مما أثر على قبولها في الفكر الإسلامي التقليدي. لكن كتاباته استمرت في التأثير، وشكّلت تقليدًا سحريًا يتجاوز الزمن يُمارسُ الى الآن.

سعيد بن يوسف الفيومي: التعريف به وبآثاره

أحد أعظم الشخصيات الدينية اليهودية وأغزرها ثقافة وكتابة. ولد في فيوم مصر، ونشط في بغداد، واشتهر بالاسم سعاديا هغاؤون في العالم اليهودي.

تفسير التوراة بالعربية

أحد أعظم الشخصيات الدينية اليهودية وأغزرها ثقافة وكتابة. ولد في دلاص في فيوم مصر، وليس في قرية أبو صوير كما هو شائع في الأدبيات العربية الحديثة، ونشط في بغداد (882-942م)، واشتهر بالاسم سعاديا هغاؤون في العالم اليهودي، ووقف على رأس عمله بصفته رئيس إحدى أهم مدرستين دينيتين يهوديتين في العالم اليهودي وكلتاهما في العراق (منذ القرن الثالث وحتى الحادي عشر الميلادي)، حملت الأولى اسم مدرسة “سورا”، وهي المدينة التي يطلق عليها حاليًا اسم أبو صُخير، مركز قضاء محافظة القادسية في منطقة الفرات الأوسط، وجنوب بغداد. أما الثانية فهي مدرسة “فومبديتا” وهي مدينة الفلوجة، أو إحدى البلدات المجاورة لها. ترأس الفيومي مدرسة سورا بينما كانت تمر في أصعب فترة لها، فأنعشها بعد نقلها إلى بغداد واستمرت حتى وقت متأخر في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي.

انتقل من بلدته في الفيوم في جيل الشباب، ويبدو أنه درس في إحدى مدارس مدينة طبريا الدينية لبضع سنين، وانتقل بعد فترة ما في بلدات سورية إلى الاستقرار في بغداد حيث تولّى رئاسة مدرسة سورا الدينية (في سنة 928م).

نستدل بكتاباته الغزيرة، التي طالت الفقه الديني وعلم الكلام وعلوم اللغة المختلفة والشعر والترجمة والتفسير، على ثقافته الواسعة والغنية في العلوم والفلسفة وصنوف الأدب والشعر. وكان بلا شك مطلعًا على العقائد والديانات والفرق العديدة المنتشرة في العراق بلغاتها ومجموعاتها الإثنية المختلفة، لا سيما في بغداد، تلك المدينة الجديدة التي استقطبت مختلف صنوف الحرف والعلماء والمثقفين.

استفاد الفيومي بشدة من حركة الترجمة من السريانية واليونانية والفارسية والهندية وغيرها إلى العربية، وتركت هذه الثقافات المختلفة أشد الأثر على اصطلاحاته وتوجّهاته التي يمكن التعبير عنها من خلال لفظة “الأدب” بمعانيها الواسعة.

نشر جميع ترجماته وتفسيراته لأسفار الكتاب اليهودي المقدّس، وكذلك كتابه الكلامي الأهم “الأمانات الاعتقادات”، المتأثر بصورة جلية باصطلاحات وتوجّهات علم الكلام المعتزلي، وكتب ومصنّفاته الفقهية والنحوية، بالعربية ولكن بأحرف عبرية مع تطعيمها باقتباسات عبرية وآرامية، وهو الشكل الذي يطلق عليه تعبير “العربية اليهودية”.

تكمن أهمية كتاب “الأمانات” في كونه يعكس لنا طورًا هامًا من أطوار تطوّر علم الكلام الإسلامي المعتزلي وأشكال تأثيره على الأدبيات اليهودية في تلك الحقبة بالغة الأهمية، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى إحداث ثورة فكرة ولاهوتية في اليهودية، والتي بدأها بلا شك الفيومي، ربما بتأثير الفرقة اليهودية القرائية التي انفتحت كثيرًا على العلوم والآداب غير اليهودية لا سيما الإسلامية منها في وقت مبكّر.

تعكس ترجمات الفيومي لعدد كبير من أسفار الكتاب اليهودي المقدّس طورًا متقدمًا من الترجمة التي تركّز على نقل المعاني أكثر من التزامها بحرفية النصوص، وهو ما يميّز ترجمات الفيومي خاصة حتى يومنا هذا.

يعتبر الفيومي أول رجل دين يهود يتمتّع بسلطة دينية وقيادية يضفي الشرعية على الانفتاح على العلوم الحديثة في زمانه، بعد أن كانت محرّمة شرعًا حتى عصره، واتّسمت اليهودية قبله بالانغلاق والخشية من التأثّر من آداب وعلوم غير اليهود. ولهذا، نراه يُحدث ثورة في العالم الثقافي اليهودي ويمدّ اليهودية بصفتها دينًا بأدوات ومعارف جديدة ساهمت بصورة كبيرة في إحداث ثورة فكرية داخل اليهودية.

وأكثر ما يشد انتباهنا في عصرنا الحالي في كتابات الفيومي فهما نقطتان، تتمثّل الأولى في تعريفه التالي للهوية الجمعية لليهود البعيد كل البعد عن أي ملامح إثنية: “لأنَّ أمّتنا بني إسرائيل إنما هي أمّة بشرائعها” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 3). أما الثانية فتتمثّل في مركزية الإنسان في فكره وكتاباته كلّها. فنراه يسعى من خلال كل ما يكتبه إلى “تهذيب” فكر وأخلاق وسبل حياة الإنسان، وبهذا المعنى فهو قريب جدًا من منهج الفيومي ابن عصره وابن مدينته. لن يكون هذا مفاجئًا لنا إذا أدركنا أن التوجّه العام للفيومي يقوم على فرضية أساسية مفادها أن الإنسان هو محور الخليقة وغايتها، فكل ما عداه أدوات لخدمته. وفيما يلي مقتطفات صريحة لهذه الفكرة المركزية في فكره والمستندة كذلك إلى الكتاب اليهودي المقدّس:

  • “إنَّ الإنسان لا يفعل شيئًا إلّا وهو مختار لفعله، إذ لا يجوز أن يفعل مَن لا اختيار له ولا مَن ليس هو مختارًا” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 4).
  • “عرّفنا ربّنا على يد أنبيائه أنه فضّل الإنسان على جميع خلقه “واستولوا على سمك البحر وطائر السَّماء” (التكوين 1: 28)، وعلى ما قال في مزمور: “الَّلهُمَّ يا سيِّدنا ما أعظم اسمك في جميع الأرض” (المزامير 8: 2) إلى آخره؛ وأنه أعطاه القدرة على طاعته ووضعها بين يديه وضعًا ومكّنه وخيّره وأمره أن يختار الخير […] ثمَّ نظرنا بصناعة النظر بما ذا شرّفه فوجدنا وجه تشريفه بالحكمة التي جعلها له وعلّمه إيّاها كما قال: وإنْ سألك الحيوة أعطيتها له، المُعلِّمُ الإنسانَ المعرفة (المزامير 21: 5؛ 94: 10)، فهو بها يحفظ كلّ شيء ماضٍ من الأفعال، وبها ينظر في كثرة من العواقب التي تأتي، وبها يصل إلى تسخير الحيوان ليفلحوا له الأرض وينقلوا إليه غلًاتها، وبها يصل إلى استخراج الماء من عمق الأرض حتى صار على وجهها بل صنع له النواعير التي تستسقى منها، وبها يصل إلى بناء المنازل السريّة ولباس الثياب الفاخرة وإصلاح الأطعمة اللذيذة، وبها يصل إلى قود الجيوش والعساكر وتدبير المَلِك والسلطان حتى انضبط الناس وتسقّموا، وبها يصل إلى علم هيئة الفلك ومسير النجوم ومقادير أجرامها وأبعادها وسائر أحوالها، فإنْ توهّم متوهّم أنَّ المفضَّل هو شي غير الإنسان فليُرِنا هذا المُفضَّل أو بعضه بغيره وذاك كلًا لا يجده فبحقّ أن يكون الإنسان المأمور والمُنهى والمُثاب والمُعاقب إذ هو قطب العالم وقاعدته كقوله: “إنَّ لله أركان الأرض” (صموئيل الأول 2: 8)، وقال: “والصَّالح أساس العالَم” (الأمثال 10: 25). فلمّا تبيّنتُ هذه الأصول وما يتفرّع منها علمتُ أنَّ تشريف الإنسان ليس هو وهمًا وقع في نفوسنا ولا ميل ملنا به إلى محاباته ولا إيثار حملنا وعجب وصلف أن ندّعيه لأنفسنا إلًا حقّ صحيح وصدق مبين. ولم يشرّفه الحكيم بهذا الأمر إلًا لأنه جعله موضعًا لأمره ونهيه، كما قال: “ثمَّ قال للأدميّين إنَّ تقوى الله هي أيضًا حكمة والزوال عن الشرّ فهم أيضًا” (أيوب 28: 28)” (الأمانات والاعتقادات، المقالة 4).

برغم اهتمام الفيومي بالتدريس وتوفير طلبة علم يهود في عصره، إلّا أن سلسلة الطلّاب هذه لم تستمر لفترة طويلة، بل نراها تتضاءل شيئًا فشيئًا بعد مماته، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى إغلاق مدرسته الدينية في منتصف النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي. أما بعد انتقال مركز العلوم اليهودية إلى أوروبا، بدءًا من القرن الحادي عشر الميلادي، وترجمة بعض نصوص الفيومي إلى العبرية، نشهد أنها نقلت من خلال قوالب لغوية وأدبية يهودية تقليدية، لعدم قدرة اللغة العبرية في حينه على نقل العالم الفكري والثقافي باصطلاحاته وتوجّهاته الغنية التي شاعت في الحواضر الإسلامية.

صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ

تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم في العصور الوسطى.

صورة الأرض ‏ل‏لشريف الإدريسي، نسخة 1951، مجموعة عيران لئور للخرائط، المكتبة الوطنية

صورة الأرض ‏ل‏لشريف الإدريسي، نسخة 1951، مجموعة عيران لئور للخرائط، المكتبة الوطنية

إيمان الأنصاري

لقب بالصّقليّ لأنّه اتّخذ جزيرة صقلية موطناً له بعد سقوط الدّولة الإسلاميّة. ولقب بسطرابون العرب نسبة للجغرافيّ الإغريقيّ الكبير سطرابون. هل عرفتم من هو؟ إنّه أطلس العرب، العالم المسلم الجغرافيّ الكبير “أبو عَبد الله مُحَمَّدٌ بن مُحَمَّدٌ الإِدْرِيسي الْهَاشِمِيّ الْقُرَشِيّ“. يا تُرى لماذا ننسبه إلى الغرب؟ وهو الرّائد في مجاله؟ لماذا ننسبه إلى صقلية وهو ابن المغرب؟ لماذا نلقبه بسطرابون العرب وهو أوّل من رسم خرائط دقيقة، وقام بإعادة تحديد خطوط الطّول والعرض، وهو من مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة وأوّل من صمّم مجسم الكرة الأرضيّة ورسم خارطة العالم. بصراحة القائمة بوصفه تطول، وتأثيره حتى يومنا هذا يجول، هل تودون معرفة المزيد عنه؟

فلنتحدث بداية عن نسبه، لُقب بالشّريف الإدريسيّ نسبة إلى سلالة الأسرة الإدريسيّة العربيّة المغربيّة التي ينتهي نسبها إلى النبي محمد ﷺ، وقد حكمت المغرب ما بين 788 م – 974 م. وُلد الشّريف الإدريسيّ عام 1100 م في سبتة (المغرب سابقًا) واليوم هي تحت حكم إسبانيا وتُوفي عام 1165 م. بالإضافة لكونه جغرافيًّا، كتب في الأدب والشّعر والنّبات ودرس الفلسفة والطّب والنّجوم في قرطبة لذلك لُقب أيضا بالقرطبيّ. اشتهر بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” الذي ألفه بناءً على طلب الملك النّورمانيّ روجر الثّاني ملك صقلية، لذلك سُمي أيضا ب “كتاب روجر”، ويُعتبر أحد أهم الأعمال الجغرافيّة في العصور الوسطى. حيث قام الإدريسيّ بجمع كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته في هذا العمل، ويحتوي أيضًا على عدّة خرائط لكل العالم، ومعلومات عن المدن الرئيسيّة، وقد بقي مرجعًا لعلماء أوروبا لمدة تزيد عن 300 سنة.

في فترة الملك النورمانيّ كانت العلاقات الإسلاميّة والمسيحيّة في أوجها، وُلد روجر الثّاني عام 1095 م، وكان مهتمًا بعلوم الجغرافيا، ولم يكن راضيًّا وقتها عن الأوصاف للأرض في وقته، فقد كانت لديه خريطة مستمدة من أهم اثني عشر عملًا موجودة في وقته والتي أظهرت أنها تناقض بعضها البعض في كل مكان تقريبًا. فقرر أن يبدأ مشروعًا به وصف مفصّل للأرض والمعالم الجغرافيّة في ذلك الوقت، لذلك استعان بأفضل جغرافيّ كان في زمانه وهو الشّريف الإدريسيّ.

بعد سقوط دولة المرابطين الإسلاميّة، اختار الإدريسيّ الانتقال إلى صقلية بعد سقوط الحكومة الإسلاميّة، لأن الملك النورمانيّ في ذلك الوقت «روجر الثّاني» كان مُحبًّا للمعرفة، فدعاه للبقاء معه مشيرًا إلى أنّه ينحدر من عائلة الخلفاء السّابقة، وسيشعر الخليفة الجديد بالرّيبة بسبب بقاءه في البلاد، ووعده بالاعتناء به. فكانت له مكانة كبيرة عند الملك روجر الثّاني، حتى أنّه كان يقوم لتحيّته بإجلال عند لقاءه. فعمل الادريسيّ على مشروع استجواب الرّحالة بشكل فرديّ أو جماعيّ بمساعدة المترجمين الفوريين للمسائل الجغرافيّة المختلفة لمدة 15 عامًا بدون انقطاع، فمثلًا سأل الرّحالة عن المسافات بين مواقع الأماكن وفقًا لخطوط الطّول والعرض. والأجوبة التي تمّ الاتّفاق عليها قد ثبتت في عمله، والمعلومات التي عليها خلاف ذلك تمّ استثنائها.

تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم لمدّة تزيد عن 300 سنة في العصور الوسطى. حيث جمع به كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته، ووصف المدن ورسم خرائط دقيقة أظهرت كافة التضاريس من بحار، وأنهار، وجبال بدقة، ورسم كذلك خطوط الطّول والعرض. ويلاحظ أن الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النّصراني. وقد رسمها بناء على طلب ملك صقلية روجر الثّاني الذي كان مهتمًّا بالعلم والمعرفة. في الكتاب هناك أيضا معلومات تاريخيّة، وثقافيّة، ودينيّة مهمّة. بفضل الإدريسيّ وخارطته أصبحت صقلية وجهة جذابة للدّراسة والاستكشاف. جمع أجزاء الخارطة المتفرقة المستشرق الألمانيّ كونراد ميلر باللغة اللاتينية في سنة (1926-1931) م. يمكنكم الاطلاع عليها هنا في فهارس المكتبة الوطنية، وأعادها إلى أصلها العربيّ الأستاذ محمد بهجة والدّكتور جواد علي عضوا المجمع العلميّ العراقيّ، ويمكنكم الإطّلاع عليها هنا.

على الرّغم من أنّ عمر الخارطة يتجاوز ال 800 عامًا، وهي خارطة ثريّة بحيث تحتوي على 2064 اسم مدينة، (في أفريقيا 365، في أوروبا 740، في آسيا 959 اسم مدينة)، من بينها تقريبًا جميع المدن المزدهرة والمكتظة بالسّكاّن في أفريقيا، لا يزال من الممكن التّعرف على الكثير من المدن وتحديدها حتّى اليوم بالرّغم من اندثار العديد منها. لم تنجو الخريطة كخريطة كليّة، ولكن يمكن العثور عليها في أجزاء من الكتب، حيث تتكوّن من 70 ورقة فرديّة. تتكون الخارطة في الأصل من 7 طبقات أفقيّة، تسمى الأقاليم السّبعة (أي الأماكن التي تقع على نفس خطّ العرض الجغرافيّ)، وقسّم كل إقليم إلى عشرة أقسام متساوية، ورسم لكل قسم خريطة، وبذلك تنقسم الخريطة بأكملها إلى 70 قسمًا.

 

صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ
صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ

أما في هذه الصّورة أعلاه تمّ رسم هذه الخارطة بالمقلوب! أي أنّ اتّجاه الجنوب هو في الأعلى والشّمال إلى الأسفل، رسمها الشّريف الإدريسيّ القرشيّ إلى ملك صقلية روجر الثّاني. وفي هذا المقطع من الخارطة يظهر العالم العربيّ والشرق الأوسط. يلاحظ أنّ الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النصرانّي. في هذا القسم من الخارطة، تظهر شبه الجزيرة العربيّة بشكل واضح، وأيضًا بإمكاننا أن نرى بلاد الشّام، وفلسطين، والقدس، وممكن بوضوح رؤية بحيرة طبرية، والبحر الميت، ونهر الأردن.

بعدما تعلمنا عن الادريسيّ، وفهمنا دوره الكبير في تطوير علم الجغرافيا؛ إذ كان للعرب إنجازات وإسهامات في تطوّر العلوم والمعرفة، فلولاها لما وصل العالم إلى ما هو عليه اليوم من التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ. لن ننسى دور الإدريسيّ في الجغرافيا، ودور الخوارزميّ في الرياضيات، ودور ابن الهيثم في العلوم، وغيرهم من العلماء العرب والمسلمين. وبطبيعة الحال، كان هناك دورًا للأمم السّابقة في بناء الحضارات، فالحضارة الإنسانيّة عبارة عن سلسلة، كل أمّة من الأمم تُضيف حلقة في هذه السّلسة، فالاكتشافات والاختراعات الحديثة لا تُجيّر إلى الحضارة الغربيّة المعاصرة، لأنها بنت علومها على علوم الأمم السّابقة.

قائمة المراجع:

Erläuterungen zu der von K. Miller, Stuttgart, 1928 zum erstenmal herausgegebenen grossen farbigen Weltkarte des Idrisi.

Miller, Konrad. Mappae Arabicae – arabische Welt-und Länderkarten.  Band I/II. Die Weltkarte des Idrisi vom Jahr 1154. Stuttgart : Selbstverlag, 1926.

Idrisi map – German – w 106 – 990025938860205171
Idrisi map – Arabic – w 106.1 – 990043688830205171