حكايات البطيخ في الأمثال الشعبية

كيف ارتبطت الأمثال الشعبية "البطيخيّة" بالأحوال السياسية في البلاد؟ لمعرفة كل ذلك، اقرأوا المقال في مدونة أمناء المكتبة.

شاب يافاوي يحمل البطيخ، عشرينيّات القرن الماضي

ينتظر الكثير من الناس فصل الصيف بفارغ الصبر لقضاء عطلة طويلة من الدراسة والأجواء الأكاديمية، ومنهم من ينتظره للاستمتاع على الشواطئ، فيما ينتظر آخرون الوقت الطويل لنهار الصيف، مع ذلك هناك جمعٌ آخر ينتظر الصيف فقط لأنه موسم البطيخ. وفي مدونتنا، لن نتحدّث عن مذاق البطيخ، أو عن الفائدة الغذائية والفيتامينات الموجودة في هذه الفاكهة المميزة، وكذلك لن نستطرد في مشاعر البهجة التي يضفيها على محبيه في أول الموسم حتى مشاعر الحزن التي تملأ وجوهم في منتصف آب لانتهاء الموسم، بل سنتطرّق إلى كيف استطاع الناس جعل فاكهة البطيخ مادة لُغوية غنية ومتنوّعة في الأمثال العربية الشعبية.

اختلفت الأمثال الشعبية في ذكر البطيخ، وبطبيعة الحال تحمل الأمثال معانٍ متعددة من التورية في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وقد تستخدم أيضًا لكي تعكس وضعًا سياسيًّا ما. ومن الأمثال التي تعكس الحالات الاجتماعية قول الناس: “ما بشبع بطنه بطيخة صيفي“، معبّرين عن الشره وكثرة تناول الطعام حتى لو بطيخة من بطيخ الصيف كبير الحجم.

ولقد وصف آخرون الأفعال الغير محسوبة الجالبة للحسرة بقولهم: “السّلام بجر كلام والكلام بجر بطيخ“: ويقال لتجنب أي فعل سيجر على صاحبه الخسارة؛ ولهذا المثل حكاية شعبية توضح معناه وهي أن أحدهم كان يطرح السلام على تاجر بطيخ، ثم يبدأ بالحديث معه لينتهي بأكل البطيخ مجانًا، فامتنع التاجر عن رد السلام حتى لا يخسر بطيخًا، فأصبح قولًا مأثورًا ينبّه من التفاعل الاجتماعي الغير مرغوب فيه. فيما أسرف العرب قديمًا بالحديث عن الزواج بقولهم: “المرة مثل البطيخة” أو “الزلمة متل البطيخة” والقصد بأنهم مجهولو الطباع لأنهم كانوا يتزوجون من غير سابق معرفة، كما لا يمكن معرفة طعم ولون البطيخ قبل التوّرط في اختيارها.

أمّا للتعبير عن الأحوال الاقتصادية، قال الناس: “أيام البطيخ، ارفع الطبيخ”، أو “طلّ البطيخ، بطَّلوا الطبيخ“؛ إذ حينما يتوفر البطيخ بسعر الكيلو الزهيد في فصل الصيف، يُكثر الناس من الاعتماد عليه كوجبة أساسية خلال يومهم. بالإضافة إلى هذه الأمثال، المثل القائل: “مال جنين يا بطيخ” وذلك للتعبير عن جودة البطيخ المُباع؛ حيث تعتمد جنين في اقتصادها الصيفي على تصدير البطيخ للمدن المجاورة، ويعتبر بطيخ جنين من أفضل أنواع البطيخ بعد أن كانت مدينة يافا، قبل عام الـ 1948، تتسابق مع مصر في تصديره، كما ورد في صحيفة الصراط.

بطيخ مصر يسبق، الصراط: 30 أيار 1935
بطيخ مصر يسبق، الصراط: 30 أيار 1935

اقرأ/ي أيضًا: جنين: معرض رقمي لصور وخرائط وجرايد

وسياسيًّا، استخدم العديد من الصحافيين الأمثال الشعبية عن البطيخ لوصف وقياس الأوضاع السياسية في أحداث خاصة، مثلًا، كتب الصحافي محمود أبو شنب في صحيفة الاتحاد حول المفاوضات العربية الإسرائيلية في العام 1993؛ إذ استخدم المثل “الكلام بيجر بطيخ” الذي سبق ذكره ولكن بطريقة معكوسة؛ إذ عنوَن المقال بـ الكلام “لن يجر بطيخ”؛ مبيّنًا بأنّ جولات المفاوضات والنقاشات بين الإسرائيليين والفلسطينيين والسوريين ستفضي فقط إلى المماطلة دون التوّصل إلى اتفاقيات سلام، ولن يجلب هذا الكلام أي خسارة للإسرائليين على عكس الفلسطينيين والسوريين. وعلى ما يبدو أنّ أبو شنب من محبي فاكهة البطيخ؛ إذ عنون مقالًا آخر، سابق للمقال الأول، في العام 1973 بالمثل “على السكّين .. يا بطيخ”، وهو قول مأثور يشير إلى باعة البطيخ الذين يسمحون للزبائن بشقّ البطيخة للتأكد من لونها قبل شرائها حتّى لا يندموا على قرارهم، ويستخدم هذا القول مجازًا لدعوة الناس لفحص أمورهم ومشترياتهم وقراراتهم قبل البدء بأي خطوة. إلا أنّ أبو شنب قد استخدمه ساخرًا من تفاؤل البعض بقرار الحكومة الإسرائيليّة الصادر في العام 1973 بتحرير الأوقاف والممتلكات الإسلامية وتسليمها إلى لجان أمناء معيّنة من قبل وزارة الأديان، مبيّنًا في مقاله أنّ هذه الخطوة ما هي إلا حبرًا على ورق، والهدف منها هو دعوة للحركات الإسلامية وأتباعها للمشاركة في انتخابات الكنيست في ذات العام مع بقاء الممتلكات الإسلامية بقبضة الحكومة الإسرائيلية.

الكلام لن يجر بطيخ، الاتحاد: 2 أيّار 1993
الكلام لن يجر بطيخ، الاتحاد: 2 أيّار 1993

 

على السكين يا بطيخ، الاتحاد: 1 حزيران 1973
على السكين يا بطيخ، الاتحاد: 1 حزيران 1973

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الصحافة المقدسية في فلسطين العثمانية والانتدابية في أرشيف جرايد

إلى جانب أبو شنب، نقل لنا الكاتب والصحافي هشام نفّاع في مقال كتبه في العام 1994 انتقاد أحد رؤساء المجالس المحلية الدرزية لعضو الكنيست الدرزي أسعد أسعد – ممثل المعسكر القومي عن الليكود – بعدم المطالبة بحقوق الطائفة الدرزية في الكنيست؛ إذ قال رئيس المجلس خلال مظاهرة “بلا حلف دم بلا بطيخ“؛ ويكأنّه يلمح لعدم كفاءة اتفاقية الحلف. ولقد استخدم العديد من الصحافيين الأمثال الشعبية عن البطيخ لوصف أحوال وأمور لا تُقارن بضخامة الأوضاع في يومنا هذا؛ إذ يبدوا أنهم كما المثل المصريّ القائل: “علشان حتة بطيخ عمل مشكلة وصريخ“.

"حفير هكنيست"، الاتحاد: 12 كانون الأول 1994
“حفير هكنيست”، الاتحاد: 12 كانون الأول 1994

اقرأ/ي أيضًا: دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل

عن البطيخ، لن ينتهي الكلام ولا الأمثال وربما يكون قول الكاتب مارك توين في روايته ويلسون المغفّل: “البطيخ طعام الملائكة” هو أرّق وألّذ ما قيل في البطيخ حتى يومنا هذا، ولن يسعفنا الإطالة والاستطراد في هذا المقال بالحديث عن البطيخ في غير الأمثال الشعبية لأنه كما المثل: بطيختين بالإيد ما بينحملوا”.

قرافة المماليك: بوابة سماء القاهرة الشرقية

تشهد صحراء المماليك على عراقة تاريخ المماليك بكثرة المباني المعمارية ذات الطابع الفني. في هذا المقال، سنتعرّف عليها وكيف تحوّلت إلى قرافة.

مشهد عام على جبل المقطّم في مدينة القاهرة، 1898-1907، أرشيف بن تسفي.

انغمست الدول على مر الزمن وحتى يومنا هذا ببناء العديد من المساجد، الكنائس، القلاع، القصور، والأبراج وغيرها من المنشآت المعمارية وذلك لإظهار مدى قوة ونفوذ الدولة من جهة، ولكسب شرعية البقاء من جهة أخرى. ولقد انشغلت السلطات الحاكمة في مصر على مر التاريخ بتقاليد البناء المعماري للمدافن من أيام الفراعنة حتى أواخر الأمبراطوريّة العثمانية، وكان لكل عصر التقليد المعماري الخاص به والذي يعكس وجه الدولة الحاكمة. وعلى الرغم من رفض الإسلام لتقديس الموتى، كانت العديد من الدول الإسلامية تجعل لمتصوفيها الأضرحة في مدافن للزيارة والتبرك بها. (حمزة، 2021) وقد بنى المماليك في صحراء شرق مدينة القاهرة وشمال باب النصر في منطقة الحسينيّة المساجد، المدارس، الخانقات، الأضرحة والمدافن فيما عُرف باسم “صحراء المماليك” أو “القرافة” أو “المقبرة الشمالية”. وكلمة “قرافة”، وفقًا لمعجم المعاني، هو اسم قبيلة يمنية سكنت بجوار المقابر في مصر، فلاحقًا، أصبح لفظ “قرافة” يُطلق على كل مقبرة. ولكن ما العلاقة بين القرافة والمماليك ولماذا وُصِفَت ببوابة السماء الشرقيّة؟

من ميدان صحرواي لاستعراض الجنود والممارسات الحربية إلى قرافة

بدأت الحكاية مع الظاهر بيبرس (1223 – 1277)، المؤسس الفعلي للدولة المملوكية، الذي قرّر تعزيز الجيش بالمعدّات والوسائل والتدريبات وذلك للتصدّي لهجمات المغول والصليبيين الدائمة. وكانت قدرات الجيش تُستعرض في ميدان صحراوي عُرف باسم ميدان الأسود أو الميدان الأخضر، بالإضافة إلى بناء مدّرج للمشاهدين. في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون (1285 – 1341)، ظهرت بعض المباني مثل المساجد والأضرحة والبيمارستانات (المشافي) والمدارس كذلك. مع ذلك، برز بتفرّد تطوّر العمران المملوكي في الفترة الثانية للدولة المملوكية وهي فترة المماليك البُرجية (سكان برج قلعة صلاح الدين) والذين يُعرفون أيضًا باسم المماليك الجراكسة (الشركسيين)؛ إذ بدأت هذه الفترة بحكم سيف الدين بن بُرقوق (1340 – 1399) وتلاه ابنه الناصر فرج بن بُرقوق (1386 – 1411) الذي حكم لفترتين؛ مرة في صباه حتى عُزِل ومرة ثانية بعدما انتزع حكمه من معتزليه. وقد كانت المنشأة المملوكية البُرجية الأولى في صحراء المماليك هي خانقاه يونس الداودار التي بناها للمتصوفين هناك، وقد كان الداودار أحد الأمراء المخلصين والمواليين لبُرقوق، ثم توالت الأبنية من خانقات ومساجد ومدارس لجميع الأئمة والمدارس الفقهية. وعلى الرغم من الصراعات الداخلية المطوّلة والاقتصاد المدمَّر الذي عاشته فترتي توليّ الظاهر فرج بن بُرقوق، إلا أنّه تمكّن من تشييد مجمع ضخم يتكوّن من خانقاه لأربعين صوفيًّا، جامع، ضريحيْن، وسبيليْن ومئذنتيْن ومدخلين وقاعات كبيرة لطلبة العلم. (حمزة، 2021)

مسجد السلطان فرج بن برقوق، 1857، مجموعة عائلة لينكن
مسجد السلطان فرج بن برقوق، 1857، مجموعة عائلة لينكن

 

المدخل الغربي لجامع وضريح فرج بن برقوق، 1894، مجموعة عائلة لينكن
المدخل الغربي لجامع وضريح فرج بن برقوق، 1894، مجموعة عائلة لينكن

للمزيد من صور المساجد والمنشآت المملوكية في القاهرة ضمن مجموعات صور المكتبة الوطنية الرقمية

وكما أسلفنا في أول المقال، كانت الصحراء عبارة عن ميدان للجنود والاستعراض الحربي، إلّا أنّ بناء الخانقات (زوايا عبادات المتصوّفيين) والأضرحة والمساجد قد ساهم في تطوّر نشاط حركات التصوّف في مصر ولا سيما في عهد المماليك البرجية حتى لقبت ببوابة السماء الشرقية؛ إذ كانت بقعة الصوفيين للتوجه لله في التضرّع، طلب العلم، حفظ القرآن وكذلك الإحسان لكل الفقراء والمشرّدين آنذاك. وأصبحت تُعرف باسم “القرافة” لكثرة مدافن الصوفيين والسلاطين المماليك فيها. ومن الأمثلة على هذه المنشآت: قبة ومدرسة الأشرف قايتباي ذات القبة المشابهة تمامًا لقبة سبيل قايتباي في المسجد الأقصى، قبة الأشرف برسباي وقبة والدته خديجة أم الأشرف، مجمع الأشرف إينال، مجمع قرقماس، معبد الرفاعي والكثير من القباب والأسبلة الشاهدة على التطوّر العمراني المملوكي القائم حتى يومنا هذا.

منشأة وقبر السلطان الأشرف قايتباي في القاهرة، مجموعة عائلة لينكن، المكتبة الوطنية
منشأة وقبر السلطان الأشرف قايتباي في القاهرة، مجموعة عائلة لينكن، المكتبة الوطنية

 

بطاقة بريدية مرسومة لسبيل قايتباي في المسجد الأقصى، أرشيف يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.
بطاقة بريدية مرسومة لسبيل قايتباي في المسجد الأقصى، أرشيف يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.


أكثر الأنماط المعمارية انتشارًا

في الفترة المملوكية الجركسية الوسطى والمتأخرة، أمست صحراء المماليك موضع الدفن المفضّل لأعيان الدولة وذلك لكثرة الرعاية السلطانية بها وبالمنشآت ولكثرة مزارات العامة. لذلك، كانت الأضرحة هي أكثر الأنماط المعمارية انتشارًا في الصحراء إمّا منفردة في البنيان أو جزءًا من مسجد أو مجمّع؛ إذ يوجد 88 ضريحًا من أصل 107 منشأة مملوكية، وجميعها مربّعة الشكل ويعلوها قبة مزخرفة تعكس النمط المعماري المملوكي المتمثّل في رسومات الزخارف الإسلامية الهندسية والنباتية.

ضريح السبع بنات: تعدّدت الأساطير والبركة واحدة

يعتبر ضريح السبع بنات من الأضرحة الهامة والمميزة في تاريخ المنطقة حتى اللحظة، ومن الملفت أنّ هذا الضريح يعود للدولة الفاطمية أي ما قبل الدول المملوكية، مع ذلك هو من الأضرحة الهامة والقيّمة في صحراء المماليك. على الرغم من أنّ المكان معروف باسم السبع بنات، إلّا أنّه في الحقيقة لا يوجد رفات لأي امرأة أو حتى فتيات صغيرات. فيما تقول إحدى الأساطير أن السبع بنات كانوا فعلًا سبعًا يعملن على خدمة أهالي المنطقة، يطبّبنَ المرضى ويوهبنَ الفقراء من مالهنّ الخاص، فأصبح لهنّ مكانة عالية في قلوب الناس، وبات ضريحهنّ مزارًا لكل سيدة تريد الإنجاب وذلك، وفقًا للأسطورة، برميها من تلة مرتفعة بعض الشيء كي تحدث لها الصدمة فينشط الرحم.

تشهد صحراء المماليك أو قرافة المماليك على عز الدولة المملوكية بكثرة القباب والأضرحة والمنشآت المعمارية والتي تحاكي حكايات النُصُب التذكارية التخليدية لشخصيات مروا في تاريخ الدول وساهموا في بنائها. ربما لم تعد صحراء المماليك بوابة للسماء كما كانت، إلا أنّها ما زالت رمزًا هامًّا لعراقة الحضارة الإسلامية التي لمعت وازدهرت آنذاك في مدينة القاهرة.

عودة إلى الفلسفة: لماذا لا نشعر بالدّهشة؟ وهل أهملنا العافية؟

انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. ولربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة في الأصل؟

انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. من أنا؟ ولماذا أنا موجود؟ وما هذا الكون الذي حولي؟ وتفرّعت عشرات التّوجهات الفلسفيّة انطلاقًا من هذه الأسئلة الأساس.

ومع أنّ تاريخ الفلسفة يمتد لأكثر من ألفيّ عام، فإنّ تعريفها ما زال ضبابيًا ويستعصي على التّفسير. وما زالت محلّ جدلٍ في كثير من المجتمعات، وقد اعتبرها الكثيرون خروجًا عن الدّين وتنكّرًا للحقيقة الّتي يقدّمها للإنسان. أو ربّما مسعى عقيم وثرثرة لا فائدة منها. أو أنّها ممارسة لا يمكن إلّا لنخبة صغيرة من النّاس أن تفهمها وتُسهم فيها.

إلّا أننّا شئنا أم أبينا، نعيش في حضارة بشريّة لطالما أثّرت في الفلسفة وتأثّرت بها، فإسكندر المقدوني الّذي غيّر وجه التّاريخ بتوسّعاته العسكريّة الّتي طالت الشّرق والغرب، كان تلميذًا للفيلسوف أرسطو، ولا يخلو تاريخ العصور الوسطى ولا تاريخنا الحديث، من ظهور تيّارات فكريّة وأيديولوجيّة وسياسيّة، حملت فلسفتها الخاصّة في دوافعها ورؤيتها لما ينبغي على حياة الفرد أو الدّولة أن تكون، وغيّرت بذلك مسار التّاريخ. أمّا ثقافتنا الّتي نعيشها اليوم، والتطوّر التكنولوجيّ والمعرفيّ الّذي يخدمنا ويضيّعنا أحيانًا، فيرى الكثيرون أنّه يعكس افتقارًا للاهتمام بالفلسفة، وأنّ الرّجوع إلى التّفلسف قد يفسح مجالًا أكثر أملًا وذي معنى للكائن البشريّ الحديث.

ولكن بغضّ النّظر عن رأينا في الفلسفة والفلاسفة، ربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة عبر العصور؟ وكيف فسّر بعض الفلاسفة الغاية من هذا المسعى؟ فلطالما واجه الفلاسفة عبر العصور استهجانًا من أبناء عصرهم ومحيطهم ووجدوا أنفسهم مضطرّين لتقديم إجابة ما لهذه الأسئلة الّتي ما زالت تُطرح في يومنا هذا: لماذا تتفلسفون؟ وما يمكن أن يجنيه البشر، وسط كلّ هذه الفوضى، من هذه التّأمّلات الّتي تبدو كأنها ضرب من ضروب الهذيان، وتستعصي على فهم الكثيرين؟

فلنرى، ربّما تكون إجابات بعض الفلاسفة على هذه الأسئلة كفيلة بإثارة اهتمامكم للغوص في هذا العالم. وقد اخترنا إجابتين من عصرين مختلفين وبعيدين عنّا اليوم، إلّا أنّهما تحاكيان اهتمامات وأسئلة ما زالت تشغلنا في عصرنا الحالي أيضًا.

 أرسطو: الدّهشة!

آمن أرسطو، فيلسوف القرن الرّابع قبل الميلاد، أنّ الدّهشة هي أوّل ما يبعث المرء على الفلسفة. إذًا فأرسطو ربط الفلسفة الّتي تمتاز بإعمال العقل والحكمة بالشّعور، وتحديدًا بشعور الدّهشة.

ولكنّ أرسطو لم يقصد الدّهشة الّتي نشعر بها حين نقابل أمرًا غريبًا واستثنائيًّا أو خارق الجمال، إنّما قصَد الدّهشة من الأمر الاعتيادي. أن تكون الأشياء المعهودة والمعتادة مثيرة للدّهشة والتّعجّب. أن لا يكون هناك ما هو مفهوم ضمنًا واعتياديًّا وغير جدير بالتّساؤل والتّفكير. حالة تشبه حالة الإنسان في سنينه الأولى حين يكون طفلًا، ولا يكفّ عن طرح الأسئلة الّتي لا يفكّر بها الكبار لأنّها أصبحت مفهومة ضمنًا ولا داعي أن يكون هناك فرصة للتّفكير فيها، وقد يرونها أسئلة تافهة أو بسيطة، إلّا أنّهم في الوقت ذاته لا يملكون الإجابات لها. فالطّفل قد يجلس في حديقة يجدها والداه عاديّة أو جميلة على الأكثر، لكنّ الطّفل يستطيع أن ينظر إلى العشب، الشّجر، الزّهور، الهواء، والحشرات على أنّها عالم مدهش إلى أبعد الحدود، عالمٌ يثير لديه سيل لا ينتهي من الأسئلة عن الوجود والعالم: ما هذه الشّجرة؟ لماذا هي هكذا؟ هل لديها أمّ؟ هل تعرف أنّني أنظر إليها؟ هل هي بيت ذلك العصفور؟ لماذا هو صغير؟ هل أنا محظوظ لأن بيتي أكبر من بيته؟

وفقًا لهذه النّظرة، فإنّ العالم الّذي نعيش فيه أشبه باللّغز الّذي لا مناص منه، تثيرنا الدّهشة والتّعجب، فنبدأ بالتّساؤل وبالبحث عن أدلّة وإجابات. ولذلك، نجد أن جلّ علماء الأحياء والفيزياء والرّياضيات القدامى كانوا أيضًا فلاسفة.


محمّد بن معشر المقدسي وإخوان الصّفا: العافية!

عاش محمّد بن معشر البستي والمعروف بالمقدسي في مدينة البصرة العراقيّة في القرن العاشر للميلاد. وكان منتميًا لجماعة “إخوان الصّفا” السّريّة الّتي اشتغلت في الفلسفة والعقائد الدّينيّة وألّفت ما يزيد عن خمسين رسالة. عُرفت تلك الحقبة التّاريخيّة للحضارة الإسلاميّة بالتّنوع الفكري والنّقاش واسع المدى بين روّاد التّوجّهات المختلفة. وفي هذا المناخ المزدهر فكريًا، توجّه أحد نقّاد الفلسفة إلى محمّد بن معشر المقدسي كمن بدا عليه حبّ الفلسفة بالسؤال التّالي: لماذا نحتاج الفلسفة ولدينا الشّريعة؟ إليكم إجابة المقدسي الذّي يوضّح بها الفارق بين الشّريعة والفلسفة برأيه.

“الشّريعة طبّ المرضى، والفلسفة طبّ الأصحّاء. والأنبياء يطبّبون للمرضى حتّى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. وأمّا الفلاسفة فإنّهم يحفظون الصّحة على أصحابها، حتّى لا يعتريهم مرض أصلًا. فبين مدبّر المريض وبين مدبّر الصّحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف، لأنّ غاية تدبير المريض أن يُنتقل به إلى الصّحة، هذا إذا كان الدّواء ناجعًا، والطّبع قابلًا، والطّبيب ناصحًا. وغاية تدبير الصّحيح أن يحفظ الصّحة، وإذا حفظ الصّحة فقد أفاده كسب الفضائل وفرّغه لها وعرّضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسّعادة العظمى”.

نستدلّ من ما ورد عن المقدسيّ إذًا أمرين عن الفلسفة، الأوّل هو أنّه وجد الفلسفة ضروريّة للحفاظ على صحّة الإنسان كي لا يتعرّض للمرض، والأكيد أنّه يقصد مرضًا غير جسدي إنّما عقلي أو نفسي أو روحي. والأمر الثّاني هو أنّه رأى أن غاية الفلسفة هي أن يكون الإنسان سعيدًا. وفي هذا اتّفق معه عددٌ من الفلاسفة السّابقين واللّاحقين.

ومن يدري، قد تأتيكم قراءة الفلسفة بالدّهشة والعافية والسّعادة معًا!

شاعر الفقراء الّذي علّم نفسه بنفسه: تعرّفوا على نايف سليم سويد ابن البقيعة

وُلد الشّاعر نايف سليم سويد عام 1935 في البقيعة لعائلة متواضعة الحال، وكان لولادته في هذا الزّمان والمكان على وجه التّحديد الأثر الأكبر على مسيرته الّتي انعكست في مجموعة الملصقات الّتي تركها لنا.

البقيعة عام 1910، بيتمونا

“ينقط شعره عسلًا أحلى من تين البقيعة” قال إميل حبيبي عن الشّاعر نايف سليم. عضو الحزب الشّيوعي وأحد مؤسّسي لجنة المبادرة الدرزيّة العربيّة، صحافيّ مخضرم، كاتب وفلّاح وحلّاق وسوّاق والمزيد. تبرّع الشّاعر نايف سليم للمكتبة الوطنيّة بمجموعة من الملصقات والمنشورات الهامّة الّتي تعود إلى سنوات السّبعينيّات والثّمانينيّات وحّتى عام 2000. وهي ملصقات هامّة تشهد على الحركة الثّقافيّة والسّياسيّة العربيّة في شمال البلاد وتُظهر مشاركة الشّاعر سويد فيها. في هذه المقالة نتعرّف أكثر إلى قصّة حياة الشّاعر ونشأته وأشعاره، وفي قصّته نموذج نفهم من خلاله حياة جيل كامل. ذكريات نستعيدها من مقالاته وأشعاره ومقابلاته المصوّرة.

                    للاطلاع على مجموعة الملصقات العربية في الأروقة الرقمية للمكتبة الوطنية

وُلد الشّاعر لعائلة درزيّة فقيرة كما يصفها، عام 1935. كان أبو فلّاح وكان من واجبه وأخوته مساعدته دائمًا، إلّا أن والده كان من مقدّسي الكتاب، فإذا رأى أحد أبناءه مأخوذًا بالقراءة تركه ولم يطلب منه المساعدة. التحق نايف الطّفل بالمدرسة الابتدائيّة في قرية الرّامة حيث درس عامين وتوقّفت المدرسة عن العمل في عام 1948. فأكمل تنوّره وقراءته بالاعتماد على مهارة القراءة الّتي تمكّن من اكتسابها بسرعة في الرّامة، وطوّرها حين كان يطيع أبيه في كلّ مرّة يطلب منه أن يقرأ له ولرفاقه السّاهرين “طرفة” أو قصّة من قصص عنترة أو كليلة ودمنة.

للمزيد حول الطائفة الدرزية في المكتبة الوطنية، اضغطوا هنا

في هذه السّنوات توفّيت أمّه عن عمرٍ يناهز 36 عامًا فقط، وكان هو يبلغ من العمر 12 عامًا فقط، وقد كتب في وفاتها قصيدة، قرأها على والده وأصدقائه وأصرّوا على أبيه أن يحثّه على الاستمرار في كتابة الشّعر. لم تكن هذه أوّل قصيدة يكتبها نايف الطّفل، ففي مقابلة في بيته يتحدّث الشّاعر عن قصيدة كتبها أثناء دراسته في الرّامة وقبل وفاة والدته. وقد كتب العديد من القصائد الحزينة في طفولته، تركّز معظمها على الظّروف المعيشيّة القاهرة الّتي عاشها الشّاعر وفقر عائلته الشّديد، وغالبًا ما يذكر ثيابه الممزّقة وخجله منها أمام زملائه أو معلّميه.

“لبست يوم العيد بدلة

لا تسألو من أين

لبستها ورحت باختيال

أسابق الفراشة والظلال

على طريق العين

وعندما تحلق الأولاد

حول بدلتي يقهقهون

أطرقت في سكون

وسرت في الطريق

بكيت يوم العيد

لأن أمي فصّلتها

آه ..من قمباز والدي العتيق

واكتشف الأولاد سرّنا

مشيت في الطريق

أنشج يوم العيد

ويضحك الأولاد”

بقي التعبير عن الفقر وحقّ المظلومين ومواجهة الإستغلالييّن هدف يظهر في أشعار نايف سليم دومًا، حتّى لقّبه البعض بشاعر الفقراء. ولا عجب أنّ الشّاعر الشّاب وجد انتماءًا في نفسه للفكر الشّيوعي الاشتراكي، فانضم للحزب الشيوعي عام 1965 وتبعه بضعة شبّان من البلد. تأثّر الشّاعر الشّاب بشخصيّات عديدة في سنوات طفولته ومراهقته ممن سكنوا البقيعة، وتحدّث عنها في مقالاته وفي طرفه الّتي يحكيها لأهالي البلدة وزوّارها، شخصيّات تركت أثر التّعلّق بالعروبة والتمرّد.

فيحكي مثلًا عن الأب جبران ساكن قرية البقيعة، إذ تورّط الأب في عراك مع أشخاص من القرية، فأتي أحدهم إليه قائلًا “يا أبونا لا يجوز لك أن تصيح بأحدهم، ألم يقل المسيح أعط خدّك الأيسر لمن يضربك على خدّك الأيمن” فأجابه الأب بأن المسيح لا يمكن أن يرضى بهذا، وأنّ هذا كلام الرّومان نسبوه إليه لكي يتحكّموا في النّاس، أمّا أنا فمن يضربني على خدّي الأيمن سأكسر يديه! كان أمثال الأب جبران كُثر ممّن تأثر بهم نايف سليم وزرع حضورهم في حياته رغبة بأن يكون ثوريًا ومختلفًا.

تنقّل نايف سليم بين العديد من المهن بينما استمرّ بتثقيف نفسه وبالاهتمام بالشأن العام. وفي العام 1972 كان من المشاركين بتأسيس لجنة المبادرة الدّرزيّة العربيّة، والّتي أشرف سويد على كتابة وتحرير مئات المناشير لها، وعشرات المجلّات والنّشرات. كما ترأس المجلس المحلّي للقرية كذلك.

في مجموعة الملصقات الّتي أهداها الشّاعر للمكتبة الوطنيّة نجد خطاه في هذه المسيرة بكلّ وضوح، فمن الأمسيات الشّعريّة والأدبيّة مرورًا بنشاطات الشّبيبة الشّيوعيّة ونشاطات الحزب الجماهيريّة عمومًا، إلى دعوات رسميّة من لجنة المبادرة ومؤتمرات عديدة نرى من خلالها عن قرب تطوّر الحركة الثّقافيّة والسياسيّة الّتي عايشها بتفاصيلها. وما زال الشّاعر في بيته إلى اليوم مزارًا ومعلمًا يرحّب بضيوفه ممّن يريدون التّعرف إلى تاريخ القرية، أو طرفها المضحكة، أو عمل الحزب الشّيوعي أو لجنة المبادرة.

للمزيد عن الشاعر نايف سليم سويد في المكتبة الوطنية، تصفحوا بوابتنا الرقمية المعرفية