عودة إلى الفلسفة: لماذا لا نشعر بالدّهشة؟ وهل أهملنا العافية؟

انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. ولربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة في الأصل؟

انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. من أنا؟ ولماذا أنا موجود؟ وما هذا الكون الذي حولي؟ وتفرّعت عشرات التّوجهات الفلسفيّة انطلاقًا من هذه الأسئلة الأساس.

ومع أنّ تاريخ الفلسفة يمتد لأكثر من ألفيّ عام، فإنّ تعريفها ما زال ضبابيًا ويستعصي على التّفسير. وما زالت محلّ جدلٍ في كثير من المجتمعات، وقد اعتبرها الكثيرون خروجًا عن الدّين وتنكّرًا للحقيقة الّتي يقدّمها للإنسان. أو ربّما مسعى عقيم وثرثرة لا فائدة منها. أو أنّها ممارسة لا يمكن إلّا لنخبة صغيرة من النّاس أن تفهمها وتُسهم فيها.

إلّا أننّا شئنا أم أبينا، نعيش في حضارة بشريّة لطالما أثّرت في الفلسفة وتأثّرت بها، فإسكندر المقدوني الّذي غيّر وجه التّاريخ بتوسّعاته العسكريّة الّتي طالت الشّرق والغرب، كان تلميذًا للفيلسوف أرسطو، ولا يخلو تاريخ العصور الوسطى ولا تاريخنا الحديث، من ظهور تيّارات فكريّة وأيديولوجيّة وسياسيّة، حملت فلسفتها الخاصّة في دوافعها ورؤيتها لما ينبغي على حياة الفرد أو الدّولة أن تكون، وغيّرت بذلك مسار التّاريخ. أمّا ثقافتنا الّتي نعيشها اليوم، والتطوّر التكنولوجيّ والمعرفيّ الّذي يخدمنا ويضيّعنا أحيانًا، فيرى الكثيرون أنّه يعكس افتقارًا للاهتمام بالفلسفة، وأنّ الرّجوع إلى التّفلسف قد يفسح مجالًا أكثر أملًا وذي معنى للكائن البشريّ الحديث.

ولكن بغضّ النّظر عن رأينا في الفلسفة والفلاسفة، ربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة عبر العصور؟ وكيف فسّر بعض الفلاسفة الغاية من هذا المسعى؟ فلطالما واجه الفلاسفة عبر العصور استهجانًا من أبناء عصرهم ومحيطهم ووجدوا أنفسهم مضطرّين لتقديم إجابة ما لهذه الأسئلة الّتي ما زالت تُطرح في يومنا هذا: لماذا تتفلسفون؟ وما يمكن أن يجنيه البشر، وسط كلّ هذه الفوضى، من هذه التّأمّلات الّتي تبدو كأنها ضرب من ضروب الهذيان، وتستعصي على فهم الكثيرين؟

فلنرى، ربّما تكون إجابات بعض الفلاسفة على هذه الأسئلة كفيلة بإثارة اهتمامكم للغوص في هذا العالم. وقد اخترنا إجابتين من عصرين مختلفين وبعيدين عنّا اليوم، إلّا أنّهما تحاكيان اهتمامات وأسئلة ما زالت تشغلنا في عصرنا الحالي أيضًا.

 أرسطو: الدّهشة!

آمن أرسطو، فيلسوف القرن الرّابع قبل الميلاد، أنّ الدّهشة هي أوّل ما يبعث المرء على الفلسفة. إذًا فأرسطو ربط الفلسفة الّتي تمتاز بإعمال العقل والحكمة بالشّعور، وتحديدًا بشعور الدّهشة.

ولكنّ أرسطو لم يقصد الدّهشة الّتي نشعر بها حين نقابل أمرًا غريبًا واستثنائيًّا أو خارق الجمال، إنّما قصَد الدّهشة من الأمر الاعتيادي. أن تكون الأشياء المعهودة والمعتادة مثيرة للدّهشة والتّعجّب. أن لا يكون هناك ما هو مفهوم ضمنًا واعتياديًّا وغير جدير بالتّساؤل والتّفكير. حالة تشبه حالة الإنسان في سنينه الأولى حين يكون طفلًا، ولا يكفّ عن طرح الأسئلة الّتي لا يفكّر بها الكبار لأنّها أصبحت مفهومة ضمنًا ولا داعي أن يكون هناك فرصة للتّفكير فيها، وقد يرونها أسئلة تافهة أو بسيطة، إلّا أنّهم في الوقت ذاته لا يملكون الإجابات لها. فالطّفل قد يجلس في حديقة يجدها والداه عاديّة أو جميلة على الأكثر، لكنّ الطّفل يستطيع أن ينظر إلى العشب، الشّجر، الزّهور، الهواء، والحشرات على أنّها عالم مدهش إلى أبعد الحدود، عالمٌ يثير لديه سيل لا ينتهي من الأسئلة عن الوجود والعالم: ما هذه الشّجرة؟ لماذا هي هكذا؟ هل لديها أمّ؟ هل تعرف أنّني أنظر إليها؟ هل هي بيت ذلك العصفور؟ لماذا هو صغير؟ هل أنا محظوظ لأن بيتي أكبر من بيته؟

وفقًا لهذه النّظرة، فإنّ العالم الّذي نعيش فيه أشبه باللّغز الّذي لا مناص منه، تثيرنا الدّهشة والتّعجب، فنبدأ بالتّساؤل وبالبحث عن أدلّة وإجابات. ولذلك، نجد أن جلّ علماء الأحياء والفيزياء والرّياضيات القدامى كانوا أيضًا فلاسفة.


محمّد بن معشر المقدسي وإخوان الصّفا: العافية!

عاش محمّد بن معشر البستي والمعروف بالمقدسي في مدينة البصرة العراقيّة في القرن العاشر للميلاد. وكان منتميًا لجماعة “إخوان الصّفا” السّريّة الّتي اشتغلت في الفلسفة والعقائد الدّينيّة وألّفت ما يزيد عن خمسين رسالة. عُرفت تلك الحقبة التّاريخيّة للحضارة الإسلاميّة بالتّنوع الفكري والنّقاش واسع المدى بين روّاد التّوجّهات المختلفة. وفي هذا المناخ المزدهر فكريًا، توجّه أحد نقّاد الفلسفة إلى محمّد بن معشر المقدسي كمن بدا عليه حبّ الفلسفة بالسؤال التّالي: لماذا نحتاج الفلسفة ولدينا الشّريعة؟ إليكم إجابة المقدسي الذّي يوضّح بها الفارق بين الشّريعة والفلسفة برأيه.

“الشّريعة طبّ المرضى، والفلسفة طبّ الأصحّاء. والأنبياء يطبّبون للمرضى حتّى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. وأمّا الفلاسفة فإنّهم يحفظون الصّحة على أصحابها، حتّى لا يعتريهم مرض أصلًا. فبين مدبّر المريض وبين مدبّر الصّحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف، لأنّ غاية تدبير المريض أن يُنتقل به إلى الصّحة، هذا إذا كان الدّواء ناجعًا، والطّبع قابلًا، والطّبيب ناصحًا. وغاية تدبير الصّحيح أن يحفظ الصّحة، وإذا حفظ الصّحة فقد أفاده كسب الفضائل وفرّغه لها وعرّضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسّعادة العظمى”.

نستدلّ من ما ورد عن المقدسيّ إذًا أمرين عن الفلسفة، الأوّل هو أنّه وجد الفلسفة ضروريّة للحفاظ على صحّة الإنسان كي لا يتعرّض للمرض، والأكيد أنّه يقصد مرضًا غير جسدي إنّما عقلي أو نفسي أو روحي. والأمر الثّاني هو أنّه رأى أن غاية الفلسفة هي أن يكون الإنسان سعيدًا. وفي هذا اتّفق معه عددٌ من الفلاسفة السّابقين واللّاحقين.

ومن يدري، قد تأتيكم قراءة الفلسفة بالدّهشة والعافية والسّعادة معًا!

عاش الأول من أيار؛ عيد العمال الأحرار

تسلط هذه المقالة الضوء على أوضاع وحال يوم العمال في القرن الماضي بالاستعانة بمواد من أرشيف جرايد ومجموعة ملصقات المكتبة.

تحتفل معظم دول العالم في الأول من أيّار بيوم العمال العالمي، وقد شاءت الأقدار أن تكون الأعياد أو بعض الأيام السنوية لأكثر الأفراد أو الجماعات حاجةً للتقدير والاهتمام الدائم، كالأم، المرأة، وذوي الاحتياجات الخاصة، الطفل، الأب (في بعض الدول)، والعمّال، بل وحتى الأرض. ولأن العامل قد يكون جزءًا من كل ما ذُكر سابقًا، لا بد من تسليط الضوء على قضاياه وأهميته في بناء منظومات الدول الاقتصادية على المستويات المحلية والعالمية. ولا بد من التأكيد على أنّ يوم العمّال ليس فقط للتقدير، بل هو كذلك دعوة لكافة العمال للمطالبة بحقوقهم، دعمهم المادي والمعنوي، والتأكيد على نضالهم في النهوض لتحسين الأوضاع والأحوال الاقتصادية بل والاجتماعية والأكاديمية في أحوال أخرى.

في البلاد، كان وربما لا تزال هنالك نكهة خاصة ليوم العمال، ففيه تنطلق الدعوات لمحاربة الرأسمالية المتجذرة في القطاعات الخاصة والعامة والتي تستهدف طاقات وذوات العمال. في ظل الانتداب البريطاني والفترة اللاحقة، رصدت الصحف الفلسطينية دعوات العمال العرب لمناهضة كل القوى التي وقفت أمامهم: ولقد وددنا في هذا المقال تسليط الضوء على بعض الأخبار والأحداث والدعوات الجماهيرية في يوم العمّال.

صحيفة فلسطين: 05 أيّار 1931
صحيفة فلسطين: 05 أيّار 1931

في خبر بسيط في الصفحة السادسة لصحيفة فلسطين بعد أربعة أيّام من عيد العمّال، وكان الخبر أنّ عيد العمّال مرّ على المدن الفلسطينية دون احتجاجات أو صراعات مع السلطات الانتدابية، كذلك أكّد الخبر أن العمّال اليهود لم يفتعلوا المشاكل في هذا اليوم. في ذات الصفحة وتحت هذا الخبر، رصدت الصحيفة عيد العمّال في دول أخرى مثل: بولونيا، إسبانيا، الهند، أستراليا … إلخ.

في المقابل لهذا الخبر، صدر في فلسطين الانتدابية منشورًا عن الهئية المركزية لحزب عمال فلسطين (بوعلي تسيون)، دعوة لكافة العمال بعنوان “يا عمال جميع العالم، اتحدوا” وكانت دعوة واضحة وصارمة للعمال العرب واليهود للاتحاد ضد الرأسماليين العرب واليهود، والمطالبة بإحياء عيد العمّال بالوحدة والعمل والمطالبة بحقوق العمّال، بل أسرف المنشور إلى دعوة العمال إلى محاربة عائلتي الحسيني والنشاشيبي لأنهم إقطاعيّ البلاد، على حد وصفهم.

يا عمّال جميع العالم، اتحدوا
يا عمّال جميع العالم، اتحدوا

في العام 1931، توجهت النقابة العربية لعمال سكة الحديد في مدينة حيفا بدعوة العمّال العرب للتصدّي لدعوات نقابة العمال اليهودية بدعوة العمال العرب للانضمام لها والتمرد على النقابة العربية بحجة أنّ النقابة العربية غير فعّالة ولا تعمل لصالح العامل العربي. وهنا تظهر أحد الحيل والمؤامرات التي تستخدم العامل البسيط لأهداف اقتصادية وسياسية على المدى البعيد.

إلى جميع عمال فلسطين
إلى جميع عمال فلسطين

قامت كذلك صحيفة الاتحاد برصد بعض الأحداث والأخبار في يوم العمّال، فمثلاً في ثمانينيّات القرن الماضي رُصدت بعض الأخبار والأحداث المختلفة في يوم العمّال والتي كان لها أثرًا على المستوى الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي، مثل إسقاط الحكومة، توزيع ورود، فصل عمال… إلخ.

 تصفحوا أخبار يوم العمال في أرشيف جرايد

الإتحاد: 30 نيسان 1982
الاتحاد: 30 نيسان 1982

 

الاتحاد: 2 أيّار 1985
الاتحاد: 2 أيّار 1985

 

الاتحاد: 3 أيّار 1983
الاتحاد: 3 أيّار 1983

 

الاتحاد: 5 أيّار 1985
الاتحاد: 5 أيّار 1985

وفي الختام، نستذكر أنّ يوم العمّال هو يوم للتذكير بأهمية كافة العمّال في كافة القطاعات الحكومية والخاصة وفي كافة المجالات بدون استثناء، ولا بد من وقفة فخر لأن ما يُصنع ويُقدّم باسم أي دولة هو الجهد اليومي خلال ثماني ساعات على الأقل لعامل أو عاملة لهم حياة أخرى غير العمل.

وعاش الأول من الأيار، عيد العمال الأحرار

البيزا الألبانيّة ومساعدة المسلمين لليهود أثناء المحرقة

الدولة الأوروبيّة ذات الاغلبيّة المسلمة والوحيدة الّتي أضحى عدد اليهود فيها بعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانيّة أكثر ممّا كان عليه قبل اندلاعها. تعرّفوا على القصّة الكاملة هنا.

تحمل كارثة اليهود في القرن الماضي رغم فظاعتها الشّديدة قصصًا إنسانيّة عظيمة في طيّاتها. فرغم وحشيّة الجريمة ولامعقوليّتها، نجد أنّ بعض النّاس تحلّوا بالإنسانيّة والنُّبل الكافي لمساعدة أشخاص غرباء عنهم وتعريض أنفسهم للخطر دون أي مقابل أو رجاء، لمجرّد الوفاء والمسؤوليّة تجاه قيمة رفيعة بداخلهم، أو كما يسمّيها الألبانيّون “بيزا”.

تعني كلمة “بيزا” المتوارثة لدى الألبانيين عبر العقود “الوفاء بالوعد”، ويمكننا القول أنّها توازي مفهوم المروءة لدى العرب. فإن الإنسان الألبانيّ عليه أن يتحلّى بال”بيزا” إن كان يدعو نفسه ألبانيًّا بغضّ النّظر عن معتقده الدّينيّ. يجب أن يكون وفيًّا طيّبًا وأن يُكرم من يطرق بابه أيّا كان. وهذا ما فعله الألبانيّون لمئات اليهود الّذين فرّوا بأرواحم من ألمانيا والنّمسا وصربيا واليونان ويوغسلافيا نحو أراضي ألبانيا الجبليّة وأهلها الطيّبين.

كانت ألمانيا النّازيّة بزعامة هتلر قد أطلقت ما رأته حلّا للمشكلة اليهوديّة آنذاك، وهو إبادة اليهود تمامًا من جميع مناطق نفوذ ألمانيا بل ونفوذ حلفائها قدر الإمكان. ورغم وقوع ألبانيا تحت الاحتلال الإيطاليّ ومن ثمّ الألماني خلال الحرب العالميّة الثّانيّة إلّا أن الألبانيون استمرّوا بحماية اليهود الوافدين إليها ورفضوا تسليم قائمة بأسماء اليهود القاطنين فيها كما كان الحال في المناطق الّتي احتلّتها ألمانيا. علاوة على ذلك، قامت جهات رسميّة عديدة في ألبانيا بتزويد اليهود الألبانيّي الأصل والمقدّر عددهم ب200 في ذلك الوقت ببطاقات هويّة مزيّفة لحمايتهم من كشف هويّتهم اليهوديّة.

مقاتلون ألبانيّون في مواجهة الغزاة الألمان عام 1943
مقاتلون ألبانيّون في مواجهة الغزاة الألمان عام 1943

 

قام الألبانيّون باستضافة اليهود اللاجئين في بيوتهم القرويّة، وللحفاظ على سرّية الأمر قاموا بإلباسهم كما الفلّاحين في تلك المناطق حتّى يتمكّنوا من دمجهم في الحياة اليوميّة دون خوف، وقاموا بإيوائهم لسنوات حتّى انتقل معظم اليهود الّذين لجؤوا إلى ألبانيا، والمقدّر عددهم ب 1800، إلى البلاد بعد إعلان قيام دولة إسرائيل. فقد شكّلت ال”بيزا” قيمة وطنيّة وقوميّة لدى الألبانيّين، فكانت ضيافتهم وحمايتهم لليهود محلّا للمنافسة فيما بينهم، فمن ينقذ عدًدا أكبر من اليهود كان ألبانيّا أفضل، تزوّده مساعدته هذه بالفخر لا بالمشقّة. ولذلك، نرى أنّ الغالبيّة السّاحقة من اليهود الّذين اختاروا الحماية في ألبانيا تمّ إنقاذهم بالفعل، وأنّ عدد اليهود في ألبانيا وصل إلى 1800 نفرًا عقب نهاية الحرب العالميّة الثّانية. أي أنه تضاعف بتسع مرّات.

شاهد/ي أيضًا: الحرب العالمية الثانية: معارض رقمية لصور وأخبار من الصحف

ما زالت العائلات اليهوديّة والألبانيّة تتذكّر تلك السّنوات الّتي طبعها الخوف والمآزرة معًا، والّتي تغلّب فيها الحسّ الإنسانيّ والأخلاقيّ على الرّعب والجريمة الّذي هيمن على معظم الأراضي الأوروبيّة حينها.

شهادة فخر تمّ منحها لبعض العائلات الألبانيّة الّتي قامت بإنقاذ يهود أثناء المحرقة. المصدر من كتاب Besa Code of Honor
شهادة فخر تمّ منحها لبعض العائلات الألبانيّة الّتي قامت بإنقاذ يهود أثناء المحرقة. المصدر من كتاب Besa Code of Honor

 

ليما بيلا، امرأة ألبانيّة مسلمة كانت تبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا حين حضر إلى قريتها سبعة عشر شخصًا يطلبون المساعدة. لم يتعرّفوا إلى ديانتهم وكانوا يتحدّثون بلغات لم يفهمها أهل قريتها حينها. إلّا أنّ أهالي القرية قاموا باقتسام اللاجئين فيما بينهم وآووهم في بيوتهم الفقيرة، حيث اقتسموا الحطب والمياه والخضروات الّتي زرعوها حول بيوتهم فيما بينهم دون طلب الأجر من الوافدين اليهود. تقول ليما أنّ حتّى الشّرطة المحلّية في ذلك الوقت كانت تعلم أنّ القرية تقوم بحماية بعض اليهود إلّا أنّهم لم يسائلوهم في الأمر. قامت ليما بحماية ثلاثة إخوة يهود من عائلة عازار لثمانية عشر شهرًا ومن ثمّ ساعدهم قريبها المحارب بالفرار نحو محطّتهم القادمة، ولم تسمع أخبار الأخوة الثّلاثة إلّا في عام 1990.

ليما بالا Besa code of honor
ليما بالا Besa code of honor

 

عائلة فيسلي المسلمة مع العائلتين اليهوديّتين جوزيف ومانديل في بيتهم في قرية كروج عام 1944. Besa code of Honor
عائلة فيسلي المسلمة مع العائلتين اليهوديّتين جوزيف ومانديل في بيتهم في قرية كروج عام 1944.
Besa code of Honor

 

من القصص المؤثّرة كذلك قصّة عائلتيّ موشيه مانديل ورفيق فيسلي، كان موشيه مصوّرًا فوتوغرافيّا بمهنته، بعد طرده من كوسوفو ووصوله إلى قرية كافاجي، فرّ من القرية مجددًا نحو مدينة تيرانا بعد غزو ألمانيا لألبانيا، ظنًا منه أن الاختباء في المدينة الكبيرة سوف يحميه من ملاحقة الألمان. هناك تعرّف على رفيق الّذي أصبح رفيقه وتلميذه في التّصوير الفوتوغرافيّ. وحين ازدادت الأمور سوءًا وأصبحت حياة موشيه وعائلته في خطر. استضاف رفيق موشيه وعائلته في بيت أهله. حيث عاشت العائلتين بمودّة وأمان. وأعادوا التّواصل فيما بينهم بعد سنوات طوال، حين أصرّ موشيه على متحف المحرقة “ياد فاشيم” أن يمنح رفيق فيسلي لقب “الأشرف من بين الأمم”.

وصفت زوجة رفيق بيتها حين سألوها عن استضافة العائلة اليهوديّة بأن بيتها هو بيت الله أوّلا، ثمّ بيت الضّيف ثانيًا، ثمّ بيت العائلة أخيرًا. وأن الإسلام يعلّمهم بأن المسلمين واليهود والمسيحيّين تحت الله الواحد.

تبقى هذه القصص جزءًا من العديد مثلها، الّتي مهما ساءت الظّروف واشتدّ الظّلم، تظلّ تبعث الأمل بإنسانيّة ممكنة.

عيد الفصح اليهودي و”شمّ النسيم” المصريّ – هل من قرابة؟

ماذا تعرفون عن أعياد الرّبيع القديمة؟ وهل الفصح واحدٌ منها؟ تعرّفوا على القصّة التّراثيّة لكلّ من العيدين، وهل من قرابة أو أصل مشترك بينهما؟

كان المصريّون القدماء يقدّمون قرابينهم من السّمك المملّح إلى “أوزوروس” إله البعث في بداية ربيع كلّ عام ليشكرونه على بعث الرّبيع والخضرة من جديد بعد الشّتاء، وفي ذكرى اليوم الّذي انتصر فيه ابنه الصّالح الإله “حورس” على الإله “ست” إله الشّر فاستوى اللّيل والنّهار وجاء الرّبيع بخيره على البشر. توازى هذا التّقليد القديم مع احتفال غالبيّة الحضارات القديمة بأعياد لطالما ارتبطت معانيها بفصول السّنة وتغيّر الطّبيعة وأثرها على المورد الأوّل للإنسان في ذلك الوقت، الزّراعة والخصوبة.

من المرجّح أنّ العيد “شمّو”، الّذي أصبح فيما بعد “شمّ النّسيم” مناسبة احتفل بها المصريّون القدامى منذ عام 2700 قبل الميلاد، ومن المثير للاهتمام أن هذه المناسبة ما زالت قائمة وملبّاة في مصر اليوم بعد آلاف السّنين وتبدّل الحضارات والأديان. فما زال المصريّون إلى اليوم يتّخذون اليوم التّالي لعيد الفصح المسيحيّ، بحسب التّقويم المسيحي الشّرقي لدى الأقباط، موعدًا ثابتًا للاحتفال بشمّ النّسيم كلّ عام. فتخرج العائلات على اختلاف طوائفها ومذاهبها وتأخذ المأكولات الخاصّة بهذا العيد للاحتفال بقدوم الرّبيع واستنشاق نسيمه، بتقليدٍ مستمرّ منذ ما يزيد عن أربعة آلاف عام. وهو ما يكون أحيانًا موضع انتقادٍ لمن يرى أن الاحتفال بـ “شمّ النّسيم” ممارسة وثنيّة قديمة لا ينبغي اتّباعها الآن.

في الخامس والعشرين من الشّهر الجاري سيحتفل المصريّون في عيد شمّ النّسيم لعام 2022، وسيحضّرون سمك “الرينجة” والبصل الأخضر والخس والطّبق الأشهر لهذا العيد وهو “الفسيخ” أي السّمك المملّح.

ومن المثير للاهتمام، أنّ اسم هذا الطّبق الشّهير الّذي ارتبط بهذا العيد لآلاف السّنين يشبه إلى حدّ بعيد كلمة “الفصح” كما تُلفظ وتُكتب بالعبريّة “بيساخ” وأوّلها حرب الـ “بي” الّذي يلفظ في بعض الأحيان “ف”. وهو العيد الّذي سينتهي موعده لهذا العام أيّام قليلة قبل حلول شم النّسيم المصريّ. فهل يرتبط اسم العيد بنسختيه اليهوديّة والمسيحيّة بعيد “شمّو” الفرعوني؟ وهل الـ “فسيخ” أو الـ “فيساخ”  كلمة فرعونيّة قديمة تدحرجت لتحمل معاني عديدة ارتبطت بمناسبة واحدة؟

جبل سيناء ورحلة خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، القرن ال19، أرشيف ياد يتسحاك
جبل سيناء ورحلة خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، القرن ال19، أرشيف ياد يتسحاك

 

خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، 1829، موقع متحف برمنغهام للفنون
خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، 1829، موقع متحف برمنغهام للفنون

تحكي لنا النّصوص التّراثيّة اليهوديّة عن عيد الفصح لليهود بأنّه احتفال الشّعب اليهودي بخروجه من مصر بعد استعباده وظلمه من قبل فرعونها. وأنّه بعد اشتداد ظلم المصرييّن لهم، أراد الرّب أن يعاقب المصريّين بأن يميت أبكارهم الصّبيان جميعًا، وكي لا يصيب أبكار اليهود أمرهم بترك علامات على أسطح بيوتهم كي “يفسخ” عنها ولا يأخذ حياة الصّبيان الّذين بداخلها. و”يفسخ” هنا كلمة عبريّة وردت في التّوراة في سفر الخروج بمعنى “يستثني” أو “يتجاوز”. وبحسب المعتقد اليهوديّ فإنّ تسمية العيد بعيد “الفصح” جاءت من هذه الحادثة ومن هذا اللّفظ بالتّوراة. فبعدها تمكّن اليهود من الخروج بالسّلامة من مصر.

إلّا أن البعض يشير إلى ارتباط خروج اليهود من مصر بعيد شمّ النّسيم، إذ يتزامن الموعدان، ولربّما احتفل اليهود مع المصريّين قبل خروجهم من مصر بعيد “شمّو” إلّا أنّهم بعد الخروج قاموا بتغيير بعض طقوسه لتذكّرهم بالنّجاة من مصر وبقيت الكلمة “فسخ” مرتبطة بالمناسبة بطريقة ما.

إلّا أنّ تشابه الكلمات لا يدلّ بالضّرورة على ارتباط العيدين ببعضهم البعض. فهناك من يفسّر تسمية طبق “الفسيخ” القديم بهذا الاسم بمعنى “الفاسد” أي بسبب ترك السّمك بالملح لمدّة طويلة يصيبه الفساد ويمنحه المذاق اللّذيذ.

أخبرونا أنتم! ماذا تعتقدون؟ هل من علاقة بين “الفصح” والـ “فسيخ” أم أنّ تشابه الكلمات مجرّد صدفة؟