انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. من أنا؟ ولماذا أنا موجود؟ وما هذا الكون الذي حولي؟ وتفرّعت عشرات التّوجهات الفلسفيّة انطلاقًا من هذه الأسئلة الأساس.
ومع أنّ تاريخ الفلسفة يمتد لأكثر من ألفيّ عام، فإنّ تعريفها ما زال ضبابيًا ويستعصي على التّفسير. وما زالت محلّ جدلٍ في كثير من المجتمعات، وقد اعتبرها الكثيرون خروجًا عن الدّين وتنكّرًا للحقيقة الّتي يقدّمها للإنسان. أو ربّما مسعى عقيم وثرثرة لا فائدة منها. أو أنّها ممارسة لا يمكن إلّا لنخبة صغيرة من النّاس أن تفهمها وتُسهم فيها.
إلّا أننّا شئنا أم أبينا، نعيش في حضارة بشريّة لطالما أثّرت في الفلسفة وتأثّرت بها، فإسكندر المقدوني الّذي غيّر وجه التّاريخ بتوسّعاته العسكريّة الّتي طالت الشّرق والغرب، كان تلميذًا للفيلسوف أرسطو، ولا يخلو تاريخ العصور الوسطى ولا تاريخنا الحديث، من ظهور تيّارات فكريّة وأيديولوجيّة وسياسيّة، حملت فلسفتها الخاصّة في دوافعها ورؤيتها لما ينبغي على حياة الفرد أو الدّولة أن تكون، وغيّرت بذلك مسار التّاريخ. أمّا ثقافتنا الّتي نعيشها اليوم، والتطوّر التكنولوجيّ والمعرفيّ الّذي يخدمنا ويضيّعنا أحيانًا، فيرى الكثيرون أنّه يعكس افتقارًا للاهتمام بالفلسفة، وأنّ الرّجوع إلى التّفلسف قد يفسح مجالًا أكثر أملًا وذي معنى للكائن البشريّ الحديث.
ولكن بغضّ النّظر عن رأينا في الفلسفة والفلاسفة، ربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة عبر العصور؟ وكيف فسّر بعض الفلاسفة الغاية من هذا المسعى؟ فلطالما واجه الفلاسفة عبر العصور استهجانًا من أبناء عصرهم ومحيطهم ووجدوا أنفسهم مضطرّين لتقديم إجابة ما لهذه الأسئلة الّتي ما زالت تُطرح في يومنا هذا: لماذا تتفلسفون؟ وما يمكن أن يجنيه البشر، وسط كلّ هذه الفوضى، من هذه التّأمّلات الّتي تبدو كأنها ضرب من ضروب الهذيان، وتستعصي على فهم الكثيرين؟
فلنرى، ربّما تكون إجابات بعض الفلاسفة على هذه الأسئلة كفيلة بإثارة اهتمامكم للغوص في هذا العالم. وقد اخترنا إجابتين من عصرين مختلفين وبعيدين عنّا اليوم، إلّا أنّهما تحاكيان اهتمامات وأسئلة ما زالت تشغلنا في عصرنا الحالي أيضًا.
أرسطو: الدّهشة!
آمن أرسطو، فيلسوف القرن الرّابع قبل الميلاد، أنّ الدّهشة هي أوّل ما يبعث المرء على الفلسفة. إذًا فأرسطو ربط الفلسفة الّتي تمتاز بإعمال العقل والحكمة بالشّعور، وتحديدًا بشعور الدّهشة.
ولكنّ أرسطو لم يقصد الدّهشة الّتي نشعر بها حين نقابل أمرًا غريبًا واستثنائيًّا أو خارق الجمال، إنّما قصَد الدّهشة من الأمر الاعتيادي. أن تكون الأشياء المعهودة والمعتادة مثيرة للدّهشة والتّعجّب. أن لا يكون هناك ما هو مفهوم ضمنًا واعتياديًّا وغير جدير بالتّساؤل والتّفكير. حالة تشبه حالة الإنسان في سنينه الأولى حين يكون طفلًا، ولا يكفّ عن طرح الأسئلة الّتي لا يفكّر بها الكبار لأنّها أصبحت مفهومة ضمنًا ولا داعي أن يكون هناك فرصة للتّفكير فيها، وقد يرونها أسئلة تافهة أو بسيطة، إلّا أنّهم في الوقت ذاته لا يملكون الإجابات لها. فالطّفل قد يجلس في حديقة يجدها والداه عاديّة أو جميلة على الأكثر، لكنّ الطّفل يستطيع أن ينظر إلى العشب، الشّجر، الزّهور، الهواء، والحشرات على أنّها عالم مدهش إلى أبعد الحدود، عالمٌ يثير لديه سيل لا ينتهي من الأسئلة عن الوجود والعالم: ما هذه الشّجرة؟ لماذا هي هكذا؟ هل لديها أمّ؟ هل تعرف أنّني أنظر إليها؟ هل هي بيت ذلك العصفور؟ لماذا هو صغير؟ هل أنا محظوظ لأن بيتي أكبر من بيته؟
وفقًا لهذه النّظرة، فإنّ العالم الّذي نعيش فيه أشبه باللّغز الّذي لا مناص منه، تثيرنا الدّهشة والتّعجب، فنبدأ بالتّساؤل وبالبحث عن أدلّة وإجابات. ولذلك، نجد أن جلّ علماء الأحياء والفيزياء والرّياضيات القدامى كانوا أيضًا فلاسفة.
محمّد بن معشر المقدسي وإخوان الصّفا: العافية!
عاش محمّد بن معشر البستي والمعروف بالمقدسي في مدينة البصرة العراقيّة في القرن العاشر للميلاد. وكان منتميًا لجماعة “إخوان الصّفا” السّريّة الّتي اشتغلت في الفلسفة والعقائد الدّينيّة وألّفت ما يزيد عن خمسين رسالة. عُرفت تلك الحقبة التّاريخيّة للحضارة الإسلاميّة بالتّنوع الفكري والنّقاش واسع المدى بين روّاد التّوجّهات المختلفة. وفي هذا المناخ المزدهر فكريًا، توجّه أحد نقّاد الفلسفة إلى محمّد بن معشر المقدسي كمن بدا عليه حبّ الفلسفة بالسؤال التّالي: لماذا نحتاج الفلسفة ولدينا الشّريعة؟ إليكم إجابة المقدسي الذّي يوضّح بها الفارق بين الشّريعة والفلسفة برأيه.
“الشّريعة طبّ المرضى، والفلسفة طبّ الأصحّاء. والأنبياء يطبّبون للمرضى حتّى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. وأمّا الفلاسفة فإنّهم يحفظون الصّحة على أصحابها، حتّى لا يعتريهم مرض أصلًا. فبين مدبّر المريض وبين مدبّر الصّحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف، لأنّ غاية تدبير المريض أن يُنتقل به إلى الصّحة، هذا إذا كان الدّواء ناجعًا، والطّبع قابلًا، والطّبيب ناصحًا. وغاية تدبير الصّحيح أن يحفظ الصّحة، وإذا حفظ الصّحة فقد أفاده كسب الفضائل وفرّغه لها وعرّضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسّعادة العظمى”.
نستدلّ من ما ورد عن المقدسيّ إذًا أمرين عن الفلسفة، الأوّل هو أنّه وجد الفلسفة ضروريّة للحفاظ على صحّة الإنسان كي لا يتعرّض للمرض، والأكيد أنّه يقصد مرضًا غير جسدي إنّما عقلي أو نفسي أو روحي. والأمر الثّاني هو أنّه رأى أن غاية الفلسفة هي أن يكون الإنسان سعيدًا. وفي هذا اتّفق معه عددٌ من الفلاسفة السّابقين واللّاحقين.
ومن يدري، قد تأتيكم قراءة الفلسفة بالدّهشة والعافية والسّعادة معًا!