انغمست الدول على مر الزمن وحتى يومنا هذا ببناء العديد من المساجد، الكنائس، القلاع، القصور، والأبراج وغيرها من المنشآت المعمارية وذلك لإظهار مدى قوة ونفوذ الدولة من جهة، ولكسب شرعية البقاء من جهة أخرى. ولقد انشغلت السلطات الحاكمة في مصر على مر التاريخ بتقاليد البناء المعماري للمدافن من أيام الفراعنة حتى أواخر الأمبراطوريّة العثمانية، وكان لكل عصر التقليد المعماري الخاص به والذي يعكس وجه الدولة الحاكمة. وعلى الرغم من رفض الإسلام لتقديس الموتى، كانت العديد من الدول الإسلامية تجعل لمتصوفيها الأضرحة في مدافن للزيارة والتبرك بها. (حمزة، 2021) وقد بنى المماليك في صحراء شرق مدينة القاهرة وشمال باب النصر في منطقة الحسينيّة المساجد، المدارس، الخانقات، الأضرحة والمدافن فيما عُرف باسم “صحراء المماليك” أو “القرافة” أو “المقبرة الشمالية”. وكلمة “قرافة”، وفقًا لمعجم المعاني، هو اسم قبيلة يمنية سكنت بجوار المقابر في مصر، فلاحقًا، أصبح لفظ “قرافة” يُطلق على كل مقبرة. ولكن ما العلاقة بين القرافة والمماليك ولماذا وُصِفَت ببوابة السماء الشرقيّة؟
من ميدان صحرواي لاستعراض الجنود والممارسات الحربية إلى قرافة
بدأت الحكاية مع الظاهر بيبرس (1223 – 1277)، المؤسس الفعلي للدولة المملوكية، الذي قرّر تعزيز الجيش بالمعدّات والوسائل والتدريبات وذلك للتصدّي لهجمات المغول والصليبيين الدائمة. وكانت قدرات الجيش تُستعرض في ميدان صحراوي عُرف باسم ميدان الأسود أو الميدان الأخضر، بالإضافة إلى بناء مدّرج للمشاهدين. في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون (1285 – 1341)، ظهرت بعض المباني مثل المساجد والأضرحة والبيمارستانات (المشافي) والمدارس كذلك. مع ذلك، برز بتفرّد تطوّر العمران المملوكي في الفترة الثانية للدولة المملوكية وهي فترة المماليك البُرجية (سكان برج قلعة صلاح الدين) والذين يُعرفون أيضًا باسم المماليك الجراكسة (الشركسيين)؛ إذ بدأت هذه الفترة بحكم سيف الدين بن بُرقوق (1340 – 1399) وتلاه ابنه الناصر فرج بن بُرقوق (1386 – 1411) الذي حكم لفترتين؛ مرة في صباه حتى عُزِل ومرة ثانية بعدما انتزع حكمه من معتزليه. وقد كانت المنشأة المملوكية البُرجية الأولى في صحراء المماليك هي خانقاه يونس الداودار التي بناها للمتصوفين هناك، وقد كان الداودار أحد الأمراء المخلصين والمواليين لبُرقوق، ثم توالت الأبنية من خانقات ومساجد ومدارس لجميع الأئمة والمدارس الفقهية. وعلى الرغم من الصراعات الداخلية المطوّلة والاقتصاد المدمَّر الذي عاشته فترتي توليّ الظاهر فرج بن بُرقوق، إلا أنّه تمكّن من تشييد مجمع ضخم يتكوّن من خانقاه لأربعين صوفيًّا، جامع، ضريحيْن، وسبيليْن ومئذنتيْن ومدخلين وقاعات كبيرة لطلبة العلم. (حمزة، 2021)
للمزيد من صور المساجد والمنشآت المملوكية في القاهرة ضمن مجموعات صور المكتبة الوطنية الرقمية
وكما أسلفنا في أول المقال، كانت الصحراء عبارة عن ميدان للجنود والاستعراض الحربي، إلّا أنّ بناء الخانقات (زوايا عبادات المتصوّفيين) والأضرحة والمساجد قد ساهم في تطوّر نشاط حركات التصوّف في مصر ولا سيما في عهد المماليك البرجية حتى لقبت ببوابة السماء الشرقية؛ إذ كانت بقعة الصوفيين للتوجه لله في التضرّع، طلب العلم، حفظ القرآن وكذلك الإحسان لكل الفقراء والمشرّدين آنذاك. وأصبحت تُعرف باسم “القرافة” لكثرة مدافن الصوفيين والسلاطين المماليك فيها. ومن الأمثلة على هذه المنشآت: قبة ومدرسة الأشرف قايتباي ذات القبة المشابهة تمامًا لقبة سبيل قايتباي في المسجد الأقصى، قبة الأشرف برسباي وقبة والدته خديجة أم الأشرف، مجمع الأشرف إينال، مجمع قرقماس، معبد الرفاعي والكثير من القباب والأسبلة الشاهدة على التطوّر العمراني المملوكي القائم حتى يومنا هذا.
أكثر الأنماط المعمارية انتشارًا
في الفترة المملوكية الجركسية الوسطى والمتأخرة، أمست صحراء المماليك موضع الدفن المفضّل لأعيان الدولة وذلك لكثرة الرعاية السلطانية بها وبالمنشآت ولكثرة مزارات العامة. لذلك، كانت الأضرحة هي أكثر الأنماط المعمارية انتشارًا في الصحراء إمّا منفردة في البنيان أو جزءًا من مسجد أو مجمّع؛ إذ يوجد 88 ضريحًا من أصل 107 منشأة مملوكية، وجميعها مربّعة الشكل ويعلوها قبة مزخرفة تعكس النمط المعماري المملوكي المتمثّل في رسومات الزخارف الإسلامية الهندسية والنباتية.
ضريح السبع بنات: تعدّدت الأساطير والبركة واحدة
يعتبر ضريح السبع بنات من الأضرحة الهامة والمميزة في تاريخ المنطقة حتى اللحظة، ومن الملفت أنّ هذا الضريح يعود للدولة الفاطمية أي ما قبل الدول المملوكية، مع ذلك هو من الأضرحة الهامة والقيّمة في صحراء المماليك. على الرغم من أنّ المكان معروف باسم السبع بنات، إلّا أنّه في الحقيقة لا يوجد رفات لأي امرأة أو حتى فتيات صغيرات. فيما تقول إحدى الأساطير أن السبع بنات كانوا فعلًا سبعًا يعملن على خدمة أهالي المنطقة، يطبّبنَ المرضى ويوهبنَ الفقراء من مالهنّ الخاص، فأصبح لهنّ مكانة عالية في قلوب الناس، وبات ضريحهنّ مزارًا لكل سيدة تريد الإنجاب وذلك، وفقًا للأسطورة، برميها من تلة مرتفعة بعض الشيء كي تحدث لها الصدمة فينشط الرحم.
تشهد صحراء المماليك أو قرافة المماليك على عز الدولة المملوكية بكثرة القباب والأضرحة والمنشآت المعمارية والتي تحاكي حكايات النُصُب التذكارية التخليدية لشخصيات مروا في تاريخ الدول وساهموا في بنائها. ربما لم تعد صحراء المماليك بوابة للسماء كما كانت، إلا أنّها ما زالت رمزًا هامًّا لعراقة الحضارة الإسلامية التي لمعت وازدهرت آنذاك في مدينة القاهرة.