المهندس الإيطالي الذي أحضر الروح العصرية (والغرور) الأوروبية إلى البلاد

أمضى الدكتور ايرميتي بييروتي في البلاد ثمانية أعوام منذ منتصف القرن التاسع عشر. المناظر الطبيعية نالت إعجابه لكن ليس أهل البلاد  الأصلانيين

منذ الحملات الصليبية الغابرة في القدم أقيمت في البلاد تقاليد فنية فخمة بإشراف أشخاص لم يقوموا بزيارة البلاد بتاتًا – رسامو الخرائط، الأدباء والشعراء – الذين أبدعوا في تقديم أعمال فنية على مستوى رفيع لتشبيهات متخيلة من الديار المقدسة وفي مركزها مدينة القدس. وقد اعتمدوا في أعمالهم غالبًا على ما جاء في الكتب المقدسة، المصادر اليهودية والمسيحية المختلفة، كتب الرحالة، الشائعات التي تناقلها الناس، وبعض المناظر التي أبدعها خيالهم المفرط. وقام آخرون برسم معالم المدينة بموجب ما شاهدته نواظرهم وفي كثير من الأحيان كما تراءت من مطلة جبل الزيتون. وقد نُفّذت الرسومات والمناظر التي اعتمدت على الواقع من خلال اعتماد طريقة الرسم الحرّ.

فقط خلال القرن التاسع عشر بدأت تنشر بعض خرائط المدينة بالاعتماد على القياسات. أحد الأشخاص الذين قاموا برسم الخرائط المعتمدة على طرق القياس الدقيقة كان دكتور ايرميتي بييروتي. الباحث والكاتب والمهندس المعماري الإيطالي أمضى مدة ثماني سنوات (1861-1854) في العمل المتواصل في وظيفة المهندس المعماري المدني والعسكري لمدينة القدس بدعوة من متصرف لواء القدس ثريا باشا. وبفضل المكانة الرفيعة التي حظي بها لدى متصرف اللواء حظي بييروتي بحرية تنقل فريدة من نوعها، فاستغل هذه الحرية في التنقل من أجل الدخول إلى الأماكن المقدسة مثل الحرم القدسي الشريف والحرم الإبراهيمي، وهما من الأماكن التي يُحْظَرُ أن يدخل إليها “الغير مسلمين”.

خارطة الخليل، نابلس والبحر المتوسط من أطلس مكوّن من ستّ خرائط نشرها بييروتي في عام 1888.

قام بييروتي بأعمال البحث والتنقيب في الأماكن المقدسة في أرجاء مدينة القدس وخارجها، وأعدّ مخططات تهدف إلى ترميم المدينة وأشرف على عدد لا بأس به من المبادرات العمرانية. وبينما كان يعيش في القدس نشر كتابه “القدس رهن البحث” المكوّن من جزأين حيث أجرى مقارنة بين مدينة القدس إبان أيام العهد القديم من الكتاب المقدّس وبين المدينة المعاصرة: وقد أثار نشر الطبعة الأولى وخاصة ترجمتها للغة الإنجليزية عاصفة من ردود الفعل في بريطانيا. وقدّمت ضد بييروتي دعوى قضائية من قبل جيمس جراهم الذي ادعى أن بييروتي سرق الصور الواردة في الكتاب من المصور الأسكتلندي، فردّ بييروتي على هذا الادعاء بالقول إنّه قد اشترى هذه الصور من المصور اليهودي الروسي مندل جون دينز. وعلى أي حال من الأحوال فقد سارع للرحيل عن القدس.

أهل البلاد في عيني ايرميتي بييروتي هم رقيق

حتى بعد رحيله عن الديار المقدسة واصل بييروتي الاهتمام بالمناظر والشخصيات التي قابلها. وواصل في نشر النتائج التي توصل إليها في سلسلة من الكتب، وأيضًا في أوروبا اعتبر نفسه خبيرًا كبيرًا وليس فقط في المناظر الطبيعية والعمارة في البلاد. أحد أشهر كتبه، والوحيد الذي تمت ترجمته للغة العبريّة كرّسه لبحث “العادات والتقاليد في الأراضي المقدسة”. الاسم الكامل لهذا المؤلف يدل على دافعية بييروتي في الكتابة: “العادات والتقاليد في الأراضي المقدسة لدى سكان البلاد الآن، التي تشكل نموذجًا لأنماط الحياة التي كان يعيشها العبرانيون القدامى”.

مخطط الحرم الإبراهيمي في الخليل. يضمّ هذا المخطط مقطعًا عرضيًا ومقطعًا طوليًا للحرم والذي يرفق من حوله بتفاصيل معلوماتية كثيرة حول المكان. وقد تم نشر هذا المخطط أيضًا كجزء من الأطلس الذي نشره بييروتي في عام 1888
مقطع عرضي للحرم الإبراهيمي من “مخطط الحرم الإبراهيمي في الخليل.

يضمّ هذا المخطط مقطعا عرضيا ومقطعا طوليا للحرم يرفق من حوله بتفاصيل معلوماتية كثيرة حول المكان. وقد تم نشر هذا المخطط أيضًا كجزء من الأطلس الذي نشره”

“كلّ من يضفي على الحيوانات صفة العقل والإدراك دون الاكتفاء بالغرائز، لو كان يتجول في البلاد طولًا وعرضًا لكان دون أدنى شكّ سيجد الكثير من الأدلة لتعزيز نظريته، وكان من الممكن أن يتوصل للاستنتاج (وهو استنتاج غير بعيد عن الحقيقة) بأن هذه المخلوقات أذكى من بشر كثيرين. وعلى الأقل فأنا ما كنت أستطيع أن أدحض أقواله، نظرًا لأنني تقريبًا توصلت لنفس وجهة النظر بعدما تعرفت عن كثب، طوال سنوات، على الفئتين كلتيهما”.

(من كتاب: العادات والتقاليد في أرض إسرائيل، ايرميتي بييروتي)

بينما كان انطباعه إيجابيا عميقا بفضل المباني الكثيرة في مدينة القدس فقد ترك سكان البلاد التي أمضى فيها سنوات طويلة لديه أثرًا سيّئًا. بما يليق بشخص أوروبي من القرن التاسع عشر، لم يتورّع بييروتي من التعميم والاستهزاء بمجموعات إثنية كاملة: فالعرب الذين اعتبرهم من سلالة العبريّين القدامى نظر إليهم على أنهم ثلة من الأشخاص السريعي الغضب، المحتالين والذين لا يمكن أن يبدوا استعدادهم لتقديم المساعدة للأجانب إلا إذا حصلوا في المقابل على “بقشيش”- رشوة. “أيّ سائح في دول الشرق، ولا سيما في سوريا، لا يعرف كلمة بقشيش؟” فقد تكرر ترديد هذه الكلمة على مسامعه إلى درجة أنه استمر في استخدامها حتى بعد عودته إلى بلاده، وبهذه الطريقة فإن هذه الكلمة كادت تغدو جزءًا لا يتجزّأ من حديث الناس في أوروبا أيضًا.”

برك سليمان، جنوبي بيت لحم

من أجل الوصول إلى جذور عادة “البقشيش” ادعى بييروتي أنه يتوجب علينا البحث في العهد القديم من الكتاب المقدس، وذلك من منطلق أنّ العبريّين القدامى كانوا معتادين على عادة “البقشيش”، بدءًا من إبراهيم وحتى إليشع تلقى أبطال العهد القديم (الآباء القدامى للعرب المعاصرين) سلسلة من الإكراميات، الهدايا ومنح المصالحة مِنْ كلّ مَنْ ساعدهم أو أغضبهم. محبة الرشوة لدى الرجال العرب كانت منسجمة تمامًا مع الطبيعة الدسّاسة لنسائهم: “تحت ثنايا المنديل من الممكن التفاضل، تدبير الدسائس وتدبير مختلف المؤامرات التي يمكن أن تخطر على البال”.

كان موقف بييروتي من اليهود أكثر تركيبًا: فقد اعترض على الآراء المسبقة والافتراءات القديمة التي التصقت بأبناء الشعب المختار”، لكنه لم ينسَ التعبير عن استعلائه الأوروبي عليهم: “بينما حرص العبريّون القدامى على الاستحمام والنقاء فإن أحفادهم تخلَّوْا عن الطريق التي انتهجها الأجداد القدامى. في أيام السبت يرتدي اليهود ملابس احتفالية قشيبة لكن، عندما تقترب منهم يتبيّن لك أن النظافة لديهم لم تكن سوى خارجية، وذلك لأنهم تباخلوا في تسديد رسوم الدخول إلى الحمّام”.

وقد ساهم دكتور ايرميتي بييروتي في إحضار الروح العصرية إلى البلاد العريقة غير أنه لم ينسَ أن يصطحب معه من البلاد الأصلية أيضًا الصفة المقرونة بها: الغرور الأوروبي.

خارطة جبل هموريا وجبل البيت (الحرم القدسي الشريف). كما يبدو فإن هذه الخارطة أهمّ الخرائط الستّ المتبقية. سُمِحَ لبييروتي الدخول إلى الحرم القدسي الشريف وهو مكان لم يُسْمَح قطعيًّا دخولُ اليهود والمسيحيين إليه.

 

 

ألبوم نادر: حين وثق مقاتل في الوحدة المدفعية البريطانية انتزاع فلسطين من العثمانيين

يُنشر لأول مرة: نسخة أصلية من ملفات الوحدة المدفعية البريطانية التي احتلت البلاد في نهايات الحرب العالمية الأولى

خلال مرحلة تأسيس الوحدة المدفعية رقم 20 (Machine Gun Squadron)  في الرابع من تموز 1917، أضطرت القيادة البريطانية للتعامل مع معيقات غير متوقعة: من بين 121 مقاتلاً في الوحدة، فقط 30 كانوا مُدربين على استخدام الأسلحة المتطورة أما الباقين فلم يشاركوا من قبل في وحدة مشابهة. لكن، لم تترك المعركة القريبة من أجل احتلال البلاد مجالاً للتأخر كثيراً، إذ بعد عدة أيام صدر أمر  أعطى لمقاتلي الوحدة الجديدة نظرة عن كبر حجم التحدي الذي ينتظرهم. في 12 آب، وبعد شهر واحد من تأسيسها، انطلقت الوحدة للجبهة العسكرية الجديدة: فلسطين.

في كتاب “عبر فلسطين مع الوحدة المدفعية 20”، تم توثيق قصة الوحدة العسكرية والذي تم توزيعه بعد الحرب. أما طبيعة الكتاب فهواتخاذ أحد الجنود المشاركين قرار إلصاق بعض الصور داخل الكتاب؛ صور أعدها بنفسه خلال مسيرة الوحدة العسكرية نحو فلسطين.

يبدو أنه صاحب الكتاب، المقاتل الذي صور المجموعة، هويته غير معروفة.

للمصادفة التاريخية قد تم حفظه في المكتبة الوطنية بالقدس، فهذا الكتاب عبارة عن توثيق مدهش عن مآثر الوحدة كما انعكست في عيون أحد المقاتلين.

شاهدوا الكتاب كاملاً مع الصور النادرة

قصة الوحدة تم توثيقها في كتاب عبر فلسطين مع الوحدة المدفعية 20

الكتاب الذي وثق احتلال الوحدة 20 البريطانية لفلسطين

تحت شمس حارقة، وبكتفين متعبين، ومع الخوف من توقف تزويد المياه اليومية، عبر مقاتلو الوحدة إلى فلسطين العثمانية من سيناء خلال 18 يوم، استغلوا اقامتهم في المعسكر البريطاني لكي يكملوا التدريب، تدربو في منتصف اليوم على تشغيل الأسلحة الجديدة، والتي كانت جديدة لمعظمهم، وفي النصف الثاني من اليوم تدربوا على امتطاء الجياد.

صور التقطها أفراد الوحدة خلال بدء عملياتهم العسكرية في فلسطين

على بعد 11 كيلومترًا جنوبي مدينة  بئر السبع، اشترك المقاتلون في المعركة الأولى كوحدة عسكرية، حين كانت قوات الاسناد على يسارهم والقوات الأسترالية على يمينهم، هاجم مقاتلو الوحدة المدفعية التحصينات التي نصبها العثمانيون في الطريق للمدينة؛ طيلة الصباح وما بعد الظهر ظل القتال دائراً بين القوات المهاجمة والقوات التي تحمي التحصينات. الغبار الذي ملأ الجهات كلها، حجب الرؤية ولم يستطع أحد من كلا الطرفين أن يرى عدة أمتار أمامه، بعد بضعة ساعات من القتال، اكتشف الجنود ولدهشتهم أن الاتراك قد انسحبوا من المدينة. في الرابعة ظهراً جاء الأمر: مهاجمة بئر السبع، والتي تبين أنها هي ايضاً خالية من الجنود العثمانيين.

كتب المقاتلون في كتاب الوحدة “بئر السبع كانت محبطة جداً، من الصعب القول أنها مدينة، كما يفهم الأوروبيون هذا المصطلح، كمكانٍ يمكن أن تشتري منه السجائر وشيئاً لتأكله، لم نستطع ايجاد شيء، والمباني الوحيدة فيها، تلك التي لم تكن ألواحاً من الخشب، كانت خالية من أي انسان” عندما تجول المقاتلون في المنطقة، استصعبوا استحسان الصحراء القاحلة التي تحيطهم، واستصعبوا عدم وجود طرق صالحة.

لغزة وصل المقاتلون أيضاً بعد انسحاب الأتراك من المدينة، لم يُسجل الأمر في أي مكان من الكتاب، ولكن على ما يبدو، فقد ساهم المقاتلون في جزء من المعارك الشرسة لاحتلال غزة. على الرغم من المسافة القصيرة من بئر السبع، فقد صادفوا يابسة مختلفة، قرى على جوانب الطرق، فيها فلاحين يزرعون أراضيهم. وكلما اقتربوا اكتشفوا أن المشهد يخدع أحياناً: أوساخ وتلوث، رجال مستلقين للراحة في حين تقوم النساء بالأعمال الصعبة، على المدينة هذه أيضاً كان للمقاتلين أشياء سيئة ليقولوها.

الطريق لأريحا
رسم لأحد أعضاء الوحدة

الطريق إلى القدس

من غزة أكمل الجنود إلى رام الله، ومن رام الله إلى طريق يافا- القدس ومن هناك (وعلى أثر سكة الحديد) توجهوا إلى مدينة القدس. الجنود العثمانيين توقعوا هذا المسار وتحصنوا على طول الطريق، فأدى ذلك إلى معارك قاسية أوقعت ضحايا كثر.  ضباط الوحدة قرروا الانسحاب واعادة تنظيم صفوفهم في منطقة يافا، في طريقهم إلى يافا رأى الجنود ولأول مرة “رحوفوت”.

وصول الجنود إلى “رحوفوت” ذكرهم بشيء من الحياة التي تركوها في بريطانيا، التقى الجنود بالسكان الصهاينة، اشتروا منهم أكياس مليئة  بالبرتقال، ومن لم يكن بحوزته مالاً كافياً، قايض بما يحمله من شرائح اللحم المعلبة والتي حصل عليها من الوحدة. اللقاء مع السكان اليهود كان مريحًا بالنسبة للجنود الذين رأوا بهم بداية بناء المشروع الصهيوني.

خارطة مرفق معها مسار تقدم الوحدة

بعد الاستراحة القصيرة، أكمل الجنود مسيرتهم نحو القدس، أهمية المدينة المقدسة كانت شاخصة في عيون حماته العثمانيون: معظم القوة التي كانت في البلاد تم ارسالها لحماية الطريق المؤدي للقدس. مع كل خطوة جديدة كان قد استطاع جنود الوحدة المدفعية انتزاعه من العثمانيين، كان الجهد ينصب أكثر بنصب سيارات المدفعية في الأماكن الأكثر علواً في مواقع القتال. استغلوا كل ما تحصلوا عليه من أجل ذلك سواء الإسناد من وحدات أخرى، استخدام القناصة، التقدم المسائي الهاديء أو – في حالة لم يتبق خيار آخر – إطلاق نار كثيف على الأتراك لكي يتم ازاحتهم عن المكان الذي تحصنوا به.

احتلال القدس

يظهر في الصورة باب الخليل – بوابة يافا ويعلوه برج الساعة

هكذا، في الثامن من كانون الأول 1917، بالرغم من الطرق التالفة، النقص في الماء، والمقاومة التركية والألمانية على طول الطريق، نجح مقاتلو الوحدة المدفعية مع باقي قوات ألنبي باقتحام طريق القدس ومن ثم الوصول إليها. في اليوم التالي، 9 كانون الأول 1917، انتهت  أربعة مائة عام من الحكم العثماني على البلاد المقدسة مع سقوط مدينة القدس، كان ذلك نصرًا رمزيًا، لأن معظم مناطق شمال البلاد كانت لا تزال تحت الحكم العثماني، سيطرة ستتلاشى خلال الأشهر المقبلة.

بوابة دمشق

كان هذا النصر الرمزي أمرًا مدهشًا، قال الجنود المتأثرين والذين حظيوا أخيراً بالقدس، احتلال الأرض المقدسة. كما إنه خلال مسيرة الوحدة العسكرية من سيناء حتى احتلال القدس فقدت ثلاث ضباط و67 مقاتلاً من عناصرها وهذا ما كان يُعتبر الثمن الأكبر الذي دفعته المجموعة.

 

اجتياح الفيضانات للبلاد، ظاهرة جديدة أم قديمة؟

تقصي ظاهرة الفيضانات في البلاد، لمحاولة فهم هذه الظاهرة؛ إذا كانت قد حدثت من قبل في البلاد أم أنها أمر جديد قد اجتاح البلاد مؤخرًا.

موجة الفيضانات تجتاح مدينة القدس في 23 تشرين الثاني 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية

لطالما كانت الفيضانات مرافقة للمنخفضات الجوية وخاصة القوية منها، لكونها تؤدي إلى هطول كميات كبيرة من الأمطار خلال فترة قصيرة  من الزمن، ومن ثم يتبعها تشكل السيول التي تُغرق المناطق المنخفضة من وديان وسهول وبعد ذلك تغمر المياه المنطقة ككل. هذا ما حدث في معظم مناطق البلاد خلال الأسبوع الأخير. أما المفاجئة الأكبر للكثيرين منا، هي غرق مدينة تل أبيب ويافا بفعل تلك الأمطار، حتى أن البعض ألقى بالمسؤولية على البلدية (البلدية المشتركة ليافا وتل أبيب) وبفعل الأشغال ببناء القطار الخفيف بالمدينتين، ما أدى إلى تردي البنية التحية فيهما.

فيما كان مبرر البلدية على لسان رئيس بلديتها أن هذه الكمية من الأمطار لم تسقط بهذا الوقت القصير آخر مرة إلا قبل 70 عامًا. فيا ترى عن ماذا كان يقصد بكلماته هذه؟

بالعودة إلى أرشيف الصور بالمكتبة الوطنية، نرى بأن مدينة تل أبيب قد عانت من اجتياح الفيضانات لها عام 1951، ولربما بنفس قوة هذه السنة أو أكثر. وأدى ذلك إلى أضرار كبيرة، من قطع الطرقات وشلل المدينة آن ذاك. ومن خلال مجموعة هتسلمونيا أُتيح لنا رؤية آثار السيول والفيضانات على المدينة كما هو مبين في الصورة أدناه:

غرق مدينة تل أبيب بفعل الفيضانات عام 1951، مجموعة هتسلمونيا، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
غرق مدينة تل أبيب بفعل الفيضانات عام 1951، مجموعة هتسلمونيا، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
غرق مدينة تل أبيب بفعل الفيضانات عام 1951، مجموعة هتسلمونيا، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
غرق مدينة تل أبيب بفعل الفيضانات عام 1951، مجموعة هتسلمونيا، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية

ليس مدن الساحل وحدها تغرق

من الصحيح قوله أن التجمعات السكانية الموجودة في المناطق الساحلية والسهلية هي أكثر المناطق عرضة للتعرض للسيول والفيضانات لكن، أيضًا من الممكن أن تتعرض لها المدن الجبلية، وهذا بالفعل ما تعرضت له مدينة القدس، التي تعرضت لفيضان أدى إلى توقف حركة المواصلات بشكل تام وغرق البيوت.

كان ذلك بتاريخ 23 من تشرين الثاني عام 1955. والتي لم يكن حتى بمقدور طواقم البلدية لوحدها أن تعالج آثاره مما حدا بسكان المدينة أن يساهموا أيضُا في عمليات الإنقاذ كما تبين لنا مجموعة بيتموناه من أرشيف المكتبة الوطنية للصور:

موجة الفيضانات تجتاح مدينة القدس في 23 تشرين الثاني 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
موجة الفيضانات تجتاح مدينة القدس في 23 تشرين الثاني 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
غرق البيوت في القدس بفعل فيضان عام 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
غرق البيوت في القدس بفعل فيضان عام 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

 

الفيضانات تحت ضوء الصحافة الفلسطينية التاريخية

خبر غرق تل أبيب ويافا بفعل الفيضانات. صحيفة اللواء بتاريخ 25 تشرين الثاني 1936. أرشيف جرايد

عند زيارة أرشيف الصحافة الفلسطينية التاريخية خلال الفترة العثمانية والتاريخية- جرايد، نجد أن الصحافة الفلسطينية اهتمت وبشكل كبير في تناقل أخبار الطقس وخاصة في فصل الشتاء والحديث عن آثاره على المدن والقرى الفلسطينية. فغالبًا كان الحديث حول انقطاع الطرق والمواصلات بين المدن أو حول آثاره على موقع معين. كما في الخبر الذي جاء في جريدة اللواء بعنوان “سيول وصواعق، أمكنة تغرق وتل أبيب تنعزل”. لقد كان الخبر مخصصًا حول السيول التي أغرقت مدينة يافا وتل أبيب في شهر تشرين الثاني من عام 1936، والتي أدت إلى انقطاع خطوط الهاتف، غرق البيوت والمخازن. أما اللافت بالأمر فهو، تأثر مدينة تل أبيب بشكل أكبر من مدينة يافا ويعود سبب ذلك (تبعًا للصحيفة) إلى عدم وجود قنوات لتصريف المياه في المدن اليهودية.
لقراءة المزيد من أخبار الصحافة الفلسطينية التاريخية حول السيول والأمطار اضغطوا هنا

 

الفيضانات ليست بالأمر الجديد

في النهاية، على ما يبدو بأن الفيضانات والسيول هي ليست وليدة اليوم أو الأمس، إنما تشكل جزءًا لا يتجزأ من طقسنا هذا (الذي يتميز بمنخفضاته الجوية) وبلادنا هذه (التي تتميز بطبوغرافية متنوعة)، ولكن الأمر الجديد، هو كيفية تعاملنا مع هذه الفيضانات والسيول. يجب أن نبتعد عنها كي لا تجرفنا وتأخذنا بعيدًا ممن نحب.

كرة القدم برعاية جلالته

حصلت مباريات كرة القدم الفلسطينية على دفعة كبيرة في ظلّ الانتداب وشاركت فيها العرب واليهود.

كتيبة الملك أ ضد هفوعيل تل أبيب، 21.11.31

أضيف إلى سكان فلسطين الانتدابية (1917- 1948) العرب واليهود آلاف السكان الجدد من البريطانيّين: موظّفو النظام الانتدابي، الشرطة والجيش، وخلال الحرب العالمية الثانية أضيف إليهم كذلك جنودًا من بلدان أخرى. بالرغم من أن لعبة كرة القدم كانت رائجة في البلاد قبل أن يصل إليها البريطانيون، إلا أنها حصلت على دفعة كبيرة في ظلّ سلطة أمة تعتبر موطن كرة القدم، وشاركت فيها جميع الفئات السكانية في البلاد. وقد ظهرت في هذه الفئات السكانية الثلاث (العرب، اليهود والبريطانيون) فرق رياضية لممارسة لعبة كرة القدم، ونذكر على سبيل المثال فريق Paymasters، وشباب العرب، ومكابي تل أبيب، وهي فرق تنافست فيما بينها على الكأس. تأسّس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم (بتوصية مصرية) في سنة 1928، وقد اشترط الاتحاد الدولي لكرة القدم للانضمام إلى الاتحاد الدولي (1929) مشاركة جميع الفئات السكانية في البلاد في هذا الاتحاد الجديد. لذلك فقد أجريت مباريات بين فرق عربية ويهودية وبريطانية، وقد تمّ الاعتراف بمشاركة لاعبين من هذه الفئات السكانية الثلاث بالمبدأ في المنتخب الوطني في مبارياتها مع فرق من خارج البلاد ولكن لم يكن يتم ذلك فعليًا على الدوام.

 

ملعب مشترك

غالبًا ما نعتقد أن علاقة تصادمية كانت سائدة بين الفئات السكانية في البلاد العربية واليهودية في البلاد. وهذا التصوّر ذاته يهيمن على العلاقة بين اليهود والبريطانيّين في البلاد كذلك، وخاصة حين نعاين ذلك من منظور صراع “المنظمة العسكرية القومية” (آتسل) وتنظيم “المقاتلون من أجل حرية إسرائيل” (ليحي) ضد البريطانيّين ونظرتهم للهجرة اليهودية غير الشرعية. إلاّ أن العلاقات الرياضية بين اليهود والعرب والبريطانيّين، كما تجلّت في ألعاب كرة القدم، من شأنها أن تشهد على أنه خلافًا لهذا التصوّر، بما يتعلّق بمنظمات المجتمع المدني، فإن المجتمع لم يكن منفصلاً إلى ثلاث فئات سكانية وإنما كان الواقع أكثر تركيبًا إذ تعاونت هذه الفئات فيما بينها. وعليه، فإنه بالرغم من هيمنة الانتماء القومي على الرياضة في البلاد، فإن النشاطات الرياضية – وكرة القدم تحديدًا في حالتنا – كانت حلبة للقاء هذه الفئات السكانية بعضها ببعض.

لا يعني ذلك بأن التوتّر لم يؤثّر على العلاقات الرياضية. فعلى سبيل المثال، في ظل موجه احتجاج السكان اليهود على الكتاب الأبيض لسنة 1930، توقّفت الألعاب الرياضية بين الفرق البريطانية والفرق اليهودية؛ وفي ظل الاحتجاج على نوع التعامل مع الفرق العربية فقد استقالت في سنة 1934 من الاتحاد الفلسطيني وأنشأت اتحادًا بديلاً إلاّ أنه لم يستمر لفترة طويلة. ومن جانب آخر، فقد استقبل الجمهور بصورة جميلة فرق تنتمي إلى فئات سكانية أخرى. على سبيل المثال، في أعقاب لعبة بين نادي إسلامي يافا وبين مكابي رحوبوت التي جرت على ملعب في رحوبوت في سنة 1941، كتب الصحف العبرية ما يلي: “لقد استُقبلت الفرقة العربية بمشاعر مشجعة من قبل جمهور المشجعين في رحوبوت”؛ وقد اتّسم حكم الاتحاد في الألعاب بروح رياضية من دون تحيّز كبير لصالح الفرق اليهودية على مدار أغلب سنوات الانتداب.

 

​شرق أوسط جديد

لم تجر ألعاب كرة القدم في فلسطين فحسب، وإنما جرت على ملاعب دولية كذلك. نشأت العلاقات الرياضية للفرق اليهودية منذ سنة 1927 مع فرق من بلدان عربية وبصورة مركزية مع مصر ولبنان وسورية، ولم تشهد الصحافة في حينه على تصادمات حتى الأربعينيات.

 

يقذفون الكرة في وقت الحرب

وعليه، استنادًا إلى علاقات كرة القدم بين الفئات السكانية المختلفة في فترة الانتداب، يبدو أنه يتعيّن علينا التخلّي عن منظور الصراع الذي اعتدنا على النظر من خلاله على تاريخ هذا المكان. لم يهمن الصراع دومًا، وإنما تطوّر هذا الصراع على مدار السنين، كما يمكننا أن نلمس ذلك جيدًا في ملاعب كرة القدم. ومع مرور الوقت، نشهد في حلبة كرة القدم على عملية انفصال بين المؤسّسات والفرق الرياضية اليهودية وتلك العربية والبريطانية. ووصل ذلك ذروته خلال الحرب العالمية الثانية، إذ نشهد في تلك الفترة تصادمات عنيفة مع الفرق العربية والفرق البريطانية (ومع الفرق الرياضية العسكرية الأخرى).

بينما كان توقّفت الألعاب مع الفرق القادمة من خارج البلاد بصورة طبيعية، بسبب انتقال القوات والموظفين البريطانيّين من البلاد في نهاية الحرب، فإن توقّف الألعاب بين الفرق اليهودية والعربية جاءت نتيجة حكم الاتحاد المفتقر للروح الرياضية.

 

 ​بطاقة حمراء

خلال ألعاب الكأس لسنة 1942 كان من المفترض أن يتنافس فريق مكابي حيفا مع الفريق اليوناني Royal Hellenic Army Team في دور ربع النهائي، إلا أن اللاعبين اليونانيّين تركوا البلاد، وصعد فريق مكابي حيفا في أعقاب ذلك وبصورة فورية إلى الدور نصف النهائي. جرت إحدى الألعاب الثلاث النهاية في دور الربع النهائي بين مكابي تل أبيب وبين الشباب العرب وانتهى بفوز مكابي تل أبيب اليهودية، إلاّ أن هذا الفريق قد شارك لاعبيْن كانا مطلوبيْن للتجنيد، وهو أمر لم يكن مقبولاً وفق القوانين الداخلية للاتحاد. وفي أعقاب ذلك، أُبعد فريق مكابي تل أبيب من الألعاب القادمة. ولكن، لم يتمتّع الفريق العربي من ذلك بل تمتّع من ذلك فريق مكابي حيفا الذي صعد فوريًا إلى دور النهائي. تقدّم فريق الشباب العرب باستئناف ضد هذا القرار إلاّ أن الاتحاد رفض هذا الاستئناف. في أعقاب ذلك، اندلع صراع بين الفرق العربية وبين الاتحاد وانتهى باستقالتها من الاتحاد في سنة 1943 وإنشاء اتحاد عربي في أيار 1944.

إن قصة كرة القدم في فلسطين الانتدابية تجسّد جيدًا أنه لم تكن هناك علاقات عدائية دومًا على الصعيد الشخصي بين السكان العرب وبين اليهود وبين كليهما وبين الحكّام البريطانيّين. ويتجلّى ذلك في اللقاءات الرياضية. وقد استمر اللقاء بين اليهود والعرب والبريطانيّين وغيرهم خلال الثلاثينيات والأربعينيات على أرض ملاعب كرة القدم واستمر ذلك حتى نهاية حقبة الانتداب تقريبًا. بالرغم من ذلك، فإننا نشهد أنه تمّ استخدام كرة القدم بصورة تدريجية وتصاعدية كأداة في الصراعات السياسية بين الفئات المختلفة في فلسطين.