منذ الحملات الصليبية الغابرة في القدم أقيمت في البلاد تقاليد فنية فخمة بإشراف أشخاص لم يقوموا بزيارة البلاد بتاتًا – رسامو الخرائط، الأدباء والشعراء – الذين أبدعوا في تقديم أعمال فنية على مستوى رفيع لتشبيهات متخيلة من الديار المقدسة وفي مركزها مدينة القدس. وقد اعتمدوا في أعمالهم غالبًا على ما جاء في الكتب المقدسة، المصادر اليهودية والمسيحية المختلفة، كتب الرحالة، الشائعات التي تناقلها الناس، وبعض المناظر التي أبدعها خيالهم المفرط. وقام آخرون برسم معالم المدينة بموجب ما شاهدته نواظرهم وفي كثير من الأحيان كما تراءت من مطلة جبل الزيتون. وقد نُفّذت الرسومات والمناظر التي اعتمدت على الواقع من خلال اعتماد طريقة الرسم الحرّ.
فقط خلال القرن التاسع عشر بدأت تنشر بعض خرائط المدينة بالاعتماد على القياسات. أحد الأشخاص الذين قاموا برسم الخرائط المعتمدة على طرق القياس الدقيقة كان دكتور ايرميتي بييروتي. الباحث والكاتب والمهندس المعماري الإيطالي أمضى مدة ثماني سنوات (1861-1854) في العمل المتواصل في وظيفة المهندس المعماري المدني والعسكري لمدينة القدس بدعوة من متصرف لواء القدس ثريا باشا. وبفضل المكانة الرفيعة التي حظي بها لدى متصرف اللواء حظي بييروتي بحرية تنقل فريدة من نوعها، فاستغل هذه الحرية في التنقل من أجل الدخول إلى الأماكن المقدسة مثل الحرم القدسي الشريف والحرم الإبراهيمي، وهما من الأماكن التي يُحْظَرُ أن يدخل إليها “الغير مسلمين”.
قام بييروتي بأعمال البحث والتنقيب في الأماكن المقدسة في أرجاء مدينة القدس وخارجها، وأعدّ مخططات تهدف إلى ترميم المدينة وأشرف على عدد لا بأس به من المبادرات العمرانية. وبينما كان يعيش في القدس نشر كتابه “القدس رهن البحث” المكوّن من جزأين حيث أجرى مقارنة بين مدينة القدس إبان أيام العهد القديم من الكتاب المقدّس وبين المدينة المعاصرة: وقد أثار نشر الطبعة الأولى وخاصة ترجمتها للغة الإنجليزية عاصفة من ردود الفعل في بريطانيا. وقدّمت ضد بييروتي دعوى قضائية من قبل جيمس جراهم الذي ادعى أن بييروتي سرق الصور الواردة في الكتاب من المصور الأسكتلندي، فردّ بييروتي على هذا الادعاء بالقول إنّه قد اشترى هذه الصور من المصور اليهودي الروسي مندل جون دينز. وعلى أي حال من الأحوال فقد سارع للرحيل عن القدس.
أهل البلاد في عيني ايرميتي بييروتي هم رقيق
حتى بعد رحيله عن الديار المقدسة واصل بييروتي الاهتمام بالمناظر والشخصيات التي قابلها. وواصل في نشر النتائج التي توصل إليها في سلسلة من الكتب، وأيضًا في أوروبا اعتبر نفسه خبيرًا كبيرًا وليس فقط في المناظر الطبيعية والعمارة في البلاد. أحد أشهر كتبه، والوحيد الذي تمت ترجمته للغة العبريّة كرّسه لبحث “العادات والتقاليد في الأراضي المقدسة”. الاسم الكامل لهذا المؤلف يدل على دافعية بييروتي في الكتابة: “العادات والتقاليد في الأراضي المقدسة لدى سكان البلاد الآن، التي تشكل نموذجًا لأنماط الحياة التي كان يعيشها العبرانيون القدامى”.
يضمّ هذا المخطط مقطعا عرضيا ومقطعا طوليا للحرم يرفق من حوله بتفاصيل معلوماتية كثيرة حول المكان. وقد تم نشر هذا المخطط أيضًا كجزء من الأطلس الذي نشره”
“كلّ من يضفي على الحيوانات صفة العقل والإدراك دون الاكتفاء بالغرائز، لو كان يتجول في البلاد طولًا وعرضًا لكان دون أدنى شكّ سيجد الكثير من الأدلة لتعزيز نظريته، وكان من الممكن أن يتوصل للاستنتاج (وهو استنتاج غير بعيد عن الحقيقة) بأن هذه المخلوقات أذكى من بشر كثيرين. وعلى الأقل فأنا ما كنت أستطيع أن أدحض أقواله، نظرًا لأنني تقريبًا توصلت لنفس وجهة النظر بعدما تعرفت عن كثب، طوال سنوات، على الفئتين كلتيهما”.
(من كتاب: العادات والتقاليد في أرض إسرائيل، ايرميتي بييروتي)
بينما كان انطباعه إيجابيا عميقا بفضل المباني الكثيرة في مدينة القدس فقد ترك سكان البلاد التي أمضى فيها سنوات طويلة لديه أثرًا سيّئًا. بما يليق بشخص أوروبي من القرن التاسع عشر، لم يتورّع بييروتي من التعميم والاستهزاء بمجموعات إثنية كاملة: فالعرب الذين اعتبرهم من سلالة العبريّين القدامى نظر إليهم على أنهم ثلة من الأشخاص السريعي الغضب، المحتالين والذين لا يمكن أن يبدوا استعدادهم لتقديم المساعدة للأجانب إلا إذا حصلوا في المقابل على “بقشيش”- رشوة. “أيّ سائح في دول الشرق، ولا سيما في سوريا، لا يعرف كلمة بقشيش؟” فقد تكرر ترديد هذه الكلمة على مسامعه إلى درجة أنه استمر في استخدامها حتى بعد عودته إلى بلاده، وبهذه الطريقة فإن هذه الكلمة كادت تغدو جزءًا لا يتجزّأ من حديث الناس في أوروبا أيضًا.”
من أجل الوصول إلى جذور عادة “البقشيش” ادعى بييروتي أنه يتوجب علينا البحث في العهد القديم من الكتاب المقدس، وذلك من منطلق أنّ العبريّين القدامى كانوا معتادين على عادة “البقشيش”، بدءًا من إبراهيم وحتى إليشع تلقى أبطال العهد القديم (الآباء القدامى للعرب المعاصرين) سلسلة من الإكراميات، الهدايا ومنح المصالحة مِنْ كلّ مَنْ ساعدهم أو أغضبهم. محبة الرشوة لدى الرجال العرب كانت منسجمة تمامًا مع الطبيعة الدسّاسة لنسائهم: “تحت ثنايا المنديل من الممكن التفاضل، تدبير الدسائس وتدبير مختلف المؤامرات التي يمكن أن تخطر على البال”.
كان موقف بييروتي من اليهود أكثر تركيبًا: فقد اعترض على الآراء المسبقة والافتراءات القديمة التي التصقت بأبناء الشعب المختار”، لكنه لم ينسَ التعبير عن استعلائه الأوروبي عليهم: “بينما حرص العبريّون القدامى على الاستحمام والنقاء فإن أحفادهم تخلَّوْا عن الطريق التي انتهجها الأجداد القدامى. في أيام السبت يرتدي اليهود ملابس احتفالية قشيبة لكن، عندما تقترب منهم يتبيّن لك أن النظافة لديهم لم تكن سوى خارجية، وذلك لأنهم تباخلوا في تسديد رسوم الدخول إلى الحمّام”.
وقد ساهم دكتور ايرميتي بييروتي في إحضار الروح العصرية إلى البلاد العريقة غير أنه لم ينسَ أن يصطحب معه من البلاد الأصلية أيضًا الصفة المقرونة بها: الغرور الأوروبي.