اجتياح الفيضانات للبلاد، ظاهرة جديدة أم قديمة؟

تقصي ظاهرة الفيضانات في البلاد، لمحاولة فهم هذه الظاهرة؛ إذا كانت قد حدثت من قبل في البلاد أم أنها أمر جديد قد اجتاح البلاد مؤخرًا.

موجة الفيضانات تجتاح مدينة القدس في 23 تشرين الثاني 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية

لطالما كانت الفيضانات مرافقة للمنخفضات الجوية وخاصة القوية منها، لكونها تؤدي إلى هطول كميات كبيرة من الأمطار خلال فترة قصيرة  من الزمن، ومن ثم يتبعها تشكل السيول التي تُغرق المناطق المنخفضة من وديان وسهول وبعد ذلك تغمر المياه المنطقة ككل. هذا ما حدث في معظم مناطق البلاد خلال الأسبوع الأخير. أما المفاجئة الأكبر للكثيرين منا، هي غرق مدينة تل أبيب ويافا بفعل تلك الأمطار، حتى أن البعض ألقى بالمسؤولية على البلدية (البلدية المشتركة ليافا وتل أبيب) وبفعل الأشغال ببناء القطار الخفيف بالمدينتين، ما أدى إلى تردي البنية التحية فيهما.

فيما كان مبرر البلدية على لسان رئيس بلديتها أن هذه الكمية من الأمطار لم تسقط بهذا الوقت القصير آخر مرة إلا قبل 70 عامًا. فيا ترى عن ماذا كان يقصد بكلماته هذه؟

بالعودة إلى أرشيف الصور بالمكتبة الوطنية، نرى بأن مدينة تل أبيب قد عانت من اجتياح الفيضانات لها عام 1951، ولربما بنفس قوة هذه السنة أو أكثر. وأدى ذلك إلى أضرار كبيرة، من قطع الطرقات وشلل المدينة آن ذاك. ومن خلال مجموعة هتسلمونيا أُتيح لنا رؤية آثار السيول والفيضانات على المدينة كما هو مبين في الصورة أدناه:

غرق مدينة تل أبيب بفعل الفيضانات عام 1951، مجموعة هتسلمونيا، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
غرق مدينة تل أبيب بفعل الفيضانات عام 1951، مجموعة هتسلمونيا، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
غرق مدينة تل أبيب بفعل الفيضانات عام 1951، مجموعة هتسلمونيا، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
غرق مدينة تل أبيب بفعل الفيضانات عام 1951، مجموعة هتسلمونيا، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية

ليس مدن الساحل وحدها تغرق

من الصحيح قوله أن التجمعات السكانية الموجودة في المناطق الساحلية والسهلية هي أكثر المناطق عرضة للتعرض للسيول والفيضانات لكن، أيضًا من الممكن أن تتعرض لها المدن الجبلية، وهذا بالفعل ما تعرضت له مدينة القدس، التي تعرضت لفيضان أدى إلى توقف حركة المواصلات بشكل تام وغرق البيوت.

كان ذلك بتاريخ 23 من تشرين الثاني عام 1955. والتي لم يكن حتى بمقدور طواقم البلدية لوحدها أن تعالج آثاره مما حدا بسكان المدينة أن يساهموا أيضُا في عمليات الإنقاذ كما تبين لنا مجموعة بيتموناه من أرشيف المكتبة الوطنية للصور:

موجة الفيضانات تجتاح مدينة القدس في 23 تشرين الثاني 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
موجة الفيضانات تجتاح مدينة القدس في 23 تشرين الثاني 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
غرق البيوت في القدس بفعل فيضان عام 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
غرق البيوت في القدس بفعل فيضان عام 1955، مجموعة بيتموناه، أرشيف الصور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

 

الفيضانات تحت ضوء الصحافة الفلسطينية التاريخية

خبر غرق تل أبيب ويافا بفعل الفيضانات. صحيفة اللواء بتاريخ 25 تشرين الثاني 1936. أرشيف جرايد

عند زيارة أرشيف الصحافة الفلسطينية التاريخية خلال الفترة العثمانية والتاريخية- جرايد، نجد أن الصحافة الفلسطينية اهتمت وبشكل كبير في تناقل أخبار الطقس وخاصة في فصل الشتاء والحديث عن آثاره على المدن والقرى الفلسطينية. فغالبًا كان الحديث حول انقطاع الطرق والمواصلات بين المدن أو حول آثاره على موقع معين. كما في الخبر الذي جاء في جريدة اللواء بعنوان “سيول وصواعق، أمكنة تغرق وتل أبيب تنعزل”. لقد كان الخبر مخصصًا حول السيول التي أغرقت مدينة يافا وتل أبيب في شهر تشرين الثاني من عام 1936، والتي أدت إلى انقطاع خطوط الهاتف، غرق البيوت والمخازن. أما اللافت بالأمر فهو، تأثر مدينة تل أبيب بشكل أكبر من مدينة يافا ويعود سبب ذلك (تبعًا للصحيفة) إلى عدم وجود قنوات لتصريف المياه في المدن اليهودية.
لقراءة المزيد من أخبار الصحافة الفلسطينية التاريخية حول السيول والأمطار اضغطوا هنا

 

الفيضانات ليست بالأمر الجديد

في النهاية، على ما يبدو بأن الفيضانات والسيول هي ليست وليدة اليوم أو الأمس، إنما تشكل جزءًا لا يتجزأ من طقسنا هذا (الذي يتميز بمنخفضاته الجوية) وبلادنا هذه (التي تتميز بطبوغرافية متنوعة)، ولكن الأمر الجديد، هو كيفية تعاملنا مع هذه الفيضانات والسيول. يجب أن نبتعد عنها كي لا تجرفنا وتأخذنا بعيدًا ممن نحب.

لمن نسلم مدينة القدس؟

توضّح المقالة كيف تمت ظروف تسليم مدينة القدس في يوم 9 كانون الأول من العام 1917 للجنرال ألنبي.

 

الجنرال ألِنبي بالقرب من باب الخليل. سيدخل إلى المدينة الجنرال بيرغل.

تصوير: أريك ماطسون، مكتب الصحافة الحكوميّ

مع انسحاب القوّات العثمانية من القدس، خرج وفد رئيس البلديّة بنيّة تسليم المدينة للقوّات البريطانيّة. حاول رئيس البلديّة المرّة تلو الأخرى تسليم المدينة لكلّ جنديّ التقى به، إلّا أنّ الاستسلام هذا كان يُرفض دائمًا. هذه قصّة أطول يوم في حياة رئيس البلديّة، اليوم الذي تسبّب، على ما يبدو، بموته.

إحدى لحظات الذروة في المعركة البريطانيّة لاحتلال فلسطين كانت رمزيّة أكثر من كونها عسكريّة: احتلال القدس. التقدّم السريع للإمبراطوريّة البريطانيّة عن طريق سيناء، مرورًا بغزّة ووصولًا إلى مشارف القدس أثبت لقوّات الإمبراطوريّة العثمانيّة في المدينة أنّ الوضع العسكريّ لا أمل منه. تلقّت قوّات الإمبراطوريّة العثمانيّة الأمر: انسحاب تامّ من القدس سيتمّ في 9 كانون الأوّل 1917.

عند انسحاب القوّات العثمانية بسرعة من المدينة، نظّم رئيس البلديّة حسين سالم الحسينيّ وفد استسلام رسميًّا. مرّ رئيس البلديّة من المستعمرة الأمريكيّة في المدينة باحثًا عن مصوّر كي يوثّق الحدث. عندما عثر رئيس البلديّة على مصوّر المستعمرات هولس لارس لارسون، ناداه، “سوف أسلّم المدينة للإنجليز، أحضر الكاميرا”. أثناء السير في الطريق توقّفوا في المستشفى الإيطاليّ، قاموا بإزالة غطاء سرير أبيض من أحد الأسرّة ووصلوه بعصا مكنسة: جُهّزت راية الاستسلام!

 

أصبح كلّ شيء جاهزًا الآن ومعدًّا لمراسم الاستسلام، السؤال الوحيد الذي بقي هو: أمام مَن يتمّ الاستسلام؟

لمح الوفد في حوالي الساعة الخامسة قبل الصباح اثنين من الطهاة الإنجليز اللذين أُرسلا في المساء السابق لشراء البيض من القرية المجاورة فضلّا في طريق عودتهما إلى المعسكر. سارع الوفد الموقّر للاستسلام أمام الرمزيْن وقدّم لهما- كممثّلين للجيش البريطانيّ العظيم- كتاب التسليم وراية الاستسلام البيضاء: تحوّل هذا الوضع غير الطبيعيّ إلى أكثر غرابة عندما استدرك الرمزان ورفضا أن يقبلا كتاب الاستسلام. وطلبا من الوجهاء تأجيل ذلك عدّة ساعات وخرجا للبحث عن قائدهما للتشاور السريع- حتّى ذلك الوقت، لن تستسلم المدينة أمام الإمبراطوريّة الجديدة في المنطقة.

في حين كان الطبّاخان في طريق العودة إلى المعسكر، ظهرت فجأة ظهر أفراد من الدوريّة البريطانيّة مع بنادقهم المشهرة وطلبوا من أعضاء الوفد أن يعرّفوا بأنفسهم. تمالك رئيس البلديّة نفسه وحاول، للمرّة الثانية في ذلك الصباح الطويل، الاستسلام أمام ممثّليّ الجيش البريطانيّ العظيم- ولكنّهما رفضا، وطلبا من الوفد الانتظار حتّى وصول الجنرال ولكنّهما استجابا لإلحاح المصوّر ووافقا على التقاط الصور مع الوفد.  

وفد رئيس البلديّة مع اثنين من رجال الدوريّة اللذَين رفضا قبول الاستسلام، عن أرشيف مكتبة الكونغرس

بعد مضيّ عدّة ساعات على ذلك وصل الكولونيل ووطسون وتمّ التعريف به أمام رئيس البلديّة ورفاقه. اعتبر ووطسون نفسه جديرًا بهذا المقام ووافق على قبول كتاب الاستسلام. في ختام المراسم المستعجلة توجّه الكولونيل الذي كان يعاني من الزكام إلى المصوّر وسأله “أين بإمكاني الحصول على كوب من الشاي؟” ومن هناك توجّهت المجموعة إلى مستشفى “شعاري تسيدك”، لتناول الشاي والكعك احتفالاً باستسلام المدينة.

في اليوم التالي، أخذ المصوّر لارسون صور الاحتفال الخاصة بووطسون إلى مقرّ قيادة الجنرال مايور جون شاين في المدينة. من منطلق اعترافه بالأهمّيّة التاريخيّة للحدث الذي حضره، سأل لارسون الجنرال فيما يتعلّق بالطريقة اللائقة لنقل الصور إلى لندن. “أيّ صور؟” ردّ الجنرال مستغربًا، “هل تقصد الصور من الاحتفال الذي قرأت فيه البيان على مدرّجات برج داود(قلعة القدس)؟”. عندما سمع الجنرال شاين عن مجريات الأحداث من يوم أمس من المصوّر الذي قام بتوثيقها، غضب على الكولونيل ووطسون الذي قبل استسلام المدينة نيابة عن الجنرال ألِنبي وأمر المصوّر بالتخلّص من صور الاحتفال الذي شارك فيه ووطسون.  وأصرّ على أنّ مراسم الاستسلام الحقيقيّة كانت تلك التي جرت على درج قلعة داود.

بعد يومين من يوم الاستسلام الطويل، وصل قائد المعركة البريطانيّة في سيناء وفلسطين إلى القدس. عند مدخل باب الخليل نزل الجنرال إدموند ألِنبي عن جواده ودخل المدينة راجلًا، حتّى لا يُنظر إليه على أنّه مُحتلٌّ وصيّ وقاسٍ ينظر إلى سكّانها من على صهوة جواده.

ألغى ألِنبي على الفور جميع مراسم الاستسلام السابقة وطلب تنظيم مراسم استسلام ثالثة (أو رابعة، الأمر يتعلّق بكيفيّة العدّ) في حضوره. رفض رئيس البلديّة الحسينيّ المراسم النهائيّة بذريعة أنّه يعاني من التهاب رئويّ الذي ألمّ به خلال مراسم الاستسلام الطويلة قبل يومين من هذا الموعد.

الجنرال ألِنبي بصحبة ضبّاط من ثلاثة جيوش- الأمريكيّة، الفرنسيّة والإيطاليّة، يدخل راجلًا إلى القدس عبر باب الخليل. الصورة مأخوذة من مجموعة الصور الخاصّة بالمكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

 

وهكذا، وفي ظلّ غياب رئيس البلديّة جرت مراسم استسلام مدينة القدس– شارك في المراسم الجنرال ألِنبي، ممثّلو الطوائف المختلفة في المدينة وبضعة آلاف من السكّان الذين وصلوا لرؤية الحكّام الجدد.

بعد عدّة أسابيع على ذلك، توفّي رئيس البلديّة حسين سالم الحسينيّ من جرّاء الالتهاب الرئويّ.

 

مراسم استسلام القدس للجنرال ألِنبي. الصورة مأخوذة من مجموعة الصور الخاصّة بالمكتبة الوطنيّة.

 

 

 

فكرة تقسيم فلسطين وتداولها في الصحف الفلسطينية: منذ تبلور الفكرة حتى مواجهتها

يبحث المقال في عناوين الصحف الفلسطينية حول تبلور فكرة تقسيم فلسطين منذ بداية نشوء الفكرة وحتى صدور القرار في 1947، ويسلط الضوء على تغطية الصحف المتنوّعة.

جزء من خارطة تقسيم فلسطين عام 1947، أرشيف الخرائط على اسم عيران لئور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 ربما أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ حول موضوع تقسيم فلسطين، بعيدًا عن الحكم بمدى صواب قرار التقسيم أو عدمه، هو صدور قرار التقسيم في نهاية شهر تشرين الثاني عام 1947 إلى دولتين، دولة يهودية إلى جانب الدولة العربية، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن حقيقة فكرة تقسيم فلسطين قد سبقت ذلك التاريخ بفترة من الزمن، فلم يكن قرار التقسيم إلا نتيجة وتتويج لحقبة من زمن قد تعددت فيه أفكار تقسيم هذه البلاد.

بمناسبة الذكرى ال72 لسن مشروع قرار تقسيم فلسطين، ارتأينا إنه ليس بالإمكان المرور على هذه الذكرى بدون أن نسلط الضوء على بعض جوانب هذا المشروع، ولم يكن هنالك عنوان مناسب أكثر من جانب الصحافة الفلسطينية لمعالجة ذلك.

  لم تكن الصحافة الفلسطينية بمعزل عن تسليط الضوء حول تلك الأفكار والمشاريع، فقد كان دورها رياديًا في تداولها لمشاريع تقسيم فلسطين، سواء من خلال تناول الأفكار أو التصورات حول مشروع التقسيم أو من خلال نقل الأخبار عن الصحف العالمية حول فلسطين (خاصة الصحف الإنجليزية). مرت عملية تسليط الضوء على  أفكار مشروع تقسيم فلسطين في عدة مراحل وتحولات أبرزها تمثل في بداية طرح الفكرة عام 1933  بجريدة مرآة الشرق (كان هنالك بعض الآراء التي طرحت فكرة التقسيم قبل هذا التاريخ، لكن أول مقال موثق حول تقسيم فلسطين يعود إلى عام 1933)، ومن ثم  تبلورها بعد زيارة اللجنة الملكية البريطانية (لجنة بيل-PEEL) عام 1936، والمرحلة الأخيرة كانت التصدي لها ومقاومتها حتى صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947.

في معالجة موضوع فكرة تقسيم فلسطين لم تكن الصحف الفلسطينية ذات لون واحد بنقاشاتها ومقالاتها، بل يمكن القول إنها كانت تمثل الصورة الأقرب إلى الصورة الفسيفسائية في كيفية تغطيتها للمسائل حول قضية التقسيم وذلك تبعًا لاختلاف الرؤى، المصادر، والزمن. لقد أفردت صحيفة مرآة الشرق الصادرة من القدس مساحة كبيرة من صفحتها الأولى لمقالة بعنوان “حلول القضية الصهيونية: تقسيم فلسطين إلى قسمين”، والتي من خلال هذا المقال حاولت أن تضع سيناريو لتقسيم فلسطين بالاعتماد على أراء الباحثين والكتاب من العرب واليهود أمثال يوسف أفندي العيسى والكاتب اليهودي بن أفي والذين كانوا مقتنعين بفكرة التقسيم (بحسب صحيفة مرآة الشرق  كان يوسف العيسى قد طرح فكرة تقسيم البلاد بين العرب واليهود قبل تسع سنوات من نشر هذا المقال، أي في عام 1924). على الرغم من اقتناع الصحيفة باستحالة تنفيذ الفكرة على أرض الواقع تبعًا لعوامل كثيرة أهمها التداخل ما بين التجمعات العربية والمستعمرات اليهودية إلا أنها تناولت الموضوع من زاوية محاولة تصورها لسبل الحل في فلسطين تبعًا للفكرة التي يقوم عليها المقال “إن المشاكل تزداد تعقدًا كلما طال الزمن والقضية الفلسطينية واحدة منها”1.

منذ نهاية ثلاثينيات القرن العشرين لم تعد فكرة تقسيم فلسطين مجرد أفكار يتناقلها الكتاب والباحثون، إنما أصبحت فكرة أكثر تبلورًا، وذلك من ناحية الانتقال من تصور قبول التقسيم أم عدمه إلى تصور شكل التقسيم المفترض بين الدولة العربية والدولة اليهودية وكيفية التعامل مع قضايا السكان في كل من الأجزاء المفترض تقسيمها. من أهم الصحف التي تناولت مشاريع التقسيم كانت صحيفة الدفاع والتي احتوت على اتجاه أكثر شمولي من حيث تطرقها لتلك المشاريع، وكان ذلك يتمثل بالجهد التي بذلته الصحيفة في تجميع الأخبار العالمية والبريطانية خاصة مع ازدياد تداول الأفكار بخصوص قضية فلسطين بعد أحداث عام 1936، ومن ثم تعيين اللجنة الملكية البريطانية الخاصة بفلسطين (لجنة بيل –  PEEL). في الحقيقة حاولت صحيفة الدفاع الموازنة والتنويع في طرح الأخبار بخصوص موقف كافة الأطراف من فكرة التقسيم وبين الأخبار التي تحاول تصور أشكال التقسيم لهذه البلاد. فبخصوص أشكال التقسيم، ضمت صحيفة الدفاع خبرًا بعنوان “عودة إلى تقسيم فلسطين إلى منطقتين: صحيفة إنكليزية كبيرة تنشر رواية عن ذلك” والتي نقلته عن صحيفة “الدايلي هرالد” الإنجليزية حول نماذج التقسيم التي كانت اللجنة الملكية البريطانية الخاصة بفلسطين تحاول أن تطرحها ليتم تطبيقها في فلسطين. وقد كان النموذج الأول هو تطبيق فكرة الاتحاد السويسري، وذلك من حيث أن يكون هنالك استقلالًا ذاتيًا للمنطقتين ، العربية واليهودية تحت حكومة واحدة. أما النموذج الثاني حول التقسيم، كان من خلال أن يتم منح الدولة العربية استقلالًا أوسع وبعد ذلك تكون هذه الدولة متحدة مع شرق الأردن، بينما المنطقة الساحلية يتم تأسيس منطقة يهودية تابعة للإمبراطورية البريطانية2.

من الجدير ذكره أن تصور فكرة مشروع التقسيم لم يكن لها القدر الكافي من جعل المسألة في فلسطين أقل تعقيدًا مما كانت عليه، سواء تمثل ذلك برفض الطرفين في فلسطين: اليهودي والعربي تقسيم “كعكة” فلسطين، أو بسبب الرفض “الظاهري” للمحيط الإقليمي للمشروع، فالترويسة التي تصدرت مقال في صحيفة الدفاع تعبر بلا شك عن ذلك، حيث جاء عنوان المقال “فكرة تقسيم فلسطين أسوأ فكرة دعا إليها يأس اللجنة الملكية، موقف البحر المتوسط يدعو إلى إلغاء، أو إرجاء تنفيذ هذه الفكرة”3.

ركزت الصحافة الفلسطينية على استعراض الأصوات والأقلام العربية والدولية التي في طياتها تعالج قضية مشروع تقسيم فلسطين، فكانت الاقتباسات من الصحافة العالمية قد اخذت مساحة واسعة في الصحافة الفلسطينية وكان ذلك على حساب تغطية النقاش الداخلي، سواء النقاش الداخلي الفلسطيني أو داخل الحركة الصهيونية.

 

بالتزامن مع اقتراب انعقاد موعد الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 من أجل مناقشة مستقبل فلسطين وطرح فكرة التقسيم أصبح شبح فكرة التقسيم والحرب  يخيم على الصحف الفلسطينية بكافة ألوناها وأقلامها، وكان ذلك قد انعكس بشكل كبير على الكتابات والمقالات التي فيها، فالكلمات قد أمست أكثر رصانة وقساوة في محاولة للتوحد ضد فكرة التقسيم وتبيان مدى الخطر التي تتعرض له البلاد. لعل العنوان التي وضعته صحيفة فلسطين يعبر عن تلك الكلمات الحاسمة في مواجهة مشروع التقسيم، فكان العنوان “تقسيم فلسطين يهدد السلام في الشرق الأوسط كله!4.

يمكن القول إن الصحف الفلسطينية احتوت على العديد التخمينات والتنبؤات حول تصور أشكال التقسيم ومستقبل البلاد (فلسطين) بخصوص تناول فكرة تقسيم فلسطين وذلك تبعًا لتنوع مصادر المعلومات، وكيفية تغطية كل صحيفة للخبر، لكن بالمقابل حافظت مجمل الصحف الفلسطينية على الخطوط العريضة ضمن تغطيتها لفكرة مشروع التقسيم، فقد كانت غالبيتها ضد قرار فكرة مشروع التقسيم وعلى رأسها الصحف الكبيرة والتي كانت لهم الحصة الأكبر من تغطية مسألة تقسيم فلسطين كصحيفة الدفاع وفلسطين خاصة في نهاية أربعينيات القرن الماضي إضافة إلى  وجود صحف أخرى عملت على إيصال أفكارها حول مسألة التقسيم مثل صحيفة الوحدة والشعب التي استعرضت على وجه الخصوص موقف الدول العربية من مشروع  تقسيم فلسطين، ففي الصفحة الأولى عنونت الصحيفة خبرًا تتناول فيه موقف جامعة الدول العربية الرافض لتقسيم فلسطين والخطوات الواجب اتخاذها لمنع حدوث التقسيم5.

 

إن تناول موضوع شائك يحتمل العديد من الرؤى مثل موضوع تقسيم فلسطين ليس بالأمر السهل خاصة بدون دون التعرض إلى جوانب عدة، مشارب وأدوات مختلفة نستطيع من خلالها تصور الظروف التي مرت بها البلاد وكيفية تبلور فكرة التقسيم منذ بدايتها حتى تطبيقها على أمر الواقع، ويأتي هنا دور الصحافة الفلسطينية في كونها إحدى تلك المشارب والأدوات التي من خلالها يمكننا الوصول إلى تصور جزئيات من أجل تركيب صورة أكثر شمولية حول تلك الحقبة التي مرت بها فلسطين.

 

1 حلول القضية الصهيونية: تقسيم فلسطين إلى قسمين”، مرآة الشرق، 27 أيلول 1933، الصفحة الأولى.
عودة إلى تقسيم فلسطين إلى منطقتين: صحيفة إنكليزية كبيرة تنشر رواية عن ذلك”، صحيفة الدفاع، 4 نيسان 1937، الصفحة الأولى.
فكرة تقسيم فلسطين أسوأ فكرة دعا إليها يأس اللجنة الملكية، صحيفة الدفاع، 18 كانون الثاني 1938، صفحة 2.
“تقسيم فلسطين يهدد السلام في الشرق الأوسط كله”، صحيفة فلسطين، 21 أيار 1947، الصفحة الأولى.
الجامعة العربية ترفض تقسيم فلسطين، صحيفة الشعب، 13 كانون الأول 1946، الصفحة الأولى.

أراضي الباقورة (نهرايم): القصة الأولى

القصة الأولى حول مشروع روتنبيرغ في الباقورة/ نهرايم

في مساء يوم التاسع من تشرين الثاني 2019، ومع إغلاق الجيشين؛ الأردني والإسرائيلي، لبوابات العبور، ظهرت شارة النهاية لمسألة أراضي الباقورة (نهرايم بالعبرية). هذه المسألة التي امتد تاريخها لحوالي قرن من الزمان قد شغلت العديد من الأوساط الشعبية والرسمية في كلٍ من الأردن وإسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، والتي انتهت بتسليم الأخيرة أراضي الباقورة إلى الأردن. لكن، ماذا نعلم عن هذه الأراضي (عدا ما نسمعه في وسائل الإعلام) وبالتحديد، القصة الأولى لنشوء هذه المسألة التي هي معروفة بعنوانها لدى الجميع لكنها بذات الوقت مجهولة بتفاصيلها لدى غالبية الأوساط؟

في هذه المقالة، سنخالف الكثيرين ونعود إلى البداية، إلى بداية نشوء قصة الباقورة، وبالتحديد لعام 1921، التي فيه بدأت الحكاية. بدأت في ظل تحول الحكم البريطاني لفلسطين من احتلال عسكري إلى فرض الانتداب، والذي أصبح له سلطة “شرعية” تمكنه من استغلال الموارد الطبيعية من أجل “خدمة” السكان. وهكذا كانت البداية مع منطقة الباقورة، بدأت مع مشروع روتنبرغ لإنشاء محطة لتوليد الكهرباء.

مشروع روتنبرغ: فكرة فرضت نفسها على الباقورة

بتاريخ 21 أيلول من العام 1921 تم توقيع الاتفاقية الأولى بين المندوب السامي الأول على فلسطين وبين السيد بنحاس روتنبرغ القاطن في مدينة القدس تنص على قيام الطرف الثاني استغلال المياه في ملتقى نهر الأردن ونهر اليرموك لأجل توليد الطاقة الكهربائية وإمدادها لمناطق الامتياز.

الصفحة الأولى من وثيقة اتفاقية امتياز حقوق توليد الكهرباء من نهر الأردن واليرموك، عام 1921

كانت هذه الاتفاقية تشكل حجر الأساس في اختيار موقع الباقورة التي شكلت ملتقى لنهر الأردن واليرموك، بالتالي هي المكان المناسب لإقامة محطات توليد الكهرباء فيها. أما حكومة الانتداب فلقد أعطت بنحاس روتنبرغ ضمانًا لمشروعة لفترة تمتد إلى سبعين عامًا يبدأ تاريخها منذ يوم توقيع الاتفاقية، أي من عام 1921 حتى عام 1991.

خريطة منطقة جسر المجامع وتظهر فيها منطقة امتياز روتنبيرغ في الباقورة، خرائط مسح فلسطين لعام 1941.

لم يترك المندوب السامي كلمات امتياز أو استغلال أو ضمان دون تحديد أكثر  لبنود الاتفاقية، إذ قام بتحديد بنود الامتياز ضمن الاتفاقية الموقعة والتي أفضت إلى ما يلي:

“خضوع مياه نهر وروافد الأردن وحوضه بما في ذلك نهر اليرموك وروافده لسيطرة المندب السامي البريطاني كما هو مصرح باتفاقية الأنجلو- فرنسية المؤرخة بتاريخ 23 كانون الأول 1920 أو المناطق التي تم تحديدها لأجل استخدامها في خدمة أراضي فلسطين أو شرق الأردن لغرض توليد الطاقة المستمدة من هذه المياه وتزويدها وتوزيعها داخل مناطق الامتياز، والقصد هنا الطاقة الكهربائية التي يتم توليدها من محطة توليد الطاقة الكهربائية بالقرب من جسر المجامع (Jisr-el-Mujamyeh) وتوظيف واستغلال بحيرة طبريا كخزان لتخزين المياه لتزويد محطة توليد الطاقة الكهربائية بالمياه اللازمة كما ترى الشركة المشغلة خلال فترة توليد الطاقة وتوزيعها داخل مناطق الامتياز. ومن أجل ذلك يجب القيام بكل الأعمال اللازمة لتحقيق هذه الغاية (توليد الطاقة وتوزيعها) ولكن، لن يتم ضمان هذه الغايات دون الحصول على التصاريح والتراخيص اللازمة من المندوب السامي”

تتضمن أعمال هذا الامتياز:

  • إقامة سد على نهر الأردن بالقرب من الكرك
  • المباشرة في إقامة قناة للمياه من بحيرة طبريا إلى جسر المجامع- محطة توليد الطاقة
  • جلب العدد الكافي من أنابيب الضغط لأجل نقل المياه من القناة المذكورة لمحطة توليد الطاقة المذكورة
  • وجود المحركات التوربينية المطابقة لمواصفات المندوب السامي وتعاون السلطات المحلية مع الشركات والتي تكون قادرة على توليد الطاقة وتوزيعها بالشكل الكافي.

بالإضافة إلى هذه البنود، هنالك المزيد……….

لقراءة الوثيقة كاملةً اضغطوا هنا

روتنبرغ: المحطة الأولى وليست الأخيرة

لم تكن محطة توليد الكهرباء الموجودة بالباقورة هي المشروع الأوحد في فلسطين، بل كان هنالك لها مشروع رديف آخر على الجهة الثانية من فلسطين الانتدابية، أي الساحل الفلسطيني، وبالتحديد بالقرب من مدينة يافا، وقد حمل المشروع الآخر ذات التسمية، مشروع روتنبيرغ.

لتوضيح الأمور بشكل أكبر، يعود كل من مشروع الباقورة ومشروع يافا لتوليد الطاقة الكهربائية إلى ذات الجهة، للمهندس المدني الذي يقطن مدينة القدس والذي حمل كلا المشروعان اسمه وهو السيد بنحاس روتينبيرغ.

من هو بنحاس روتنبيرغ؟

لقد كان بنحاس روتنبيرغ ناشطًا مؤثرًا خلال أحداث الثورة الروسية (التي تعبر عن موجة الاضطرابات السياسية التي عمت أرجاء روسيا) ، والذي ما لبث إلى أن خرج من روسيا نحو أوروبا ومن ثم الولايات المتحدة الأمريكية هربًا من النظام القيصري، وعاد إليها بعد حدوث الثورة البلشفية عام 1917.  قدم إلى البلاد عام 1919 وسكن مدينة القدس وفي عام 1921 أصبح روتنبيرغ صاحب الحق والامتياز الحصري لتوليد وتوزيع الطاقة الكهربائية لأجزاء من فلسطين الانتدابية وإمارة شرق الأردن. والذي ما لبث إلى أن بدأ بجمع الأموال والتبرعات لإقامة مشروعه الضخم آن ذاك.

لحظات مصورة من الباقورة

بدء العمل في منطقة الباقورة (نهرايم)، بين الأعوام 1921-1929، أرشيف بيتوموناه، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

بدء العمل في منطقة الباقورة (نهرايم)، بين الأعوام 1921-1929، أرشيف بيتوموناه، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

مشهد لجسر الباقورة وخلفه الأعمال المستمرة لإقامة محطة توليد الكهرباء، أرشيف يعقوب فارمن، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

الأعمال المستمرة لإقامة محطة توليد الكهرباء، أرشيف يعقوب فارمن، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

تركيب قنوات المياه للمحركات التوربينية، التاريخ غير معروف، أرشيف الصور للمكتبة الوطنية الإسرائيلية