التيجان

هذه قصة رائعة عن التقاليد، والإيمان، والوحدة في ضوء التشتّت، وعن الكنوز المحافظة علينا ليس بقدر أقل من محافظتنا عليها أحد عشر مصحفًا كبيرًا وسميكًا يعود عمرها إلى ما يقرب من ألف عام، مكتوبة بخط مبدع فنان، بالحبر على رق بجودة عالية، مزخرفة ومزوّقة بأشكال وألوان بديعة بعضها من الذهب.

1200 630

هذه قصة رائعة عن التقاليد، والإيمان، والوحدة في ضوء التشتّت، وعن الكنوز المحافظة علينا ليس بقدر أقل من محافظتنا عليها

أحد عشر مصحفًا كبيرًا وسميكًا يعود عمرها إلى ما يقرب من ألف عام، مكتوبة بخط مبدع فنان، بالحبر على رق بجودة عالية، مزخرفة ومزوّقة بأشكال وألوان بديعة بعضها من الذهب. ويشهد شكلها على أهمية جوهرها – محتواها.

كل واحد من هذه المصاحف هو مخطوطة للتوراة. يحتوي بعضها على نص الأسفار الخمسة الأولى للتوراة فقط، وبعضها يحتوي على أجزاء إضافية من أسفار الكتاب المقدس الأخرى – “الأنبياء” و”الكتابات”. هذه المصاحف ليست لفائف توراة تُقرأ في الكنس، لأنها ليست على شكل لفائف، بل هي مصاحف، ولكن قيمتها لا تقدر بثمن. لفهم الأهمية العظيمة لهذه المخطوطات، علينا العودة إلى القرن العاشر في البلاد، أو في الواقع إلى صحراء سيناء في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

اللغويون من طبرية هم أصحاب التاج

وفقًا للعقيدة اليهودية، أنزل الله على بني إسرائيل التوراة في جبل سيناء في طريقهم من مصر إلى أرض كنعان. تلقى جميع الشعب الوصايا العشر- التي تمثل الأركان الأكثر أهمية في الديانة اليهودية – من خلال تجلّي إلهي على كافة الجمهور، ومنح الله بقية أجزاء التوراة لموسى والذي قام بدوره بتعليمها لبقية أبناء الشعب. وعليه، فقد كُتبت النسخة الكاملة الأولى للتوراة على يدي موسى. نقلت كلمات التوراة من جيل إلى آخر، وكُتبت مرارًا وتكرارًا، أولًا في أرض إسرائيل وبعدها في بابل وفارس وأماكن أخرى وصل إليها اليهود في أعقاب خراب الهيكل الأول. اهتم اليهود بالمحافظة أينما حلّوا على نص التوراة المكتوبة من ألّا تقع تغييرات فيه. لفعل ذلك قاموا بالاعتماد على منظومة من الأحكام والقوانين التي نُقلت شفهيًا إلى جانب الكلمات المكتوبة وتسمّى “المسورا”، وهو تعبير مرادف للتعبير الإسلامي “علم الرسم والضبط وعَدّ الآي”. تتعامل أحكام “المسورا” مع عدد الكلمات والحروف الموجودة في الكتاب المقدس من أجل ألّا لا تضاف عليها أو تحذف منها، وطرق الكتابة والنطق الصحيحين لكلمات معينة من خلال تحريكها ووضع علامات التجويد، وهو ما يطلق عليه “القراءات المأثورة المختصرة والمفصّلة” (مسورا كطناه فغدولاه) وتقسيم التوراة إلى جمل وفصول وغير ذلك.

ظهر قلق، في أعقاب خراب الهيكل الثاني، من أن تُنسى “المسورا”، ولذلك انشغلت مجموعات من العلماء واللغويين والنحويين اليهود، على مدى عدة أجيال بين القرنين الثامن والعاشر، بوضع منظومة “المسورا”. قامت هذه المجموعات، التي تُسمى “أصحاب المسورا”، بكتابة مصاحف دقيقة ومتقنة لنص التوراة وأضافوا إليها كتابةً الأحكام والعلامات الخاصة بـ”المسورا”. أخيرًا، وبعد مئات السنين من نقل الكلمات كتابةً ونقل هذه المنظومة شفهيًا، اجتمعت هذه التقاليد الكتابية على شكل كتب كاملة وموثوق بها تضم كلام الله لبني إسرائيل التي نقلت تواترًا من جيل إلى آخر منذ موقف طور سيناء. لذا، فإنه ليس من المستغرب أن يطلق على الكتب لقب “تيجان” (كتريم ج. تاج).

تاج آرام صوبا وتيجان دمشق

كانت أشهر عائلة من بين أصحاب “المسورا” هي عائلة بن أشير التي عاشت في طبرية في القرن العاشر. كان أهارون بن أشير آخر وأهم شخص في العائلة، وانشغل بالطبع هذ كذلك في كتابة الكتاب المقدّس وفقًا لمنظومة “المسورا”. حظي مصحف وضعه أهارون بن أشير بناءً على أحكام “المسورا” بشرف أن نص كتاب التوراة بتصديق أجل الحاخامات جميعًا ألا وهو موسى بن ميمون (الرمبام اختصارًا، ت 1204م). قام الرمبام شخصيًا بمراجعة مخطوطة أهارون بن أشير وصدّق على موثوقيتها كممثلة للنص الأكثر دقّة للتوراة. وصلت مخطوطة أهارون بن أشير، التي أطلق عليها طبعًا تعبير “تاج”، مع اليهود الذين انتقلوا من البلاد إلى الشام، واستقروا في مدينة حلب، التي كان اليهود يسمونها تقليديًا باسم آرام صوبا، لهذا فقد أطلق على هذه المخطوطة اسم “تاج آرام صوبا”. يتم الاحتفاظ بتاج آرام صوبا حاليًا في قاعة الكتب في متحف إسرائيل في القدس، وهو أحد أعظم كنوز الشعب اليهودي بأكمله، وحتى أنه معترف به كتراث ثقافي عالمي من قبل اليونسكو.

ولم يستقر اليهود في آرام صوبا (حلب) حصرًا، بل وأقاموا في دمشق أيضًا. تعتبر جالية يهود دمشق من أقدم الجاليات اليهودية، حيث نجد دلائل على حضورها من حقبة الهيكل الثاني. كان يهود دمشق أثرياء ومبجّلين، ولم يكتفوا بتاج الجالية المجاورة في حلب، بل قاموا ببذل جهود جبارة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر لطلب مخطوطات للتوراة مكتوبة وفق منظومة “المسورا”. نتيجة لذلك توفّرت لدى هذه الطائفة على مر الأجيال ما لا يقل عن أحد عشر مصحفًا، وهذه هي “تيجان دمشق”.

التيجان المحافظة علينا

لم تأتِ المصاحف التي وصلت إلى دمشق من مكان واحد بعينه، بل جاء بعضها مباشرة من البلاد، وبعضها الآخر من الأندلس وإسبانيا وبلدان أخرى، ومنها مصحف واحد جاء من منطقة إشكناز.

كانت تيجان دمشق جزءًا لا يتجزأ من المتانة المجتمعية، وكانت رمزًا، وفخر الجالية، ومصدر تميّزه، فقد تعامل معها يهود دمشق بقدسية هائلة. فقد احتفظوا بها في خزائن منفصلة ولم تكن جزءًا من تابوت العهد في الكنس. نجد بداخل الخزائن صندوقًا خاصًا ملفوفًا بالحرير والمخمل وُضعت عليه الكتب، وانكشف قليلون فقط من أبناء الجالية على التيجان. أخرجت التيجان في مناسبات نادرة فقط، حيث كانوا يقرأون منها أجزاءً ويعيدونها فورًا إلى مكانها. وكانت مفاتيح كل خزانة محفوظة لدى شخصين مختلفين، عادة لدى حاخام الجالية وشمّاس الكنيس، وبموافقة كليهما فقط كان من الممكن فتحها.

بالإضافة إلى محافظة يهود دمشق على التيجان، فقد آمنوا بكل قلوبهم أنها تحفظهم. فقد اعتبرت كالتميمة التي تحمي حياة أبناء الجالية ومتانتها ووحدتها. وحين اختفى أحد التيجان لفترة ما سلك أبناء الطائفة وكأنهم في فترة حداد جماعي تمامًا كما يتصرّفوا في يوم الحداد العام في التاسع من آب.  

إلى جانب إنقاذ يهود دمشق الذين بدأ وضعهم في سوريا يتدهور في السبعينيات، فقد بُذلت جهود هائلة لإنقاذ تيجان دمشق وإحضارها إلى إسرائيل. لم يكن من الممكن تخيل أن تبقى التيجان وراءهم.

تُحفظ تيجان دمشق الأحد عشر حاليًا في المكتبة الوطنية. فالتيجان ليست مجرد كتب جميلة تحافظ على النص الدقيق لكلام الله، بل هي المصدر الذي منه تُنسخ لفائف التوراة التي كُتبت ولا زالت تُكتب في جميع بلدان الشتات بدون اختلافات تقريبًا. فهي رمز للعقيدة والتقليد الدقيق، والقوة، والمتانة لا سيما الوحدة بين جميع اليهود الذين رغم تشتّتهم في أماكن كثيرة في العالم، إلّا أن هذه الحروف تجمعهم معًا وتحافظ عليهم في كل مكان وزمان.