“كاف” توفيق صايغ: حرفٌ يروي حباً غير كافٍ

تشكلت رحلة حياة توفيق صايغ من المنفى والعاطفة والسعي الدؤوب نحو الإبداع الشعري. ولد توفيق صايغ في عام 1923 في قرية خربا السورية، ونشأ في طبريا، حيث عاش طفولته وشبابه المبكر. تابع دراسته في القدس، ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث تخرج عام 1945. عكسَ أحد أبرز أعماله، القصيدة ك، فصلاً حميميًا ومؤلمًا في حياة الصايغ. رسمت هذه القصيدة صورة لعلاقة عاطفية عميقة جمعته بامرأة بريطانية تُدعى كاي شو، والتي أصبحت محوره العاطفي وإلهامه في الشعر.

383 272

تشكلت رحلة حياة توفيق صايغ من المنفى والعاطفة والسعي الدؤوب نحو الإبداع الشعري. ولد توفيق صايغ في عام 1923 في قرية خربا السورية، ونشأ في مدينة طبريا، حيث عاش طفولته وشبابه المبكر. تابع دراسته في القدس، ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث تخرج عام 1945. لكن طموحه الأدبي قاده بعيدًا؛ فقد حصل في عام 1951 على منحة لمتابعة دراسته الأدبية في جامعة هارفارد. كان توفيق مفتوناً بالأدب والمسرح، وخلال فترة دراسته وتدريسه لاحقاً في أكسفورد وكامبردج وجامعات أخرى، بدأ في صياغة صوته الشعري الفريد الذي لم يكن يشبه غيره في الساحة الأدبية العربية آنذاك.

في عام 1954، أصدر صايغ ديوانه الأول ثلاثون قصيدة، والذي قدّم فيه لمحات من أسلوب شعري جديد، يجمع بين الشعر العربي التقليدي والتأثيرات الغربية الحديثة. هذا الديوان كان بمثابة نقطة انطلاق لتوفيق في عالم الشعر الحر، حيث أصبح من الأسماء البارزة في مجلة شعر، التي ساهمت في إثراء الشعر العربي الحديث وأعطت صوتًا للمواهب التي تخطت الأساليب التقليدية.

قصيدة ك

عكسَ أحد أبرز أعماله، القصيدة ك، فصلاً حميميًا ومؤلمًا في حياة الصايغ. رسمت هذه القصيدة صورة لعلاقة عاطفية عميقة جمعته بامرأة بريطانية تُدعى كاي شو، والتي أصبحت محوره العاطفي وإلهامه في الشعر. هذا الحب، الذي كان يتوق إليه بشدة، لم يكن مكتملًا، بل ظلّ عالقًا في منطقة من اليأس والأمل، مما ترك في نفسه جرحاً عميقاً وملهمًا في آن.

في القصيدة ك، تظهر كلمات توفيق كأنين حالم وعذب، يصوّر من خلالها هشاشة رجل استسلم تمامًا لعواطفه. يصف في أبياته كيف كان مستعدًا للتضحية بأي شيء للحفاظ على هذا الحب، حتى لو تطلّب ذلك أن يخسر نفسه تدريجيًا.

عند قراءة القصيدة ك لأول مرة، قد تجد نفسك تتساءل عمّا إذا كانت تحتوي على قصة واضحة أو موضوع محدد. ومع ذلك، هناك شيء في اختيار صايغ للكلمات، في النبرة المنسوجة بين السطور، يَشُدك إلى عالمٍ من الحزن العميق، وكأنك تتذوق ذاك الألم الذي يطغى على كل حرف. الكلمات بحد ذاتها تُلقي بك في شعور لا لبس فيه من الكآبة، حتى لو لم تدرك في البداية ما الذي يحاول الشاعر قوله. إن إحساسه الخاص يصبح شعورك أنت، كأن هناك خيطًا غير مرئي يصل بينك وبين عالمه الداخلي المضطرب.

القصيدة ك ، متوفرة بالمكتبة الوطنية
القصيدة ك ، متوفرة بالمكتبة الوطنية

تترك القصيدة أثرًا في نفس القارئ، فتجده يبدأ بإسقاط مشاعر الفقدان الخاصة به على كلمات الشاعر، سواء كان فقدانًا لحبيبة، أو للوطن، أو حتى لفقدان جزء من الذات. يستمر صايغ في تكرار جملة “لا، ليس هنا، لا، ليس هنا”، وكأنه رجاء محموم يائس، صرخة مكتومة تتوسل لمنع وقوع المأساة. لا يعرف القارئ تحديدًا ما الذي يقصده الشاعر بعبارته تلك، لكنها تحمل عمقاً يفيض بمعانٍ شتى. يشعر المرء أن الشاعر يناجي بشيء ما، كأنه يستجدي الزمن أو القدر ألّا يُمطره بخسارة أخرى، ألّا يفقد ما بقي.

Screenshot 2024 11 05 102210

كلما قرأت القصيدة ك، تجد أن الحزن الذي حاول الشاعر أن يسكبه فيها يصبح مرآة لأحزانك الشخصية، مهما كانت طبيعتها. يَشعُرُ القارئُ وكأن القصيدة تتحدث إليه مباشرة، تلامس مخاوفه وخساراته، وتصبح ملاذًا صامتًا يعبر عن الألم الذي قد يصعب التعبير عنه في الحياة اليومية.

اختيار توفيق صايغ لعنوان القصيدة ك بدلاً من ذكر اسم الحبيبة الكامل كان بلا شك قرارًا يحمل رمزية عميقة. من خلال استخدام الحرف الأول فقط من اسم حبيبته، خلق صايغ هالة من الغموض حول “ك”، مما جعلها شخصية مجردة أكثر من كونها فردًا محددًا. هذا الاختيار يمنح القارئ الفرصة لإسقاط تجاربه الخاصة على هذا الحرف، ليصبح “ك” رمزًا للحب المفقود أو الشوق الذي لم يتحقق. إن غياب الاسم الكامل يوحي بعدم الاكتمال، وكأن العلاقة نفسها بقيت عالقة دون نهاية واضحة. كما يعكس عدم الإفصاح الكامل عن الاسم مستوى عميق من الخصوصية، كذكرى مكتومة لا يجرؤ الشاعر على كشفها تمامًا للعالم. بهذا الأسلوب، تتحول “ك ” إلى رمز للحب الصعب المنال، لتصبح القصيدة مرآة لأحزان ومشاعر القارئ، وتجعل من “ك ” تجسيدًا أدبياً لألم الحب والفراق.

بدر شاكر السيّاب: رائد الشعر العربي الحديث

كان لإسهامات بدر شاكر السيّاب في الشعر العربي الحديث تأثير ثوري. فقد أحدث تحولاً كبيراً في الشكل والمضمون، مكسراً الجمود الذي سيطر على الشعر العربي لقرون. سمحت له روحه الابتكارية بربط الشعر بالأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم العربي في القرن العشرين، ليعيد تعريف ما يمكن أن يكون عليه الشعر العربي. من خلال موهبته الفريدة،

832 629

كان لإسهامات بدر شاكر السيّاب في الشعر العربي الحديث تأثير ثوري. فقد أحدث تحولاً كبيراً في الشكل والمضمون، مكسراً الجمود الذي سيطر على الشعر العربي لقرون. سمحت له روحه الابتكارية بربط الشعر بالأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم العربي في القرن العشرين، ليعيد تعريف ما يمكن أن يكون عليه الشعر العربي. من خلال موهبته الفريدة، وسّع السيّاب من هيكل القصيدة وعمقها العاطفي، وأدخل مواضيع أكثر تعقيداً وأشكالاً جديدة من التعبير.

الإتحاد, 7 أيّار 1991
الإتحاد, 7 أيّار 1991

وُلد بدر شاكر السياب في عام 1926 في قرية جيكور الصغيرة قرب البصرة، العراق، وكانت بداية حياته هادئة في الريف. اكتشف بدر شغفه بالشعر في سن مبكرة، وبدأ محاولاته الأولى في كتابة الأبيات الشعرية عندما كان في الثانية عشرة من عمره. وعلى الرغم من أن تلك المحاولات كانت مليئة بالأخطاء النحوية، إلا أنها كانت تشير إلى موهبة إبداعية فريدة سرعان ما ستتبلور في شعره.

فقدانه لوالدته وهو في السادسة من عمره ترك جرحًا عاطفيًا عميقًا، سيؤثر على حياته الشخصية وشعره. كان موضوع الفقدان والشوق حاضرًا بقوة في أعماله، يعبر فيه عن بحثه المستمر عن الحب والحنان. ومع مرور السنين، ورغم تجاربه العاطفية المختلفة، شعر بدر دومًا بأنه لم يجد ذلك الحب المتبادل الذي كان يحلم به. بل كان يقول مازحًا (أو ربما بحزن): إنه لم يكن محظوظًا في الحب بسبب مظهره الذي اعتبره “قبيحًا”، ما جعله يعتقد أن هذا الأمر أثر في حظه العاطفي.

عندما كبر، غادر بدر قريته لمواصلة دراسته في بغداد، حيث التحق بدار المعلمين العالية. خلال هذه الفترة، تألق نجم بدر كشاعر، لكنه لم يكتفِ بالشعر التقليدي. ففي تلك السنوات، بدأ بدر بمشاركة نازك الملائكة في ريادة حركة الشعر الحر في العالم العربي. قصيدته هل كان حبًا؟ تُعد واحدة من أوائل القصائد التي استخدم فيها هذا الأسلوب الشعري الجديد، ما جعل اسمه مرتبطًا ببداية تحول كبير في الشعر العربي.

مزج التراث بالحداثة

كان التحول الذي قاده السيّاب مدفوعاً بالتغيرات الهائلة التي شهدها العالم العربي بعد الحربين العالميتين. تلك التغيرات السياسية والاجتماعية، إلى جانب صعود الطبقة الوسطى المثقفة، خلقت حاجة جديدة لأشكال فنية تعبر بصدق عن واقع الحياة. الصحف والمجلات أصبحت منصات مهمة لتلك الأصوات الجديدة، التي أسهمت في نشر الشعر الحديث.

لعب الأدب الغربي دوراً كبيراً في تشكيل رؤية السيّاب. فقد تأثر بشدة بالأدب الإنجليزي والأمريكي، كما قرأ الأدب العربي الكلاسيكي بعمق. هذا المزج بين الأدبين الغربي والعربي أضاف بعداً جديداً لقصائده، حيث استغل السيّاب المعرفة الغربية لتوسيع مدى التعبير الشعري العربي.

تقدم السيّاب على معاصريه مثل نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. كانت معرفته بالأدبين الكلاسيكي والحديث تمنحه صوتاً فريداً. اعتمد على وزن التفعيلة، مما أعطاه مرونة أكبر للتعبير عن مشاعر عميقة وموضوعات جديدة.

الإتحاد, 5 كانون الأوّل 1984
الإتحاد, 5 كانون الأوّل 1984

عكست قصائد السيّاب معاناته الشخصية، التي شملت الإحباط العاطفي والفكري، بالإضافة إلى الفقر والمرض. هذه التجارب أكسبته عمقاً وصدقاً جعل شعره يرتبط بالقراء بشكل كبير. وفقاً للناقد إيليا حاوي، فإن معاناة السيّاب جعلته أكثر قرباً من “حقائق الوجود”، ومنحته رؤية روحية لم يكن للشعر العربي أن يتصل بها من قبل.

من أبرز إنجازاته إعادة إحياء الأسطورة في الشعر العربي. من خلال استخدام الرموز والأساطير، أضاف طبقات من المعاني إلى قصائده. كذلك، أعاد تعريف معاني الكلمات التقليدية بما يخدم رسالته الإنسانية والاجتماعية.

فيما يتعلق بالموسيقى الشعرية، استطاع السيّاب أن يتخلص من الرتابة الموسيقية التي كانت سائدة في الشعر العربي التقليدي. غالباً ما تغيرت إيقاعات قصائده وفقاً لحالته النفسية، ومع ذلك، لم يتخلَ تماماً عن الموسيقى التقليدية.

في فترة الخمسينيات، نضجت تجربة السيّاب الشعرية. زادت الأسطورة عمقاً في قصائده، وأصبح التعامل مع اللغة أكثر جدية. استُخدمت الرموز مثل المطر (رمز العطاء)، والموت (رمز البعث)، وصوت الطفل (رمز التجدد) في أغلب أعماله.

تمثال بدر شاكر السياب في البصرة،العراق
تمثال بدر شاكر السياب في البصرة،العراق

في سنواته الأخيرة، أُصيب السيّاب بمرض عضال أفقده القدرة على المشي. أثّر المرض في رؤيته للعالم، إذ أصبح الموت يمثل نهاية حتمية، وهو ما انعكس في قصائده. توفي السيّاب عن عمر يناهز 38 عاماً، في ذروة نضجه الشعري.

رغم حياته القصيرة، فتح السيّاب الباب أمام جيل جديد من الشعراء ليستلهمو من تجربته الثورية. لقد غير السيّاب مسار الشعر العربي للأبد، وكان جسراً بين التراث والحداثة، ليصبح اسمه خالداً في تاريخ الأدب.

نعمة سليمان الصباغ: شاعر الناصرة الأول

في عام 1886، وتحديدًا في مدينة الناصرة، ولد نعمة سليمان الصباغ. لم يكن الصباغ، الملقب بشاعر الناصرة الأول شاعرا فقط، بل كان أيضًا معلمًا ورجلًا عاش فترة مليئة بالتحديات والتحولات، فترك أثراً عميقًا في مسيرة الأدب الفلسطيني، ممزوجًا بين شغفه بالكلمة وحبه للتعليم. منذ صغره، أظهر الصباغ ولعًا بالتعلم. درس في مدرسة البروتستانت في الناصرة،

832 629

في عام 1886، وتحديدًا في مدينة الناصرة، ولد نعمة سليمان الصباغ. لم يكن الصباغ، الملقب بشاعر الناصرة الأول شاعرا فقط، بل كان أيضًا معلمًا ورجلًا عاش فترة مليئة بالتحديات والتحولات، فترك أثراً عميقًا في مسيرة الأدب الفلسطيني، ممزوجًا بين شغفه بالكلمة وحبه للتعليم.

Screenshot 2024 09 19 133538

منذ صغره، أظهر الصباغ ولعًا بالتعلم. درس في مدرسة البروتستانت في الناصرة، ثم التحق بدار المُعَلّمين الروسية التابعة للجمعية الإمبراطورية الفلسطينية، وهو ما شكّل بدايته الحقيقية في عالم التعليم. بعد تخرجه عام 1904، بدأ الصباغ مسيرة طويلة في إدارة المدارس في لبنان وفلسطين، لكن خلف جدران الفصول الدراسية كان ينمو شغفاً آخر له وهو الشعر.

تخرّج الصباغ من السمنار الروسي في الناصرة، الذي خرّج أيضًا العديد من الشخصيات الأدبية البارزة مثل ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد، حيث لعبت الجمعية الروسية الفلسطينية دورًا مهمًا في تخريج معلمين وأدباء ساهموا في النهضة الأدبية في فلسطين.

Screenshot 2024 09 19 133710

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاد الصباغ إلى مسقط رأسه الناصرة، حيث استمر في خدمة التعليم، لكن تحوّله الأهم جاء بعد نكبة 1948. اضطر إلى ترك منزله ومكتبته العامرة بالكتب والذكريات، واللجوء إلى لبنان. هناك، بدأ فصلاً جديدًا في حياته، حيث واصل التدريس ونشر أعماله الشعرية في صحف المهجر، مستفيدًا من الأجواء الثقافية في بيروت التي أصبحت مأواه الجديد.

شاعر الناصرة الأول

وفقاً لكتاب صدر حديثاً عن “الدار العربية للعلوم – ناشرون” في بيروت بعنوان “طلائع أدباء عصر النهضة في فلسطين”، والمتوفر بالمكتبة الوطنية، يُعتَبَر نِعمة سليمان الصباغ واحداً من أوائل وأهم الأدباء الذين ساهموا في النهضة الأدبية الفلسطينية. يخصص الكتاب مساحة واسعة لقراءة حياة الصباغ وإبداعاته، حيث يلقب بـ”شاعر الناصرة الأول”، ويوثّق مسيرته التي شهدت فترتي الاحتلال العثماني والانتداب البريطاني، وصولاً إلى عام 1948.

نعمة الصباغ و عائلته
نعمة الصباغ و عائلته

فضلاً عن احتواء الكتاب لمجموعته الشعرية، يُعتَبَرُ الكتاب مرجعاً شاملاً يسرد تفاصيل حياة الصبّاغ ومسيرته الأدبية والتعليمية. يوثّق الكتاب كيف أبدع الصباغ في نظم الشعر العمودي والموشحات الأندلسية، وكيف تمكن من استخدام حساب الجُمَّل لتأريخ المناسبات، مما يعكس اطلاعه الواسع على التراث العربي القديم.

من خلال هذا العمل، نلمس مدى إسهام الصباغ في الحركة الأدبية الفلسطينية، ونتعرف على أسلوبه الشعري الذي يمزج بين الأصالة والتجديد. يُظهر الكتاب أيضًا كيف تأثر نثره بتيارات الحداثة التي كانت تنتشر في بداية عصر النهضة في فلسطين، ليصبح جزءًا من جيل الأدباء الذين وضعوا أسس الأدب الفلسطيني المعاصر.

رغم كل ما مر به الصباغ من صعوبات بعد حرب عام 1948، لم يتوقف عن الإبداع. كان يلجأ إلى قلمه للتعبير عن مشاعره، حيث أبدع قصائد مفعمة بالحياة والتجديد، بعيداً عن التكلف اللفظي. كان شعره رقيقًا ومعبرًا، يجمع بين قوة الفكرة وبساطة المفردات، وهو ما جعله قريبًا من القلوب. سواء كتب عن المديح أو الغزل أو الرثاء، كانت قصائده تُظهر عمق مشاعره وقوة خياله.

توفي نعمة سليمان الصباغ في بيروت عام 1971، لكن إرثه الأدبي يستمر في الإلهام، إذ تبقى قصائده شاهدة على مسيرته الإبداعية وعلى روح شاعر عاش بين أزمات وطنه وأحلامه التي خطها بكلماته.

كلثوم عودة: من خالدات الأدب العربي

تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.

832 629

تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.

وُلدت كلثوم عودة في نيسان من العام 1892 في مدينة الناصرة، لتأتي إلى عالم يقدّر الذكور أكثر من الإناث. ولدت في زمن كانت فيه التوقعات المجتمعية تحدّ من فرص الفتيات، وكان ذلك واضحاً في رَدِّ فعل والدتها تجاهها.

كانت عودة الابنة الخامسة لوالدين كانا ينتظران ولادة الصبي الأول، ولم يُستقبل وصولها بالترحاب. وبما أنها لم تكن تمتلك جمالًا يشفع لها، فقد نشأت وهي تعاني من قسوة والدتها وتعليقاتها الساخرة. لم تجد كلثوم مخرجًا سوى التفوق في دراستها، رغم معارضة والدتها الشديدة. مع ذلك، وجدت كلثوم العزاء والتشجيع في دعم والدها الذي رغِب في تعليمها.

بدأت الطالبة كلثوم رحلتها الأكاديمية في الكلية الروسية للمعلمين في بيت جالا، حيث نما شغفها باللغة العربية والأدب، اذ تَتَلمَذَت على يَد المُعلم الكبير خليل سكاكيني.

من الناصرة إلى روسيا: رحلة العلم والإصرار

كان حلم كلثوم منذ الطفولة أن تكون معلمة وأن تستقل بذاتها دون الحاجة للعيش كـ “خادمة عند زوجة أخي المستقبلية”، كما اعتادت والدتها أن تردد. لقد عملت بجد لتحقيق هذا الحلم، متغلبةً على كافة العقبات التي واجهتها، بما في ذلك معارضة والدتها الشديدة. بفضل إصرارها، أكملت تعليمها وبدأت العمل كمعلمة في الناصرة.

خلال سنوات عملها كمعلمة، كانت تدرك تمامًا أهمية التعليم والاستقلالية المادية التي تمنح الفتاة القدرة على اتخاذ قراراتها بنفسها. لكن كان الثمن النفسي كبيرًا؛ فقد عانت من الضغوط والتحديات، حيث كانت تعيش في العمارة الروسية مع رفيقة تمردت على التقاليد أيضاً، وكان على كلثوم أن تتحمل الكثير من الألم بسبب رفض أسرتها لمستقبلها. برغم هذه الصعوبات، وجدت عزاءها في حبها لعملها، فكانت تكرس وقتها وطاقتها لتعليم الطالبات، مما أسهم في بناء علاقات قوية ومحببة معهن.

فيما بعد، تزوجت كلثوم من الطبيب الروسي إيفان فاسيليف، الذي كان يشرف على صحة تلميذات المدرسة، ولعب الحب دورًا كبيرًا في جمعهما. على الرغم من رفض أهلها لهذا الزواج ومحاولتهم إبعادها عنه، تمكنت كلثوم من الزواج منه بدعم من قريب لها من الناصرة. انتقل الزوجان إلى روسيا في عام 1914، حيث واجها تحديات الحرب العالمية الأولى، مما دفع كلثوم للانضمام إلى الصليب الأحمر والعمل كممرضة في صربيا والجبل الأسود، ثم في أوكرانيا لمكافحة وباء التيفوئيد.

عندما توفي زوجها في عام 1917، لم تستسلم كلثوم، بل تبنت أسلوب حياة جديد. أقدمت على زراعة الأرض وعملت بجد رغم صعوبة الحياة، واستمرت في تعليم بناتها ورعايتهن. لم تكتفِ بذلك، بل واصلت مسيرتها الأكاديمية في روسيا، درست في كلية اللغات الشرقية، وعملت في القسم العربي بمعهد الفلسفة والفنون والتاريخ. وبعد تأسيس معهد الاستشراق في موسكو، انتقلت من لينينغراد إلى موسكو لمواصلة عملها. كما عملت في معهد العلاقات الدولية والمعهد الدبلوماسي العالي.

خلال الحقبة الستالينية في أواخر الثلاثينيات، تم اعتقالها ثلاث مرات، لكنها أُفرج عنها في المرة الأخيرة عام 1939 دون أن تُثبت أي تهم ضدها. سرعان ما نالت تقديراً واسعاً من قبل المثقفين السوفييت، وخاصة من الأوساط السياسية. ولذلك، عندما شن النازيون هجومهم على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، كانت ضمن أولئك الذين تم إجلاؤهم لحمايتهم.

أصبحت أول امرأة تشغل منصب “عضو في جمعية العلاقات الثقافية السوفييتية مع البلدان العربية”. كانت تؤمن بأن الأدب هو الطريق إلى القلوب الإنسانية، فبدأت بترجمة الأدب السوفييتي إلى العربية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم شرعت بترجمة الأدب العربي إلى الروسية، مساهمة بشكل كبير في بناء جسر حضاري بين روسيا والعالم العربي وتعريف الروس بالعرب.

في عيد ميلادها السبعين، مُنحت وسام الشرف، وتلقت وسام “الصداقة بين الشعوب”، وهو أعلى وسام يمنحه الاتحاد السوفييتي لشخصيات تكرس علاقات الصداقة بين الشعب السوفييتي والشعوب الأخرى. وبعد وفاتها، منحتها منظمة التحرير الفلسطينية “وسام القدس للثقافة والفنون والآداب” في يناير 1990، تقديراً لدورها الثقافي والسياسي في روسيا.

توفيت في 24 أبريل 1965، وحضر جنازتها عدد كبير من الأساتذة والعلماء والطلاب والفلاحين، إلى جانب وزراء ومسؤولين كانوا من طلابها، ودُفنت في مقبرة الأدباء والعلماء بالقرب من موسكو.

يُعَدّ إِرث كلثوم عودة شهادة على قوة الروح البشرية. قصتها هي قصة تجاوز المحن ودمج الحواجز الثقافية وتقديم إسهامات دائمة في العالم من خلال تجاربها وانتصاراتها.