تشكلت رحلة حياة توفيق صايغ من المنفى والعاطفة والسعي الدؤوب نحو الإبداع الشعري. ولد توفيق صايغ في عام 1923 في قرية خربا السورية، ونشأ في مدينة طبريا، حيث عاش طفولته وشبابه المبكر. تابع دراسته في القدس، ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث تخرج عام 1945. لكن طموحه الأدبي قاده بعيدًا؛ فقد حصل في عام 1951 على منحة لمتابعة دراسته الأدبية في جامعة هارفارد. كان توفيق مفتوناً بالأدب والمسرح، وخلال فترة دراسته وتدريسه لاحقاً في أكسفورد وكامبردج وجامعات أخرى، بدأ في صياغة صوته الشعري الفريد الذي لم يكن يشبه غيره في الساحة الأدبية العربية آنذاك.
في عام 1954، أصدر صايغ ديوانه الأول ثلاثون قصيدة، والذي قدّم فيه لمحات من أسلوب شعري جديد، يجمع بين الشعر العربي التقليدي والتأثيرات الغربية الحديثة. هذا الديوان كان بمثابة نقطة انطلاق لتوفيق في عالم الشعر الحر، حيث أصبح من الأسماء البارزة في مجلة شعر، التي ساهمت في إثراء الشعر العربي الحديث وأعطت صوتًا للمواهب التي تخطت الأساليب التقليدية.
قصيدة ك
عكسَ أحد أبرز أعماله، القصيدة ك، فصلاً حميميًا ومؤلمًا في حياة الصايغ. رسمت هذه القصيدة صورة لعلاقة عاطفية عميقة جمعته بامرأة بريطانية تُدعى كاي شو، والتي أصبحت محوره العاطفي وإلهامه في الشعر. هذا الحب، الذي كان يتوق إليه بشدة، لم يكن مكتملًا، بل ظلّ عالقًا في منطقة من اليأس والأمل، مما ترك في نفسه جرحاً عميقاً وملهمًا في آن.
في القصيدة ك، تظهر كلمات توفيق كأنين حالم وعذب، يصوّر من خلالها هشاشة رجل استسلم تمامًا لعواطفه. يصف في أبياته كيف كان مستعدًا للتضحية بأي شيء للحفاظ على هذا الحب، حتى لو تطلّب ذلك أن يخسر نفسه تدريجيًا.
عند قراءة القصيدة ك لأول مرة، قد تجد نفسك تتساءل عمّا إذا كانت تحتوي على قصة واضحة أو موضوع محدد. ومع ذلك، هناك شيء في اختيار صايغ للكلمات، في النبرة المنسوجة بين السطور، يَشُدك إلى عالمٍ من الحزن العميق، وكأنك تتذوق ذاك الألم الذي يطغى على كل حرف. الكلمات بحد ذاتها تُلقي بك في شعور لا لبس فيه من الكآبة، حتى لو لم تدرك في البداية ما الذي يحاول الشاعر قوله. إن إحساسه الخاص يصبح شعورك أنت، كأن هناك خيطًا غير مرئي يصل بينك وبين عالمه الداخلي المضطرب.

تترك القصيدة أثرًا في نفس القارئ، فتجده يبدأ بإسقاط مشاعر الفقدان الخاصة به على كلمات الشاعر، سواء كان فقدانًا لحبيبة، أو للوطن، أو حتى لفقدان جزء من الذات. يستمر صايغ في تكرار جملة “لا، ليس هنا، لا، ليس هنا”، وكأنه رجاء محموم يائس، صرخة مكتومة تتوسل لمنع وقوع المأساة. لا يعرف القارئ تحديدًا ما الذي يقصده الشاعر بعبارته تلك، لكنها تحمل عمقاً يفيض بمعانٍ شتى. يشعر المرء أن الشاعر يناجي بشيء ما، كأنه يستجدي الزمن أو القدر ألّا يُمطره بخسارة أخرى، ألّا يفقد ما بقي.

كلما قرأت القصيدة ك، تجد أن الحزن الذي حاول الشاعر أن يسكبه فيها يصبح مرآة لأحزانك الشخصية، مهما كانت طبيعتها. يَشعُرُ القارئُ وكأن القصيدة تتحدث إليه مباشرة، تلامس مخاوفه وخساراته، وتصبح ملاذًا صامتًا يعبر عن الألم الذي قد يصعب التعبير عنه في الحياة اليومية.
اختيار توفيق صايغ لعنوان القصيدة ك بدلاً من ذكر اسم الحبيبة الكامل كان بلا شك قرارًا يحمل رمزية عميقة. من خلال استخدام الحرف الأول فقط من اسم حبيبته، خلق صايغ هالة من الغموض حول “ك”، مما جعلها شخصية مجردة أكثر من كونها فردًا محددًا. هذا الاختيار يمنح القارئ الفرصة لإسقاط تجاربه الخاصة على هذا الحرف، ليصبح “ك” رمزًا للحب المفقود أو الشوق الذي لم يتحقق. إن غياب الاسم الكامل يوحي بعدم الاكتمال، وكأن العلاقة نفسها بقيت عالقة دون نهاية واضحة. كما يعكس عدم الإفصاح الكامل عن الاسم مستوى عميق من الخصوصية، كذكرى مكتومة لا يجرؤ الشاعر على كشفها تمامًا للعالم. بهذا الأسلوب، تتحول “ك ” إلى رمز للحب الصعب المنال، لتصبح القصيدة مرآة لأحزان ومشاعر القارئ، وتجعل من “ك ” تجسيدًا أدبياً لألم الحب والفراق.