في عام 1886، وتحديدًا في مدينة الناصرة، ولد نعمة سليمان الصباغ. لم يكن الصباغ، الملقب بشاعر الناصرة الأول شاعرا فقط، بل كان أيضًا معلمًا ورجلًا عاش فترة مليئة بالتحديات والتحولات، فترك أثراً عميقًا في مسيرة الأدب الفلسطيني، ممزوجًا بين شغفه بالكلمة وحبه للتعليم.
منذ صغره، أظهر الصباغ ولعًا بالتعلم. درس في مدرسة البروتستانت في الناصرة، ثم التحق بدار المُعَلّمين الروسية التابعة للجمعية الإمبراطورية الفلسطينية، وهو ما شكّل بدايته الحقيقية في عالم التعليم. بعد تخرجه عام 1904، بدأ الصباغ مسيرة طويلة في إدارة المدارس في لبنان وفلسطين، لكن خلف جدران الفصول الدراسية كان ينمو شغفاً آخر له وهو الشعر.
تخرّج الصباغ من السمنار الروسي في الناصرة، الذي خرّج أيضًا العديد من الشخصيات الأدبية البارزة مثل ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد، حيث لعبت الجمعية الروسية الفلسطينية دورًا مهمًا في تخريج معلمين وأدباء ساهموا في النهضة الأدبية في فلسطين.
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاد الصباغ إلى مسقط رأسه الناصرة، حيث استمر في خدمة التعليم، لكن تحوّله الأهم جاء بعد نكبة 1948. اضطر إلى ترك منزله ومكتبته العامرة بالكتب والذكريات، واللجوء إلى لبنان. هناك، بدأ فصلاً جديدًا في حياته، حيث واصل التدريس ونشر أعماله الشعرية في صحف المهجر، مستفيدًا من الأجواء الثقافية في بيروت التي أصبحت مأواه الجديد.
شاعر الناصرة الأول
وفقاً لكتاب صدر حديثاً عن “الدار العربية للعلوم – ناشرون” في بيروت بعنوان “طلائع أدباء عصر النهضة في فلسطين”، والمتوفر بالمكتبة الوطنية، يُعتَبَر نِعمة سليمان الصباغ واحداً من أوائل وأهم الأدباء الذين ساهموا في النهضة الأدبية الفلسطينية. يخصص الكتاب مساحة واسعة لقراءة حياة الصباغ وإبداعاته، حيث يلقب بـ”شاعر الناصرة الأول”، ويوثّق مسيرته التي شهدت فترتي الاحتلال العثماني والانتداب البريطاني، وصولاً إلى عام 1948.
فضلاً عن احتواء الكتاب لمجموعته الشعرية، يُعتَبَرُ الكتاب مرجعاً شاملاً يسرد تفاصيل حياة الصبّاغ ومسيرته الأدبية والتعليمية. يوثّق الكتاب كيف أبدع الصباغ في نظم الشعر العمودي والموشحات الأندلسية، وكيف تمكن من استخدام حساب الجُمَّل لتأريخ المناسبات، مما يعكس اطلاعه الواسع على التراث العربي القديم.
من خلال هذا العمل، نلمس مدى إسهام الصباغ في الحركة الأدبية الفلسطينية، ونتعرف على أسلوبه الشعري الذي يمزج بين الأصالة والتجديد. يُظهر الكتاب أيضًا كيف تأثر نثره بتيارات الحداثة التي كانت تنتشر في بداية عصر النهضة في فلسطين، ليصبح جزءًا من جيل الأدباء الذين وضعوا أسس الأدب الفلسطيني المعاصر.
رغم كل ما مر به الصباغ من صعوبات بعد حرب عام 1948، لم يتوقف عن الإبداع. كان يلجأ إلى قلمه للتعبير عن مشاعره، حيث أبدع قصائد مفعمة بالحياة والتجديد، بعيداً عن التكلف اللفظي. كان شعره رقيقًا ومعبرًا، يجمع بين قوة الفكرة وبساطة المفردات، وهو ما جعله قريبًا من القلوب. سواء كتب عن المديح أو الغزل أو الرثاء، كانت قصائده تُظهر عمق مشاعره وقوة خياله.
توفي نعمة سليمان الصباغ في بيروت عام 1971، لكن إرثه الأدبي يستمر في الإلهام، إذ تبقى قصائده شاهدة على مسيرته الإبداعية وعلى روح شاعر عاش بين أزمات وطنه وأحلامه التي خطها بكلماته.