نعمة سليمان الصباغ: شاعر الناصرة الأول

في عام 1886، وتحديدًا في مدينة الناصرة، ولد نعمة سليمان الصباغ. لم يكن الصباغ، الملقب بشاعر الناصرة الأول شاعرا فقط، بل كان أيضًا معلمًا ورجلًا عاش فترة مليئة بالتحديات والتحولات، فترك أثراً عميقًا في مسيرة الأدب الفلسطيني، ممزوجًا بين شغفه بالكلمة وحبه للتعليم. منذ صغره، أظهر الصباغ ولعًا بالتعلم. درس في مدرسة البروتستانت في الناصرة،

832 629

في عام 1886، وتحديدًا في مدينة الناصرة، ولد نعمة سليمان الصباغ. لم يكن الصباغ، الملقب بشاعر الناصرة الأول شاعرا فقط، بل كان أيضًا معلمًا ورجلًا عاش فترة مليئة بالتحديات والتحولات، فترك أثراً عميقًا في مسيرة الأدب الفلسطيني، ممزوجًا بين شغفه بالكلمة وحبه للتعليم.

Screenshot 2024 09 19 133538

منذ صغره، أظهر الصباغ ولعًا بالتعلم. درس في مدرسة البروتستانت في الناصرة، ثم التحق بدار المُعَلّمين الروسية التابعة للجمعية الإمبراطورية الفلسطينية، وهو ما شكّل بدايته الحقيقية في عالم التعليم. بعد تخرجه عام 1904، بدأ الصباغ مسيرة طويلة في إدارة المدارس في لبنان وفلسطين، لكن خلف جدران الفصول الدراسية كان ينمو شغفاً آخر له وهو الشعر.

تخرّج الصباغ من السمنار الروسي في الناصرة، الذي خرّج أيضًا العديد من الشخصيات الأدبية البارزة مثل ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد، حيث لعبت الجمعية الروسية الفلسطينية دورًا مهمًا في تخريج معلمين وأدباء ساهموا في النهضة الأدبية في فلسطين.

Screenshot 2024 09 19 133710

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاد الصباغ إلى مسقط رأسه الناصرة، حيث استمر في خدمة التعليم، لكن تحوّله الأهم جاء بعد نكبة 1948. اضطر إلى ترك منزله ومكتبته العامرة بالكتب والذكريات، واللجوء إلى لبنان. هناك، بدأ فصلاً جديدًا في حياته، حيث واصل التدريس ونشر أعماله الشعرية في صحف المهجر، مستفيدًا من الأجواء الثقافية في بيروت التي أصبحت مأواه الجديد.

شاعر الناصرة الأول

وفقاً لكتاب صدر حديثاً عن “الدار العربية للعلوم – ناشرون” في بيروت بعنوان “طلائع أدباء عصر النهضة في فلسطين”، والمتوفر بالمكتبة الوطنية، يُعتَبَر نِعمة سليمان الصباغ واحداً من أوائل وأهم الأدباء الذين ساهموا في النهضة الأدبية الفلسطينية. يخصص الكتاب مساحة واسعة لقراءة حياة الصباغ وإبداعاته، حيث يلقب بـ”شاعر الناصرة الأول”، ويوثّق مسيرته التي شهدت فترتي الاحتلال العثماني والانتداب البريطاني، وصولاً إلى عام 1948.

نعمة الصباغ و عائلته
نعمة الصباغ و عائلته

فضلاً عن احتواء الكتاب لمجموعته الشعرية، يُعتَبَرُ الكتاب مرجعاً شاملاً يسرد تفاصيل حياة الصبّاغ ومسيرته الأدبية والتعليمية. يوثّق الكتاب كيف أبدع الصباغ في نظم الشعر العمودي والموشحات الأندلسية، وكيف تمكن من استخدام حساب الجُمَّل لتأريخ المناسبات، مما يعكس اطلاعه الواسع على التراث العربي القديم.

من خلال هذا العمل، نلمس مدى إسهام الصباغ في الحركة الأدبية الفلسطينية، ونتعرف على أسلوبه الشعري الذي يمزج بين الأصالة والتجديد. يُظهر الكتاب أيضًا كيف تأثر نثره بتيارات الحداثة التي كانت تنتشر في بداية عصر النهضة في فلسطين، ليصبح جزءًا من جيل الأدباء الذين وضعوا أسس الأدب الفلسطيني المعاصر.

رغم كل ما مر به الصباغ من صعوبات بعد حرب عام 1948، لم يتوقف عن الإبداع. كان يلجأ إلى قلمه للتعبير عن مشاعره، حيث أبدع قصائد مفعمة بالحياة والتجديد، بعيداً عن التكلف اللفظي. كان شعره رقيقًا ومعبرًا، يجمع بين قوة الفكرة وبساطة المفردات، وهو ما جعله قريبًا من القلوب. سواء كتب عن المديح أو الغزل أو الرثاء، كانت قصائده تُظهر عمق مشاعره وقوة خياله.

توفي نعمة سليمان الصباغ في بيروت عام 1971، لكن إرثه الأدبي يستمر في الإلهام، إذ تبقى قصائده شاهدة على مسيرته الإبداعية وعلى روح شاعر عاش بين أزمات وطنه وأحلامه التي خطها بكلماته.

الحِبر والحَميميّة: مُراسلات مي زيادَة وَجُبران خليل جبران

تقاسمت مي زيادة وجبران خليل جبران رابطة فكرية غير عادية في عالم الأدب العربي؛ إذ شكّلا علاقة عميقة تجاوزت الزمان والمكان من خلال مراسلاتهم الموثقة في "الشعلة الزرقاء"

715 537

مي زيادة وجبران خليل جبران وكتاب الشعلة الزرقاء

“أُفكرُ فيكِ يا ماري كلَّ يومٍ وكل ليلة، أفكرُ فيكِ دائماً وفي كل فكر شيءٌ منَ اللّذة وشيء من الألم. والغريبُ أّنَّني ما فَكرتُ فيكِ يا مَريم إلّا وَقُلتُ لكِ في سرّي ” تعالي واسكبي جَميعَ هُمومِكِ هُنا، هُنا على صَدري”، “تقولين لي أنّكِ تَخافينَ الحُب. لماذا تَخافينه يا صَغيرتي؟ أتخافينَ نورَ الشّمس؟ أتخافين مدَّ البحر؟ أتخافينَ طُلوعَ الفَجر؟ أتخافينَ مَجيء الرَّبيع؟ لما يا تُرى تَخافينَ الحُب؟”.

Alittihad20000124 01.1.14 1312 380 1129 316 565w

الاتحاد، 24 كانون الثاني 2000

قَد يَصل لقارئِ الكلماتِ هذهِ شعورٌ بالارتباكِ حولَ طبيعةِ العلاقةِ بين المُرسِل والمُرسَل إليها، وربما أصابت هذه المشاعر بالضبط جوهَرَ طَبيعةِ العلاقةِ التّي خُلِقَت بينَ الأديبيْن مي زيادة وجبران خليل جبران. تلك العلاقة التي كَلّفت ميّ صحتها النفسية وأودت بها، بحسب الروايات السائدة، الى مشفى للأمراض النفسية وثم الإعياءُ الجسديَ الذي أودى بحياتها في نهايةِ المَطاف.

يُمكن اعتبار العلاقة بين مي وجبران من أغرب الروابط العاطفية بين كاتبين، حيثُ اكتَنَفَها الغُموضُ وَتَخضَع لتأويلاتٍ مُختلفة. هل نَتحدثُ هُنا عن قِصةِ حُبٍ أم علاقةِ صداقةٍ أفلاطونيةٍ بحتة؟

بَدَأَت هذهِ القّصة الفريدة في عام 1920، عِندمَا تَلَقّت مَيّ نُسخةً من روايةِ “الأَجنحةِ المُتكسّرة” التي كتبها جبران. على الرغم من أنهما لم يلتقيا أبدًا في الواقع، فإن كلماتِ جُبران الجَذّابة وَقُدرتهِ على التعبيرِ عن الأفكارِ العميقةِ أَسَرَت قَلبَ مي بشكل لا يمكنُ وَصفه.

 نادراً ما كانَ في تاريخِ العلاقاتِ الطويلةِ مِثل هذه العلاقة العاطفية، التي يتم التعبير عنها فقط من خلال تبادل الرسائل لما يقرب من عقدين من الزمن، دونَ أن يحاول أي منهما التغلب على الحاجزِ الجُغرافيّ والاقتراب من الآخر، تلك الرسائل التي جُمعت ونشرت في كتاب “الشعلة الزرقاء”. ومع ذلك، فإن هذه الخصوصية بالتحّديد هي التّي جَذَبَت انتباهَ العَديدِ مَنَّ النُّقادِ والباحِثين، ممّا أّدّى إلى ظهورِ عشراتِ الكتب والأطروحات التي تتناول كل جانب من جوانب حياتهم بالتفصيل.

تُعتبرُ الرَسائِلُ المتبادلةُ بينَ الاثنيْن المرجع الأساسي لفِهمِ طَبيعةِ علاقَتِهِما، وَتَنقَسِمُ الرسائلُ إلى فئتين: فكرية وعاطفية. تتَميز الأولى بالجرأة النقدية والغنى الفكري، في حين تَتَراوح الأخيرة بينَ الاعترافات الخفية والتردد إلى التصريحات الصريحة بالحب. وبينما أَثنَت مي على رواية جبران في «الأجنحة المتكسرة»، أبدت تحفظها على موقفه السلبي من الزواج وتبريره للخيانة الزوجية حتى ولو كان الحُبُّ هو الدافع الوحيد. تنتقد مي “لهجة جبران المضطربة وأفكاره الصبيانية” في كتابه “دمعة وابتسامة”. لم يشعر جبران بالإهانة من هذا النقد بل تقبله بصدر رحب و بعقل فضولي حولَ هذه الناقدة الجريئة.

مي و جبران 4

من كتاب الشعلة الزرقاء، متوفر بالمكتبة الوطنية

ومَع الوَقت، توالَت المُرسلات بين مَي وجُبران، وازدادت وتيرتها ودرجة خصوصيتها، فيكادُ يَتراءى لقارئ “الشعلة الزرقاء” بأنه يقرأ مُذكرات جُبران اليومية لا مراسلاتٍ بين طرفين، ولا يساعدُ في دَحضِ هذا التّصور أَنَّ ما يَتَوَفَّر لَنا مِن مُراسلاتِ مي لا يُعدُّ على الأصابع. و هذا ما يجبُ أخذه بعين الاعتبار عند قراءة الكتاب أو محاولة فهم طبيعة علاقتهما.

مع ذلك، يمكننا رؤية تحت قشرة الخطاب الأدبي تيار خفي من الحميمية العاطفية، إذ اعترفت مي لجبران: “كُنت أجلس للكتابة إليك أنسى من وأين أنت، وكثيراً ما أَنسى حتّى أَنَّ هُناكَ رَجُلاً أُخاطبهُ فَأُكلمكَ كَما أُكلّمُ نَفسي وأحياناً كأنَّكَ رَفيقةُ لي في المدرسة”. وعلى الرغم من اعتراف جبران بمَوَدَّتِهِ وَشَوقِ مَي لِحُضوره، إلا أنَّ المسافة الجسدية بينهما شَكَّلَت عائقاً أمامَ اتّحادهما.

ربما، كما تَكَهَّن بَعضُ العُلماء، كانت استحالة حُبهما هيَ التّي صَبَغَتهُ بِشُعورٍ من العَظَمة الأسطورية – حب كان موجودًا في عالم الخيال، بمنأى عن بَلادَةِ الواقعِ وَلَرُبما أنَّ جُبران ومي لم يَكن لَديهما الرغبة الكاملة، دون وَعي، في اللقاء، مدركين أن مثل هذه القفزة من شأنها أن تُحول علاقتهما من عوالم الخيال السامية إلى مشهد الواقع الدنيوي، حيثُ تَسود الرّتابة وخيبة الأمل في كثير من الأحيان. كانتِ المَساحاتُ الشّاسعة من الأرض والبحر بمثابة شهود صامتين، حيث فرضت حاجزًا ماديًا يمنعهم من احتضانهم المباشر، تاركين مخيلتهم لتكون بمثابة مهندس لاتصالهم، والكلمات كأوعية لمودتهم، دون الحاجة لأكثر من ذلك.

في ذكرى وفاته: كيفَ أحيا جميل البحري زهور حيفا الثقافية؟

في مدينة حيفا الهادئة، حيث كان عدد سكانها لا يتجاوز 24 ألفًا، برز الشاب جميل البحري مؤسس أول مكتبة وطنية في قلب المدينة. لم يكن طموحه مجرد بيع الكتب، بل كان يسعى لإحياء ثقافة ونشر المعرفة لأجيال قادمة. بتأسيسه لمجلة و صحيفة و مطبعة الزهور لاحقاً، سعى جميل لتحويل حيفا من مكان هادئ إلى مركز نابض بالعلم والتعبير الثقافي.

832 629

“دائمًا اذكروا ولا تنسوا المكتبة الوطنية، جريدة الزهور ومطبعة الزهرة، هكذا يوصيكم الشهيد الجميل”. بهذا الكلمات اختتم الأستاذ حنا البحري الكتيب الخاص والمنشور تخليدًا لذكرى أخيه جميل البحري بعيد وفاته. لكن بعد ما يقارب 90 عامًا على غيابه، يبدو ظاهرًا للعيان بأن الكثيرين لم يسلطوا الضوء على إنجازات جميل البحري وإرثه الثقافي والأدبي الذي تركه لنا بعد حادث موته الغادر.

في مدينة حيفا الهادئة، حيث كان عدد سكانها لا يتجاوز 24 ألفًا، برز الشاب جميل البحري مؤسس أول مكتبة وطنية في قلب المدينة. لم يكن طموحه مجرد بيع الكتب، بل كان يسعى لإحياء ثقافة ونشر المعرفة لأجيال قادمة. بتأسيسه لمجلة وصحيفة ومطبعة الزهور لاحقاً، سعى جميل لتحويل حيفا من مكان هادئ إلى مركز نابض بالعلم والتعبير الثقافي.

نشأ جميل وهو يستمع إلى حكايات أجداده، عن الأراضي الشاسعة التي تمتد على سفوح جبل الكرمل، عن التجار والبحارة، وعن والده الذي كان يدير ممتلكات الكنيسة آنذاك. كانت هذه القصص تملأ جميل بإحساس بالهدف، لكن أحلامه امتدت أبعد من مِهَنِهم. سعى جميل نحوَ نوعٍ مختلفٍ من الغنى —كنز المعرفة والثقافة، الذي يمكن أن يرفع من شأن شعبه.

في طفولته، التحق جميل بمدرسة الروم الكاثوليك في البلدة القديمة بحيفا. هناك، تحت إشراف القساوسة الكاثوليك أتقن اللغة التركية، لغة الحكام العثمانيين، والفرنسية، لغة الشعراء والمفكرين. حتى عندما أصبحت الحياة حوله قاسية، مع القاء الحرب والفقر بظلالهما على حيفا، وَجد جميل الراحة في عالم الكتب والقصص، اذ كتب لمجلة “المسرّة” اللبنانيّة قصصاً نقلت القراء بعيدًا عن صراعاتهم اليومية.

لكن حلم جميل لم يتوقف عند الكلمات فقط. لم تكن حيفا تعرف مكتبة عامة من قبل، لكن جميل كان مصمماً على تغيير ذلك. في أيار من العام 1920، ومع تحول الحلم إلى واقع، تعاون مع أخيه حنّا، وسرعان ما وُلدت “المكتبة الوطنية”. لم تكن مكان للكتب العربية فقط، بل اختلطت لغات العربية والفرنسية والإنجليزية على الأرفف، حيث يمكن للطلاب والباحثين العثور على مصادر لتعليم أنفسهم والآخرين.

لم يتوقف شغف جميل بالثقافة والتعليم عند هذا الحد. اذ جمع مجموعة من الأفراد المتشابهين في التفكير، وأسسوا حلقة أدبية تُعرف بـ “حلقة الأدب”. كانت تهدف إلى رفع مستوى اللغة العربية، وتحفيز فن الخطابة، ومعالجة القضايا الاجتماعية لزمانهم. أصبحت هذه الاجتماعات ملاذًا للمثقفين في حيفا، مكانًا يمكنهم فيه مناقشة أفكارهم، والتحدث عن أحلامهم، والتفكير في مستقبل أفضل.

إحياء الزهور

في عام 1921، أطلق جميل البحري مجلة “زهرة الجميل”، التي أصبحت بسرعة منارة للتعبير الفكري والفني في حيفا. تميزت مجلة الزهرة بأنها تصدر حلقات روائية في كل عدد، وبدلاً من نشر الرواية كاملة، كان جميل يقسمها إلى حلقات وينشر جزءًا منها في كل عدد، وعند تجميع الحلقات يصبح لدى القارئ الرواية كاملة. كما تميزت المجلة بمعرض الأقلام الذي جمع فيه أهم إنجازات الأدباء والمثقفين في البلاد، إذ نشر فيها عدد من أعلام الثقافة والأدب والشعر مثل الأستاذ وديع بستاني وغيره، وهذا ما حدا بجميل البحري إلى تقسيم المجلة إلى قسمين؛ الأول رواية مستقلة، والثاني يضم كتابات وقصائد لأشهر الكتّاب والشعراء.

بحلول عام 1927، سعى البحري لتطوير المجلة، فغير اسمها إلى “الزهور” وأصبَحَت تُنشر أسبوعيًا. استمرت هذه النسخة الجديدة من المجلة في الازدهار، معبرة عن التزامه المستمر بالثراء الثقافي والفكري.

لكن حياة جميل، المليئة بالأهداف النبيلة، قُطعت بشكل مأساوي. في أيلول 1930، أثناء التحقيق في نزاع على أرضِ مقبرة، هاجمه رجلان، وقام أحدهما بضرب جميل بأداة حادة، مما أدى إلى وفاته. أحدَثَت وفاته صدمة في حيفا، مهددة بإشعال نزاع بين المجتمعات المسلمة والمسيحية في المدينة، واللتين تنازعتا على الأرض.

بعد حادثة موته، قام أخوه الأستاذ حنا البحري بإكمال مسيرته من خلال تشغيله لمجلة الزهرة لفترة من الزمن، ومن ثم توقفت المجلة عن الصدور. بعد نكبة عام 1948، تناثر إرث جميل البحري ولا يُعرف الكثير حوله. لكن، خلال عام النكبة تم جمع العديد من إرث المرحوم جميل البحري ووضعه في مخزن المكتبة الوطنية الإسرائيلية في الجامعة العبرية بالقدس، والذي لا يزال موجودًا حتى يومنا هذا.

من خلال تتبع مسيرة جميل بحري، نستطيع تتبع آثار ملامح الحركة الثقافية والأدبية في البلاد وفي حيفا عمومًا، وذلك من خلال تحليل جزء من إرث شخصية وطنية وثقافية، ظلّت هامشية في التأريخ وظلّت سيرتها غائبة على المستوى البحثي والمستوى الشعبي. والأهمية الأخرى لهذا البحث تأتي من وصيّة حنّا البحري الواردة أعلاه: “دائمًا اذكروا ولا تنسوا المكتبة الوطنية، جريدة الزهور ومطبعة الزهرة، هكذا يوصيكم الشهيد الجميل”، فيأتي هذا البحث تذكيرًا وتخليدًا لمحاولات فلسطينية رائدة في بناء واقع ثقافي ووطني قطعه مقتل البحري في البداية، ومن ثمّ النكبة فيما بعد.

علاوةً على ذلك، ومن خلال رصد وتحليل ما تمّ نشره في المجلة التي قام بتحريرها، نستطيع النظر عن قرب إلى طبيعة الإنتاج الثقافي والأدبي في فلسطين وتفاعل القرّاء معها، والطبقات التي عبّرت عنها، والتفاعل ما بين السياسي والثقافي في تلك الفترة. هناك أهمية تتعلّق بشخصية البحري نفسه: فهو شاب مثقّف صاحب وعي وفعل مرتبط بطموح إنساني ووطني، وذلك يتجلى من خلال تأسيس الرابطة الأدبية والصحف التي كان ينشر من خلالها وتأسيس المكتبة الوطنية والمشاركة في حركة الترجمة للأدب الروائي والقصصي.

صوت الشرق: إرث بولس شحادة

نبذة عن الأديب والصحفي بولس شحادة مؤسس جريدة مرآة الشرق

شحادة بولس

في قلب مدينة رام الله عام 1882، وُلد الأديب والصحفي بولس شحادة في زمن كان على أعتاب تحولات عميقة. لم يكن أحد حينها يتوقع أنه سيصبح لاحقًا أحد أكثر الأصوات جرأة في البلاد خلال عهد الانتداب البريطاني.

نشأ بولس في بيتٍ كانت الأفكار فيه تنساب بحرية، وفي سنٍ مبكرة تعلّم أن يسأل، أن يبحث عن الإجابات، والأهم من ذلك، أن يحلم بعالم أفضل. بدأ تعليمه في مدرسة صهيون بالقدس، وهي المكان الذي فَتح َله أبَواب الفكر الجديد. ثم تابع دراسته في الكلية الإنجليزية، حيث تعرف على فلسفات جديدة وغُرس فيه مفهوم الحرية، الذي أشعل في قلبه روح الثورة.

النار التي في قلب بولس لم تكن لتخمد، وسرعان ما بدأ يستخدم صوته لتحدي العالم من حوله. بحلول عام 1907، وفي وقت كان معظم الناس يخشون التحدث بصراحة، وقف بولس أمام حشد كبير في حيفا مطالبًا بشيء لم يكن متوقعًا حينها: خلع السلطان عبد الحميد. كانت كلماته محفوفة بالمخاطر، وكان يعرف ذلك جيدًا.

لم يكن دفاع شحادة عن الحرية بلا ثمن شخصي، اذ اضطٌّرَ بعد فترة وجيزة الى الهروب إلى القاهرة، حيث وجد في شوارعها المزدحمة وأوساطها الفكرية النشطة ملاذًا في الكتابة. بدأ يكتب في صحف مثل المقتطف ومجلة الزهور، وكانت كل مقالة تحمل من القوة ما يفوق سابقتها.

لكن بولس لم يكن من النوع الذي يبقى مختبئًا لفترة طويلة. مع الإصلاحات الدستورية التي أدخلها العثمانيون في عام 1908، عاد إلى فلسطين التي أحبها. ومع عودته، انغمس في مجال التعليم والصحافة، فعمل مدرسًا في المدرسة الأرثوذكسية ببيت لحم. ومع حلول الحرب العالمية الأولى، وجد نفسه يعمل مع الجيش العثماني في بئر السبع، يتكيف مع التغيرات التي عصفت بالعالم.

 في عام 1919، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، بدأ عهد الانتداب البريطاني يلوح في الأفق، وكان هذا هو الوقت الذي وجد فيه بولس هدفه الحقيقي. انطلاقا من فهمه لأهمية الصحافة المقروءة ، و مدى تأثيرها على الوضع السياسي و الرأي العام آنذاك ، أسَّس َ شحادة جريدة مرآة الشرق، التي لم تكن مجرد صحيفة، بل حركة فكرية. من صفحاتها، شنّ بولس حملة بلا هوادة ضد القوى التي تهدد بتقسيم فلسطين. ندد بالطائفية، ودعا إلى الوحدة. كتب بلا كلل عن أهمية إشراك الفلاحين في القرارات السياسية، وعن ضرورة إصلاح التعليم، وضمان تمثيل كل فلسطيني بشكل عادل، بغض النظر عن أصله أو منطقته.

لكن كلماته كانت قوية، لدرجة أنها جلبت له الأعداء. في عام 1927، وفي ليلة هادئة من ليالي الجمعة، دَوّى صوت رصاصة في الظلام في غرفة نوم شحادة، كادت أن تصيبه وهو نائم في فراشه. كانت تلك الرصاصة بمثابة رسالة ٍ تحذيريةٍ من أولئك الذين أرادوا إسكاته. لكن بولس شحادة لم يكن ليسكت، لا بالرصاص ولا بالتهديدات، ولا حتى بقرار السلطات البريطانية إغلاق جريدته في عام 1939 بعد أن نشرت قصيدة ثورية تدعو للتمرد.

ورغم كل هذا، واصل بولس طريقه. ففي عام 1920، تعاون مع المربي خليل طوطح لتأليف كتاب تاريخ القدس، وهو أول كتاب تاريخي فلسطيني يظهر في فترة الانتداب، وكان هذا الكتاب تلخيصاُ لحبه العميق لأرضه وشعبه.

على مَدارِ حياته، واجه بولس تحديات كانت كفيلة بتحطيم الكثيرين. جريدته هوجمت، وحياته كانت في خطر دائم. لكنه لم يتراجع أبدًا، فقد ظل يكتب، يعلم، ويلهم الآخرين حتى وفاته.

توفي بولس شحادة في عام 1943، تاركًا وراءه إرثًا من الشجاعة الفكرية والالتزام العميق بالأرض. كانت حياته وعمله رمزًا للدافع نحو التقدم والهوية الوطنية خلال واحدة من أكثر العصور اضطرابًا في البلاد.

توفر المكتبة الوطنية أرشيفاً لصحيفة مرآة الشرق من الفترة الانتدابية كجزء من أرشيف جرايد.