“دائمًا اذكروا ولا تنسوا المكتبة الوطنية، جريدة الزهور ومطبعة الزهرة، هكذا يوصيكم الشهيد الجميل”. بهذا الكلمات اختتم الأستاذ حنا البحري الكتيب الخاص والمنشور تخليدًا لذكرى أخيه جميل البحري بعيد وفاته. لكن بعد ما يقارب 90 عامًا على غيابه، يبدو ظاهرًا للعيان بأن الكثيرين لم يسلطوا الضوء على إنجازات جميل البحري وإرثه الثقافي والأدبي الذي تركه لنا بعد حادث موته الغادر.
في مدينة حيفا الهادئة، حيث كان عدد سكانها لا يتجاوز 24 ألفًا، برز الشاب جميل البحري مؤسس أول مكتبة وطنية في قلب المدينة. لم يكن طموحه مجرد بيع الكتب، بل كان يسعى لإحياء ثقافة ونشر المعرفة لأجيال قادمة. بتأسيسه لمجلة وصحيفة ومطبعة الزهور لاحقاً، سعى جميل لتحويل حيفا من مكان هادئ إلى مركز نابض بالعلم والتعبير الثقافي.
نشأ جميل وهو يستمع إلى حكايات أجداده، عن الأراضي الشاسعة التي تمتد على سفوح جبل الكرمل، عن التجار والبحارة، وعن والده الذي كان يدير ممتلكات الكنيسة آنذاك. كانت هذه القصص تملأ جميل بإحساس بالهدف، لكن أحلامه امتدت أبعد من مِهَنِهم. سعى جميل نحوَ نوعٍ مختلفٍ من الغنى —كنز المعرفة والثقافة، الذي يمكن أن يرفع من شأن شعبه.
في طفولته، التحق جميل بمدرسة الروم الكاثوليك في البلدة القديمة بحيفا. هناك، تحت إشراف القساوسة الكاثوليك أتقن اللغة التركية، لغة الحكام العثمانيين، والفرنسية، لغة الشعراء والمفكرين. حتى عندما أصبحت الحياة حوله قاسية، مع القاء الحرب والفقر بظلالهما على حيفا، وَجد جميل الراحة في عالم الكتب والقصص، اذ كتب لمجلة “المسرّة” اللبنانيّة قصصاً نقلت القراء بعيدًا عن صراعاتهم اليومية.
لكن حلم جميل لم يتوقف عند الكلمات فقط. لم تكن حيفا تعرف مكتبة عامة من قبل، لكن جميل كان مصمماً على تغيير ذلك. في أيار من العام 1920، ومع تحول الحلم إلى واقع، تعاون مع أخيه حنّا، وسرعان ما وُلدت “المكتبة الوطنية”. لم تكن مكان للكتب العربية فقط، بل اختلطت لغات العربية والفرنسية والإنجليزية على الأرفف، حيث يمكن للطلاب والباحثين العثور على مصادر لتعليم أنفسهم والآخرين.
لم يتوقف شغف جميل بالثقافة والتعليم عند هذا الحد. اذ جمع مجموعة من الأفراد المتشابهين في التفكير، وأسسوا حلقة أدبية تُعرف بـ “حلقة الأدب”. كانت تهدف إلى رفع مستوى اللغة العربية، وتحفيز فن الخطابة، ومعالجة القضايا الاجتماعية لزمانهم. أصبحت هذه الاجتماعات ملاذًا للمثقفين في حيفا، مكانًا يمكنهم فيه مناقشة أفكارهم، والتحدث عن أحلامهم، والتفكير في مستقبل أفضل.
إحياء الزهور
في عام 1921، أطلق جميل البحري مجلة “زهرة الجميل”، التي أصبحت بسرعة منارة للتعبير الفكري والفني في حيفا. تميزت مجلة الزهرة بأنها تصدر حلقات روائية في كل عدد، وبدلاً من نشر الرواية كاملة، كان جميل يقسمها إلى حلقات وينشر جزءًا منها في كل عدد، وعند تجميع الحلقات يصبح لدى القارئ الرواية كاملة. كما تميزت المجلة بمعرض الأقلام الذي جمع فيه أهم إنجازات الأدباء والمثقفين في البلاد، إذ نشر فيها عدد من أعلام الثقافة والأدب والشعر مثل الأستاذ وديع بستاني وغيره، وهذا ما حدا بجميل البحري إلى تقسيم المجلة إلى قسمين؛ الأول رواية مستقلة، والثاني يضم كتابات وقصائد لأشهر الكتّاب والشعراء.
بحلول عام 1927، سعى البحري لتطوير المجلة، فغير اسمها إلى “الزهور” وأصبَحَت تُنشر أسبوعيًا. استمرت هذه النسخة الجديدة من المجلة في الازدهار، معبرة عن التزامه المستمر بالثراء الثقافي والفكري.
لكن حياة جميل، المليئة بالأهداف النبيلة، قُطعت بشكل مأساوي. في أيلول 1930، أثناء التحقيق في نزاع على أرضِ مقبرة، هاجمه رجلان، وقام أحدهما بضرب جميل بأداة حادة، مما أدى إلى وفاته. أحدَثَت وفاته صدمة في حيفا، مهددة بإشعال نزاع بين المجتمعات المسلمة والمسيحية في المدينة، واللتين تنازعتا على الأرض.
بعد حادثة موته، قام أخوه الأستاذ حنا البحري بإكمال مسيرته من خلال تشغيله لمجلة الزهرة لفترة من الزمن، ومن ثم توقفت المجلة عن الصدور. بعد نكبة عام 1948، تناثر إرث جميل البحري ولا يُعرف الكثير حوله. لكن، خلال عام النكبة تم جمع العديد من إرث المرحوم جميل البحري ووضعه في مخزن المكتبة الوطنية الإسرائيلية في الجامعة العبرية بالقدس، والذي لا يزال موجودًا حتى يومنا هذا.
من خلال تتبع مسيرة جميل بحري، نستطيع تتبع آثار ملامح الحركة الثقافية والأدبية في البلاد وفي حيفا عمومًا، وذلك من خلال تحليل جزء من إرث شخصية وطنية وثقافية، ظلّت هامشية في التأريخ وظلّت سيرتها غائبة على المستوى البحثي والمستوى الشعبي. والأهمية الأخرى لهذا البحث تأتي من وصيّة حنّا البحري الواردة أعلاه: “دائمًا اذكروا ولا تنسوا المكتبة الوطنية، جريدة الزهور ومطبعة الزهرة، هكذا يوصيكم الشهيد الجميل”، فيأتي هذا البحث تذكيرًا وتخليدًا لمحاولات فلسطينية رائدة في بناء واقع ثقافي ووطني قطعه مقتل البحري في البداية، ومن ثمّ النكبة فيما بعد.
علاوةً على ذلك، ومن خلال رصد وتحليل ما تمّ نشره في المجلة التي قام بتحريرها، نستطيع النظر عن قرب إلى طبيعة الإنتاج الثقافي والأدبي في فلسطين وتفاعل القرّاء معها، والطبقات التي عبّرت عنها، والتفاعل ما بين السياسي والثقافي في تلك الفترة. هناك أهمية تتعلّق بشخصية البحري نفسه: فهو شاب مثقّف صاحب وعي وفعل مرتبط بطموح إنساني ووطني، وذلك يتجلى من خلال تأسيس الرابطة الأدبية والصحف التي كان ينشر من خلالها وتأسيس المكتبة الوطنية والمشاركة في حركة الترجمة للأدب الروائي والقصصي.