“أُفكرُ فيكِ يا ماري كلَّ يومٍ وكل ليلة، أفكرُ فيكِ دائماً وفي كل فكر شيءٌ منَ اللّذة وشيء من الألم. والغريبُ أّنَّني ما فَكرتُ فيكِ يا مَريم إلّا وَقُلتُ لكِ في سرّي ” تعالي واسكبي جَميعَ هُمومِكِ هُنا، هُنا على صَدري”، “تقولين لي أنّكِ تَخافينَ الحُب. لماذا تَخافينه يا صَغيرتي؟ أتخافينَ نورَ الشّمس؟ أتخافين مدَّ البحر؟ أتخافينَ طُلوعَ الفَجر؟ أتخافينَ مَجيء الرَّبيع؟ لما يا تُرى تَخافينَ الحُب؟”.
قَد يَصل لقارئِ الكلماتِ هذهِ شعورٌ بالارتباكِ حولَ طبيعةِ العلاقةِ بين المُرسِل والمُرسَل إليها، وربما أصابت هذه المشاعر بالضبط جوهَرَ طَبيعةِ العلاقةِ التّي خُلِقَت بينَ الأديبيْن مي زيادة وجبران خليل جبران. تلك العلاقة التي كَلّفت ميّ صحتها النفسية وأودت بها، بحسب الروايات السائدة، الى مشفى للأمراض النفسية وثم الإعياءُ الجسديَ الذي أودى بحياتها في نهايةِ المَطاف.
يُمكن اعتبار العلاقة بين مي وجبران من أغرب الروابط العاطفية بين كاتبين، حيثُ اكتَنَفَها الغُموضُ وَتَخضَع لتأويلاتٍ مُختلفة. هل نَتحدثُ هُنا عن قِصةِ حُبٍ أم علاقةِ صداقةٍ أفلاطونيةٍ بحتة؟
بَدَأَت هذهِ القّصة الفريدة في عام 1920، عِندمَا تَلَقّت مَيّ نُسخةً من روايةِ “الأَجنحةِ المُتكسّرة” التي كتبها جبران. على الرغم من أنهما لم يلتقيا أبدًا في الواقع، فإن كلماتِ جُبران الجَذّابة وَقُدرتهِ على التعبيرِ عن الأفكارِ العميقةِ أَسَرَت قَلبَ مي بشكل لا يمكنُ وَصفه.
نادراً ما كانَ في تاريخِ العلاقاتِ الطويلةِ مِثل هذه العلاقة العاطفية، التي يتم التعبير عنها فقط من خلال تبادل الرسائل لما يقرب من عقدين من الزمن، دونَ أن يحاول أي منهما التغلب على الحاجزِ الجُغرافيّ والاقتراب من الآخر، تلك الرسائل التي جُمعت ونشرت في كتاب “الشعلة الزرقاء”. ومع ذلك، فإن هذه الخصوصية بالتحّديد هي التّي جَذَبَت انتباهَ العَديدِ مَنَّ النُّقادِ والباحِثين، ممّا أّدّى إلى ظهورِ عشراتِ الكتب والأطروحات التي تتناول كل جانب من جوانب حياتهم بالتفصيل.
تُعتبرُ الرَسائِلُ المتبادلةُ بينَ الاثنيْن المرجع الأساسي لفِهمِ طَبيعةِ علاقَتِهِما، وَتَنقَسِمُ الرسائلُ إلى فئتين: فكرية وعاطفية. تتَميز الأولى بالجرأة النقدية والغنى الفكري، في حين تَتَراوح الأخيرة بينَ الاعترافات الخفية والتردد إلى التصريحات الصريحة بالحب. وبينما أَثنَت مي على رواية جبران في «الأجنحة المتكسرة»، أبدت تحفظها على موقفه السلبي من الزواج وتبريره للخيانة الزوجية حتى ولو كان الحُبُّ هو الدافع الوحيد. تنتقد مي “لهجة جبران المضطربة وأفكاره الصبيانية” في كتابه “دمعة وابتسامة”. لم يشعر جبران بالإهانة من هذا النقد بل تقبله بصدر رحب و بعقل فضولي حولَ هذه الناقدة الجريئة.
من كتاب الشعلة الزرقاء، متوفر بالمكتبة الوطنية
ومَع الوَقت، توالَت المُرسلات بين مَي وجُبران، وازدادت وتيرتها ودرجة خصوصيتها، فيكادُ يَتراءى لقارئ “الشعلة الزرقاء” بأنه يقرأ مُذكرات جُبران اليومية لا مراسلاتٍ بين طرفين، ولا يساعدُ في دَحضِ هذا التّصور أَنَّ ما يَتَوَفَّر لَنا مِن مُراسلاتِ مي لا يُعدُّ على الأصابع. و هذا ما يجبُ أخذه بعين الاعتبار عند قراءة الكتاب أو محاولة فهم طبيعة علاقتهما.
مع ذلك، يمكننا رؤية تحت قشرة الخطاب الأدبي تيار خفي من الحميمية العاطفية، إذ اعترفت مي لجبران: “كُنت أجلس للكتابة إليك أنسى من وأين أنت، وكثيراً ما أَنسى حتّى أَنَّ هُناكَ رَجُلاً أُخاطبهُ فَأُكلمكَ كَما أُكلّمُ نَفسي وأحياناً كأنَّكَ رَفيقةُ لي في المدرسة”. وعلى الرغم من اعتراف جبران بمَوَدَّتِهِ وَشَوقِ مَي لِحُضوره، إلا أنَّ المسافة الجسدية بينهما شَكَّلَت عائقاً أمامَ اتّحادهما.
ربما، كما تَكَهَّن بَعضُ العُلماء، كانت استحالة حُبهما هيَ التّي صَبَغَتهُ بِشُعورٍ من العَظَمة الأسطورية – حب كان موجودًا في عالم الخيال، بمنأى عن بَلادَةِ الواقعِ وَلَرُبما أنَّ جُبران ومي لم يَكن لَديهما الرغبة الكاملة، دون وَعي، في اللقاء، مدركين أن مثل هذه القفزة من شأنها أن تُحول علاقتهما من عوالم الخيال السامية إلى مشهد الواقع الدنيوي، حيثُ تَسود الرّتابة وخيبة الأمل في كثير من الأحيان. كانتِ المَساحاتُ الشّاسعة من الأرض والبحر بمثابة شهود صامتين، حيث فرضت حاجزًا ماديًا يمنعهم من احتضانهم المباشر، تاركين مخيلتهم لتكون بمثابة مهندس لاتصالهم، والكلمات كأوعية لمودتهم، دون الحاجة لأكثر من ذلك.