تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.
وُلدت كلثوم عودة في نيسان من العام 1892 في مدينة الناصرة، لتأتي إلى عالم يقدّر الذكور أكثر من الإناث. ولدت في زمن كانت فيه التوقعات المجتمعية تحدّ من فرص الفتيات، وكان ذلك واضحاً في رَدِّ فعل والدتها تجاهها.
كانت عودة الابنة الخامسة لوالدين كانا ينتظران ولادة الصبي الأول، ولم يُستقبل وصولها بالترحاب. وبما أنها لم تكن تمتلك جمالًا يشفع لها، فقد نشأت وهي تعاني من قسوة والدتها وتعليقاتها الساخرة. لم تجد كلثوم مخرجًا سوى التفوق في دراستها، رغم معارضة والدتها الشديدة. مع ذلك، وجدت كلثوم العزاء والتشجيع في دعم والدها الذي رغِب في تعليمها.
بدأت الطالبة كلثوم رحلتها الأكاديمية في الكلية الروسية للمعلمين في بيت جالا، حيث نما شغفها باللغة العربية والأدب، اذ تَتَلمَذَت على يَد المُعلم الكبير خليل سكاكيني.
من الناصرة إلى روسيا: رحلة العلم والإصرار
كان حلم كلثوم منذ الطفولة أن تكون معلمة وأن تستقل بذاتها دون الحاجة للعيش كـ “خادمة عند زوجة أخي المستقبلية”، كما اعتادت والدتها أن تردد. لقد عملت بجد لتحقيق هذا الحلم، متغلبةً على كافة العقبات التي واجهتها، بما في ذلك معارضة والدتها الشديدة. بفضل إصرارها، أكملت تعليمها وبدأت العمل كمعلمة في الناصرة.
خلال سنوات عملها كمعلمة، كانت تدرك تمامًا أهمية التعليم والاستقلالية المادية التي تمنح الفتاة القدرة على اتخاذ قراراتها بنفسها. لكن كان الثمن النفسي كبيرًا؛ فقد عانت من الضغوط والتحديات، حيث كانت تعيش في العمارة الروسية مع رفيقة تمردت على التقاليد أيضاً، وكان على كلثوم أن تتحمل الكثير من الألم بسبب رفض أسرتها لمستقبلها. برغم هذه الصعوبات، وجدت عزاءها في حبها لعملها، فكانت تكرس وقتها وطاقتها لتعليم الطالبات، مما أسهم في بناء علاقات قوية ومحببة معهن.
فيما بعد، تزوجت كلثوم من الطبيب الروسي إيفان فاسيليف، الذي كان يشرف على صحة تلميذات المدرسة، ولعب الحب دورًا كبيرًا في جمعهما. على الرغم من رفض أهلها لهذا الزواج ومحاولتهم إبعادها عنه، تمكنت كلثوم من الزواج منه بدعم من قريب لها من الناصرة. انتقل الزوجان إلى روسيا في عام 1914، حيث واجها تحديات الحرب العالمية الأولى، مما دفع كلثوم للانضمام إلى الصليب الأحمر والعمل كممرضة في صربيا والجبل الأسود، ثم في أوكرانيا لمكافحة وباء التيفوئيد.
عندما توفي زوجها في عام 1917، لم تستسلم كلثوم، بل تبنت أسلوب حياة جديد. أقدمت على زراعة الأرض وعملت بجد رغم صعوبة الحياة، واستمرت في تعليم بناتها ورعايتهن. لم تكتفِ بذلك، بل واصلت مسيرتها الأكاديمية في روسيا، درست في كلية اللغات الشرقية، وعملت في القسم العربي بمعهد الفلسفة والفنون والتاريخ. وبعد تأسيس معهد الاستشراق في موسكو، انتقلت من لينينغراد إلى موسكو لمواصلة عملها. كما عملت في معهد العلاقات الدولية والمعهد الدبلوماسي العالي.
خلال الحقبة الستالينية في أواخر الثلاثينيات، تم اعتقالها ثلاث مرات، لكنها أُفرج عنها في المرة الأخيرة عام 1939 دون أن تُثبت أي تهم ضدها. سرعان ما نالت تقديراً واسعاً من قبل المثقفين السوفييت، وخاصة من الأوساط السياسية. ولذلك، عندما شن النازيون هجومهم على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، كانت ضمن أولئك الذين تم إجلاؤهم لحمايتهم.
أصبحت أول امرأة تشغل منصب “عضو في جمعية العلاقات الثقافية السوفييتية مع البلدان العربية”. كانت تؤمن بأن الأدب هو الطريق إلى القلوب الإنسانية، فبدأت بترجمة الأدب السوفييتي إلى العربية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم شرعت بترجمة الأدب العربي إلى الروسية، مساهمة بشكل كبير في بناء جسر حضاري بين روسيا والعالم العربي وتعريف الروس بالعرب.
في عيد ميلادها السبعين، مُنحت وسام الشرف، وتلقت وسام “الصداقة بين الشعوب”، وهو أعلى وسام يمنحه الاتحاد السوفييتي لشخصيات تكرس علاقات الصداقة بين الشعب السوفييتي والشعوب الأخرى. وبعد وفاتها، منحتها منظمة التحرير الفلسطينية “وسام القدس للثقافة والفنون والآداب” في يناير 1990، تقديراً لدورها الثقافي والسياسي في روسيا.
توفيت في 24 أبريل 1965، وحضر جنازتها عدد كبير من الأساتذة والعلماء والطلاب والفلاحين، إلى جانب وزراء ومسؤولين كانوا من طلابها، ودُفنت في مقبرة الأدباء والعلماء بالقرب من موسكو.
يُعَدّ إِرث كلثوم عودة شهادة على قوة الروح البشرية. قصتها هي قصة تجاوز المحن ودمج الحواجز الثقافية وتقديم إسهامات دائمة في العالم من خلال تجاربها وانتصاراتها.