كلثوم عودة: من خالدات الأدب العربي

تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.

832 629

تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.

وُلدت كلثوم عودة في نيسان من العام 1892 في مدينة الناصرة، لتأتي إلى عالم يقدّر الذكور أكثر من الإناث. ولدت في زمن كانت فيه التوقعات المجتمعية تحدّ من فرص الفتيات، وكان ذلك واضحاً في رَدِّ فعل والدتها تجاهها.

كانت عودة الابنة الخامسة لوالدين كانا ينتظران ولادة الصبي الأول، ولم يُستقبل وصولها بالترحاب. وبما أنها لم تكن تمتلك جمالًا يشفع لها، فقد نشأت وهي تعاني من قسوة والدتها وتعليقاتها الساخرة. لم تجد كلثوم مخرجًا سوى التفوق في دراستها، رغم معارضة والدتها الشديدة. مع ذلك، وجدت كلثوم العزاء والتشجيع في دعم والدها الذي رغِب في تعليمها.

بدأت الطالبة كلثوم رحلتها الأكاديمية في الكلية الروسية للمعلمين في بيت جالا، حيث نما شغفها باللغة العربية والأدب، اذ تَتَلمَذَت على يَد المُعلم الكبير خليل سكاكيني.

من الناصرة إلى روسيا: رحلة العلم والإصرار

كان حلم كلثوم منذ الطفولة أن تكون معلمة وأن تستقل بذاتها دون الحاجة للعيش كـ “خادمة عند زوجة أخي المستقبلية”، كما اعتادت والدتها أن تردد. لقد عملت بجد لتحقيق هذا الحلم، متغلبةً على كافة العقبات التي واجهتها، بما في ذلك معارضة والدتها الشديدة. بفضل إصرارها، أكملت تعليمها وبدأت العمل كمعلمة في الناصرة.

خلال سنوات عملها كمعلمة، كانت تدرك تمامًا أهمية التعليم والاستقلالية المادية التي تمنح الفتاة القدرة على اتخاذ قراراتها بنفسها. لكن كان الثمن النفسي كبيرًا؛ فقد عانت من الضغوط والتحديات، حيث كانت تعيش في العمارة الروسية مع رفيقة تمردت على التقاليد أيضاً، وكان على كلثوم أن تتحمل الكثير من الألم بسبب رفض أسرتها لمستقبلها. برغم هذه الصعوبات، وجدت عزاءها في حبها لعملها، فكانت تكرس وقتها وطاقتها لتعليم الطالبات، مما أسهم في بناء علاقات قوية ومحببة معهن.

فيما بعد، تزوجت كلثوم من الطبيب الروسي إيفان فاسيليف، الذي كان يشرف على صحة تلميذات المدرسة، ولعب الحب دورًا كبيرًا في جمعهما. على الرغم من رفض أهلها لهذا الزواج ومحاولتهم إبعادها عنه، تمكنت كلثوم من الزواج منه بدعم من قريب لها من الناصرة. انتقل الزوجان إلى روسيا في عام 1914، حيث واجها تحديات الحرب العالمية الأولى، مما دفع كلثوم للانضمام إلى الصليب الأحمر والعمل كممرضة في صربيا والجبل الأسود، ثم في أوكرانيا لمكافحة وباء التيفوئيد.

عندما توفي زوجها في عام 1917، لم تستسلم كلثوم، بل تبنت أسلوب حياة جديد. أقدمت على زراعة الأرض وعملت بجد رغم صعوبة الحياة، واستمرت في تعليم بناتها ورعايتهن. لم تكتفِ بذلك، بل واصلت مسيرتها الأكاديمية في روسيا، درست في كلية اللغات الشرقية، وعملت في القسم العربي بمعهد الفلسفة والفنون والتاريخ. وبعد تأسيس معهد الاستشراق في موسكو، انتقلت من لينينغراد إلى موسكو لمواصلة عملها. كما عملت في معهد العلاقات الدولية والمعهد الدبلوماسي العالي.

خلال الحقبة الستالينية في أواخر الثلاثينيات، تم اعتقالها ثلاث مرات، لكنها أُفرج عنها في المرة الأخيرة عام 1939 دون أن تُثبت أي تهم ضدها. سرعان ما نالت تقديراً واسعاً من قبل المثقفين السوفييت، وخاصة من الأوساط السياسية. ولذلك، عندما شن النازيون هجومهم على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، كانت ضمن أولئك الذين تم إجلاؤهم لحمايتهم.

أصبحت أول امرأة تشغل منصب “عضو في جمعية العلاقات الثقافية السوفييتية مع البلدان العربية”. كانت تؤمن بأن الأدب هو الطريق إلى القلوب الإنسانية، فبدأت بترجمة الأدب السوفييتي إلى العربية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم شرعت بترجمة الأدب العربي إلى الروسية، مساهمة بشكل كبير في بناء جسر حضاري بين روسيا والعالم العربي وتعريف الروس بالعرب.

في عيد ميلادها السبعين، مُنحت وسام الشرف، وتلقت وسام “الصداقة بين الشعوب”، وهو أعلى وسام يمنحه الاتحاد السوفييتي لشخصيات تكرس علاقات الصداقة بين الشعب السوفييتي والشعوب الأخرى. وبعد وفاتها، منحتها منظمة التحرير الفلسطينية “وسام القدس للثقافة والفنون والآداب” في يناير 1990، تقديراً لدورها الثقافي والسياسي في روسيا.

توفيت في 24 أبريل 1965، وحضر جنازتها عدد كبير من الأساتذة والعلماء والطلاب والفلاحين، إلى جانب وزراء ومسؤولين كانوا من طلابها، ودُفنت في مقبرة الأدباء والعلماء بالقرب من موسكو.

يُعَدّ إِرث كلثوم عودة شهادة على قوة الروح البشرية. قصتها هي قصة تجاوز المحن ودمج الحواجز الثقافية وتقديم إسهامات دائمة في العالم من خلال تجاربها وانتصاراتها.

في ذكرى وفاته: كيفَ أحيا جميل البحري زهور حيفا الثقافية؟

في مدينة حيفا الهادئة، حيث كان عدد سكانها لا يتجاوز 24 ألفًا، برز الشاب جميل البحري مؤسس أول مكتبة وطنية في قلب المدينة. لم يكن طموحه مجرد بيع الكتب، بل كان يسعى لإحياء ثقافة ونشر المعرفة لأجيال قادمة. بتأسيسه لمجلة و صحيفة و مطبعة الزهور لاحقاً، سعى جميل لتحويل حيفا من مكان هادئ إلى مركز نابض بالعلم والتعبير الثقافي.

832 629

“دائمًا اذكروا ولا تنسوا المكتبة الوطنية، جريدة الزهور ومطبعة الزهرة، هكذا يوصيكم الشهيد الجميل”. بهذا الكلمات اختتم الأستاذ حنا البحري الكتيب الخاص والمنشور تخليدًا لذكرى أخيه جميل البحري بعيد وفاته. لكن بعد ما يقارب 90 عامًا على غيابه، يبدو ظاهرًا للعيان بأن الكثيرين لم يسلطوا الضوء على إنجازات جميل البحري وإرثه الثقافي والأدبي الذي تركه لنا بعد حادث موته الغادر.

في مدينة حيفا الهادئة، حيث كان عدد سكانها لا يتجاوز 24 ألفًا، برز الشاب جميل البحري مؤسس أول مكتبة وطنية في قلب المدينة. لم يكن طموحه مجرد بيع الكتب، بل كان يسعى لإحياء ثقافة ونشر المعرفة لأجيال قادمة. بتأسيسه لمجلة وصحيفة ومطبعة الزهور لاحقاً، سعى جميل لتحويل حيفا من مكان هادئ إلى مركز نابض بالعلم والتعبير الثقافي.

نشأ جميل وهو يستمع إلى حكايات أجداده، عن الأراضي الشاسعة التي تمتد على سفوح جبل الكرمل، عن التجار والبحارة، وعن والده الذي كان يدير ممتلكات الكنيسة آنذاك. كانت هذه القصص تملأ جميل بإحساس بالهدف، لكن أحلامه امتدت أبعد من مِهَنِهم. سعى جميل نحوَ نوعٍ مختلفٍ من الغنى —كنز المعرفة والثقافة، الذي يمكن أن يرفع من شأن شعبه.

في طفولته، التحق جميل بمدرسة الروم الكاثوليك في البلدة القديمة بحيفا. هناك، تحت إشراف القساوسة الكاثوليك أتقن اللغة التركية، لغة الحكام العثمانيين، والفرنسية، لغة الشعراء والمفكرين. حتى عندما أصبحت الحياة حوله قاسية، مع القاء الحرب والفقر بظلالهما على حيفا، وَجد جميل الراحة في عالم الكتب والقصص، اذ كتب لمجلة “المسرّة” اللبنانيّة قصصاً نقلت القراء بعيدًا عن صراعاتهم اليومية.

لكن حلم جميل لم يتوقف عند الكلمات فقط. لم تكن حيفا تعرف مكتبة عامة من قبل، لكن جميل كان مصمماً على تغيير ذلك. في أيار من العام 1920، ومع تحول الحلم إلى واقع، تعاون مع أخيه حنّا، وسرعان ما وُلدت “المكتبة الوطنية”. لم تكن مكان للكتب العربية فقط، بل اختلطت لغات العربية والفرنسية والإنجليزية على الأرفف، حيث يمكن للطلاب والباحثين العثور على مصادر لتعليم أنفسهم والآخرين.

لم يتوقف شغف جميل بالثقافة والتعليم عند هذا الحد. اذ جمع مجموعة من الأفراد المتشابهين في التفكير، وأسسوا حلقة أدبية تُعرف بـ “حلقة الأدب”. كانت تهدف إلى رفع مستوى اللغة العربية، وتحفيز فن الخطابة، ومعالجة القضايا الاجتماعية لزمانهم. أصبحت هذه الاجتماعات ملاذًا للمثقفين في حيفا، مكانًا يمكنهم فيه مناقشة أفكارهم، والتحدث عن أحلامهم، والتفكير في مستقبل أفضل.

إحياء الزهور

في عام 1921، أطلق جميل البحري مجلة “زهرة الجميل”، التي أصبحت بسرعة منارة للتعبير الفكري والفني في حيفا. تميزت مجلة الزهرة بأنها تصدر حلقات روائية في كل عدد، وبدلاً من نشر الرواية كاملة، كان جميل يقسمها إلى حلقات وينشر جزءًا منها في كل عدد، وعند تجميع الحلقات يصبح لدى القارئ الرواية كاملة. كما تميزت المجلة بمعرض الأقلام الذي جمع فيه أهم إنجازات الأدباء والمثقفين في البلاد، إذ نشر فيها عدد من أعلام الثقافة والأدب والشعر مثل الأستاذ وديع بستاني وغيره، وهذا ما حدا بجميل البحري إلى تقسيم المجلة إلى قسمين؛ الأول رواية مستقلة، والثاني يضم كتابات وقصائد لأشهر الكتّاب والشعراء.

بحلول عام 1927، سعى البحري لتطوير المجلة، فغير اسمها إلى “الزهور” وأصبَحَت تُنشر أسبوعيًا. استمرت هذه النسخة الجديدة من المجلة في الازدهار، معبرة عن التزامه المستمر بالثراء الثقافي والفكري.

لكن حياة جميل، المليئة بالأهداف النبيلة، قُطعت بشكل مأساوي. في أيلول 1930، أثناء التحقيق في نزاع على أرضِ مقبرة، هاجمه رجلان، وقام أحدهما بضرب جميل بأداة حادة، مما أدى إلى وفاته. أحدَثَت وفاته صدمة في حيفا، مهددة بإشعال نزاع بين المجتمعات المسلمة والمسيحية في المدينة، واللتين تنازعتا على الأرض.

بعد حادثة موته، قام أخوه الأستاذ حنا البحري بإكمال مسيرته من خلال تشغيله لمجلة الزهرة لفترة من الزمن، ومن ثم توقفت المجلة عن الصدور. بعد نكبة عام 1948، تناثر إرث جميل البحري ولا يُعرف الكثير حوله. لكن، خلال عام النكبة تم جمع العديد من إرث المرحوم جميل البحري ووضعه في مخزن المكتبة الوطنية الإسرائيلية في الجامعة العبرية بالقدس، والذي لا يزال موجودًا حتى يومنا هذا.

من خلال تتبع مسيرة جميل بحري، نستطيع تتبع آثار ملامح الحركة الثقافية والأدبية في البلاد وفي حيفا عمومًا، وذلك من خلال تحليل جزء من إرث شخصية وطنية وثقافية، ظلّت هامشية في التأريخ وظلّت سيرتها غائبة على المستوى البحثي والمستوى الشعبي. والأهمية الأخرى لهذا البحث تأتي من وصيّة حنّا البحري الواردة أعلاه: “دائمًا اذكروا ولا تنسوا المكتبة الوطنية، جريدة الزهور ومطبعة الزهرة، هكذا يوصيكم الشهيد الجميل”، فيأتي هذا البحث تذكيرًا وتخليدًا لمحاولات فلسطينية رائدة في بناء واقع ثقافي ووطني قطعه مقتل البحري في البداية، ومن ثمّ النكبة فيما بعد.

علاوةً على ذلك، ومن خلال رصد وتحليل ما تمّ نشره في المجلة التي قام بتحريرها، نستطيع النظر عن قرب إلى طبيعة الإنتاج الثقافي والأدبي في فلسطين وتفاعل القرّاء معها، والطبقات التي عبّرت عنها، والتفاعل ما بين السياسي والثقافي في تلك الفترة. هناك أهمية تتعلّق بشخصية البحري نفسه: فهو شاب مثقّف صاحب وعي وفعل مرتبط بطموح إنساني ووطني، وذلك يتجلى من خلال تأسيس الرابطة الأدبية والصحف التي كان ينشر من خلالها وتأسيس المكتبة الوطنية والمشاركة في حركة الترجمة للأدب الروائي والقصصي.

صوت الشرق: إرث بولس شحادة

نبذة عن الأديب والصحفي بولس شحادة مؤسس جريدة مرآة الشرق

شحادة بولس

في قلب مدينة رام الله عام 1882، وُلد الأديب والصحفي بولس شحادة في زمن كان على أعتاب تحولات عميقة. لم يكن أحد حينها يتوقع أنه سيصبح لاحقًا أحد أكثر الأصوات جرأة في البلاد خلال عهد الانتداب البريطاني.

نشأ بولس في بيتٍ كانت الأفكار فيه تنساب بحرية، وفي سنٍ مبكرة تعلّم أن يسأل، أن يبحث عن الإجابات، والأهم من ذلك، أن يحلم بعالم أفضل. بدأ تعليمه في مدرسة صهيون بالقدس، وهي المكان الذي فَتح َله أبَواب الفكر الجديد. ثم تابع دراسته في الكلية الإنجليزية، حيث تعرف على فلسفات جديدة وغُرس فيه مفهوم الحرية، الذي أشعل في قلبه روح الثورة.

النار التي في قلب بولس لم تكن لتخمد، وسرعان ما بدأ يستخدم صوته لتحدي العالم من حوله. بحلول عام 1907، وفي وقت كان معظم الناس يخشون التحدث بصراحة، وقف بولس أمام حشد كبير في حيفا مطالبًا بشيء لم يكن متوقعًا حينها: خلع السلطان عبد الحميد. كانت كلماته محفوفة بالمخاطر، وكان يعرف ذلك جيدًا.

لم يكن دفاع شحادة عن الحرية بلا ثمن شخصي، اذ اضطٌّرَ بعد فترة وجيزة الى الهروب إلى القاهرة، حيث وجد في شوارعها المزدحمة وأوساطها الفكرية النشطة ملاذًا في الكتابة. بدأ يكتب في صحف مثل المقتطف ومجلة الزهور، وكانت كل مقالة تحمل من القوة ما يفوق سابقتها.

لكن بولس لم يكن من النوع الذي يبقى مختبئًا لفترة طويلة. مع الإصلاحات الدستورية التي أدخلها العثمانيون في عام 1908، عاد إلى فلسطين التي أحبها. ومع عودته، انغمس في مجال التعليم والصحافة، فعمل مدرسًا في المدرسة الأرثوذكسية ببيت لحم. ومع حلول الحرب العالمية الأولى، وجد نفسه يعمل مع الجيش العثماني في بئر السبع، يتكيف مع التغيرات التي عصفت بالعالم.

 في عام 1919، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، بدأ عهد الانتداب البريطاني يلوح في الأفق، وكان هذا هو الوقت الذي وجد فيه بولس هدفه الحقيقي. انطلاقا من فهمه لأهمية الصحافة المقروءة ، و مدى تأثيرها على الوضع السياسي و الرأي العام آنذاك ، أسَّس َ شحادة جريدة مرآة الشرق، التي لم تكن مجرد صحيفة، بل حركة فكرية. من صفحاتها، شنّ بولس حملة بلا هوادة ضد القوى التي تهدد بتقسيم فلسطين. ندد بالطائفية، ودعا إلى الوحدة. كتب بلا كلل عن أهمية إشراك الفلاحين في القرارات السياسية، وعن ضرورة إصلاح التعليم، وضمان تمثيل كل فلسطيني بشكل عادل، بغض النظر عن أصله أو منطقته.

لكن كلماته كانت قوية، لدرجة أنها جلبت له الأعداء. في عام 1927، وفي ليلة هادئة من ليالي الجمعة، دَوّى صوت رصاصة في الظلام في غرفة نوم شحادة، كادت أن تصيبه وهو نائم في فراشه. كانت تلك الرصاصة بمثابة رسالة ٍ تحذيريةٍ من أولئك الذين أرادوا إسكاته. لكن بولس شحادة لم يكن ليسكت، لا بالرصاص ولا بالتهديدات، ولا حتى بقرار السلطات البريطانية إغلاق جريدته في عام 1939 بعد أن نشرت قصيدة ثورية تدعو للتمرد.

ورغم كل هذا، واصل بولس طريقه. ففي عام 1920، تعاون مع المربي خليل طوطح لتأليف كتاب تاريخ القدس، وهو أول كتاب تاريخي فلسطيني يظهر في فترة الانتداب، وكان هذا الكتاب تلخيصاُ لحبه العميق لأرضه وشعبه.

على مَدارِ حياته، واجه بولس تحديات كانت كفيلة بتحطيم الكثيرين. جريدته هوجمت، وحياته كانت في خطر دائم. لكنه لم يتراجع أبدًا، فقد ظل يكتب، يعلم، ويلهم الآخرين حتى وفاته.

توفي بولس شحادة في عام 1943، تاركًا وراءه إرثًا من الشجاعة الفكرية والالتزام العميق بالأرض. كانت حياته وعمله رمزًا للدافع نحو التقدم والهوية الوطنية خلال واحدة من أكثر العصور اضطرابًا في البلاد.

توفر المكتبة الوطنية أرشيفاً لصحيفة مرآة الشرق من الفترة الانتدابية كجزء من أرشيف جرايد.

ذاكِرة السّوق: رِحلة في عالم الإعلانات الفلسطينية القديمة

إنَّ تَصَفُّحَ الصُّحف والمُلصَقات الدّعائية من فترة الانتداب البريطاني أشبه بِخَطوِ خُطوةٍ في سوق يعجّ بالحياة من أيام مضت. الكَمّ الهائِل مِن الإعلاناتِ التّجارية يَرسُم صورةً حيةً لفترةٍ كانت فلسطين الانتدابية فيها تزدهر ككيان موحد، مدنها تنبض بالنشاط التجاري، متصلة بشكل وثيق مع المجتمعات العربية المجاورة. تَحكي هذهِ الإِعلانات قَصة ازدهارِ الأعمالِ التّجارية القادرة على

ملصق اعلان محل، 1931،أرشيف المكتبة الوطنية

إنَّ تَصَفُّحَ الصُّحف والمُلصَقات الدّعائية من فترة الانتداب البريطاني أشبه بِخَطوِ خُطوةٍ في سوق يعجّ بالحياة من أيام مضت. الكَمّ الهائِل مِن الإعلاناتِ التّجارية يَرسُم صورةً حيةً لفترةٍ كانت فلسطين الانتدابية فيها تزدهر ككيان موحد، مدنها تنبض بالنشاط التجاري، متصلة بشكل وثيق مع المجتمعات العربية المجاورة.

تَحكي هذهِ الإِعلانات قَصة ازدهارِ الأعمالِ التّجارية القادرة على الترويج لنفسها وتَحملها تكاليفَ الاعلانات في الجرائد. وتركزت الإعلانات في الغالب في ثلاث مدن رئيسية – القدس وحيفا ويافا -، وروجت لمجموعة واسعة من السلع والخدمات. كما أنها عكست الطبقات الاجتماعية للمصالح التجارية والعائلات التي تقف وراءها، مما يؤكد انفتاح فلسطين على المنطقة وازدهار الصناعات الثقافية والترفيهية والتجارية الجديدة.

وكانت القدس وحيفا ويافا هي المراكز التجارية. لكنَّ القدس احتفظت بمكانتها البارزة منذ العصر العثماني، واستمرت في الازدهار دينياً وسياسياً واقتصادياً أثناء وبعد الانتداب البريطاني. وقد انتعشت الأنشطة التجارية في حيفا ويافا بفضل التحديث فيها وموانئهما المزدحمة، مما سَهل العمليات التجارية وربطهما بالعالم الأوسع.

غالبًا ما عَرَضَت الإعلانات فروع الشركات في هذه المدن. على سبيل المثال، تعلن محلات بوتاجي للألبسة عن فروعها في القدس ويافا وحيفا وتل أبيب، مما يشير إلى وجود شبكة واسعة النطاق.

وفي بَعض الأحيان، ظهرت مدن أخرى مثل نابلس ورام الله في الإعلانات، مما يشير إلى وجود تجاري أقل بروزا ولكنه لا يزال نشطاً. ظهرت شوارع المدن المركزية أيضًا بشكل بارز في الإعلانات، مما يشير إلى بنية تحتية حضرية متطورة بشوارع مسماة ومرقمة، مما يسهل العمليات التجارية والخدمات البريدية. في القدس، شملت الشوارع البارزة طريق يافا، وطريق مأمن الله، وشارع جوليان، وشارع الأميرة ماري. وفي يافا، كانت الشوارع البارزة هي شارع الإسعاف، وشارع ظريفة، وشارع بسترز، في حين كان لشارع اللنبي أهمية كبيرة في حيفا. وكانت هذه الشوارع مراكز للأنشطة التجارية والثقافية والحياة اليومية.

وَسَلَّطت العَديد من الإِعلانات الضوّء على العلاقات الاقتصادية بين المُدن الفلسطينية والمدن العربية المجاورة في الأردن ولبنان وسوريا ومصر، مما عَكَسَ شراكات حيوية عبر الحدود. وكشفت هذه الإعلانات أن الشركات لم تكن مُدارة عائليًا فحسب، بل شكلت أيضًا تحالفات خارج حدود فلسطين، مما أدى إلى إنشاء شبكة قوية من التبادل التجاري والثقافي.

غالبًا ما تضمنت المصالح التجارية شراكات بين عائلات مختلفة، على الرغم من أن العديد منها كان يديرها اخوة من عائلة واحدة. وكثيراً ما ظهرت العائلات الفلسطينية الأرستقراطية في الإعلانات كعائلة شاهين، عائلة الديجاني والنشاشيبي. وعرضت الإعلانات مجموعة من الصناعات، من الخدمات التقليدية إلى القطاعات الجديدة مثل العمل البحري والبناء والصناعات الثقيلة. كما برزت الصناعات الفلسطينية الوطنية كصناعة السجائر.

كانت الشّركات المختلفة تُعلن عَن مَجموعة مُتنوعة منَ المُنتجات والخَدمات، بدءًا من المواد الكيميائية الزراعية وحتى الملابس والآلات الصناعية. وقد سلطت شركات مثل مصنع الحافلات الشرقية في يافا، وهو الأكبر من نوعه في فلسطين، الضوء على ظهور الصناعات الثقيلة والتوجه نحو التحديث والتصنيع.

تَكشِف هذه الإعلانات عن مشهد تجاري ديناميكي كان قائماً يوماُ في فلسطين، يتسم بالتركز الحضري والاتصال الإقليمي ومزيج من الصناعات التقليدية والحديثة. وهي تقدم لمحة عن النسيج الاجتماعي والاقتصادي في ذلك الوقت، وتعرض سوقًا محلياً مزدهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحركة التجارة العالمية آنذاك.