بدر شاكر السيّاب: رائد الشعر العربي الحديث

كان لإسهامات بدر شاكر السيّاب في الشعر العربي الحديث تأثير ثوري. فقد أحدث تحولاً كبيراً في الشكل والمضمون، مكسراً الجمود الذي سيطر على الشعر العربي لقرون. سمحت له روحه الابتكارية بربط الشعر بالأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم العربي في القرن العشرين، ليعيد تعريف ما يمكن أن يكون عليه الشعر العربي. من خلال موهبته الفريدة،

832 629

كان لإسهامات بدر شاكر السيّاب في الشعر العربي الحديث تأثير ثوري. فقد أحدث تحولاً كبيراً في الشكل والمضمون، مكسراً الجمود الذي سيطر على الشعر العربي لقرون. سمحت له روحه الابتكارية بربط الشعر بالأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم العربي في القرن العشرين، ليعيد تعريف ما يمكن أن يكون عليه الشعر العربي. من خلال موهبته الفريدة، وسّع السيّاب من هيكل القصيدة وعمقها العاطفي، وأدخل مواضيع أكثر تعقيداً وأشكالاً جديدة من التعبير.

الإتحاد, 7 أيّار 1991
الإتحاد, 7 أيّار 1991

وُلد بدر شاكر السياب في عام 1926 في قرية جيكور الصغيرة قرب البصرة، العراق، وكانت بداية حياته هادئة في الريف. اكتشف بدر شغفه بالشعر في سن مبكرة، وبدأ محاولاته الأولى في كتابة الأبيات الشعرية عندما كان في الثانية عشرة من عمره. وعلى الرغم من أن تلك المحاولات كانت مليئة بالأخطاء النحوية، إلا أنها كانت تشير إلى موهبة إبداعية فريدة سرعان ما ستتبلور في شعره.

فقدانه لوالدته وهو في السادسة من عمره ترك جرحًا عاطفيًا عميقًا، سيؤثر على حياته الشخصية وشعره. كان موضوع الفقدان والشوق حاضرًا بقوة في أعماله، يعبر فيه عن بحثه المستمر عن الحب والحنان. ومع مرور السنين، ورغم تجاربه العاطفية المختلفة، شعر بدر دومًا بأنه لم يجد ذلك الحب المتبادل الذي كان يحلم به. بل كان يقول مازحًا (أو ربما بحزن): إنه لم يكن محظوظًا في الحب بسبب مظهره الذي اعتبره “قبيحًا”، ما جعله يعتقد أن هذا الأمر أثر في حظه العاطفي.

عندما كبر، غادر بدر قريته لمواصلة دراسته في بغداد، حيث التحق بدار المعلمين العالية. خلال هذه الفترة، تألق نجم بدر كشاعر، لكنه لم يكتفِ بالشعر التقليدي. ففي تلك السنوات، بدأ بدر بمشاركة نازك الملائكة في ريادة حركة الشعر الحر في العالم العربي. قصيدته هل كان حبًا؟ تُعد واحدة من أوائل القصائد التي استخدم فيها هذا الأسلوب الشعري الجديد، ما جعل اسمه مرتبطًا ببداية تحول كبير في الشعر العربي.

مزج التراث بالحداثة

كان التحول الذي قاده السيّاب مدفوعاً بالتغيرات الهائلة التي شهدها العالم العربي بعد الحربين العالميتين. تلك التغيرات السياسية والاجتماعية، إلى جانب صعود الطبقة الوسطى المثقفة، خلقت حاجة جديدة لأشكال فنية تعبر بصدق عن واقع الحياة. الصحف والمجلات أصبحت منصات مهمة لتلك الأصوات الجديدة، التي أسهمت في نشر الشعر الحديث.

لعب الأدب الغربي دوراً كبيراً في تشكيل رؤية السيّاب. فقد تأثر بشدة بالأدب الإنجليزي والأمريكي، كما قرأ الأدب العربي الكلاسيكي بعمق. هذا المزج بين الأدبين الغربي والعربي أضاف بعداً جديداً لقصائده، حيث استغل السيّاب المعرفة الغربية لتوسيع مدى التعبير الشعري العربي.

تقدم السيّاب على معاصريه مثل نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. كانت معرفته بالأدبين الكلاسيكي والحديث تمنحه صوتاً فريداً. اعتمد على وزن التفعيلة، مما أعطاه مرونة أكبر للتعبير عن مشاعر عميقة وموضوعات جديدة.

الإتحاد, 5 كانون الأوّل 1984
الإتحاد, 5 كانون الأوّل 1984

عكست قصائد السيّاب معاناته الشخصية، التي شملت الإحباط العاطفي والفكري، بالإضافة إلى الفقر والمرض. هذه التجارب أكسبته عمقاً وصدقاً جعل شعره يرتبط بالقراء بشكل كبير. وفقاً للناقد إيليا حاوي، فإن معاناة السيّاب جعلته أكثر قرباً من “حقائق الوجود”، ومنحته رؤية روحية لم يكن للشعر العربي أن يتصل بها من قبل.

من أبرز إنجازاته إعادة إحياء الأسطورة في الشعر العربي. من خلال استخدام الرموز والأساطير، أضاف طبقات من المعاني إلى قصائده. كذلك، أعاد تعريف معاني الكلمات التقليدية بما يخدم رسالته الإنسانية والاجتماعية.

فيما يتعلق بالموسيقى الشعرية، استطاع السيّاب أن يتخلص من الرتابة الموسيقية التي كانت سائدة في الشعر العربي التقليدي. غالباً ما تغيرت إيقاعات قصائده وفقاً لحالته النفسية، ومع ذلك، لم يتخلَ تماماً عن الموسيقى التقليدية.

في فترة الخمسينيات، نضجت تجربة السيّاب الشعرية. زادت الأسطورة عمقاً في قصائده، وأصبح التعامل مع اللغة أكثر جدية. استُخدمت الرموز مثل المطر (رمز العطاء)، والموت (رمز البعث)، وصوت الطفل (رمز التجدد) في أغلب أعماله.

تمثال بدر شاكر السياب في البصرة،العراق
تمثال بدر شاكر السياب في البصرة،العراق

في سنواته الأخيرة، أُصيب السيّاب بمرض عضال أفقده القدرة على المشي. أثّر المرض في رؤيته للعالم، إذ أصبح الموت يمثل نهاية حتمية، وهو ما انعكس في قصائده. توفي السيّاب عن عمر يناهز 38 عاماً، في ذروة نضجه الشعري.

رغم حياته القصيرة، فتح السيّاب الباب أمام جيل جديد من الشعراء ليستلهمو من تجربته الثورية. لقد غير السيّاب مسار الشعر العربي للأبد، وكان جسراً بين التراث والحداثة، ليصبح اسمه خالداً في تاريخ الأدب.

كلثوم عودة: من خالدات الأدب العربي

تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.

832 629

تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.

وُلدت كلثوم عودة في نيسان من العام 1892 في مدينة الناصرة، لتأتي إلى عالم يقدّر الذكور أكثر من الإناث. ولدت في زمن كانت فيه التوقعات المجتمعية تحدّ من فرص الفتيات، وكان ذلك واضحاً في رَدِّ فعل والدتها تجاهها.

كانت عودة الابنة الخامسة لوالدين كانا ينتظران ولادة الصبي الأول، ولم يُستقبل وصولها بالترحاب. وبما أنها لم تكن تمتلك جمالًا يشفع لها، فقد نشأت وهي تعاني من قسوة والدتها وتعليقاتها الساخرة. لم تجد كلثوم مخرجًا سوى التفوق في دراستها، رغم معارضة والدتها الشديدة. مع ذلك، وجدت كلثوم العزاء والتشجيع في دعم والدها الذي رغِب في تعليمها.

بدأت الطالبة كلثوم رحلتها الأكاديمية في الكلية الروسية للمعلمين في بيت جالا، حيث نما شغفها باللغة العربية والأدب، اذ تَتَلمَذَت على يَد المُعلم الكبير خليل سكاكيني.

من الناصرة إلى روسيا: رحلة العلم والإصرار

كان حلم كلثوم منذ الطفولة أن تكون معلمة وأن تستقل بذاتها دون الحاجة للعيش كـ “خادمة عند زوجة أخي المستقبلية”، كما اعتادت والدتها أن تردد. لقد عملت بجد لتحقيق هذا الحلم، متغلبةً على كافة العقبات التي واجهتها، بما في ذلك معارضة والدتها الشديدة. بفضل إصرارها، أكملت تعليمها وبدأت العمل كمعلمة في الناصرة.

خلال سنوات عملها كمعلمة، كانت تدرك تمامًا أهمية التعليم والاستقلالية المادية التي تمنح الفتاة القدرة على اتخاذ قراراتها بنفسها. لكن كان الثمن النفسي كبيرًا؛ فقد عانت من الضغوط والتحديات، حيث كانت تعيش في العمارة الروسية مع رفيقة تمردت على التقاليد أيضاً، وكان على كلثوم أن تتحمل الكثير من الألم بسبب رفض أسرتها لمستقبلها. برغم هذه الصعوبات، وجدت عزاءها في حبها لعملها، فكانت تكرس وقتها وطاقتها لتعليم الطالبات، مما أسهم في بناء علاقات قوية ومحببة معهن.

فيما بعد، تزوجت كلثوم من الطبيب الروسي إيفان فاسيليف، الذي كان يشرف على صحة تلميذات المدرسة، ولعب الحب دورًا كبيرًا في جمعهما. على الرغم من رفض أهلها لهذا الزواج ومحاولتهم إبعادها عنه، تمكنت كلثوم من الزواج منه بدعم من قريب لها من الناصرة. انتقل الزوجان إلى روسيا في عام 1914، حيث واجها تحديات الحرب العالمية الأولى، مما دفع كلثوم للانضمام إلى الصليب الأحمر والعمل كممرضة في صربيا والجبل الأسود، ثم في أوكرانيا لمكافحة وباء التيفوئيد.

عندما توفي زوجها في عام 1917، لم تستسلم كلثوم، بل تبنت أسلوب حياة جديد. أقدمت على زراعة الأرض وعملت بجد رغم صعوبة الحياة، واستمرت في تعليم بناتها ورعايتهن. لم تكتفِ بذلك، بل واصلت مسيرتها الأكاديمية في روسيا، درست في كلية اللغات الشرقية، وعملت في القسم العربي بمعهد الفلسفة والفنون والتاريخ. وبعد تأسيس معهد الاستشراق في موسكو، انتقلت من لينينغراد إلى موسكو لمواصلة عملها. كما عملت في معهد العلاقات الدولية والمعهد الدبلوماسي العالي.

خلال الحقبة الستالينية في أواخر الثلاثينيات، تم اعتقالها ثلاث مرات، لكنها أُفرج عنها في المرة الأخيرة عام 1939 دون أن تُثبت أي تهم ضدها. سرعان ما نالت تقديراً واسعاً من قبل المثقفين السوفييت، وخاصة من الأوساط السياسية. ولذلك، عندما شن النازيون هجومهم على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، كانت ضمن أولئك الذين تم إجلاؤهم لحمايتهم.

أصبحت أول امرأة تشغل منصب “عضو في جمعية العلاقات الثقافية السوفييتية مع البلدان العربية”. كانت تؤمن بأن الأدب هو الطريق إلى القلوب الإنسانية، فبدأت بترجمة الأدب السوفييتي إلى العربية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم شرعت بترجمة الأدب العربي إلى الروسية، مساهمة بشكل كبير في بناء جسر حضاري بين روسيا والعالم العربي وتعريف الروس بالعرب.

في عيد ميلادها السبعين، مُنحت وسام الشرف، وتلقت وسام “الصداقة بين الشعوب”، وهو أعلى وسام يمنحه الاتحاد السوفييتي لشخصيات تكرس علاقات الصداقة بين الشعب السوفييتي والشعوب الأخرى. وبعد وفاتها، منحتها منظمة التحرير الفلسطينية “وسام القدس للثقافة والفنون والآداب” في يناير 1990، تقديراً لدورها الثقافي والسياسي في روسيا.

توفيت في 24 أبريل 1965، وحضر جنازتها عدد كبير من الأساتذة والعلماء والطلاب والفلاحين، إلى جانب وزراء ومسؤولين كانوا من طلابها، ودُفنت في مقبرة الأدباء والعلماء بالقرب من موسكو.

يُعَدّ إِرث كلثوم عودة شهادة على قوة الروح البشرية. قصتها هي قصة تجاوز المحن ودمج الحواجز الثقافية وتقديم إسهامات دائمة في العالم من خلال تجاربها وانتصاراتها.

الحِبر والحَميميّة: مُراسلات مي زيادَة وَجُبران خليل جبران

تقاسمت مي زيادة وجبران خليل جبران رابطة فكرية غير عادية في عالم الأدب العربي؛ إذ شكّلا علاقة عميقة تجاوزت الزمان والمكان من خلال مراسلاتهم الموثقة في "الشعلة الزرقاء"

715 537

مي زيادة وجبران خليل جبران وكتاب الشعلة الزرقاء

“أُفكرُ فيكِ يا ماري كلَّ يومٍ وكل ليلة، أفكرُ فيكِ دائماً وفي كل فكر شيءٌ منَ اللّذة وشيء من الألم. والغريبُ أّنَّني ما فَكرتُ فيكِ يا مَريم إلّا وَقُلتُ لكِ في سرّي ” تعالي واسكبي جَميعَ هُمومِكِ هُنا، هُنا على صَدري”، “تقولين لي أنّكِ تَخافينَ الحُب. لماذا تَخافينه يا صَغيرتي؟ أتخافينَ نورَ الشّمس؟ أتخافين مدَّ البحر؟ أتخافينَ طُلوعَ الفَجر؟ أتخافينَ مَجيء الرَّبيع؟ لما يا تُرى تَخافينَ الحُب؟”.

Alittihad20000124 01.1.14 1312 380 1129 316 565w

الاتحاد، 24 كانون الثاني 2000

قَد يَصل لقارئِ الكلماتِ هذهِ شعورٌ بالارتباكِ حولَ طبيعةِ العلاقةِ بين المُرسِل والمُرسَل إليها، وربما أصابت هذه المشاعر بالضبط جوهَرَ طَبيعةِ العلاقةِ التّي خُلِقَت بينَ الأديبيْن مي زيادة وجبران خليل جبران. تلك العلاقة التي كَلّفت ميّ صحتها النفسية وأودت بها، بحسب الروايات السائدة، الى مشفى للأمراض النفسية وثم الإعياءُ الجسديَ الذي أودى بحياتها في نهايةِ المَطاف.

يُمكن اعتبار العلاقة بين مي وجبران من أغرب الروابط العاطفية بين كاتبين، حيثُ اكتَنَفَها الغُموضُ وَتَخضَع لتأويلاتٍ مُختلفة. هل نَتحدثُ هُنا عن قِصةِ حُبٍ أم علاقةِ صداقةٍ أفلاطونيةٍ بحتة؟

بَدَأَت هذهِ القّصة الفريدة في عام 1920، عِندمَا تَلَقّت مَيّ نُسخةً من روايةِ “الأَجنحةِ المُتكسّرة” التي كتبها جبران. على الرغم من أنهما لم يلتقيا أبدًا في الواقع، فإن كلماتِ جُبران الجَذّابة وَقُدرتهِ على التعبيرِ عن الأفكارِ العميقةِ أَسَرَت قَلبَ مي بشكل لا يمكنُ وَصفه.

 نادراً ما كانَ في تاريخِ العلاقاتِ الطويلةِ مِثل هذه العلاقة العاطفية، التي يتم التعبير عنها فقط من خلال تبادل الرسائل لما يقرب من عقدين من الزمن، دونَ أن يحاول أي منهما التغلب على الحاجزِ الجُغرافيّ والاقتراب من الآخر، تلك الرسائل التي جُمعت ونشرت في كتاب “الشعلة الزرقاء”. ومع ذلك، فإن هذه الخصوصية بالتحّديد هي التّي جَذَبَت انتباهَ العَديدِ مَنَّ النُّقادِ والباحِثين، ممّا أّدّى إلى ظهورِ عشراتِ الكتب والأطروحات التي تتناول كل جانب من جوانب حياتهم بالتفصيل.

تُعتبرُ الرَسائِلُ المتبادلةُ بينَ الاثنيْن المرجع الأساسي لفِهمِ طَبيعةِ علاقَتِهِما، وَتَنقَسِمُ الرسائلُ إلى فئتين: فكرية وعاطفية. تتَميز الأولى بالجرأة النقدية والغنى الفكري، في حين تَتَراوح الأخيرة بينَ الاعترافات الخفية والتردد إلى التصريحات الصريحة بالحب. وبينما أَثنَت مي على رواية جبران في «الأجنحة المتكسرة»، أبدت تحفظها على موقفه السلبي من الزواج وتبريره للخيانة الزوجية حتى ولو كان الحُبُّ هو الدافع الوحيد. تنتقد مي “لهجة جبران المضطربة وأفكاره الصبيانية” في كتابه “دمعة وابتسامة”. لم يشعر جبران بالإهانة من هذا النقد بل تقبله بصدر رحب و بعقل فضولي حولَ هذه الناقدة الجريئة.

مي و جبران 4

من كتاب الشعلة الزرقاء، متوفر بالمكتبة الوطنية

ومَع الوَقت، توالَت المُرسلات بين مَي وجُبران، وازدادت وتيرتها ودرجة خصوصيتها، فيكادُ يَتراءى لقارئ “الشعلة الزرقاء” بأنه يقرأ مُذكرات جُبران اليومية لا مراسلاتٍ بين طرفين، ولا يساعدُ في دَحضِ هذا التّصور أَنَّ ما يَتَوَفَّر لَنا مِن مُراسلاتِ مي لا يُعدُّ على الأصابع. و هذا ما يجبُ أخذه بعين الاعتبار عند قراءة الكتاب أو محاولة فهم طبيعة علاقتهما.

مع ذلك، يمكننا رؤية تحت قشرة الخطاب الأدبي تيار خفي من الحميمية العاطفية، إذ اعترفت مي لجبران: “كُنت أجلس للكتابة إليك أنسى من وأين أنت، وكثيراً ما أَنسى حتّى أَنَّ هُناكَ رَجُلاً أُخاطبهُ فَأُكلمكَ كَما أُكلّمُ نَفسي وأحياناً كأنَّكَ رَفيقةُ لي في المدرسة”. وعلى الرغم من اعتراف جبران بمَوَدَّتِهِ وَشَوقِ مَي لِحُضوره، إلا أنَّ المسافة الجسدية بينهما شَكَّلَت عائقاً أمامَ اتّحادهما.

ربما، كما تَكَهَّن بَعضُ العُلماء، كانت استحالة حُبهما هيَ التّي صَبَغَتهُ بِشُعورٍ من العَظَمة الأسطورية – حب كان موجودًا في عالم الخيال، بمنأى عن بَلادَةِ الواقعِ وَلَرُبما أنَّ جُبران ومي لم يَكن لَديهما الرغبة الكاملة، دون وَعي، في اللقاء، مدركين أن مثل هذه القفزة من شأنها أن تُحول علاقتهما من عوالم الخيال السامية إلى مشهد الواقع الدنيوي، حيثُ تَسود الرّتابة وخيبة الأمل في كثير من الأحيان. كانتِ المَساحاتُ الشّاسعة من الأرض والبحر بمثابة شهود صامتين، حيث فرضت حاجزًا ماديًا يمنعهم من احتضانهم المباشر، تاركين مخيلتهم لتكون بمثابة مهندس لاتصالهم، والكلمات كأوعية لمودتهم، دون الحاجة لأكثر من ذلك.

في ذكرى وفاته: كيفَ أحيا جميل البحري زهور حيفا الثقافية؟

في مدينة حيفا الهادئة، حيث كان عدد سكانها لا يتجاوز 24 ألفًا، برز الشاب جميل البحري مؤسس أول مكتبة وطنية في قلب المدينة. لم يكن طموحه مجرد بيع الكتب، بل كان يسعى لإحياء ثقافة ونشر المعرفة لأجيال قادمة. بتأسيسه لمجلة و صحيفة و مطبعة الزهور لاحقاً، سعى جميل لتحويل حيفا من مكان هادئ إلى مركز نابض بالعلم والتعبير الثقافي.

832 629

“دائمًا اذكروا ولا تنسوا المكتبة الوطنية، جريدة الزهور ومطبعة الزهرة، هكذا يوصيكم الشهيد الجميل”. بهذا الكلمات اختتم الأستاذ حنا البحري الكتيب الخاص والمنشور تخليدًا لذكرى أخيه جميل البحري بعيد وفاته. لكن بعد ما يقارب 90 عامًا على غيابه، يبدو ظاهرًا للعيان بأن الكثيرين لم يسلطوا الضوء على إنجازات جميل البحري وإرثه الثقافي والأدبي الذي تركه لنا بعد حادث موته الغادر.

في مدينة حيفا الهادئة، حيث كان عدد سكانها لا يتجاوز 24 ألفًا، برز الشاب جميل البحري مؤسس أول مكتبة وطنية في قلب المدينة. لم يكن طموحه مجرد بيع الكتب، بل كان يسعى لإحياء ثقافة ونشر المعرفة لأجيال قادمة. بتأسيسه لمجلة وصحيفة ومطبعة الزهور لاحقاً، سعى جميل لتحويل حيفا من مكان هادئ إلى مركز نابض بالعلم والتعبير الثقافي.

نشأ جميل وهو يستمع إلى حكايات أجداده، عن الأراضي الشاسعة التي تمتد على سفوح جبل الكرمل، عن التجار والبحارة، وعن والده الذي كان يدير ممتلكات الكنيسة آنذاك. كانت هذه القصص تملأ جميل بإحساس بالهدف، لكن أحلامه امتدت أبعد من مِهَنِهم. سعى جميل نحوَ نوعٍ مختلفٍ من الغنى —كنز المعرفة والثقافة، الذي يمكن أن يرفع من شأن شعبه.

في طفولته، التحق جميل بمدرسة الروم الكاثوليك في البلدة القديمة بحيفا. هناك، تحت إشراف القساوسة الكاثوليك أتقن اللغة التركية، لغة الحكام العثمانيين، والفرنسية، لغة الشعراء والمفكرين. حتى عندما أصبحت الحياة حوله قاسية، مع القاء الحرب والفقر بظلالهما على حيفا، وَجد جميل الراحة في عالم الكتب والقصص، اذ كتب لمجلة “المسرّة” اللبنانيّة قصصاً نقلت القراء بعيدًا عن صراعاتهم اليومية.

لكن حلم جميل لم يتوقف عند الكلمات فقط. لم تكن حيفا تعرف مكتبة عامة من قبل، لكن جميل كان مصمماً على تغيير ذلك. في أيار من العام 1920، ومع تحول الحلم إلى واقع، تعاون مع أخيه حنّا، وسرعان ما وُلدت “المكتبة الوطنية”. لم تكن مكان للكتب العربية فقط، بل اختلطت لغات العربية والفرنسية والإنجليزية على الأرفف، حيث يمكن للطلاب والباحثين العثور على مصادر لتعليم أنفسهم والآخرين.

لم يتوقف شغف جميل بالثقافة والتعليم عند هذا الحد. اذ جمع مجموعة من الأفراد المتشابهين في التفكير، وأسسوا حلقة أدبية تُعرف بـ “حلقة الأدب”. كانت تهدف إلى رفع مستوى اللغة العربية، وتحفيز فن الخطابة، ومعالجة القضايا الاجتماعية لزمانهم. أصبحت هذه الاجتماعات ملاذًا للمثقفين في حيفا، مكانًا يمكنهم فيه مناقشة أفكارهم، والتحدث عن أحلامهم، والتفكير في مستقبل أفضل.

إحياء الزهور

في عام 1921، أطلق جميل البحري مجلة “زهرة الجميل”، التي أصبحت بسرعة منارة للتعبير الفكري والفني في حيفا. تميزت مجلة الزهرة بأنها تصدر حلقات روائية في كل عدد، وبدلاً من نشر الرواية كاملة، كان جميل يقسمها إلى حلقات وينشر جزءًا منها في كل عدد، وعند تجميع الحلقات يصبح لدى القارئ الرواية كاملة. كما تميزت المجلة بمعرض الأقلام الذي جمع فيه أهم إنجازات الأدباء والمثقفين في البلاد، إذ نشر فيها عدد من أعلام الثقافة والأدب والشعر مثل الأستاذ وديع بستاني وغيره، وهذا ما حدا بجميل البحري إلى تقسيم المجلة إلى قسمين؛ الأول رواية مستقلة، والثاني يضم كتابات وقصائد لأشهر الكتّاب والشعراء.

بحلول عام 1927، سعى البحري لتطوير المجلة، فغير اسمها إلى “الزهور” وأصبَحَت تُنشر أسبوعيًا. استمرت هذه النسخة الجديدة من المجلة في الازدهار، معبرة عن التزامه المستمر بالثراء الثقافي والفكري.

لكن حياة جميل، المليئة بالأهداف النبيلة، قُطعت بشكل مأساوي. في أيلول 1930، أثناء التحقيق في نزاع على أرضِ مقبرة، هاجمه رجلان، وقام أحدهما بضرب جميل بأداة حادة، مما أدى إلى وفاته. أحدَثَت وفاته صدمة في حيفا، مهددة بإشعال نزاع بين المجتمعات المسلمة والمسيحية في المدينة، واللتين تنازعتا على الأرض.

بعد حادثة موته، قام أخوه الأستاذ حنا البحري بإكمال مسيرته من خلال تشغيله لمجلة الزهرة لفترة من الزمن، ومن ثم توقفت المجلة عن الصدور. بعد نكبة عام 1948، تناثر إرث جميل البحري ولا يُعرف الكثير حوله. لكن، خلال عام النكبة تم جمع العديد من إرث المرحوم جميل البحري ووضعه في مخزن المكتبة الوطنية الإسرائيلية في الجامعة العبرية بالقدس، والذي لا يزال موجودًا حتى يومنا هذا.

من خلال تتبع مسيرة جميل بحري، نستطيع تتبع آثار ملامح الحركة الثقافية والأدبية في البلاد وفي حيفا عمومًا، وذلك من خلال تحليل جزء من إرث شخصية وطنية وثقافية، ظلّت هامشية في التأريخ وظلّت سيرتها غائبة على المستوى البحثي والمستوى الشعبي. والأهمية الأخرى لهذا البحث تأتي من وصيّة حنّا البحري الواردة أعلاه: “دائمًا اذكروا ولا تنسوا المكتبة الوطنية، جريدة الزهور ومطبعة الزهرة، هكذا يوصيكم الشهيد الجميل”، فيأتي هذا البحث تذكيرًا وتخليدًا لمحاولات فلسطينية رائدة في بناء واقع ثقافي ووطني قطعه مقتل البحري في البداية، ومن ثمّ النكبة فيما بعد.

علاوةً على ذلك، ومن خلال رصد وتحليل ما تمّ نشره في المجلة التي قام بتحريرها، نستطيع النظر عن قرب إلى طبيعة الإنتاج الثقافي والأدبي في فلسطين وتفاعل القرّاء معها، والطبقات التي عبّرت عنها، والتفاعل ما بين السياسي والثقافي في تلك الفترة. هناك أهمية تتعلّق بشخصية البحري نفسه: فهو شاب مثقّف صاحب وعي وفعل مرتبط بطموح إنساني ووطني، وذلك يتجلى من خلال تأسيس الرابطة الأدبية والصحف التي كان ينشر من خلالها وتأسيس المكتبة الوطنية والمشاركة في حركة الترجمة للأدب الروائي والقصصي.