تعتبر الصّحيفة السجّادية العمل الأوّل الّذي تناقل المسلمون فيه مجموعة من الأدعية الموثّقة لترديدها. وللصّحيفة السّجاديّة مكانة هامة عند الشّيعة، وتعتبر الكتاب الثالث من حيث الأهميّة الروحانية بعد القرآن الكريم وكتاب “نهج البلاغة” المنسوب لعليّ بن أبي طالب، حتّى أن لها أسماء أخرى مثل: “أخت القرآن” و”إنجيل أهل البيت” وغيرها. في المكتبة الوطنية بعض المخطوطات الجميلة للصحيفة السجّادية، نستعرض في هذه المقالة أجملها، وهي مخطوطة مزوّقة تعود لإيران في أواخر القرن السّابع عشر للميلاد ومكتوبة بكلتا اللغتين العربيّة والفارسيّة.
المؤلّف
ولد عليّ بن الحسين الملقّب بزين العابدين في المدينة المنوّرة تقريبًا في العام 658 للميلاد. ترعرع في كنف عمّه وأبيه الحسن والحسين حفيديّ النّبي محمّد المحببان إليه. يُقال إنّ أمّه شهربانة ابنة آخر ملوك فارس الكسرى يزدجرد الثّاث، والّتي أحضرت إلى المدينة جارية إلى أن تزوّج منها الحسين بن عليّ، ولهذا كان من ألقاب زين العابدين أيضًأ “ابن الخيارتين”، أي ابن الأخيار من الناحيتين، أخيار قريش من ناحية العرب وأخيار الفرس من ناحية العجم.
كان زين العابدين صبيًا ضعيفًا حين وقعت حادثة كربلاء الشّهيرة في العام 680 للميلاد. حينها قُتل معظم رجال عائلته إلّا أن عمّته زينب حمته بنفسها، وتوسّلت للقائد الأمويّ عمر بن سعد أن يتركه ليعيش، وبعد سبيه مع النّساء إلى دمشق سُمح له بالعودة إلى المدينة حيث أمضى بقية حياته بالحزن على عائلته وبالتزهّد والعبادة ونقل الحديث، وعرف عنه الورع والانشغال بالصّلاة حتّى لُقّب بالسجّاد أي كثير السّجود، وزين العابدين أي أفضل العابدين.
رَفض زين العابدين الانخراط في أي شكل من أشكال المعارضة السّياسيّة للدولة الأموية، مما أضعف أحقّيته بالإمامة في نظر فئة صغيرة من الشيعة في ذلك الوقت، لا سيّما الفئة التي عُرفت بالـ “توّابين” الّذين ثاروا على الحكم الأموي بهدف الثأر لدم الحسين وإزاحة حكم الأمويين عن الكوفة.
أنجب زين العابدين خمسة عشر طفلًا، وعاش حياة روحانيّة في المدينة المنوّرة ترك خلالها الكثير من القصص التي تدل على الورع والحكمة. أحبّه الناس لجدّه الأكبر النّبي محمّد وأشفقوا عليه لرؤيته مذبحة عائلته، وتعتبر الصّحيفة السّجادّية، وهي مجموعة من الأدعية المنسوبة إليه، عملًا هامًا في العبادات والتّراث الشّيعي، وهي من أهمّ الكتب بعد القرآن ونهج البلاغة.
الصّحيفة الكاملة السّجاديّة
المقصود بالصّحيفة هو الكتاب، وتسمّى السّجاديّة نسبةً لصاحبها السجّاد زين العابدين، أي كتاب السجّاد، أما وصف “الكاملة” فمعناه التّامة والغير ناقصة وهو نوع من أنواع المديح، أي أنّها لا يمكن ان تبلغ من الكمال أكثر مما هي عليه.
تُعتبر الصّحيفة السجّادية نصوص شاعرية وروحانية وآية في التضرّع والتّواضع، وبكلمات ويليام تشيتيك، هي نموذج للرّوحانيّة الإسلاميّة المبكّرة والفريدة، والّتي تتمثّل بسعي المؤمن إلى الكمال من خلال علاقته مع الخالق.
تحتوي الصّحيفة الكاملة السجّادية على أدعية مقسّمة لأبواب، فهناك لكل حالة يمكن أن يعيشها الإنسان دعاء كان السجّاد يتضرّع به، وهي معدّة ومقسّمة لأبواب فيستخدمها القارئ كدليل للدّعاء، فإن كان مريضًا مثلًا، يذهب إلى باب الدّعاء عند المرض ويتلو ما جاء فيه بصوت عالٍ وورع، ومن هنا فإن للصحيفة مكانة قدسيّة في التراث الشيعي، إذ لم تتناقلها الأجيال لكي تعرف كيف كان يدعو السّجاد الله من باب المطالعة والاحتفاظ بالإرث فقط، إنّما استخدمت الصّحيفة للصلوات الشّخصيّة اللحوحة وفي الحياة اليوميّة وفي الأحداث الصّغيرة والكبيرة وعند الفرح وعند الحزن وعند المناجاة وعند الشّكر.
بحسب التّراث الشّيعي، كان زين العابدين يردّد هذه الأدعية وقام بتحفيظها لأولاده من بعده، ثمّ أصبحت معروفة وأخذ أهل الشّيعة يحفظونها ويعلّمونها أولادهم. وبحسب علماء الحديث فإن الصّحيفة متواترة بالفعل، وان نسبتها للإمام الرابع زين العابدين عليّ بن الحسين على الأغلب صحيحة. ولكن مع الوقت تمّ زيادة بعض الإضافات وهناك اختلاف على أصل بعض أجزائها، ولكن هناك اتّفاق عام على أن الجزء الأكبر والمركزي منها يعود لزين العابدين بالفعل.

ترجمها إلى الفارسيّة محتشم إصفهاني ونسخها عبدالله اليزدي، وأغلب الظّن أنّ الترجمة الفارسيّة كُتبت بخطّ يد محتشم في عام 1100 للهجرة 1688 للميلاد.
تتميّز هذه النّسخة بعدّة أمور، أولًا بجلدة فنيّة وملمّعة بالطّلاء صنعت لتلائم فحوى الصّحيفة ككتاب للدّعاء، مزيّنة بأشكال الزّهور المتداخلة وزواياها مرسومة بالأشكال الهندسيّة الجميلة، وفي مركزها طُبعت العبارة “قال رسول الله صلّى الله عليه وآله الدّعاء سلاح المؤمن وععمود الدّين ونور السموات والارضين”، وفي الجزء العلوي “يا مجيب الدعوات” وفي الأسفل “يا كافي المهمات”.
أمّا الصّفحة الأولى فتترأسها سرلوحة بديعة مذهّبة، ومزيّنة بأشكال الزّهور والنّباتات المتداخلة، وبها يلمع اللون الأزرق الفاخر المستخرج من حجر اللازورد. ويمتدّ رسم النباتات والزهور ليملأ كافة هامش الصفحة الأولى والثّانية. السّرلوحة أو السرلوح هي الزخارف التي تفتتح بها المخطوطات وهي تتشابه في هيكل المبنى. يعتبر عادة ان السّرلوحة مقتصرة على المصاحف إلا انها في الحقيقة منتشرة بكثرة في المخطوطات العثمانيّة والفارسيّة من غير المصاحف، ومخطوطة الصّحيفة الكاملة السّجاديّة التي نعرضها هنا خير مثال على ذلك، فهي ليست مصحف ولكن تمّ تزويقها وتذهيبها بسرلوحة للدلالة على تقديرها.
بعد الصّفحة الثّانية يستقرّ شكل الصّفحات من حيث التّزويق والعناية الخطّية ويبقى كما هو إلى آخرها; خطّ النّاسخ بالحبر الأسود وخطّ المترجم بالحبر الأحمر بين السّطور المرسومة بعناية، والهوامش مذهّبة بلطف ومعزّزة بالحبر الاحمر من الداخل وبالحبر الاسود من الخارج.

خارج الهوامش نجد ملاحظات عديدة، غالبًا بخط المترجم، باللغة الفارسية. ونلاحظ أيضًا استخدام أسلوب التكعيبة بترتيب الصّفحات، فتجدون أن الأحرف الّتي تبدأ بها الصّفحة على اليسار تكون مدوّنة أيضًا في أسفل الصّفحة اليمنى، وذلك لضمان عدم اختلاط الصّفحات عند تخييطها وتجليدها.

في آخر المخطوطة نجد قائمة بأسماء آل البيت وبها تواريخ ولادتهم والمدينة التي ولدوا فيها وتوفوا فيها ومعلومات أخرى حولهم.
تعبّر العناية الجماليّة لهذه المخطوطة على قيمتها التّراثيّة لدى الشّيعة، إذ تبدو لأوّل وهلة وكأنها نسخة من القرآن الكريم. في المكتبة الوطنيّة نماذج إضافيّة من مخطوطات للصحيفة الكاملة، يمكنكم تصفّحها هنا وملاحظة الفروق فيما بينها.