الطّريقة المولويّة: مبادؤها ومراكزها

بعض مظاهر الطّريقة المولويّة وقصّة الرقصة ومصدرها في التّصوّف الإسلامي. إليكم لمحة صغيرة حول الموضوع.

درويشان من دمشق بداية القرن العشرين، أرشيف بن تسفي.

درويشان من دمشق بداية القرن العشرين، أرشيف بن تسفي.

“إنّ قلبي مثل الفرجار، ساقٌ ثابتة في أرض الشّريعة، وساقٌ تدور على اثنين وسبعين ملّة”

في مقولة جلال الدّين الرّومي هذه تفسير للمبدأ المولويّ الذي ينصّ على التقبّل والتّسامح كقيمة أساس للطّريقة المولويّة. فلكيّ يكون طالب الطّريقة جاهز للترقي في الحبّ الإلهي عليه أن يبدأ بما حوله من ظواهر وموجودات وأحوال، وأن يتقبّلها جميعًا انطلاقًا من دورانه الدّاخلي وهو المركز والرّكينة الأساسيّة لهذا التّقبّل. وهكذا تكون بذرة التّوحيد الحقيقي جاهزة لأن تثمر وتنبت بحسب الرّومي. تنعكس هذه المقولة كذلك في رقصة الدّراويش الشّهيرة والتي يقال أنّ الرومي تعلّمها من شمس الدين التّبريزي، والّتي تمثّل كذلك دوران الأرض حول نفسها وحول الشّمس، وأيضًا طواف المسلمين حول الكعبة. فمن جلال الدّين الرّومي؟ وما رقصة الدّراويش وما الطّريقة المولويّة؟

اقرأ/ي أيضًا: جلال الدّين الرّومي

ولد جلال الدين الرّومي في بلخ (أفغانستان اليوم) عام 1207 ونشأ في مدينة قونية (تركيا اليوم) وأصبح من أشهر شيوخها بعد أن ورث مكانة أبيه كمعلّم وإمام. حدث تحوّل كبير في حياة الرومي بعد لقائه بالمتصوّف شمس الدين التّبريزي الّذي أصبح رفيق روحه وعلّمه الكثير عن التّصوف وعن حالة الحبّ الإلهي. عشق الرومي هذا الطّريق وانغمس فيه، وبعد اختفاء رفيق روحه من حياته دخل في عزلة عن النّاس لمدّة طويلة، وعاد بعدها إلى التّدريس والتّربية والوعظ بإصرار من ابنه وتلاميذه الّذين افتقدوه. لكنّ وعظه هذه المرّة كان قد اختلف تمامًا عمّا ذي قبل.

اقرأ/ي أيضًا: مخطوطات رقمية من تاريخ الصوفية في العالم الإسلامي

في ديوانه “ديوان شمس الدّين التّبريزي” وصف حبّه وفقده العميق لرفيقه شمس الدّين، وأسسّ الرومي في ديوانه الكبير “مثنوي معنوي” رؤية كونيّة، ووضع تجربته الرّوحية في كلمات وأبيات ألهمت متّبعيه وتأسست بها عادات وتقاليد وتراث صوفي حمله من أطلقوا على أنفسهم اسم “المولويين” نسبةً إلى اللقب الذي اكتسبه الرومي “مولانا”، أو كما باتوا يُعرفون في بلاد الشّام “المَلَويين”.

من مخطوطة "مثنوي معنوي"، 1618، مجموعة يهودا، مجموعة المكتبة الوطنيّة.
من مخطوطة “مثنوي معنوي”، 1618، مجموعة يهودا، مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

المولويّة هي طريقة من طُرق الصّوفيّة أسسّها تابعو جلال الدّين الرّومي لاسيّما ابنه سلطان ولد بعد وفاته مباشرة. إذ بادروا دون توصية منه إلى تثبيت بعض الأسس والممارسات لتتناقل عبر الأجيال وتحفظ إرث ما تعلّموه من جلال الدّين الرّومي وأطلقوا على طريقتهم هذه اسم “المولويّة”، أي طريقة مولانا وهو اللّقب الّذي منحوه لمعلّمهم جلال الدّين الرّومي.

تعتمد الطّريقة المولويّة على بعض الشّعائر الرّوحانيّة الّتي يمارسونها بالإضافة إلى شعائر الصّلاة والصّيام الإسلاميّة. من هذه الممارسات الذّكر والإنشاد، والّذي اتّخذ طريقه إلى خارج التّكايا والزّوايا ليصبح تراث فنّي إسلامي غير محصور على المتصوّفة في بلاد الشّام ومصر. بالإضافة إلى الرّقصة الشّهيرة “رقصة الدّوران”، يرتدي الدّراويش في رقصات الذّكر والإنشاد رداء خاصّ يحمل دلالات عديدة، ويشير الى التّواضع في الدّنيا.

من التّفسيرات الّتي أطلقت على طقوس الذّكر ورقصة الدّراويش هي أنّها تحاكي حركة الوجود، دوران الأرض حول نفسها وحول الشّمس، دوران المسلمين حول الكعبة، ودوران كل شيء في الوجود كحركة تلقائيّة محتّمة ترتكز عليها الحياة بأكملها. يرتدي هؤلاء “السكة” أو غطاء الرأس الطويل المصنوع من مادّة خشنة إشارة إلى صعوبة الحياة، بالإضافة إلى الرّداء الأبيض الّذي يرمز للكفن، وعباءة سوداء ترمز للموت والتّزهّد.

درويشان من دمشق بداية القرن العشرين، أرشيف بن تسفي.
درويشان من دمشق بداية القرن العشرين، أرشيف بن تسفي.

تُمارس طقوس الذّكر والرّقص المحدّدة بدقّة في قاعات خاصّة بها في الزّوايا والتّكايا المولوليّة حول العالم، وقد انتشرت الطّريقة بشكلٍ واسع في العهد العثمانيّ. ووصلت إلى بلاد الشّام ومصر والمغرب ومدنها الكبيرة حيث انتشرت التّكايا المولويّة لتعلّم القرآن الكريم وتقيم الذّكر وتمنح حياة التّقشّف لتابعيها ولطالبي الطّريقة، وفي مدينة القدس يوجد المسجد المولوي أو التّكيّة المولويّة دخل أسوار البلدة القديمة. وفي العقود الأخيرة، وجدت الطّريقة سبيلها إلى أوروبا كذلك وشهدت اهتمام غربي ملحوظ بالتّصوف الإسلامي وخاصّة بإرث جلال الدّيني الرّومي الّذي اتّسم بالإنسانيّة والكونيّة.

للمزيد حول الشخصيات الإسلامية في مجموعات المكتبة الوطنية

وصف لنعل النّبي في المكتبة الوطنيّة

في المكتبة الوطنيّة، واحدة من المخطوطات النصغيرة والنادرة الّتي نقلت رسمًا عن أثر للنبي محمد تبركّت به الناس لقرون. للمزيد، اقرأوا المقال.

منذ العصور الأولى للإسلام، ظهر الاهتمام بأثر النّبي ومقتنياته وأمتعته، من لباسه وأدواته وبردته وحذائه إلخ. وكثرت الأدبيّات الّتي تحدّثت عن تلك الممتلكات الّتي انتقلت بحسب الرّواية الإسلاميّة بين أصقاع العالم الإسلاميّ، وأشهرها اليوم تلك المعروضة في متحف توبكابي في إسطنبول. كما نجد في البلاد مثلًا شعرة يظّن أنّها من شعر الرّسول محفوظة في مسجد الجزّار في عكّا.

بغضّ النّظر إن كانت هذه الأغراض تعود للنّبي الكريم بالفعل أم لا، فإنّ هذه الظّاهرة مثيرة للاهتمام، فالعديد من دور الإفتاء أصدرت فتاوى شروع التّبرّك بمآثر النّبي محمّد سواء بالتّقبيل أو الّلمس وعلى ما يبدو فإنّ هذه العادة تبدو قديمة بالفعل ومقبولة، بل وتحمل شيء من القداسة إلى حدّ بعيد. إذ نجد أنّ العديد من الأدبيّات عُنيت بجمع الرّوايات الّتي تصفّ مآثر النّبيّ المادّية، كشكله ولباسه، سيفه وخاتمه ومكحلته وأدواته من كتب السّيرة الّتي أتت على ذكرها ك “الشّمائل النّبويّة” للتّرمذي و”صفة النّبيّ” للأسدي وتلك الأحاديث النبوية الّتي وردت في الصّحاح. بل إنّ بعض المؤلّفات وُضعت بالكامل لوصف شيء واحد اعتقد أنّه يعود للنّبي.

نجد في المكتبة الوطنيّة واحد من هذه المؤلّفات: مخطوطة صغيرة ومزوّقة كُتبت في المدينة المنوّرة عام  1628 تحت عنوان “صفة تمثال نعل النّبي صلّى الّله عليه وسلّم لمحمّد بن أبي بكر الفارقي القادري” تصف إحدى نعال النّبي بجمع الأحاديث المتعلّقة بها بالإضافة إلى الحديث عن فضلها وتقدّم رسمًا ملوّنًا منقولًا عن رسومات سابقة وتنقل لنا بعض أبيات الشّعر المأثورة في نعل النّبي.

بإمكاننا من خلال تتبّع هذه المخطوطة أن نفهم كيف تناقلت هذه الصّورة عن نعل النبيّ وكيف تتناقل الرّوايات عمومًا؟ وما كانت طبيعة الاهتمام بهذه المقتنيات حينها؟ فلنبدأ!

لعرض المخطوطة

تبدأ الصّفحة الأولى بالتّعريف بالرّاوي القادري ونسبه، ثمّ شيخه الّذي قام بجمع هذه الأحاديث والأدبيّات وهو الحافظ ابن عساكر واضع مؤلّف في فضل النّعال النّبويّة والّذي يبدأ الإسناد منه وصولًا إلى أنس بن مالك خادم النّبي. في متن الحديث يوصف نعل الرّسول بأنّه “ذو قبالان” ومعنى القبال هو الجزء الّذي يكون بين الأصابع ليزيد من ثبات القدم داخل الحذاء عند السّير.

ثمّ يعدّد لنا الرّاوي كلّ من انتقل الحذاء إليهم بدءًا من بيت عائشة بنت أبو بكر زوجة الرّسول وكيف انتقل تمثاله أو وصفه (أي رسمه) من رواية إلى رواية. ثمّ يذهب للحديث عن فضل التّبرّك بنعل النّبي وشفاء البعض من أوجاعهم به وبعض ما ورد فيه من الشّعر. ثمّ ينتقل للحديث عن فضل الرّسم نفسه ويبشّر من يمتلك رسمًا للنّعل برؤية النّبي في المنام وفي خيرات كثيرة، بل يجيز التّوجه للّنبي بطلب ما من خلال التّبرّك بصورة النّعل، أي أنّ فعل التّبرّك هنا ليس بالنّعل نفسه بل بصورته أيضًا!

 

رسم نعل النّبي في المخطوط

فيقول “ما كان في دارٍ فحُرقت، ولا في سفينة فغرقت، ولا في قافلة فنُهبت، ولا في متاعٍ فسُرق ولا توسّل بصاحبها عليه الصّلاة والسّلام في حاجة إلّا قضيت ولا في ضيقٍ إلّا فرج ومن لازم على حملها كان له القبول التّام من الخلق ولا بدّ أن يرى يزور النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو يراه في منامه ومن رآه في منامه رآه حقًا”

ثمّ يورد في الصّفحة الأخيرة قبل عرض الرّسم الأبيات التّالية:

يا طالبًا تمثال نعل نبيّه  ها قد وجدت إلى اللّقاء سبيلا

فاجعله فوق الرّاس واخضع واعتقد  وتغال فيه وأوله التّقبيلا

من يدّعي الحبّ الصّحيح فإنّه  يبدي على ما يدّعيه دليلا

ينتهي هذا الجزء من المخطوط ليبدأ جزءًا ثانيًا يبدو كأنه نسخة ثانية عن الأوّل إلّا أنه ببساطة يضع رواية أخرى عن “أبي الخير محمّد بن محمّد الجزري”، هذه الرّواية لا تختلف عن الرّواية السّابقة لها إلّا أنّ الرّسم يبدو مختلفًا بعض الشّيء.

الرّسم الثّاني بحسب رواية الجزري

 

يعطينا هذا المخطوط مثالًا بسيطًا على اتّساع وظائف الكتب والمخطوطات في العصور الغابرة، ففي هذه الحالة نجد أنّ المخطوطة نفسها كانت تحمل طابع القداسة مع أنّها لا تحتوي على آيات قرآنيّة، بل فقط على رسم النّعل الّذي ربّما سافر وارتحل الكثيرون فقط لرؤيته والتّبرّك به، ولربّما هي صغيرة ولا تحتوي على أيّ وصف آخر لأحد مآثر النّبي لكي تُحمل في كلّ وقت لتوفّر الحفظ والحماية وتكون بركة دائمة لا تفارق حاملها.

 

ترتيل القرآن وتجويده – مواد تاريخيّة في المكتبة الوطنيّة

قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر. تعرّفوا إلى قصة المخطوطة في هذا المقال.

يا من يرومُ تلاوة القرآن    ويرودُ شأو أئمّة الإتقان

لا تحسب التّجويد مدًا مفرطًا    أو مدّ ما لا مدّ فيه لوان

أو أن تشدّد بعد مدّ همزة    أو أن تلوك الحرفَ كالسّكران

أو أن تفوه بهمزة متهوّعًا    فيفرّ سامعها من الغثيان

للحرف ميزانٌ فلا تك طاغيا   فيه ولا تكُ مُخسر الميزان

تفتتح هذه الأبيات قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر! والتّعليم بالشّعر طريقة معهودة في العلوم اللغويّة والدّينيّة باللّغة العربيّة فمنها ألفية ابن مالك الشّهيرة في علوم النّحو والصّرف والّتي تضمّ أكثر من ألف بيتٍ نظمها محمّد بن عبد الله الجياني في القرن الثّالث عشر للميلاد. والسّخاوي مقرئ مصريّ ومؤلّف في علم القراءات والتّجويد، تتلمذ على يد الإمام الشّاطبي وحظي بشهرة واسعة في بلاد الشّام وموطنه مصر، وترك عن خبرته قصيدة بسيطة، صغيرة ومكثّفة، يدور بها على الحروف والمسائل الهامّة من أحكام التّجويد، وبحسب شارحها شمسُ الدّين فإنها : “جامعة لما يحتاج إليه المبتدي والمنتهي وتفسير الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها وبيان قويّها وضعيفها ومناسبة بعضها لبعض ومباينة بعضها لبعض معينة على تجويد الالفاظ وكيفيّة النّطق وإعطاء كلّ ملفوظ حقّه”.

شرح عمدة المفيد وعدّة المجيد في علم التّجويد، مجموعة مخطوطات المكتبة الوطنيّة
شرح عمدة المفيد وعدّة المجيد في علم التّجويد، مجموعة مخطوطات المكتبة الوطنيّة

 

لا شكّ أن لعلوم القرآن على اختلافها مكانة عالية لدى المسلمين، فالقرآن الّذي تجلّى باللغّة العربيّة لينافس الشّعر الّذي اشتهر به العرب يؤكّد بآيات عديدة على مكانة اللغة منه، وعلى مكانة جماليّة اللّغة وبيانها، كما أن النّبي أحبّ الشّعر كذلك ولم ينهى عنه، ولذلك نجد تراثًا شعريًا هائلًا في مدح الّنبي وفي علوم الدّين الإسلاميّ واللّغة العربيّة عمومًا. ومن علوم القرآن علم القراءات الّذي يفصل بين اللهجات السّبع المتواترة لقراءة القرآن الكريم، وهو علمٌ مختلف عن علم التّجويد الّذي يركّز على مخارج الحروف وتواليها في اللّفظ والتّلاوة المحكمة، فهو علمٌ تقنيّ مضبوط يندر الاختلاف فيه.

أمّا التّرتيل فيختلف عن التّجويد، والّذي يُقصد به هو السّرعة في التّلاوة وأداؤها من حيث الصّوت والنّبرة والنّغم لا قواعدها في القراءة. وتقسّم مراتب التّرتيل إلى ثلاثة : التّحقيق والحدر والتّدوير، والتّحقيق هو الاسترسال في التّلاوة والبطء في الأداء دون المسّ بقواعد التّجويد، والحدر هو التّلاوة السّريعة، والتّدوير هو التّلاوة المتوسّطة السّرعة بين التّحقيق والحدر، وفي جميع هذه المراتب تُحفظ أحكام التّجويد وحقوق الحروف ولفظها.

وعلى أن الأمر يبدو غاية في البساطة والوضوح إلى أنّ التنوّع الّتي أضفته ثقافات الشّعوب الإسلاميّة إلى عالم التّجويد مليئ بالمفاجآت الّتي تفوق المراتب الثّلاثة المتعارف عليها. فهناك المقامات الموسيقيّة العربيّة الّتي يشتهر مقرئي مصر تحديدا بها، كما هناك التلاوة الجماعيّة في بلاد المغرب العربيّ، علاوة عن الأساليب الفرديّة لكلّ مقرئ وقدرته على التّمثيل الصّوتي للمعنى، وهذه القدرة تُستلهم بلا شكّ من الثّقافة السّمعية والموسيقيّة في عصره وموطنه بالإضافة إلى إبداعه الخاص، ولذلك فإن أنواع التّرتيل لا يمكن عدّها بالفعل.

نترككم من تسجيلين نوعيين من الأرشيف الصّوتي للمكتبة الوطنيّة، في الأوّل ترتيل مشرقيّ بالمقامات العربيّة لآيات من سورة الكهف عام 1937 في القدس بصوت الشّيخ محمّد إسماعيل، والثّاني لتلاوة جماعيّة سريعة من المغرب تتلوها تلاوة فرديّة بسرعة متوسّطة. اضغطوا على الصور.

 

 

بمناسبة ذكرى المولد النبوي: بُردة البوصيري في المكتبة الوطنيّة

في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.

بردة البوصيري، 1361

في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.

تعدّ هذه المخطوطة فاخرة لتزويقها وخطّها على يد “العبد الفقير إلى رحمة الملك الهادي محمّد الفيروز ابادى” وتعود لعام 1361 م. وهي صغيرة الحجم تحمل بين طيّاتها تخميس لبردة البصيريّ الّتي أسماها صاحبها “الكواكب الدّرية في مدح خير البريّة”. والتّخميس في الشّعر معناه أن يقوم شاعر بأخذ بيت لشاعرٍ آخر، يبدأ بصدر البيت ويدفع عجزه إلى أبيات لاحقة يقوم بنظمها على وزن البيت الأوّل، أو يضيف أبياتًا موزونة بين البيت الأصلي والثّاني. فهو نوع من الاستلهام لنصّ شعريّ موجود ومعروف، فلا يكون سرقة أو تقليد، بل نوعٌ معروف من الإبداع الشّعري، ويسمّى بالتّخميس لأن فيه البيت الواحد يصبح خمسة أشطر. ولا عجب أن يجاري الكثيرون قصيدة البوصيريّ الّتي لاقت رواجًا واسعًا حتى يومنا هذا، وقد نظم الشّاعر أحمد شوقي قصيدته الشّهيرة في مدح الرّسول على نهجها أيضًا.

للاطلاع على بوابة المولد النبوي المعرفية الرقمية حيث المخطوطات والأخبار الصحفية القديمة وملصقات التهنئة.

وتخميس قصيدة البوصيري وخطّها من جديد في نسخة فاخرة كهذه بعد وفاته بقرابة مائة عام دليل على رواج بردته وحبّ النّاس لها. فإلى جانب الجمال الشّعري والبلاغي في قصيدة البوصيريّ، تحكي لنا المخطوطة في صفحاتها الأولى سبب نظمها وقصّتها، إذ كانت لهذه القصيدة مكانة خاصّة للبوصيريّ، أشفت مرضه وجادت عليه بالكرامات كما استخدمها آخرون لطلب الشّفاعة والاستشفاء من المرض، ممّا يفسّر سبب نسخ المخطوطة.

فتقول الصّفحة الأولى من المخطوطة عن الإمام البوصيري “كان سبب إنشاء هذه القصيدة المباركة أني كنت قد أصابني خلط فالج أبطل نصفي، ولم انتفع بنفسي، ففكرت أن أنظم قصيدة في مدح النّبي صلى الله عليه وسلّم وأستشفع به إلى الله تعالى. فأنتشأت هذه القصيدة المباركة ونمت فرأيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فمسح بيده الميمونة عليّ فعوفيت لوقتي، فخرجت من بيتي ذلك اليوم أوّل النّهار فلقيني بعض الفقراء فقال لي يا سيّدي أريد أن تعطيني القصيدة الّتي مدحت بها النّبي صلى الله عليه وسلم ولم أكن أعلمت بها أحدًا. فقلت وقد حصل عندي منه شيء وأي قصيدة تريد فإني مدحت النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقصايد كثيرة قال التّي أوّلها

أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم   مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ

والله لقد سمعتها البارحة وهي تُنشد بين يدي من صُنّفت فيه ورأيته صلّى الله عليه وهو يتمايل كالقضيب فأعطيته القصيدة، فذهب وذكر ما جرى بيني وبينه للنّاس فبلغت الصّاحب بهاء الدّين وزير الملك الظّاهر، فاستنسخ القصيدة ونذر ألّا يسمعها إلّا حافيًا مكشوف الرأس، وكان يحبّ سماعها ويتبرّك بها هو وأهل بيته ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم ولقد أصاب سعد الدين الفارقيّ موقع الصاحب بهاء الدّين المذكور رمدٌ (مرض في العينين) أشرف منه على العمى، فرأى في منامه قايلًا يقول: أمّا النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره يقول له امض الى الصّاحب بهاء الدين وخذ منه البردة واجعلها على عينيك تفق، قال: فنهض من ساعته وجاء إلى الصّاحب فقال له ما رأى في نومه، فقال الصّاحب: ما عندي شيء يقال له البردة، وإنّما عندي قصيدة مديح النّبي صلى الله عليه وسلّم انشاء البوصيريّ فنحن نستشفي بها ثمّ أخرجها له فوضعها على عينيه وقُرّبت وهو جالس فعوفي من الرّمد لوقته.

وهذه القصيدة بركاتها كثيرة فلتقرأ عند طلب الحاجات وتزول الملمّات. فإنها عظيمة البركات كثيرة الخيرات. نفع الله بها كاتبها وقاريها وسامعها آمين يا رب العالمين”

وفي تصميم المخطوطة وخطّها، يظهر الفارق بين أبيات البوصيريّ ووبين أشطر مخمّسها “عزّ الدّين أبي محمّد بن عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الديريني الدميري المتوفى سنة 697 هـ”. فكُتبت أبيات البوصيري بخطّ أكبر وعلى اتّساع الصفحة بين الهامشين المزخرفين، بينها أشطر التّخميس فكتبت بخطّ أصغر بين البيت والآخر، موزونة بنفس القافية ومتّسقة مع نفس موضوع البيت.

 

قصيدة البردة وتخميسها، 1361، مجموعة يهودا للمخطوطات، المكتبة الوطنية
قصيدة البردة وتخميسها، 1361، مجموعة يهودا للمخطوطات، المكتبة الوطنية