تُعتبر قصة تضحية إبراهيم من أهمّ القصص الإبراهيميّة الّتي تثير جدلًا واسعًا حول معنى الإيمان، كما أنّها بنفس الوقت موضع تباين بين الأديان الإبراهيميّة الثّلاثة، والّتي بحسب تقاليد كلّ منها تختلف في تفاصيلها أو في تأويلها. فيبقى مغزاها واحد أو شبيه في اليهوديّة والإسلام: الانصياع لرغبة الإله فيما سمّته اليهوديّة “بالامتحان” وسمّاه الإسلام “بالابتلاء”. أمّا في المسيحيّة، فذهب تأويل معنى القصّة إلى الرّبط بصلب السيد المسيح، واعتبارها عرضًا ممهّدًا لمشهد صلب السيد المسيح وتضحية الرّب. وبرغم احتفاء الأديان بهذه القصّة ودلالاتها الرّوحانيّة المختلفة إلّا أنّها تثير انتقاد من يعتبرونها الأساس النّصصي الأوّل لإسالة الدّماء في سبيل الإيمان. بمناسبة عيد الأضحى الّذي يتمحور مغزاه حول هذه القصّة، دعونا نتعرّف على تفاصيلها وعلى الخلاف حول هويّة الذّبيح بين اليهوديّة والإسلام.
اقرأ/ي أيضًا: عيد الأضحى: مخطوطات ومقتطفات من تاريخ العيد والحج وسكة الحجاز
بين العهد القديم والجديد والقرآن وآراء المفسّرين
إنّ الشّخصيّة الرئيسيّة في هذه القصّة هي شخصيّة “إبراهيم” الّذي كان قد بدأ مسيرة إيمانه قبل حدوثها بسنوات طوال، إلّا أنّه وبالرّغم من وصوله إلى الحقيقة الّتي كان يبحث عنها وهي الله، يجد أنّه أمام اختبار لإثبات ولائه التّام لهذه الحقيقة والتزامه لها. يحدّث الله إبراهيم، وفقًا للقصّة التّوراتيّة، ويأمره باتّخاذ ابنه الّذي يحبّه إلى الجبل وهناك يؤمر بذبحه، وطوال الرّحلة يحرص إبراهيم على عدم إخبار ابنه بما يجري، حتّى أنّ الولد يسأل أبيه: “أين الخَروف؟” دلالة على عدم معرفته بالأمر الإلهي الّذي يتضمّن ذبحه، إلّا أنّ الإبن في القرآن الكريم شريك في التّضحية منذ اللحظة الأولى، فالنّداء أتى لإبراهيم في المنام، وهو إذ يقول لابنه عن منامه ويسأله عن رأيه، يجيب الولد بالرّضا والموافقة. “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين”.(الصّافات، 102). أمّا في العهد الجديد، يُضاف أنّ إبراهيم رأى أنّ الله قادر على كلّ شيء، وإنّه قد يحيي ابنه ثانية بعد ذبحه.
من الشّائع أنّ الاختلاف الأساسي بين القصّة اليهوديّة ومثيلتها المسيحيّة وتلك الإسلاميّة هو هويّة الإبن الّذي اختار إبراهيم أن يضحّي به، والّذي بحسب الدّيانات الثّلاثة كان المحببّ إليه، ففي اليهوديّة، يرد اسم إسحق بوضوح في سرد القصّة في الإصحاح الثّاني والعشرين من سفر التّكوين “فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق و اذهب إلى ارض المريا..”. كما يشير إليه العهد الجديد بوضوح في نفس القصّة ويعطيه مكانة عالية عن مكانة إسماعيل عمومًا. بينما في سورة الصّافات، فيوصف الإبن كالتّالي، دون ذكر اسمه، “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ” (الصّافات، 101) وتكتمل بقيّة القصّة بالإشارة الى الإبن بضمير الغائب دون ذكر الإسم. ومع ذلك، فقد تطوّر توجّه تأريخيّ في تفسير القرآن يدّعي أنّ الإبن المقصود ذبحه في القصّة هو إسماعيل وليس إسحق.
كان المفسّرون الأوائل، يلجأون إلى المصادر اليهوديّة أو المسيحيّة لاستكمال التفاصيل الّتي لا يأتي القرآن على ذكرها في قصصه، وهي القصص الّتي ترد بغالبها في العهد القديم أيضًا. ولذلك نجد أن الطّبري( ت 923 م) اعتبر في تفسيره ذلك الغلام إسحق، كما ورد بوضوح في التوراة.
أمّا فيما بعد، تشكّلت وجهة نظر أخرى تشير إلى إسماعيل بدلًا عن إسحق. وذلك بالاعتماد على إشارة النّص إليه بالغلام الحليم، والصّبور، وصادق الوعد في مواضعٍ أخرى من القرآن، مثلًا (الأنبياء، 85). بالإضافة إلى ذلك، فإنّ قصّة تبشير إبراهيم بولادة إسماعيل (وهو الإبن الأكبر) سبقت قصّة الأضحية في القرآن، وهاتين القصّتين سبقتا قصّة تبشير إبراهيم بولده إسحق.
تكوّن هذا الادّعاء بقوّة على يد ابن تيميّة(ت 1328 م) وابن كثير (ت 1373 م)، والّذان اعتمدا في رأيهما على بعض الأحاديث، بالإضافة إلى نصوص توراتيّة ومحاججات لغويّة. ومع الوقت أصبح من المسلّم به لدى عموم المسلمين اعتبار قصّة أضحية إبراهيم خاصّة بولده إسماعيل، بالرغم من أنّ المسألة غير محسومة في القرآن، وهناك مؤرّخون مسلمون اعتقدوا أيضًا أنّ الإبن المذكور بالقصّة هو إسحق كما ورد في القصّة التّوراتيّة، ومن هؤلاء المؤرّخ الطّبري( ت 923 م)، والثّعلبي (ت 1035م)، وابن الجوزي(1201 م). بالإضافة إلى العلماء الّذين قاموا بنقل الرّوايتين دون ترجيح إحداهما على الأخرى.
من الخلافات الأخرى في التفسيرات الإسلاميّة حول القصّة هو مكان حدوثها. فيعتبر بعض المفسّرين أنّ مكان حدوثها في مكّة وتحديدًا فوق حجر الكعبة، وبعضٌ آخر يعتبرون مكان حدوثها في القدس وفوق قبّة الصّخرة تحديدًا، وهنا يتمّ ربط القصّة بقصّة الإسراء والمعراج.
الواقعة في الفنّ المسيحي والإسلامي واليهودي
إنّ أحد الاختلافات الهامّة بين القصّتين اليهوديّة والإسلاميّة هو إبلاغ إبراهيم لابنه عمّا يحدث كما ذكرنا سابقًا، والجميل أنّ هذا الاختلاف يظهر كذلك في الأعمال الفنّية الّتي تناولت القصّة في مختلف الثّقافات. ففي الفنّ الأوروبي المسيحي الّذي اعتمد بطبيعة الحال على القصّة التّوراتيّة، نجد أنّ إسحق يبدو مرغمًا، مما يضفي طابع القسوة أكثر على اللّوحات وعلى القصّة، ومن هذه اللّوحات لوحة الفنّان الإيطالي كارافيجيو الشّهيرة. وفيها يبدو إسحق صارخًا وخائفًا بينما يعزم أباه على ذبحه بالسّكين من الخلف، فيأتيه الملاك عن يمينه بهيئة إنسان ليشير إلى حمل يقف خلفه.
طبق منحوت من فضّة، يظهر إسماعيل مقيّد بطريقة مختلفة، قدميه ربطت إلى يديه وملقى على ظهره، يهمّ إبراهيم برفع السّكين ويظهر الملاك فوق الشّجرة والكبش على شمال الطّبق. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.
في الفنّ اليهودي، نجد أن القصّة متمثّلة بالرّسم على جدران بعض الكُنس القديمة، ومنحوتة على أدوات معدنيّة فاخرة، بينما في الفنّ الإسلاميّ، فإنّ تمثيل مشهد الأضحية محصور في المنمنمات، وتختلف المنمنمات عن بعضها البعضـ إلّا أنها جميعها تحتوي على الشّخصيّات الرّئيسيّة: إبراهيم، ابنه، الملاك والكبش، واللحظة التّي يمسك فيها إبراهيم بالسّكين وعلى وشك أن يقوم بتنفيذ المهمّة.
في مخطوطة محفوظة في مكتبة برلين لقصص الأنبياء لابن خزيمة، نرى نموذجًا جيّدًا لاختيارات الفنّ الإسلامي عمومًا في إظهار القصّة. إذ يظهر في المنمنمة النّبيان إبراهيم وابنه (في هذه الحالة إسماعيل) ورأسيهما محاطان بشعلة من النّار، وهي تقنيّة موازية لهالة النّور في الفنّ المسيحي للتعبير عن قداسة الشّخص. أمّا السّماء، فلونها ذهبيّ إشارة إلى القداسة أو اللحظة الّتي وقعت فيها معجزة، ويظهر الملاك على شكل إنسان مجنّح ويحمل كبشًا لينقذ الموقف.
نرى التأثير الآسيوي في المنمنمة باختيار ملامح آسيويّة للنبيّان وللملاك، كما أنّ الرّسم يُظهر إسماعيل معصوب العينين كما تشير بعض التّفسيرات الإسلاميّة.
إذا أتينا لتلخيص أوجه الشّبه والاختلاف بين نظرات الدّيانات الثّلاثة الّتي تظهر في فنونها أيضًا، اختلف الإسلام مع اليهوديّة والمسيحيّة في تفسيراته حول هويّة الإبن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه لشدة حبه له ليكون علامة على درجة إيمانه. إلّا أنه يتّفق مع اليهوديّة في التّفسير الأوسع لمغزى القصّة، وهو الاختبار أو الابتلاء. أمّا في المسيحيّة، فقد اتّخذت القصّة منحىى مختلفًا من التّفسير، ويرتبط جوهريًا بمسألة التّضحيّة والصّلب.