قصة الذبيح إسماعيل أم إسحق: أين الخلاف؟

عن قصّة إبراهيم الجدليّة في ذبح ابنه واختلافها في نصوص الدّيانات الإبراهيمية والفنّ، للمزيد تصفحوا هذا المقال.

فسيفساء من القرن السّادس في معبد بيت ألفا شمال البلاد، يظهر فيها إسحق مقيّد اليدين وخلفه موقد النّار المشتعل وأمامه إبراهيم يحمل السّكين ومن خلفه الملائكة مع الأضحية. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.

تقاليد وتفاصيل قصة الذبيح إسماعيل أو إسحق في الديانات الإبراهيمية وأوجه الاختلاف والشبه في التفسيرات والفن، للمزيد في المقال.

تُعتبر قصة تضحية إبراهيم من أهمّ القصص الإبراهيميّة الّتي تثير جدلًا واسعًا حول معنى الإيمان، كما أنّها بنفس الوقت موضع تباين بين الأديان الإبراهيميّة الثّلاثة، والّتي بحسب تقاليد كلّ منها تختلف في تفاصيلها أو في تأويلها. فيبقى مغزاها واحد أو شبيه في اليهوديّة والإسلام: الانصياع لرغبة الإله فيما سمّته اليهوديّة “بالامتحان” وسمّاه الإسلام “بالابتلاء”. أمّا في المسيحيّة، فذهب تأويل معنى القصّة إلى الرّبط بصلب السيد المسيح، واعتبارها عرضًا ممهّدًا لمشهد صلب السيد المسيح وتضحية الرّب. وبرغم احتفاء الأديان بهذه القصّة ودلالاتها الرّوحانيّة المختلفة إلّا أنّها تثير انتقاد من يعتبرونها الأساس النّصصي الأوّل لإسالة الدّماء في سبيل الإيمان. بمناسبة عيد الأضحى الّذي يتمحور مغزاه حول هذه القصّة، دعونا نتعرّف على تفاصيلها وعلى الخلاف حول هويّة الذّبيح بين اليهوديّة والإسلام.


اقرأ
/ي أيضًا: عيد الأضحى: مخطوطات ومقتطفات من تاريخ العيد والحج وسكة الحجاز


بين العهد القديم والجديد والقرآن وآراء المفسّرين

إنّ الشّخصيّة الرئيسيّة في هذه القصّة هي شخصيّة “إبراهيم” الّذي كان قد بدأ مسيرة إيمانه قبل حدوثها بسنوات طوال، إلّا أنّه وبالرّغم من وصوله إلى الحقيقة الّتي كان يبحث عنها وهي الله، يجد أنّه أمام اختبار لإثبات ولائه التّام لهذه الحقيقة والتزامه لها. يحدّث الله إبراهيم، وفقًا للقصّة التّوراتيّة، ويأمره باتّخاذ ابنه الّذي يحبّه إلى الجبل وهناك يؤمر بذبحه، وطوال الرّحلة يحرص إبراهيم على عدم إخبار ابنه بما يجري، حتّى أنّ الولد يسأل أبيه: “أين الخَروف؟” دلالة على عدم معرفته بالأمر الإلهي الّذي يتضمّن ذبحه، إلّا أنّ الإبن في القرآن الكريم شريك في التّضحية منذ اللحظة الأولى، فالنّداء أتى لإبراهيم في المنام، وهو إذ يقول لابنه عن منامه ويسأله عن رأيه، يجيب الولد بالرّضا والموافقة. “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين”.(الصّافات، 102). أمّا في العهد الجديد، يُضاف أنّ إبراهيم رأى أنّ الله قادر على كلّ شيء، وإنّه قد يحيي ابنه ثانية بعد ذبحه.

من الشّائع أنّ الاختلاف الأساسي بين القصّة اليهوديّة ومثيلتها المسيحيّة وتلك الإسلاميّة هو هويّة الإبن الّذي اختار إبراهيم أن يضحّي به، والّذي بحسب الدّيانات الثّلاثة كان المحببّ إليه، ففي اليهوديّة، يرد اسم إسحق بوضوح في سرد القصّة في الإصحاح الثّاني والعشرين من سفر التّكوين “فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق و اذهب إلى ارض المريا..”. كما يشير إليه العهد الجديد بوضوح في نفس القصّة ويعطيه مكانة عالية عن مكانة إسماعيل عمومًا.  بينما في سورة الصّافات، فيوصف الإبن كالتّالي، دون ذكر اسمه، “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ” (الصّافات، 101) وتكتمل بقيّة القصّة بالإشارة الى الإبن بضمير الغائب دون ذكر الإسم. ومع ذلك، فقد تطوّر توجّه تأريخيّ في تفسير القرآن يدّعي أنّ الإبن المقصود ذبحه في القصّة هو إسماعيل وليس إسحق.

كان المفسّرون الأوائل، يلجأون إلى المصادر اليهوديّة أو المسيحيّة لاستكمال التفاصيل الّتي لا يأتي القرآن على ذكرها في قصصه، وهي القصص الّتي ترد بغالبها في العهد القديم أيضًا. ولذلك نجد أن الطّبري( ت 923 م) اعتبر في تفسيره ذلك الغلام إسحق، كما ورد بوضوح في التوراة.

أمّا فيما بعد، تشكّلت وجهة نظر أخرى تشير إلى إسماعيل بدلًا عن إسحق. وذلك بالاعتماد على إشارة النّص إليه بالغلام الحليم، والصّبور، وصادق الوعد في مواضعٍ أخرى من القرآن، مثلًا (الأنبياء، 85). بالإضافة إلى ذلك، فإنّ قصّة تبشير إبراهيم بولادة إسماعيل (وهو الإبن الأكبر) سبقت قصّة الأضحية في القرآن، وهاتين القصّتين سبقتا قصّة تبشير إبراهيم بولده إسحق.

تكوّن هذا الادّعاء بقوّة على يد ابن تيميّة(ت 1328 م) وابن كثير (ت 1373 م)، والّذان اعتمدا في رأيهما على بعض الأحاديث، بالإضافة إلى نصوص توراتيّة ومحاججات لغويّة. ومع الوقت أصبح من المسلّم به لدى عموم المسلمين اعتبار قصّة أضحية إبراهيم خاصّة بولده إسماعيل، بالرغم من أنّ المسألة غير محسومة في القرآن، وهناك مؤرّخون مسلمون اعتقدوا أيضًا أنّ الإبن المذكور بالقصّة هو إسحق كما ورد في القصّة التّوراتيّة، ومن هؤلاء المؤرّخ الطّبري( ت 923 م)، والثّعلبي (ت 1035م)، وابن الجوزي(1201 م). بالإضافة إلى العلماء الّذين قاموا بنقل الرّوايتين دون ترجيح إحداهما على الأخرى.

من الخلافات الأخرى في التفسيرات الإسلاميّة حول القصّة هو مكان حدوثها. فيعتبر بعض المفسّرين أنّ مكان حدوثها في مكّة وتحديدًا فوق حجر الكعبة، وبعضٌ آخر يعتبرون مكان حدوثها في القدس وفوق قبّة الصّخرة تحديدًا، وهنا يتمّ ربط القصّة بقصّة الإسراء والمعراج.


الواقعة في الفنّ المسيحي والإسلامي واليهودي

إنّ أحد الاختلافات الهامّة بين القصّتين اليهوديّة والإسلاميّة هو إبلاغ إبراهيم لابنه عمّا يحدث كما ذكرنا سابقًا، والجميل أنّ هذا الاختلاف يظهر كذلك في الأعمال الفنّية الّتي تناولت القصّة في مختلف الثّقافات. ففي الفنّ الأوروبي المسيحي الّذي اعتمد بطبيعة الحال على القصّة التّوراتيّة، نجد أنّ إسحق يبدو مرغمًا، مما يضفي طابع القسوة أكثر على اللّوحات وعلى القصّة، ومن هذه اللّوحات لوحة الفنّان الإيطالي كارافيجيو الشّهيرة. وفيها يبدو إسحق صارخًا وخائفًا بينما يعزم أباه على ذبحه بالسّكين من الخلف، فيأتيه الملاك عن يمينه بهيئة إنسان ليشير إلى حمل يقف خلفه.

 

رسم لأضحية إسحق من مجموعة بيتمونا، يظهر فيها إسحق مقيّدًا ويتطلّع برأسه إلى أبيه الّذي لا يبادله النّظر بل ينظر بتأهب نحو السّماء حيث تظهر شخصيّة سماويّة.
رسم لأضحية إسحق من مجموعة بيتمونا، يظهر فيها إسحق مقيّدًا ويتطلّع برأسه إلى أبيه الّذي لا يبادله النّظر بل ينظر بتأهب نحو السّماء حيث تظهر شخصيّة سماويّة.

 

 

فسيفساء من القرن السّادس في معبد بيت ألفا شمال البلاد، يظهر فيها إسحق مقيّد اليدين وخلفه موقد النّار المشتعل وأمامه إبراهيم يحمل السّكين ومن خلفه الملائكة مع الأضحية. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.
فسيفساء من القرن السّادس في معبد بيت ألفا شمال البلاد، يظهر فيها إسحق مقيّد اليدين وخلفه موقد النّار المشتعل وأمامه إبراهيم يحمل السّكين ومن خلفه الملائكة مع الأضحية. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.

 

 

مقطع أيمن لطبق منحوت، يظهر إسحق مقيّد اليدين والقدمين وملقى على صخرة مرتفعة على ظهره، يمسك فيه إبراهيم من شعره ويرفع سكّينه، بينما يظهر في السّماء ملاك على هيئة إنسان ويظهر كبش في أيمن المنحوتة. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة
مقطع أيمن لطبق منحوت، يظهر إسحق مقيّد اليدين والقدمين وملقى على صخرة مرتفعة على ظهره، يمسك فيه إبراهيم من شعره ويرفع سكّينه، بينما يظهر في السّماء ملاك على هيئة إنسان ويظهر كبش في أيمن المنحوتة. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة

 

 

مقطع أيسر للطبق، يظهر إسحق مقيّد اليدين والقدمين وملقى على صخرة مرتفعة على ظهره، يمسك فيه إبراهيم من شعره ويرفع سكّينه، بينما يظهر في السّماء ملاك على هيئة إنسان ويظهر كبش في أيمن المنحوتة. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة
مقطع أيسر للطبق، يظهر إسحق مقيّد اليدين والقدمين وملقى على صخرة مرتفعة على ظهره، يمسك فيه إبراهيم من شعره ويرفع سكّينه، بينما يظهر في السّماء ملاك على هيئة إنسان ويظهر كبش في أيمن المنحوتة. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة

 

 

طبق منحوت من فضّة، يظهر إسماعيل مقيّد بطريقة مختلفة، قدميه ربطت إلى يديه وملقى على ظهره، يهمّ إبراهيم برفع السّكين ويظهر الملاك فوق الشّجرة والكبش على شمال الطّبق. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.
طبق منحوت من فضّة، يظهر إسماعيل مقيّد بطريقة مختلفة، قدميه ربطت إلى يديه وملقى على ظهره، يهمّ إبراهيم برفع السّكين ويظهر الملاك فوق الشّجرة والكبش على شمال الطّبق. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.

 

طبق منحوت من فضّة، يظهر إسماعيل مقيّد بطريقة مختلفة، قدميه ربطت إلى يديه وملقى على ظهره، يهمّ إبراهيم برفع السّكين ويظهر الملاك فوق الشّجرة والكبش على شمال الطّبق. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.

في الفنّ اليهودي، نجد أن القصّة متمثّلة بالرّسم على جدران بعض الكُنس القديمة، ومنحوتة على أدوات معدنيّة فاخرة، بينما في الفنّ الإسلاميّ، فإنّ تمثيل مشهد الأضحية محصور في المنمنمات، وتختلف المنمنمات عن بعضها البعضـ إلّا أنها جميعها تحتوي على الشّخصيّات الرّئيسيّة: إبراهيم، ابنه، الملاك والكبش، واللحظة التّي يمسك فيها إبراهيم بالسّكين وعلى وشك أن يقوم بتنفيذ المهمّة.

في مخطوطة محفوظة في مكتبة برلين لقصص الأنبياء لابن خزيمة، نرى نموذجًا جيّدًا لاختيارات الفنّ الإسلامي عمومًا في إظهار القصّة. إذ يظهر  في المنمنمة النّبيان إبراهيم وابنه (في هذه الحالة إسماعيل) ورأسيهما محاطان بشعلة من النّار، وهي تقنيّة موازية لهالة النّور في الفنّ المسيحي للتعبير عن قداسة الشّخص. أمّا السّماء، فلونها ذهبيّ إشارة إلى القداسة أو اللحظة الّتي وقعت فيها معجزة، ويظهر الملاك على شكل إنسان مجنّح ويحمل كبشًا لينقذ الموقف.

نرى التأثير الآسيوي في المنمنمة باختيار ملامح آسيويّة للنبيّان وللملاك، كما أنّ الرّسم يُظهر إسماعيل معصوب العينين كما تشير بعض التّفسيرات الإسلاميّة.

إذا أتينا لتلخيص أوجه الشّبه والاختلاف بين نظرات الدّيانات الثّلاثة الّتي تظهر في فنونها أيضًا، اختلف الإسلام مع اليهوديّة والمسيحيّة في تفسيراته حول هويّة الإبن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه لشدة حبه له ليكون علامة على درجة إيمانه. إلّا أنه يتّفق مع اليهوديّة في التّفسير الأوسع لمغزى القصّة، وهو الاختبار أو الابتلاء. أمّا في المسيحيّة، فقد اتّخذت القصّة منحىى مختلفًا من التّفسير، ويرتبط جوهريًا بمسألة التّضحيّة والصّلب.

ترتيل القرآن وتجويده – مواد تاريخيّة في المكتبة الوطنيّة

قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر. تعرّفوا إلى قصة المخطوطة في هذا المقال.

يا من يرومُ تلاوة القرآن    ويرودُ شأو أئمّة الإتقان

لا تحسب التّجويد مدًا مفرطًا    أو مدّ ما لا مدّ فيه لوان

أو أن تشدّد بعد مدّ همزة    أو أن تلوك الحرفَ كالسّكران

أو أن تفوه بهمزة متهوّعًا    فيفرّ سامعها من الغثيان

للحرف ميزانٌ فلا تك طاغيا   فيه ولا تكُ مُخسر الميزان

تفتتح هذه الأبيات قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر! والتّعليم بالشّعر طريقة معهودة في العلوم اللغويّة والدّينيّة باللّغة العربيّة فمنها ألفية ابن مالك الشّهيرة في علوم النّحو والصّرف والّتي تضمّ أكثر من ألف بيتٍ نظمها محمّد بن عبد الله الجياني في القرن الثّالث عشر للميلاد. والسّخاوي مقرئ مصريّ ومؤلّف في علم القراءات والتّجويد، تتلمذ على يد الإمام الشّاطبي وحظي بشهرة واسعة في بلاد الشّام وموطنه مصر، وترك عن خبرته قصيدة بسيطة، صغيرة ومكثّفة، يدور بها على الحروف والمسائل الهامّة من أحكام التّجويد، وبحسب شارحها شمسُ الدّين فإنها : “جامعة لما يحتاج إليه المبتدي والمنتهي وتفسير الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها وبيان قويّها وضعيفها ومناسبة بعضها لبعض ومباينة بعضها لبعض معينة على تجويد الالفاظ وكيفيّة النّطق وإعطاء كلّ ملفوظ حقّه”.

شرح عمدة المفيد وعدّة المجيد في علم التّجويد، مجموعة مخطوطات المكتبة الوطنيّة
شرح عمدة المفيد وعدّة المجيد في علم التّجويد، مجموعة مخطوطات المكتبة الوطنيّة

 

لا شكّ أن لعلوم القرآن على اختلافها مكانة عالية لدى المسلمين، فالقرآن الّذي تجلّى باللغّة العربيّة لينافس الشّعر الّذي اشتهر به العرب يؤكّد بآيات عديدة على مكانة اللغة منه، وعلى مكانة جماليّة اللّغة وبيانها، كما أن النّبي أحبّ الشّعر كذلك ولم ينهى عنه، ولذلك نجد تراثًا شعريًا هائلًا في مدح الّنبي وفي علوم الدّين الإسلاميّ واللّغة العربيّة عمومًا. ومن علوم القرآن علم القراءات الّذي يفصل بين اللهجات السّبع المتواترة لقراءة القرآن الكريم، وهو علمٌ مختلف عن علم التّجويد الّذي يركّز على مخارج الحروف وتواليها في اللّفظ والتّلاوة المحكمة، فهو علمٌ تقنيّ مضبوط يندر الاختلاف فيه.

أمّا التّرتيل فيختلف عن التّجويد، والّذي يُقصد به هو السّرعة في التّلاوة وأداؤها من حيث الصّوت والنّبرة والنّغم لا قواعدها في القراءة. وتقسّم مراتب التّرتيل إلى ثلاثة : التّحقيق والحدر والتّدوير، والتّحقيق هو الاسترسال في التّلاوة والبطء في الأداء دون المسّ بقواعد التّجويد، والحدر هو التّلاوة السّريعة، والتّدوير هو التّلاوة المتوسّطة السّرعة بين التّحقيق والحدر، وفي جميع هذه المراتب تُحفظ أحكام التّجويد وحقوق الحروف ولفظها.

وعلى أن الأمر يبدو غاية في البساطة والوضوح إلى أنّ التنوّع الّتي أضفته ثقافات الشّعوب الإسلاميّة إلى عالم التّجويد مليئ بالمفاجآت الّتي تفوق المراتب الثّلاثة المتعارف عليها. فهناك المقامات الموسيقيّة العربيّة الّتي يشتهر مقرئي مصر تحديدا بها، كما هناك التلاوة الجماعيّة في بلاد المغرب العربيّ، علاوة عن الأساليب الفرديّة لكلّ مقرئ وقدرته على التّمثيل الصّوتي للمعنى، وهذه القدرة تُستلهم بلا شكّ من الثّقافة السّمعية والموسيقيّة في عصره وموطنه بالإضافة إلى إبداعه الخاص، ولذلك فإن أنواع التّرتيل لا يمكن عدّها بالفعل.

نترككم من تسجيلين نوعيين من الأرشيف الصّوتي للمكتبة الوطنيّة، في الأوّل ترتيل مشرقيّ بالمقامات العربيّة لآيات من سورة الكهف عام 1937 في القدس بصوت الشّيخ محمّد إسماعيل، والثّاني لتلاوة جماعيّة سريعة من المغرب تتلوها تلاوة فرديّة بسرعة متوسّطة. اضغطوا على الصور.

 

 

بمناسبة ذكرى المولد النبوي: بُردة البوصيري في المكتبة الوطنيّة

في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.

بردة البوصيري، 1361

في ذكرى المولد النّبوي، نقدّم إليكم مخطوطة نفيسة لبردة البوصيريّ الشّهيرة في مدح النّبي محمد من مجموعة المخطوطات في المكتبة الوطنيّة.

تعدّ هذه المخطوطة فاخرة لتزويقها وخطّها على يد “العبد الفقير إلى رحمة الملك الهادي محمّد الفيروز ابادى” وتعود لعام 1361 م. وهي صغيرة الحجم تحمل بين طيّاتها تخميس لبردة البصيريّ الّتي أسماها صاحبها “الكواكب الدّرية في مدح خير البريّة”. والتّخميس في الشّعر معناه أن يقوم شاعر بأخذ بيت لشاعرٍ آخر، يبدأ بصدر البيت ويدفع عجزه إلى أبيات لاحقة يقوم بنظمها على وزن البيت الأوّل، أو يضيف أبياتًا موزونة بين البيت الأصلي والثّاني. فهو نوع من الاستلهام لنصّ شعريّ موجود ومعروف، فلا يكون سرقة أو تقليد، بل نوعٌ معروف من الإبداع الشّعري، ويسمّى بالتّخميس لأن فيه البيت الواحد يصبح خمسة أشطر. ولا عجب أن يجاري الكثيرون قصيدة البوصيريّ الّتي لاقت رواجًا واسعًا حتى يومنا هذا، وقد نظم الشّاعر أحمد شوقي قصيدته الشّهيرة في مدح الرّسول على نهجها أيضًا.

للاطلاع على بوابة المولد النبوي المعرفية الرقمية حيث المخطوطات والأخبار الصحفية القديمة وملصقات التهنئة.

وتخميس قصيدة البوصيري وخطّها من جديد في نسخة فاخرة كهذه بعد وفاته بقرابة مائة عام دليل على رواج بردته وحبّ النّاس لها. فإلى جانب الجمال الشّعري والبلاغي في قصيدة البوصيريّ، تحكي لنا المخطوطة في صفحاتها الأولى سبب نظمها وقصّتها، إذ كانت لهذه القصيدة مكانة خاصّة للبوصيريّ، أشفت مرضه وجادت عليه بالكرامات كما استخدمها آخرون لطلب الشّفاعة والاستشفاء من المرض، ممّا يفسّر سبب نسخ المخطوطة.

فتقول الصّفحة الأولى من المخطوطة عن الإمام البوصيري “كان سبب إنشاء هذه القصيدة المباركة أني كنت قد أصابني خلط فالج أبطل نصفي، ولم انتفع بنفسي، ففكرت أن أنظم قصيدة في مدح النّبي صلى الله عليه وسلّم وأستشفع به إلى الله تعالى. فأنتشأت هذه القصيدة المباركة ونمت فرأيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فمسح بيده الميمونة عليّ فعوفيت لوقتي، فخرجت من بيتي ذلك اليوم أوّل النّهار فلقيني بعض الفقراء فقال لي يا سيّدي أريد أن تعطيني القصيدة الّتي مدحت بها النّبي صلى الله عليه وسلم ولم أكن أعلمت بها أحدًا. فقلت وقد حصل عندي منه شيء وأي قصيدة تريد فإني مدحت النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقصايد كثيرة قال التّي أوّلها

أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم   مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ

والله لقد سمعتها البارحة وهي تُنشد بين يدي من صُنّفت فيه ورأيته صلّى الله عليه وهو يتمايل كالقضيب فأعطيته القصيدة، فذهب وذكر ما جرى بيني وبينه للنّاس فبلغت الصّاحب بهاء الدّين وزير الملك الظّاهر، فاستنسخ القصيدة ونذر ألّا يسمعها إلّا حافيًا مكشوف الرأس، وكان يحبّ سماعها ويتبرّك بها هو وأهل بيته ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم ولقد أصاب سعد الدين الفارقيّ موقع الصاحب بهاء الدّين المذكور رمدٌ (مرض في العينين) أشرف منه على العمى، فرأى في منامه قايلًا يقول: أمّا النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره يقول له امض الى الصّاحب بهاء الدين وخذ منه البردة واجعلها على عينيك تفق، قال: فنهض من ساعته وجاء إلى الصّاحب فقال له ما رأى في نومه، فقال الصّاحب: ما عندي شيء يقال له البردة، وإنّما عندي قصيدة مديح النّبي صلى الله عليه وسلّم انشاء البوصيريّ فنحن نستشفي بها ثمّ أخرجها له فوضعها على عينيه وقُرّبت وهو جالس فعوفي من الرّمد لوقته.

وهذه القصيدة بركاتها كثيرة فلتقرأ عند طلب الحاجات وتزول الملمّات. فإنها عظيمة البركات كثيرة الخيرات. نفع الله بها كاتبها وقاريها وسامعها آمين يا رب العالمين”

وفي تصميم المخطوطة وخطّها، يظهر الفارق بين أبيات البوصيريّ ووبين أشطر مخمّسها “عزّ الدّين أبي محمّد بن عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الديريني الدميري المتوفى سنة 697 هـ”. فكُتبت أبيات البوصيري بخطّ أكبر وعلى اتّساع الصفحة بين الهامشين المزخرفين، بينها أشطر التّخميس فكتبت بخطّ أصغر بين البيت والآخر، موزونة بنفس القافية ومتّسقة مع نفس موضوع البيت.

 

قصيدة البردة وتخميسها، 1361، مجموعة يهودا للمخطوطات، المكتبة الوطنية
قصيدة البردة وتخميسها، 1361، مجموعة يهودا للمخطوطات، المكتبة الوطنية

 

 

من مرسية إلى دمشق: رحلة ابن عربي

خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس”.

روح القدس في مناصحة النفس

لمفهوم السّفر مكانة خاصّة في التّصوّف الإسلامي. يترك الإنسان كل ما هو مألوف وثابت ويمضي بجسده إلى المجهول، ويرجو من خلال هذا التزهّد أن تتكشّف له الحقائق عن الوجود وعن الخلق وعن نفسِه وأن يرتقي بروحه مع الله. كما أنّه اتّباع حرفيّ للعديد من الآيات القرآنيّة الّتي تحثّ على “السير في الأرض” والتأمّل بها، حتّى أن بعض المتصوّفة اعتبروا في ذلك اقتداء لسنّة الرّسول في هجرته واستلهامًا لسنوات شبابه حين كان يسافر في تجارته ويتأمّل وحيدًا. وعبر القرون شاع وصف الكثيرين ممّن سلكوا هذا المسعى بالـ “دراويش”؛ والدرويش من يطوف ويعبر المدن والمجتمعات ولا يمكث بها، لكنّه يترك بها ذكرى تزهّده وبساطته في الحياة.

سيرة ابن عربي رغم تفرّد فلسفته وإرثه الأدبي ليست استثناء أيضًا. فقد أمضى ابن عربي سنوات نضوجه كلّها في السّفر والكتابة. من مرسية الأندلسيّة الّتي وُلد فيها عام 1165م، بدأ ابن عربي مسيرته حين كان يتجوّل بين المدن الأندلسيّة وعلمائها ومن ثم في شمال إفريقيا وفلسطين ومن هناك إلى مكّة والعراق والأناضول إلى أن استقرّ في دمشق الّتي أحبّها بشكلٍ خاص، وتوفّي فيها عام 1240م. وعلى امتداد رحلته هذه، أنتج مئات المؤلّفات الّتي نجي منها الكثير الى اليوم، ونستطيع من خلالها اليوم جمع مشاهد ومحطات في حياته لنتخيّل مسارها بين مرسية ودمشق.

لم تكن نشأة ابن عربي تتنبأ بأن يكون من شيوخ الصّوفيّة، فقد وُلد لعائلة ميسورة في مرسية في الأندلس، حيث كان والده من رجال بلاط الحاكم في مرسية حينها وبقي كذلك حتّى فرّ مع عائلته هربًا من حكم الموحّدين إلى إشبيلية. وخلال تلك السّنين، تلقّى ابن عربي الصّبي تعليمًا متنوّعًا في مختلف علوم الدّين الإسلاميّ ودرس كافّة توجّهات شيوخ الأندلس في حينها. إلّا أنه لم يكن ميالًا في بادئ الأمر للتصّوف والزّهد، بل كان يشغل نفسه بالآداب ورحلات الصّيد الّتي رافقه بها خدم أبيه، كما نال وظيفة كاتب في بلاط حاكم إشبيلية وتزوّج. إلا أنّه في تلك السّنوات كانت دائمًا ما تراوده رؤى وتظهر له إشارات عديدة تدعوه لشيء لم يفهمه، ممّا سبّب له أزمة روحيّة لم يدر كيف يتعامل معها. ويرجّح بعض الباحثين أن وفاة أبيه كانت عاملٌ رئيسيّ بحسم تلك الأزمة واتّجاهه نحو “طريق الكشف”.

كانت قرى الأندلس ومدنها “المسرح الأول لتجوال ابن عربي” بوصف أسين بلاثيوس، أحد المستشرقين الّذين كتبوا سيرة ابن عربي، ففي إشبيلية تعلّم مختلف العلوم والآداب وتزوّج واطّلع على الطّرق الصّوفية، ومنها بدأ تجواله في الأندلس بين القرى والمدن ليتعلّم ويعلّم ويناقش مّما أذاع سيطه في الأندلس. حتّى أنّ ابن عربي يذكر أنّه في إحدى زياراته إلى قرطبة وحين كان لا يزال في أول شبابه، التقى بابن رشد وقد كان قاضي المدينة حينها، وقد استقبله بلهفة لما سمعه عنه وسأله إذا ما كان طريق “الكشف” قد أفضى به إلى ما وصل إليه طريق “النظر” أي طريق ابن رشد في الفلسفة والمنطق.

في ذلك الوقت كان يعلم ابن عربي أنّه سلك طريق “الروح”، وكان يبلغ قرابة الحادية والعشرين عامًا كما أشار في مؤّلفه العظيم “الفتوحات المكّية” لاحقًا. وهذه المكانة والشّهرة وضعته ككلّ رجل علم ذو سيط في ذلك الزّمان أمام تحدّي التّعامل مع السّلطة الّتي لم يرغب بالتّقرب منها. كما أنّه كان دائم الشّعور بأن عليه الابتعاد والسّفر، وهو الأمر الذّي شجّعته عليه الرؤى التّي كانت تشجّعه ليزور مكّة، وتعده بأنّ رفيقًا ينتظره في فاس.

خلال تنقلاته، مكث في مكّة ثلاث سنوات وهناك وصلت حكمته ومعرفته الرّوحيّة لأوجها وباتت رؤاه أكثر وضوحًا، فشرع بتأليف الفتوحات المكّية الّذي استمرّ في كتابته سنين طوال، ودوّن فيه يومياته الرّوحيّة كلّها، بالإضافة إلى قصائد الحب في ديوانه “ترجمان الأشواق”.

خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس” وقد أرسلها أثناء مكوثه في مكّة إلى أبي محمّد بن أبي بكر القرشيّ في تونس والّذي وصفه بالصّديق.

"روح القدس في مناصحة النّفس"
“روح القدس في مناصحة النّفس”

 

إلّا أنّه لاقى كذلك العداوة في الطريق، فكان هنالك من كفّره أو أنكر طريقه واتّهمه بالفساد أو حتّى حرّض عليه، أما المكان الّذي وجد به السّكينة واستقرّ فيه فهي مدينة دمشق، حيث كانت حاضرة علميّة هامّة في حينها، كما أنه وجد بها الاحترام والظّروف المناسبة ليقضي سنواته الأخيرة ليختتم كتابه “الفتوحات المكّية” ويضع مئات المؤلّفات الإضافيّة كذلك.

توفّي ابن عربي عام 1240م في دمشق ودُفن في الصّالحيّة حيث مقامه ومسجده إلى اليوم. وقيل على لسانه في السّفر :”المؤمن في سفرٍ دائم، والوجود كلّه سفرٌ في سفر”.

للاطلاع على كامل أعمال ابن عربي، تصفحوا بوابة ابن عربي المعرفية على موقع المكتبة.