قرآن عربي، هوية فارسية

تكشف مخطوطة من المكتبة الوطنية عن الظهور الأول للفارسية الجديدة على الساحة التاريخية.

بقلم/ راحيل غولدبيرغ

لا توجد معلومات كثيرة حول أحمد حيقاني. ولد في القرن التاسع للميلاد، على ما يبدو في منطقة خراسان شرقيّ أيران، وكان مرجعًا للعديد من المفكّرين في فجر الإسلام. المؤكد هو أنّه كان يتمتع بمعرفة غنية باللغة العربية تمكّنه من تشكيل نصّ بتلك اللغة- وليس أي نصّ، إنّما القرآن الكريم ذاته.

على الرغم من قلة المعلومات بشأنه، يعتبر أحمد حيقاني شخصية مركزية في تاريخ إيران: ويقترن اسمه بالتغيير الجذري الذي طرأ على اللغة الفارسية في العصور الوسطى.

تبدأ قصتنا  بـ مخطوطة للقرآن الكريم  اقتناها هاوي الجمع الشهير أبراهام شالوم يهودا. كانت تلك المخطوطة التي شملت جزءًا من القرآن، سورة النحل ( حتى سورة الكهف (18)، منسوخة على جلد رقيق، مع زخرفة ذهبية اللون تشير إلى بداية الآية، ونقاط تشير إلى علامات تشكيل كل كلمة.  كانت تلك العلامات، بالإضافة إلى الخط العربي المربع، المعروف بـ “الخط الكوفي”، تدلّ على أنّ كتاب القرآن هذا قديم جدًا.

إلى أي فترة يعود؟ في نهاية كتاب القرآن، كُتبت ملاحظة بخط يد شخص قام بتنقيح التشكيل بخطٍ يدل على أنّ كتاب القرآن هذا نُسخ في عام 905. ما يميز هذه الملاحظة، وتُدعى حرد المتن، هو أنّها نصّ فارسي بأحرف عربية. كان ذلك أول ظهور معروف للفارسية الجديدة بخط عربي على الساحة التاريخية.

الصفحة الأولى من جزءٍ من كتاب القرآن وفيه الآية التي تطرقت إلى “رحلة الإسراء والمعراج” للنبي محمد عليه الصلاة والسلام

كُتب في تلك هذه الملاحظة:

این جزء سی پاره جمله درست بکرد بعجم ونقط وتشدید احمد خیقانی نصره الله فی الدین بمنه سنه اثنی وتسعین واثنی مایه

“أحمد حيقاني، حفظه الله في سعة رحمته وفضله، قام بتنقيح هذا الجزء من أصل 30 جزءًا (من القرآن الكريم) بواسطة إضافة شكلات وشدّات، في عام 292 للهجرة (905حسب التقويم الميلادي)”.

صورة لحرد المتن

ما يميّز الفارسية الجديدة هو حفاظها من ناحية على خصائص اللغة الفارسية الـوسطى، اللغة “البهلوية”، التي سبقت الفتوحات الإسلامية، ومن ناحية أخرى تحويل الخط الفارسي القديم لأحرف عربية ودخول مفردات جديدة للغة الفارسية. تشير هذه السيرورة إلى الهوية الفارسية المستقلة، المختلفة عن هوية العرب الذين أتوا إلى إيران في إطار الفتوحات الإسلامية في فجر الإسلام.

عندما تمدّد الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية في القرون الأولى لظهوره، التقى بحضارتين رئيسيتين في العصر القديم: فارس واليونان. كانت الحضارة اليونانية، البيزنطية لاحقًا، سائدة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت لغتها اليونانية والديانة السائدة فيها المسيحية. بالمقابل، كانت هناك الحضارة الفارسية السائدة في آسيا الوسطى الناطقة بالفارسية والديانة السائدة فيها الزرادشتية.

وفي حين أنّ اللغة اليونانية، التي كانت سائدة في حوض البحر الأبيض المتوسط، اندثرت تدريجيًا مع ترسيخ جذور الحكم العربي-الإسلامي في هذه المنطقة من العالم، اتخذ سكان الإمبراطورية الفارسية، القابعين تحت حكم عربي-إسلامي، مسارًا آخر. بدلًا من تبنّي العربية كلغة سائدة، قاموا بدمج الخط العربي وطوروا لغة جديدة: الفارسية الجديدة.

لم يكن التغيير فوريًا: بين القرنين السابع والعاشر، اندثرت الفارسية الوسطى وظهرت بشكلها الجديد، الفارسية الجديدة، في القرن العاشر. التغييرات التي طرأت على اللغة: ما أهمِل منها، ما استعير من العربية وما استمر من الفارسية الوسطى، موجودة في مخطوطات بالفارسية اليهودية تعود لتلك الفترة.  الفارسية اليهودية، أي الفارسية الجديدة المكتوبة بأحرف عبرية، مهمّة لتدارس تطور اللغة الفارسية الجديدة، لأنّ بعض النصوص بالفارسية-اليهودية حافظت على خصائص لغوية من الفارسية الوسطى.

مخطوطة لتفسير سفر اللاويين الإصحاح 11 من الجنيزا الأفغانية، مكتوبة بالفارسية اليهودية

الفصل بين الهوية الفارسية والعربية لا يعني رفض الإسلام أو اللغة العربية، باعتبارها لغة مهمة. في العصور الوسطى، اعتاد المفكرون الفُرس السفر للدراسة والتدريس في مراكز المعرفة في بلدان ناطقة بالعربية. اعتادوا أيضًا الكتابة بالعربية عن مواضيع عديدة ومتنوعة، ابتداءً من علوم الشريعة الإسلامية وحتى التاريخ والجغرافيا.

كتاب القرآن الذي عرضناه أمامكم في بداية المقالة هو نموذج للدمج بين الهوية الفارسية وقبول العربية كلغة مهمة. تم نسخ كتاب القرآن بالعربية، لأنّه لغة القرآن الأصلية.  حرد المتن، والذي يعبّر عن شخص ناسخ النص، أحمد حيقاني، يعكس هويته الفارسية.

الهوية الفارسية التي تبلورت إلى جانب العربية، وأحيانًا في ظلّها وحتى خلافًا لها، تعززت وأمست أكثر وضوحًا وحضورًا على مر السنين. ينعكس هذا التميز في العصر الحالي في هوية وطنية ودينية مختلفة عن هوية العالم العربي.

 

نتقدم بجزيل الشكر لد. أوفير حاييم على ترجمة حرد المتن

قصة الذبيح إسماعيل أم إسحق: أين الخلاف؟

عن قصّة إبراهيم الجدليّة في ذبح ابنه واختلافها في نصوص الدّيانات الإبراهيمية والفنّ، للمزيد تصفحوا هذا المقال.

فسيفساء من القرن السّادس في معبد بيت ألفا شمال البلاد، يظهر فيها إسحق مقيّد اليدين وخلفه موقد النّار المشتعل وأمامه إبراهيم يحمل السّكين ومن خلفه الملائكة مع الأضحية. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.

تقاليد وتفاصيل قصة الذبيح إسماعيل أو إسحق في الديانات الإبراهيمية وأوجه الاختلاف والشبه في التفسيرات والفن، للمزيد في المقال.

تُعتبر قصة تضحية إبراهيم من أهمّ القصص الإبراهيميّة الّتي تثير جدلًا واسعًا حول معنى الإيمان، كما أنّها بنفس الوقت موضع تباين بين الأديان الإبراهيميّة الثّلاثة، والّتي بحسب تقاليد كلّ منها تختلف في تفاصيلها أو في تأويلها. فيبقى مغزاها واحد أو شبيه في اليهوديّة والإسلام: الانصياع لرغبة الإله فيما سمّته اليهوديّة “بالامتحان” وسمّاه الإسلام “بالابتلاء”. أمّا في المسيحيّة، فذهب تأويل معنى القصّة إلى الرّبط بصلب السيد المسيح، واعتبارها عرضًا ممهّدًا لمشهد صلب السيد المسيح وتضحية الرّب. وبرغم احتفاء الأديان بهذه القصّة ودلالاتها الرّوحانيّة المختلفة إلّا أنّها تثير انتقاد من يعتبرونها الأساس النّصصي الأوّل لإسالة الدّماء في سبيل الإيمان. بمناسبة عيد الأضحى الّذي يتمحور مغزاه حول هذه القصّة، دعونا نتعرّف على تفاصيلها وعلى الخلاف حول هويّة الذّبيح بين اليهوديّة والإسلام.


اقرأ
/ي أيضًا: عيد الأضحى: مخطوطات ومقتطفات من تاريخ العيد والحج وسكة الحجاز


بين العهد القديم والجديد والقرآن وآراء المفسّرين

إنّ الشّخصيّة الرئيسيّة في هذه القصّة هي شخصيّة “إبراهيم” الّذي كان قد بدأ مسيرة إيمانه قبل حدوثها بسنوات طوال، إلّا أنّه وبالرّغم من وصوله إلى الحقيقة الّتي كان يبحث عنها وهي الله، يجد أنّه أمام اختبار لإثبات ولائه التّام لهذه الحقيقة والتزامه لها. يحدّث الله إبراهيم، وفقًا للقصّة التّوراتيّة، ويأمره باتّخاذ ابنه الّذي يحبّه إلى الجبل وهناك يؤمر بذبحه، وطوال الرّحلة يحرص إبراهيم على عدم إخبار ابنه بما يجري، حتّى أنّ الولد يسأل أبيه: “أين الخَروف؟” دلالة على عدم معرفته بالأمر الإلهي الّذي يتضمّن ذبحه، إلّا أنّ الإبن في القرآن الكريم شريك في التّضحية منذ اللحظة الأولى، فالنّداء أتى لإبراهيم في المنام، وهو إذ يقول لابنه عن منامه ويسأله عن رأيه، يجيب الولد بالرّضا والموافقة. “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين”.(الصّافات، 102). أمّا في العهد الجديد، يُضاف أنّ إبراهيم رأى أنّ الله قادر على كلّ شيء، وإنّه قد يحيي ابنه ثانية بعد ذبحه.

من الشّائع أنّ الاختلاف الأساسي بين القصّة اليهوديّة ومثيلتها المسيحيّة وتلك الإسلاميّة هو هويّة الإبن الّذي اختار إبراهيم أن يضحّي به، والّذي بحسب الدّيانات الثّلاثة كان المحببّ إليه، ففي اليهوديّة، يرد اسم إسحق بوضوح في سرد القصّة في الإصحاح الثّاني والعشرين من سفر التّكوين “فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق و اذهب إلى ارض المريا..”. كما يشير إليه العهد الجديد بوضوح في نفس القصّة ويعطيه مكانة عالية عن مكانة إسماعيل عمومًا.  بينما في سورة الصّافات، فيوصف الإبن كالتّالي، دون ذكر اسمه، “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ” (الصّافات، 101) وتكتمل بقيّة القصّة بالإشارة الى الإبن بضمير الغائب دون ذكر الإسم. ومع ذلك، فقد تطوّر توجّه تأريخيّ في تفسير القرآن يدّعي أنّ الإبن المقصود ذبحه في القصّة هو إسماعيل وليس إسحق.

كان المفسّرون الأوائل، يلجأون إلى المصادر اليهوديّة أو المسيحيّة لاستكمال التفاصيل الّتي لا يأتي القرآن على ذكرها في قصصه، وهي القصص الّتي ترد بغالبها في العهد القديم أيضًا. ولذلك نجد أن الطّبري( ت 923 م) اعتبر في تفسيره ذلك الغلام إسحق، كما ورد بوضوح في التوراة.

أمّا فيما بعد، تشكّلت وجهة نظر أخرى تشير إلى إسماعيل بدلًا عن إسحق. وذلك بالاعتماد على إشارة النّص إليه بالغلام الحليم، والصّبور، وصادق الوعد في مواضعٍ أخرى من القرآن، مثلًا (الأنبياء، 85). بالإضافة إلى ذلك، فإنّ قصّة تبشير إبراهيم بولادة إسماعيل (وهو الإبن الأكبر) سبقت قصّة الأضحية في القرآن، وهاتين القصّتين سبقتا قصّة تبشير إبراهيم بولده إسحق.

تكوّن هذا الادّعاء بقوّة على يد ابن تيميّة(ت 1328 م) وابن كثير (ت 1373 م)، والّذان اعتمدا في رأيهما على بعض الأحاديث، بالإضافة إلى نصوص توراتيّة ومحاججات لغويّة. ومع الوقت أصبح من المسلّم به لدى عموم المسلمين اعتبار قصّة أضحية إبراهيم خاصّة بولده إسماعيل، بالرغم من أنّ المسألة غير محسومة في القرآن، وهناك مؤرّخون مسلمون اعتقدوا أيضًا أنّ الإبن المذكور بالقصّة هو إسحق كما ورد في القصّة التّوراتيّة، ومن هؤلاء المؤرّخ الطّبري( ت 923 م)، والثّعلبي (ت 1035م)، وابن الجوزي(1201 م). بالإضافة إلى العلماء الّذين قاموا بنقل الرّوايتين دون ترجيح إحداهما على الأخرى.

من الخلافات الأخرى في التفسيرات الإسلاميّة حول القصّة هو مكان حدوثها. فيعتبر بعض المفسّرين أنّ مكان حدوثها في مكّة وتحديدًا فوق حجر الكعبة، وبعضٌ آخر يعتبرون مكان حدوثها في القدس وفوق قبّة الصّخرة تحديدًا، وهنا يتمّ ربط القصّة بقصّة الإسراء والمعراج.


الواقعة في الفنّ المسيحي والإسلامي واليهودي

إنّ أحد الاختلافات الهامّة بين القصّتين اليهوديّة والإسلاميّة هو إبلاغ إبراهيم لابنه عمّا يحدث كما ذكرنا سابقًا، والجميل أنّ هذا الاختلاف يظهر كذلك في الأعمال الفنّية الّتي تناولت القصّة في مختلف الثّقافات. ففي الفنّ الأوروبي المسيحي الّذي اعتمد بطبيعة الحال على القصّة التّوراتيّة، نجد أنّ إسحق يبدو مرغمًا، مما يضفي طابع القسوة أكثر على اللّوحات وعلى القصّة، ومن هذه اللّوحات لوحة الفنّان الإيطالي كارافيجيو الشّهيرة. وفيها يبدو إسحق صارخًا وخائفًا بينما يعزم أباه على ذبحه بالسّكين من الخلف، فيأتيه الملاك عن يمينه بهيئة إنسان ليشير إلى حمل يقف خلفه.

 

رسم لأضحية إسحق من مجموعة بيتمونا، يظهر فيها إسحق مقيّدًا ويتطلّع برأسه إلى أبيه الّذي لا يبادله النّظر بل ينظر بتأهب نحو السّماء حيث تظهر شخصيّة سماويّة.
رسم لأضحية إسحق من مجموعة بيتمونا، يظهر فيها إسحق مقيّدًا ويتطلّع برأسه إلى أبيه الّذي لا يبادله النّظر بل ينظر بتأهب نحو السّماء حيث تظهر شخصيّة سماويّة.

 

 

فسيفساء من القرن السّادس في معبد بيت ألفا شمال البلاد، يظهر فيها إسحق مقيّد اليدين وخلفه موقد النّار المشتعل وأمامه إبراهيم يحمل السّكين ومن خلفه الملائكة مع الأضحية. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.
فسيفساء من القرن السّادس في معبد بيت ألفا شمال البلاد، يظهر فيها إسحق مقيّد اليدين وخلفه موقد النّار المشتعل وأمامه إبراهيم يحمل السّكين ومن خلفه الملائكة مع الأضحية. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.

 

 

مقطع أيمن لطبق منحوت، يظهر إسحق مقيّد اليدين والقدمين وملقى على صخرة مرتفعة على ظهره، يمسك فيه إبراهيم من شعره ويرفع سكّينه، بينما يظهر في السّماء ملاك على هيئة إنسان ويظهر كبش في أيمن المنحوتة. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة
مقطع أيمن لطبق منحوت، يظهر إسحق مقيّد اليدين والقدمين وملقى على صخرة مرتفعة على ظهره، يمسك فيه إبراهيم من شعره ويرفع سكّينه، بينما يظهر في السّماء ملاك على هيئة إنسان ويظهر كبش في أيمن المنحوتة. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة

 

 

مقطع أيسر للطبق، يظهر إسحق مقيّد اليدين والقدمين وملقى على صخرة مرتفعة على ظهره، يمسك فيه إبراهيم من شعره ويرفع سكّينه، بينما يظهر في السّماء ملاك على هيئة إنسان ويظهر كبش في أيمن المنحوتة. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة
مقطع أيسر للطبق، يظهر إسحق مقيّد اليدين والقدمين وملقى على صخرة مرتفعة على ظهره، يمسك فيه إبراهيم من شعره ويرفع سكّينه، بينما يظهر في السّماء ملاك على هيئة إنسان ويظهر كبش في أيمن المنحوتة. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة

 

 

طبق منحوت من فضّة، يظهر إسماعيل مقيّد بطريقة مختلفة، قدميه ربطت إلى يديه وملقى على ظهره، يهمّ إبراهيم برفع السّكين ويظهر الملاك فوق الشّجرة والكبش على شمال الطّبق. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.
طبق منحوت من فضّة، يظهر إسماعيل مقيّد بطريقة مختلفة، قدميه ربطت إلى يديه وملقى على ظهره، يهمّ إبراهيم برفع السّكين ويظهر الملاك فوق الشّجرة والكبش على شمال الطّبق. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.

 

طبق منحوت من فضّة، يظهر إسماعيل مقيّد بطريقة مختلفة، قدميه ربطت إلى يديه وملقى على ظهره، يهمّ إبراهيم برفع السّكين ويظهر الملاك فوق الشّجرة والكبش على شمال الطّبق. مركز الفنّ اليهودي في الجامعة العبريّة.

في الفنّ اليهودي، نجد أن القصّة متمثّلة بالرّسم على جدران بعض الكُنس القديمة، ومنحوتة على أدوات معدنيّة فاخرة، بينما في الفنّ الإسلاميّ، فإنّ تمثيل مشهد الأضحية محصور في المنمنمات، وتختلف المنمنمات عن بعضها البعضـ إلّا أنها جميعها تحتوي على الشّخصيّات الرّئيسيّة: إبراهيم، ابنه، الملاك والكبش، واللحظة التّي يمسك فيها إبراهيم بالسّكين وعلى وشك أن يقوم بتنفيذ المهمّة.

في مخطوطة محفوظة في مكتبة برلين لقصص الأنبياء لابن خزيمة، نرى نموذجًا جيّدًا لاختيارات الفنّ الإسلامي عمومًا في إظهار القصّة. إذ يظهر  في المنمنمة النّبيان إبراهيم وابنه (في هذه الحالة إسماعيل) ورأسيهما محاطان بشعلة من النّار، وهي تقنيّة موازية لهالة النّور في الفنّ المسيحي للتعبير عن قداسة الشّخص. أمّا السّماء، فلونها ذهبيّ إشارة إلى القداسة أو اللحظة الّتي وقعت فيها معجزة، ويظهر الملاك على شكل إنسان مجنّح ويحمل كبشًا لينقذ الموقف.

نرى التأثير الآسيوي في المنمنمة باختيار ملامح آسيويّة للنبيّان وللملاك، كما أنّ الرّسم يُظهر إسماعيل معصوب العينين كما تشير بعض التّفسيرات الإسلاميّة.

إذا أتينا لتلخيص أوجه الشّبه والاختلاف بين نظرات الدّيانات الثّلاثة الّتي تظهر في فنونها أيضًا، اختلف الإسلام مع اليهوديّة والمسيحيّة في تفسيراته حول هويّة الإبن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه لشدة حبه له ليكون علامة على درجة إيمانه. إلّا أنه يتّفق مع اليهوديّة في التّفسير الأوسع لمغزى القصّة، وهو الاختبار أو الابتلاء. أمّا في المسيحيّة، فقد اتّخذت القصّة منحىى مختلفًا من التّفسير، ويرتبط جوهريًا بمسألة التّضحيّة والصّلب.

وصف لنعل النّبي في المكتبة الوطنيّة

في المكتبة الوطنيّة، واحدة من المخطوطات النصغيرة والنادرة الّتي نقلت رسمًا عن أثر للنبي محمد تبركّت به الناس لقرون. للمزيد، اقرأوا المقال.

منذ العصور الأولى للإسلام، ظهر الاهتمام بأثر النّبي ومقتنياته وأمتعته، من لباسه وأدواته وبردته وحذائه إلخ. وكثرت الأدبيّات الّتي تحدّثت عن تلك الممتلكات الّتي انتقلت بحسب الرّواية الإسلاميّة بين أصقاع العالم الإسلاميّ، وأشهرها اليوم تلك المعروضة في متحف توبكابي في إسطنبول. كما نجد في البلاد مثلًا شعرة يظّن أنّها من شعر الرّسول محفوظة في مسجد الجزّار في عكّا.

بغضّ النّظر إن كانت هذه الأغراض تعود للنّبي الكريم بالفعل أم لا، فإنّ هذه الظّاهرة مثيرة للاهتمام، فالعديد من دور الإفتاء أصدرت فتاوى شروع التّبرّك بمآثر النّبي محمّد سواء بالتّقبيل أو الّلمس وعلى ما يبدو فإنّ هذه العادة تبدو قديمة بالفعل ومقبولة، بل وتحمل شيء من القداسة إلى حدّ بعيد. إذ نجد أنّ العديد من الأدبيّات عُنيت بجمع الرّوايات الّتي تصفّ مآثر النّبيّ المادّية، كشكله ولباسه، سيفه وخاتمه ومكحلته وأدواته من كتب السّيرة الّتي أتت على ذكرها ك “الشّمائل النّبويّة” للتّرمذي و”صفة النّبيّ” للأسدي وتلك الأحاديث النبوية الّتي وردت في الصّحاح. بل إنّ بعض المؤلّفات وُضعت بالكامل لوصف شيء واحد اعتقد أنّه يعود للنّبي.

نجد في المكتبة الوطنيّة واحد من هذه المؤلّفات: مخطوطة صغيرة ومزوّقة كُتبت في المدينة المنوّرة عام  1628 تحت عنوان “صفة تمثال نعل النّبي صلّى الّله عليه وسلّم لمحمّد بن أبي بكر الفارقي القادري” تصف إحدى نعال النّبي بجمع الأحاديث المتعلّقة بها بالإضافة إلى الحديث عن فضلها وتقدّم رسمًا ملوّنًا منقولًا عن رسومات سابقة وتنقل لنا بعض أبيات الشّعر المأثورة في نعل النّبي.

بإمكاننا من خلال تتبّع هذه المخطوطة أن نفهم كيف تناقلت هذه الصّورة عن نعل النبيّ وكيف تتناقل الرّوايات عمومًا؟ وما كانت طبيعة الاهتمام بهذه المقتنيات حينها؟ فلنبدأ!

لعرض المخطوطة

تبدأ الصّفحة الأولى بالتّعريف بالرّاوي القادري ونسبه، ثمّ شيخه الّذي قام بجمع هذه الأحاديث والأدبيّات وهو الحافظ ابن عساكر واضع مؤلّف في فضل النّعال النّبويّة والّذي يبدأ الإسناد منه وصولًا إلى أنس بن مالك خادم النّبي. في متن الحديث يوصف نعل الرّسول بأنّه “ذو قبالان” ومعنى القبال هو الجزء الّذي يكون بين الأصابع ليزيد من ثبات القدم داخل الحذاء عند السّير.

ثمّ يعدّد لنا الرّاوي كلّ من انتقل الحذاء إليهم بدءًا من بيت عائشة بنت أبو بكر زوجة الرّسول وكيف انتقل تمثاله أو وصفه (أي رسمه) من رواية إلى رواية. ثمّ يذهب للحديث عن فضل التّبرّك بنعل النّبي وشفاء البعض من أوجاعهم به وبعض ما ورد فيه من الشّعر. ثمّ ينتقل للحديث عن فضل الرّسم نفسه ويبشّر من يمتلك رسمًا للنّعل برؤية النّبي في المنام وفي خيرات كثيرة، بل يجيز التّوجه للّنبي بطلب ما من خلال التّبرّك بصورة النّعل، أي أنّ فعل التّبرّك هنا ليس بالنّعل نفسه بل بصورته أيضًا!

 

رسم نعل النّبي في المخطوط

فيقول “ما كان في دارٍ فحُرقت، ولا في سفينة فغرقت، ولا في قافلة فنُهبت، ولا في متاعٍ فسُرق ولا توسّل بصاحبها عليه الصّلاة والسّلام في حاجة إلّا قضيت ولا في ضيقٍ إلّا فرج ومن لازم على حملها كان له القبول التّام من الخلق ولا بدّ أن يرى يزور النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو يراه في منامه ومن رآه في منامه رآه حقًا”

ثمّ يورد في الصّفحة الأخيرة قبل عرض الرّسم الأبيات التّالية:

يا طالبًا تمثال نعل نبيّه  ها قد وجدت إلى اللّقاء سبيلا

فاجعله فوق الرّاس واخضع واعتقد  وتغال فيه وأوله التّقبيلا

من يدّعي الحبّ الصّحيح فإنّه  يبدي على ما يدّعيه دليلا

ينتهي هذا الجزء من المخطوط ليبدأ جزءًا ثانيًا يبدو كأنه نسخة ثانية عن الأوّل إلّا أنه ببساطة يضع رواية أخرى عن “أبي الخير محمّد بن محمّد الجزري”، هذه الرّواية لا تختلف عن الرّواية السّابقة لها إلّا أنّ الرّسم يبدو مختلفًا بعض الشّيء.

الرّسم الثّاني بحسب رواية الجزري

 

يعطينا هذا المخطوط مثالًا بسيطًا على اتّساع وظائف الكتب والمخطوطات في العصور الغابرة، ففي هذه الحالة نجد أنّ المخطوطة نفسها كانت تحمل طابع القداسة مع أنّها لا تحتوي على آيات قرآنيّة، بل فقط على رسم النّعل الّذي ربّما سافر وارتحل الكثيرون فقط لرؤيته والتّبرّك به، ولربّما هي صغيرة ولا تحتوي على أيّ وصف آخر لأحد مآثر النّبي لكي تُحمل في كلّ وقت لتوفّر الحفظ والحماية وتكون بركة دائمة لا تفارق حاملها.

 

ترتيل القرآن وتجويده – مواد تاريخيّة في المكتبة الوطنيّة

قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر. تعرّفوا إلى قصة المخطوطة في هذا المقال.

يا من يرومُ تلاوة القرآن    ويرودُ شأو أئمّة الإتقان

لا تحسب التّجويد مدًا مفرطًا    أو مدّ ما لا مدّ فيه لوان

أو أن تشدّد بعد مدّ همزة    أو أن تلوك الحرفَ كالسّكران

أو أن تفوه بهمزة متهوّعًا    فيفرّ سامعها من الغثيان

للحرف ميزانٌ فلا تك طاغيا   فيه ولا تكُ مُخسر الميزان

تفتتح هذه الأبيات قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر! والتّعليم بالشّعر طريقة معهودة في العلوم اللغويّة والدّينيّة باللّغة العربيّة فمنها ألفية ابن مالك الشّهيرة في علوم النّحو والصّرف والّتي تضمّ أكثر من ألف بيتٍ نظمها محمّد بن عبد الله الجياني في القرن الثّالث عشر للميلاد. والسّخاوي مقرئ مصريّ ومؤلّف في علم القراءات والتّجويد، تتلمذ على يد الإمام الشّاطبي وحظي بشهرة واسعة في بلاد الشّام وموطنه مصر، وترك عن خبرته قصيدة بسيطة، صغيرة ومكثّفة، يدور بها على الحروف والمسائل الهامّة من أحكام التّجويد، وبحسب شارحها شمسُ الدّين فإنها : “جامعة لما يحتاج إليه المبتدي والمنتهي وتفسير الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها وبيان قويّها وضعيفها ومناسبة بعضها لبعض ومباينة بعضها لبعض معينة على تجويد الالفاظ وكيفيّة النّطق وإعطاء كلّ ملفوظ حقّه”.

شرح عمدة المفيد وعدّة المجيد في علم التّجويد، مجموعة مخطوطات المكتبة الوطنيّة
شرح عمدة المفيد وعدّة المجيد في علم التّجويد، مجموعة مخطوطات المكتبة الوطنيّة

 

لا شكّ أن لعلوم القرآن على اختلافها مكانة عالية لدى المسلمين، فالقرآن الّذي تجلّى باللغّة العربيّة لينافس الشّعر الّذي اشتهر به العرب يؤكّد بآيات عديدة على مكانة اللغة منه، وعلى مكانة جماليّة اللّغة وبيانها، كما أن النّبي أحبّ الشّعر كذلك ولم ينهى عنه، ولذلك نجد تراثًا شعريًا هائلًا في مدح الّنبي وفي علوم الدّين الإسلاميّ واللّغة العربيّة عمومًا. ومن علوم القرآن علم القراءات الّذي يفصل بين اللهجات السّبع المتواترة لقراءة القرآن الكريم، وهو علمٌ مختلف عن علم التّجويد الّذي يركّز على مخارج الحروف وتواليها في اللّفظ والتّلاوة المحكمة، فهو علمٌ تقنيّ مضبوط يندر الاختلاف فيه.

أمّا التّرتيل فيختلف عن التّجويد، والّذي يُقصد به هو السّرعة في التّلاوة وأداؤها من حيث الصّوت والنّبرة والنّغم لا قواعدها في القراءة. وتقسّم مراتب التّرتيل إلى ثلاثة : التّحقيق والحدر والتّدوير، والتّحقيق هو الاسترسال في التّلاوة والبطء في الأداء دون المسّ بقواعد التّجويد، والحدر هو التّلاوة السّريعة، والتّدوير هو التّلاوة المتوسّطة السّرعة بين التّحقيق والحدر، وفي جميع هذه المراتب تُحفظ أحكام التّجويد وحقوق الحروف ولفظها.

وعلى أن الأمر يبدو غاية في البساطة والوضوح إلى أنّ التنوّع الّتي أضفته ثقافات الشّعوب الإسلاميّة إلى عالم التّجويد مليئ بالمفاجآت الّتي تفوق المراتب الثّلاثة المتعارف عليها. فهناك المقامات الموسيقيّة العربيّة الّتي يشتهر مقرئي مصر تحديدا بها، كما هناك التلاوة الجماعيّة في بلاد المغرب العربيّ، علاوة عن الأساليب الفرديّة لكلّ مقرئ وقدرته على التّمثيل الصّوتي للمعنى، وهذه القدرة تُستلهم بلا شكّ من الثّقافة السّمعية والموسيقيّة في عصره وموطنه بالإضافة إلى إبداعه الخاص، ولذلك فإن أنواع التّرتيل لا يمكن عدّها بالفعل.

نترككم من تسجيلين نوعيين من الأرشيف الصّوتي للمكتبة الوطنيّة، في الأوّل ترتيل مشرقيّ بالمقامات العربيّة لآيات من سورة الكهف عام 1937 في القدس بصوت الشّيخ محمّد إسماعيل، والثّاني لتلاوة جماعيّة سريعة من المغرب تتلوها تلاوة فرديّة بسرعة متوسّطة. اضغطوا على الصور.