رحلة مدرسة روضة المعارف: أكثر من أربعين عاماً في نشر المعرفة

الشيخ محمد الصالح وتأسيس مدرسة وطنية (عام 1906) خطوة ملفتة ترتكز على اللغة العربية كمادة للتدريس، وتبث التوّجهات الوطنية في قلوب الطلبة المنتسبين إليها، إليكم مدرسة روضة المعارف

مع ازدياد حالات التتريك التي شهدتها البلاد في نهاية الحقبة العثمانية، اتخذ الشيخ محمد الصالح خطوة ملفتة؛ حيث ذهب إلى تأسيس مدرسة وطنية (عام 1906) ترتكز على اللغة العربية كمادة للتدريس، وتبث التوّجهات الوطنية في قلوب الطلبة المنتسبين إليها. بدت الخطوة متواضعة وبمساعدة مجموعة من زملاء الشيخ منهم: الشيخ حسن أبو السعود، إسحق درويش، عبد اللطيف الحسيني، والتي اعتبرت خطوة جريئة ومميزة في فترة مضطربة من تاريخ فلسطين العثماني.

الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932
الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932

 

الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932
الشيخ محمد الصالح والأستاذ عبد اللطيف الحسيني، مجلة روضة المعارف. العدد الأول، كانون الثاني 1932

ولى في طريق الآلام بحسب المعتقد المسيحي، وبدأت ببث الحسّ العروبي لدى الطلبة، حيث كانت تعلّم باللغة العربية وإلى جوارها اللغتين التركية والفرنسية. كما تم إنشاء قسم للتعليم الليلي لاستغلال الوقت في تدريس الوقت حيث درس في المدرسة حوالي 360 تلميذاً، كما تذكر مجلة المنادي في 16 تموز 1912. لكن الواقع لن يستمر؛ فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى ستسقط الدولة العثمانية وتنسحب من القدس، وستفرض بريطانيا نظاماً جديداً يتبدل فيه الشعور الفلسطيني بالخطر، فإذا كان في الفترة العثمانية الخوف على اللغة العربية، فهذه المرة الخوف هو على المكان نفسه؛ جراء الصراع بين الفلسطينيين وبين الحركة الصهيونية.

مع تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى، باتت المدرسة إحدى المشروعات المهمة التي يمولها، وبالتالي توّفر الاستقرار المادي من المجلس ساهم في انطلاقة وتطور نشاطات المدرسة فأصدرت بدءًا من تلك الفترة مجلة مميزة.

مجلة روضة المعارف، العدد الثالث والرابع، سنة 1922
مجلة روضة المعارف، العدد الثالث والرابع، سنة 1922

 

روضة المعارف التي سرعان ما تحوّلت إلى كلية، استطاعت استقطاب نخبة من المثقفين الفلسطينيين، فأنشأت اللجنة العلمية لتطوير موضوعات العلوم والبحث والكتابة فيها، كما طوّرت لجان أخرى في مختلف المجالات كاللجان الرياضية، لجنة الكشافة، لجنة اللغة الانجليزية، اللجان الصناعية، لكن الكلية لم تستقطب المثقفين فقط لأغراض التدريس، بل استعانت بهم لتتحول إلى مساحة فنية وثقافية حيث شهدت عشرات النشاطات السياسية، الثقافية والفنية المميزة.

جريدة الجامعة العربية، 15 تموز 1929. لقراءة أخبار عن روضة المعارف الصحف الفلسطينية
جريدة الجامعة العربية، 15 تموز 1929. لقراءة أخبار عن روضة المعارف الصحف الفلسطينية

في عام 1938 أخلت القوات البريطانية المبنى وسيطرت عليه من أجل استخدامه كنقطة شرطية للسيطرة على الحالة الأمنية داخل المدينة في ظل اشتداد الثورة الفلسطينية، وهو ما اضطر الكلية إلى ترك مبناها التاريخي والذي عملت فيه لأكثر من ثلاثين عام والبحث عن مكان بديل.

اللجنة العلمية، مجلة روضة المعارف. العدد الثاني، آذار 1932
اللجنة العلمية، مجلة روضة المعارف. العدد الثاني، آذار 1932

 

كان المكان البديل الذي استأجرته الكلية هو في باب الساهرة، والذي ظلت فيه أكثر من عشر سنوات حتى أعلنت الحكومة عن نيتها ترك المبنى وإعادته إلى ملكية روضة المعارف.

 

جريدة فلسطين، 13 آب 1947
جريدة فلسطين، 13 آب 1947

 

ستكون العودة إلى المبنى القديم عودة مؤقتة، ستندلع المعارك في عام 1948، وسينتهي الانتداب البريطاني عن البلاد، وستخضع القدس الشرقية للسيطرة الأردنية.

فمع اندلاع المعارك سنة 1948 ستقفل المدرسة أبوابها، ولن تعاود الافتتاح، ومع انتهاء مرحلة الانتداب وإعلان السلطات الأردنية ضمها لمنطقة القدس الشرقية ستكون روضة المعارف شيئاً من الماضي، وفي مبناها التاريخي ستنطلق مدرسة جديدة في مسيرتها هي المدرسة العمرية والتي ستعمل في نفس المبنى، لكنها ستتوقف أيضاً عن العمل عام 1967، لتظل مدرسة روضة المعارف كالمدرسة العمرية كالمدرسة الجاولية وغيرها من المدارس التي عملت في نفس المبنى، مادة تاريخية ومساحات ساهمت في تعليم وتثقيف الفلسطينيين على مدار سنين طويلة من التاريخ.

 

 

لفتا – ذكريات مصوّرة

"إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريبًا واحدًا" هكذا بدأ دافيد بن غوريون حديثه حول قرية لفتا.

كلارا ورفيقتها في نقطة الحراسة

في مطلع شباط من العام 1948، قال دافيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهوديّة حينها ورئيس حكومة إسرائيل فيما بعد “إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريبًا واحدًا”. وكان كلامه هذا احتفائًا بانتصارات الجماعات اليهوديّة المسلّحة ونجاحها بإحكام قبضتها على تلك المناطق في الشهر السابق وخلوها من غير اليهود.

لفتا، البوابة الغربيّة للقدس، الّتي امتدّت على مساحات شاسعة، تختلف حدودها بحسب الشهادات المختلفة. إلّا أن جمالها لا يختلف عليه أحد. شملت القرية بيوتًا جميلة ذات طابع معماري مميّز، بالإضافة إلى عين الماء الّتي ما زالت موجودة إلى اليوم، معصرة زيتون، أراضي زراعيّة ودور عبادة، مدرسة ومقبرة. كما أن تاريخها العريق يمتدّ بعيدًا. حيث وُجدت في أراضي لفتا آثار للعصر الحديديّ، كما يربط بعض المؤرّخين اليهود لفتا بقرية “مي نفتواح” المذكورة في التوراة، ومن أسمائها الأخرى “نيفثو” و “كليبستا”، نيفثو كان اسمها إبّان الحكم البيزنطيّ والرومانيّ، وكلبستا أثناء الحكم الصّليبي. أما في فترة الحكم العثماني فكانت تابعة للواء القدس.

تصوير جوي لقرية لفتا عام 1947، من ملف مسح القرى العربيّة للهجاناه، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.
تصوير جوي لقرية لفتا عام 1947، من ملف مسح القرى العربيّة للهجاناه، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.

ومن المصادر الّتي توضح  شيئًا من تفاصيل الحياة الجميلة في لفتا نهاية الفترة العثمانية هي مقالة كتبها المؤرّخ الألمانيّ جوستاف روشتاين بعنوان “عادات العرس الإسلامي في قرية لفتا قرب القدس”، فقد زار القرية عام 1907 ملبيَا دعوة مدرّسه للّغة العربيّة وابن القرية إلياس نصرالله وفُتن بعادات الأعراس الّتي كانت تستمرّ لياليها لأكثر من أسبوع يحفل بالرقص والغناء والطعام المميّز والعادات الخاصّة بالأعراس كرسم الحنّاء والأزياء.

عند الانتداب البريطاني، كان تعداد سكّان لفتا يقارب ال 1500 ساكن، كلّهم من المسلمين، وقد شارك أهالي القرية بما عُرف بثورة البراق عام 1929 وهاجموا الأحياء اليهوديّة القريبة منهم.

بدأ القتال في لفتا نهاية عام 1947 حين هاجم عناصر من الهاجاناه محطة وقود يملكها أحد سكّان لفتا ظنًّا بأنه ينقل معلومات للمقاتلين العرب حول حركة المجموعات اليهوديّة بين القدس وتل أبيب، بحسب المؤرّخ الإسرائيلي بيني موريس، أما وفقًا لشهادات فلسطينيّة وثّقها عارف العارف فإنّ الشّرارة الأولى كانت هجومًا شُنّ على أحد مقاهي القرية، والذي أسفر عن مقتل ستة رجال كانوا يجلسون بها ومن ثمّ الهجوم بالنيران على حافلة كانت على مداخل القرية، وقد أدت هذه الحوادث إلى خروج أهالي لفتا منها، بالإضافة إلى تفجير البيوت، كما ذكر مقاتل الليحي عيزرا يخين في مذكّراته، حيث شارك في عمليات الليحي في القرية حين بلغ 19 عامًا والّتي شملت تفجير ثلاثة بيوت، كما كان مشاركًا في معركة دير ياسين كذلك ومعارك أخرى.

 

غلاف كتاب "الناكام : قصّة محارب لحريّة إسرائيل"، عزرا يخين، مجموعة المكتبة الوطنيّة.
غلاف كتاب “الناكام : قصّة محارب لحريّة إسرائيل”، عزرا يخين، مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

بين مجموعات المكتبة الوطنيّة وُجدت بعض الصّور من معسكر الهجاناه في القرية أثناء الحرب وهي من مجموعة كلارا دي هرتوخ (من أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي) وقد كانت مجنّدة في الهاجاناه حينها، وأصبحت فيما بعد في درجة ضابط ورقيب في الجيش. توثّق هذه الصّور نقاط الحراسة الخاصّة بالهجاناه والتي كان دورها إيجاد المقاتلين العرب وترقّب اقترابهم.

كلارا دي هيرتوخ وإليعزر غرايبر، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة
كلارا دي هيرتوخ وإليعزر غرايبر، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة

 

كلارا في نقطة الحراسة وتظهر مع السلاح وبعض القنابل والمنظار، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة.
كلارا في نقطة الحراسة وتظهر مع السلاح وبعض القنابل والمنظار، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة.

 

أثناء الحرب، كانت قرية لفتا خالية بالكامل وحينها تم توطين أكثر من مائتي عائلة يهوديّة يمنيّة بهدف منع العائلات العربيّة من العودة كما تمّ توطين عائلات يهوديّة كرديّة كذلك والتي سكنت القرية لعشرات السّنين.

باتيا مازور، الّتي عاشت طفولتها في القرية قامت بإنتاج فيلم قصير يحكي ذكريات ساكنيها من اليمنييّن والأكراد اليهود قبل نقلهم منذ بداية السّبعينات إلى وحدات سكنيّة خارج القرية، ومعارضة أبنائهم فيما بعد لمشاريع حكوميّة كان من المخطّط إقامتها على أراضي لفتا.

لمشاهدة الفيلم (بالعبريّة)

“إذا أتى أباك من مصر أو العراق أو سوريا، فستسكن الفقر لا إسرائيل”: عن حركة الفهود السّود

في العام 1971، تأسست حركة "الفهود السّود" لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل والتي أصبحت ضمن حلقات ماضي التمرّد لليهود الشّرقيين في إسرائيل

من مظاهرة للفهود السّود عام 1974، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

في العام 1971 اجتمع شباب من اليهود الشّرقيين في جادة “مصرارة” في القدس من أجل تأسيس حركة “الفهود السّود” لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل. وقد اختاروا هذا الاسم تيمّنًا بالحراك السّياسيّ للأفارقة الأمريكيّين تحت ذات المسمّى في الولايات المتّحدة الأمريكيّة سنوات السّتينيّات. “الفهود السّود”. اسمٌ يدلّ على البشرة الغامقة، والقوّة والعنفوان.

من مظاهرة للفهود السّود عام 1973، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.
من مظاهرة للفهود السّود عام 1973، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

في أيار من ذات العام، أي قبل أربعين سنة من اليوم، خرج الفهود السّود في مظاهرة اندلعت عنها اشتباكات عنيفة مع الشّرطة الإسرائيليّة في شوارع القدس. ونُعتوا بالمخرّبين والمتطرّفين، كما لوحق وتمّ  اعتقال الكثير منهم. فما الّذي حدث في ذلك الوقت؟ وأين ذهبت “جهود الفهود السّود” اليوم؟

ماضي لتمرّد اليهود الشّرقيين

لم تكن حركة الفهود السّود الشّرارة الأولى التي تنبعث عن المجتمعات اليهوديّة الشّرقية الوافدة إلى البلاد، فالأدبيات الخاصّة بتلك الحراكات تفيض بإشارات تعود لسنوات قدومهم الأولى، إذ منذ البداية شعر اليهود القادمون من بلدان عربيّة أنهم مضطّهدون “عرقيّا”. كما تشير إحدى منشورات الفهود السّود عام  1977 “إن وصلت أنت أو والدك من شمال إفريقيا أو سوريا أو مصر أو اليمن أو العراق إلى إسرائيل، فاحتمال وصولك إلى شيء ما في هذا البلد يقترب إلى المستحيل، وإن هاجرتم إلى هنا بعد عام 1951، فاحتمال هلاككم كبير جدًا”.

من تلك الإشارات والحراكات السّابقة  “صغار الشّرق” في تل أبيب عام 1913، الّتي ضمّت يهود يمنيين وهدفت للاعتناء بحالتهم الماديّة والرّوحيّة وتعزيز مكانتهم الإجتماعيّة، بالإضافة إلى “علم صهيون”، “إسرائيل الفتاة” و”الحزب السفارادي الوطني” وغيرها من الجهات الّتي نادت بالمساواة. ولعلّ الحدث الأبرز في تلك الذّاكرة “احداث وادي صليب” في حيفا عام 1951 حين اندلعت اشتباكات عنيفة بين يهود شرقيين وعناصر للشرطة على أثر إطلاقها النار على رجلٍ مغربيّ. أدّت هذه الاشتباكات لجرح واعتقال العشرات من اليهود الشرقيين وإصابة بعض عناصر الشّرطة.

ولذلك لم تكن نشأة حركة الفهود السّود أمر مفاجئ للمجتمع الإسرائيليّ، إلّا أن تنظّمهم وسعيهم عبر التّظاهر والحشد الجماهيري إلى المطالبة اللحوحة بحقوقهم بدت كتحذير من صعود قوّة يهوديّة شرقيّة ذات شعبيّة كبيرة، وأظهرت بوادر للعمل الجماهيري السياسي المختلف لتلك الأوساط الّتي عانت من الفقر والإهمال في كلّ من مجالات التنمية والتعليم وتمكّنت من جهة أخرى من خلق حركة احتجاجيّة ذات شعبيّة واسعة.

من مظاهرة للفهود السّود عام 1971، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.
من مظاهرة للفهود السّود عام 1971، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

كان جميع مؤسسّي الحركة الأوائل من أبناء المغاربة، وتتراوح أعمارهم بين الثّامنة عشر والعشرين، حتّى أن لبعضهم كانت ملفّات جنائيّة لدى الشّرطة، وقد مُنعت مظاهراتهم الأولى من ترخيص السّلطات وأحيانًا تمّ اعتقالهم قبل بدايتها.

تشير بعض المصادر إلى أن بعض عناصر الفهود السّود أعلنوا إضرابهم عن الطّعام إلى أن وافقت رئيسة الوزراء آنذاك جولدا مئير على لقاء بعض قاداتهم في الثّالث عشر من نيسان من ذات العام بهدف الاستماع إلى مطالبهم. إلا أن اللقاء لم يسر على ما يرام، كما يصف أحد أعضاء الحركة آنذاك: استخفّت السيّدة بهم، ووصفتهم بمرتكبي الجرائم والمعربدين ولم تعترف بهم كحركة حقوقيّة.

المواجهات والجدل الجماهيريّ

فيما بعد بدأ الفهود السّود بتنظيم مظاهرات كبيرة بدون طلب ترخيص من الشّرطة. كانت أكبرها في الثّامن عشر من أيار وهي اللّيلة الّتي سمّيت لاحقًا ب”ليلة الفهود السّود” بسبب الجدل الّذي أثارته في المجتمع الإسرائيلي لاحقَا.

في ذلك اليوم حشد الفهود السّود أكثر من خمسة آلاف متظاهر وانطلقوا للسير سويًا من دوّار “دافيدكا” بالقدس باتجاه دوار “صهيون”، مطالبين بالمساواة العرقيّة وإنهاء الفقر والتمييز.  تخلّلت المسيرة ساعات من الاشباكات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة وأدت إلى اعتقال مئة من المتظاهرين وإصابة العشرات، كما قام بعض المتاظرين برمي الزجاجات الحارقة (المولوتوف) باتّجاه الشّرطة الّتي قامت بدورها برشّهم عبر مدفعيّات خاصّة بمياه مصنّعة ومصبوغة باللون الأخضر.

استمرّت المواجهات والاعتقالات طوال الليل حتى صباح اليوم التّالي. وفي الأيام التي تلت “ليلة الفهود السّود”، ظهر فرقٌ كبير بتغطية الحدث إعلاميًا بين الصّحف العبريّة والعربيّة في البلاد، وتراوحت الآراء في الشّارع الإسرائيليّ، فحتّى تلك الأصوات الّتي عبّرت عن تضامنها مع اليهود الشّرقيين وما يعانونه من ظروف لا تُحتمل، أكدّت على استنكارها للمظاهرات “العنيفة”. بينما قامت صحيفة الاتّحاد باستنكار “عنف الشّرطة” من جهة أخرى، واستنكرت اعتقالاتهم. كما قامت الكتلة الشّيوعيّة في الكنيست بالمطالبة بتحقيق حول عنف الشّرطة واعتقالات الفهود السّود وطالبت بالإفراج عنهم، مظهرة تضامنًا تحوّل بعد سنوات قليلة إلى تعاون رسميّ بين الحزب الشّيوعي الإسرائيليّ والفهود السّود ليؤسسّوا سوية “الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة” ويترشّح أعضاؤها لانتخابات الكنيست التّاسعة لأوّل مرّة جنبًا إلى جنب.

من منشور الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة للكنيست التاسعة عام 1977، المكتبة الوطنيّة.
من منشور الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة للكنيست التاسعة عام 1977، المكتبة الوطنيّة.

                                        لقراءة اتّفاقيّة الفهود السّود مع الحزب الشّيوعي في جريدة الاتّحاد


أثرُ الفهود السّود

 ليس هناك “فهود سود” اليوم في السّياسة أو الشّارع الإسرائيليّ. فالحركة الّتي بدأت كحراكٍ شعبويّ من الشّارع اتّخذت خيارًا بالتّحرك نحو السّياسة والانتخابات، وكان لمجموعة ذات خلفيّة مستضعفة مثلها أن تكون دائمة البحث عن تحالفات كبرى تسند وجودها في الكنيست. بدأت تحالفاتهم من الحزب الشّيوعيّ وترشّحوا  فيما بعد كحزب مستقلّ عام 1990 ولكن لأسباب داخليّة تفكّك الحزب وتنقّل أعضاؤه فرادى بين أحزابٍ شتّى بين اليمين واليسار ولم يعد هناك أثرٌ مرئيٌ لهم كمجموعة واحدة في مشهد السّياسة الإسرائيليّة.

يشير ميناحم هوفنونج في كتابه “أثر تظاهرات الفهود السّود على ميزانيّات المجتمع والرّفاه” إلى أنّ تعامل الدّولة القمعي مع الفهود السّود كحركة في بداياتها كان خوفًا من تعاظم شعبيّتهم في الشّارع، مما كان ليجلب الكثير من الفوضى لأجهزة الدّولة. إلّا أنّها من جهة أخرى، وبسبب تلك التّظاهرات الضّخمة، أضحت تدرك جيّدًا ما قد يواجهها من غضب إن لم تصنع أثرًا فارقًا في ترتيب ميزانيّاتها وتأهيل أجهزتها للعناية بمجتمعات اليهود الشّرقيين بشكلٍ أفضل. بكلمات أخرى، لم تعترف الدّولة ولم تأخذ بمطالبات ومشاكل الفهود السّود كما قاموا هم بصياغتها، إلّا أنها رأت من خلال حركتهم مؤشّرًا لضرورة العمل بشكلٍ مختلف مع هذه الشّريحة في مؤسساتها.

 

 

حكاية مكتبة محمد هادي الحاج مير؛ ثروةٌ فُقدت في البقعة

"لكن الذي يهمني في الحقيقة مكتبتي" – من كلمات الأستاذ محمد هادي الحاج مير في رسالته التي كتبها للبروفيسور هوغو بيرغمان طالبًا منه العون في البحث عن مكتبته في القدس والمحافظة عليها.

ربما حرب عام 1948 قد وضعت أوزارها، إلّا أنّ العديد من القصص والحكايات فُـقدت أثناء الحرب. ومن أكثر الحكايات التي آلمت أصحابها، هي حكاية مكتباتهم المفقودة التي فارقوها خلال الحرب آملين بعودتهم إليها واستعادة هذه الثروة المعرفية التي امتلكوها؛ مثل كتب خليل السكاكيني، محمد هادي الحاج مير، محمد إسعاف النشاشيبي، فايز أبو رحمة، توفيق كنعان وغيرهم من روّاد الثقافة الفلسطينية خلال عهد الانتداب البريطاني.

اختلفت سبل وتوجهات كلٍّ منهم بالمطالبة بمكتبته وتتبع أماكن وجود كتبهم، وكان من بين الأشخاص الأستاذ والمربي محمد هادي الحاج مير الذي تكاتب، برسالة بخط اليد، كتبها للبروفيسور هوجو بيرغمان مستفسرًا عن حال مكتبته أو كما سمّاها بالثروة العلمية.

ارتأينا أن نشارككم قصّة مكتبة الحاج مير وبحثه الضّنين عنها. فمن هو الأستاذ محمد الحاج مير؟

وردت بعض القصص والذكريات من الكلية العربية في كتاب “الكلية العربية في القدس: ذكريات وتاريخ” لـ مالك المصري وذلك توثيقاً لتاريخ هذا الصرح العلمي الأصيل والغني؛ حيث عرّف بكل الأساتذة فيما ترك الختام للأستاذ محمد هادي الحاج مير، وذلك للإسهاب في الحديث عنه كقامة تربوية وعلمية، فأخبرنا المصري: “لقد تلقى الدكتور الحاج مير دراسته العليا في ألمانيا، ومنها حصل على شهادة الدكتوراة، ومنها عاد إلى فلسطين ليمارس مهنة التعليم، حيث ارتقى حتى أصبح مدّرساً لمادة التاريخ في الكلية العربية. ولقد كان دائمًا يخبرنا أنّ التاريخ كالرياضيات، هكذا كان يقول الحاج مير، المقدمات تؤدي إلى النتائج.” لقد كان الحاج مير أستاذًا لمادة التاريخ المتوسط والتاريخ الحديث، ومن المربيين الذي دعموا الطلبة لتحصيل المعرفة وكذلك ممن يمازحون طلبتهم ويهتمون بهم وبأحوالهم الشخصية والعائلية وذوي الهيبة بين طلبتهم. (الكلية العربية في القدس: ذكريات وتاريخ، 1995)

كتب الأستاذ الحاج مير العديد من المقالات في مجلة الكلية العربية، منها مقالة الفوضى الثقافية في الشرق العربي” الصادرة في العام 1946، وكذلك نشر بعض الاقتراحات لتدريس مادة التاريخ في العام 1928. ظلّ الالحاج مير من أبرز المدرّسين المتميّزين في كلٍّ من الكليّة العربيّة والمدرسة الرّشيديّة في القدس حتّى أتى العام 1948 وغيّر أحوال البلاد وأهلها.

المنتدى، 22 شباط 1946
المنتدى، 22 شباط 1946

 

⁨⁨الكلية-العربية⁩⁩، 01 كانون الأوّل 1928
⁨⁨الكلية-العربية⁩⁩، 01 كانون الأوّل 1928

 

ماذا حلّ بـ الحاج مير؟

في تاريخ 14 تموز 1951، بعد ثلاثة أعوام من الحرب، أرسل الأستاذ الحاج مير رسالة بخط اليد وباللغة العربية للبروفيسور هوغو بيرغمان يطلب منه مساعدته لإيجاد مكتبته، ونفهم من خلالها ماذا حلّ بحياته بعد خروجه من بيته في القدس وأين انتهى به المطاف.

رسالة محمد حاج مير إلى هوغو بيرغمان
رسالة محمد حاج مير إلى هوغو بيرغمان


حضرة الأستاذ هوغو بيرغ
من المحترم،

أرجو أن تكون وعائلتك بصحة وعافية.
أكتب لك هذه الرسالة من أدنبرة – اسكتلندا راجيًا أن تفيدوني عن مسألة تهمني جدّا ألا وهي: مكتبتي
library

عندما غادرتُ البقعة في 5/5/1948 وكنت أسكن في بيت القوّاس في البقعة الفوقاء في جوار مدرسة الأمة على الطريق المؤدي إلى ميكور حاييم – تركت بيتي كما هو؛ أيّ بكل ما فيه من أثاث وغيره.

لكنّ الذي يهمني في الحقيقة مكتبتي الذي لا أشك بأنكم تقدّرون ما فيها من مؤلفات في جميع المراجع الإنسانية من تاريخ وفلسفة وفن واقتصاد والعلوم الإسلامية وكتب قّيمة جدًا في الصهيونية وتاريخها عدا عن بعض المخطوطات والآثار. كما أنّي تركت ثروة عظيمة من المحاضرات والمواضيع التي كنت جهّزتها للطبع وخاصة في تاريخ الحروب الصليبية وغيرها من المواضيع الإسلامية والأدبية.

وبما أّني أعتقد باهتمامك في هذا التراث العلمي القيّم وددتُ أن أتصل بك حتى تفيدني عما تمّ بذلك كما أنّي أرجوك أن تهتم بالمحافظة على هذه المكتبة لأنّي أعتقد بأنّك لا تشكّ بأنّ الأمر لو كان بالعكس؛ أي لو كانت مكتبتك في منطقة تخصني لما تأخرتُ أصلاً عن المحافظة كتراث علميّ أقدّر قيمته وعلى أمل أن أحصل على جواب مطمئن منك.

أتقدم باحتراماتي،
المخلص،
محمد الحاج مير

فما كان من البروفيسور هوجو بيرغمان إلا أن قام بالرّد عليه برسالة باللغة الألمانية “ليطمئنه” وذلك في تاريخ 29 تموز 1951، قمنا بترجمتها للعربية هنا:

 

رد هوغو بيرغمان على حاج مير
رد هوغو بيرغمان على حاج مير

عزيزي الأستاذ الحاج مير،
لقد استلمتُ رسالتك، شكراً لك. كنت أتمنى لو كان بمقدرتي أن أساعدك من الناحية القانونية لتتبع مسار مكتبتك. خلال القتال آنذاك، سعت مكتبتنا جاهدة لمنع تلف ودمار المكتبات وذلك من أجل الحفاظ على الكثير من الكتب، وهذه المكتبات الآن تحت رعاية السلطات المخوّلة بالحفاظ عليها. لقد توجهتُ إلى المدير الحالي للبحث والفحص مع مجموعة من الخبراء فيما لو كانت كتبك ضمن المجموعة التي حُفظت. بكل أسف، لقد أعلموني أنّ كتبك لم تكن ضمن المجموعة المحتفظ بها. أعتذر لهذا الخبر.

يُسرني أنك الآن في أدنبرة وأنك قد باشرتَ العمل على أبحاثك العلمية.
تحياتي الحارة وأطيب الأمنيات بالخير والسعادة،

مع الاحترام،
هوغو بيرغمان

لم يكن توجه الحاج مير لهوجو بيرغمان عبثًا، فلقد كان هوجو بيرغمان بروفيسورًا في الجامعة العبرية ولاحقاً رئيساً لدار الكتاب القومي والجامعي (المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة)، ومن نخبة المثقّفين الأوروبيين وصديقاً للعديد من الكُتّاب والفلاسفة مثل فرانز كافكا. لقد علم الحاج مير أن هوجر بيرغمان سيقّدر هذه الثروة العلمية ويساعده، وهو ما لم يحدث، مع الأسف. ولكن السؤال الأهم: أين المكتبة؟

لم يتمّ العثور على مكتبة محمد هادي الحاج مير حتّى هذه اللحظة، بعد ثلاثة وسبعون عامًا منذ أن افترق عنها في حي البقعة عام 1948. ربما اختفت المكتبة لعدم توثيق الكتب باسمه، وربّما أحيلت تحت قانون “أملاك الغائبين” وما زالت مقفلة في إحدى المخازن، وربما هُرست كما أسلف بعض الباحثين، إلّا أن عمله كمربي وأكاديمي لم يختفي وما زال حاضرًا حتى يومنا هذا.

يمكنكم الاطّلاع على كتابات الأستاذ محمد هادي الحاج مير في مجلّة الكلّية العربيّة على موقع أرشيف الصّحف الفلسطينيّة القديمة في المكتبة (جرايد).

هوغو بيرغمان: هو فيلسوف وأكاديمي إسرائيلي من أصول نمساوية ولد في مدينة براغ في العام 1883 وتوفي في مدينة القدس في العام 1975. قدم إلى البلاد عام 1920 وترأس دار الكتب القومية ولاحقاً في عام 1925 (افتتاح الجامعة العبرية في القدس) أصبح بروفيسورًا ورئيسًا للجامعة العبرية ولدار الكتب القومية والوطنية. بالإضافة لتأليف أكثر من عشرة كتب في مجالي الفلسفة والسياسة، والعديد من الكتب المترجمة والدراسات البحثية إلى اللغة العبرية.