الموظّف الغارق في البيروقراطية الذي أصبح كاتبًا رغمًا عنه: من هو فرانز كافكا الذي عاش في براغ؟

ماذا كان سيحدث لو أنّ كافكا عاش سنواتٍ عديدة أخرى وتوفيّ في سنّ الشيخوخة؟ كيف أصبح هذا الموظّف الذي يبدو عاديًا واحدًا من أعظم الكتّاب في القرن العشرين؟ هل كانت وفاته أفضل ما حدث له على الإطلاق؟ يستكشف معرضٌ جديد في المكتبة الوطنيّة شخصيّةَ كافكا المثيرة للاهتمام، مسلطًا الضوء على رجلٍ أصبحت حياته وأعماله وموته جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية الحديثة.

פרץ קפקא מאת

ماذا كان سيحدث لو أنّ كافكا عاش سنواتٍ عديدة أخرى وتوفيّ في سنّ الشيخوخة؟ كيف أصبح هذا الموظّف الذي يبدو عاديًا واحدًا من أعظم الكتّاب في القرن العشرين؟ هل كانت وفاته أفضل ما حدث له على الإطلاق؟ يستكشف معرضٌ جديد في المكتبة الوطنيّة شخصيّةَ كافكا المثيرة للاهتمام، مسلطًا الضوء على رجلٍ أصبحت حياته وأعماله وموته جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية الحديثة. (الكاتب: ستيفان ليت)

صورة لكافكا
صورة لكافكا

فرانز كافكا هو واحدٌ من أعظم الكتاب في القرن العشرين، فأعماله الأدبيّة، وبشكلٍ خاصٍّ “المحاكمة” و”أمريكا” و”القلعة”، تُعتبر من بين أهمّ الأعمال الأدبية التي كُتِبَت في الغرب، وذلك بسبب الثيمات (المواضيع والأفكار) التي تناولتها، بالإضافة إلى أسلوب كتابتها، والذي كان متقدمًا على عصره بشكلٍ بارز.

لكن، لماذا كان لكافكا – وهو موظّفٌ حكوميٌّ يبدو عاديًا للغاية ولم تُنشَر معظم أعماله خلال حياته- تأثيرٌ عميقٌ على الأدب العالميّ؟ كيف أصبح هذا الشخص، الذي أوصى بإحراق كتاباته بعد وفاته المبكّرة، كاتبًا بهذه الأهمّيّة، حيث لا يزال الكتّاب يحاكون أسلوبه بعد مرور 100 عامٍ على وفاته؟

بوسعنا اليوم أن نقول بأنّ كافكا كان رائدًا في الأدب الحديث خلال الربع الأول من القرن العشرين. شملت  أعماله مواضيع فريدة في عصره مثل الصراع مع البيروقراطية القمعية، وتساؤلات الهوية وتقدير الذات، وانهيار البنى الاجتماعية التقليدية وتحديات العالم الحديث، وهي مواضيع شقّت طريقها إلى الأدب الحديث بفضله. يظهر الوضع الإنسانيّ في العديد من أعماله مفتقرًا إلى المعنى، تطغى عليه صورةٌ مرعبة، ويائسة، ومشوهة، أو باختصار، صورةٌ “كافكاويّة”، وهو تعبيرٌ أصبح شائعًا اليوم بشكلٍ كبير.

وعلى الرغم من كلّ الثناء المتأخر الذي حصل عليه في النهاية، لم يرغب كافكا في أن تُنشَرَ رواياته وقصصه. وقد نُشِرَ معظمها مع الوقت، خلافًا لإرادته الصريحة، ولم يتمّ ذلك سوى بعد وفاته في 3 حزيران عام 1924، عندما كان يبلغ من العمر 41 عامًا، وتُرجِمَت فيما بعد من الألمانية إلى العديد من اللغات الأخرى.

العديد من الجوانب المثيرة للاهتمام من شخصيّة فرانز كافكا تُعرَضُ حاليًا في معرض خاصّ في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، بمناسبة مرور 100 عام على وفاته، حيث يُسلط الضوء على الكاتب وأعماله وحياته. سأحاول هنا استعراض بعض المحطات الرئيسية في حياته، كما يعرضها المعرض، والإجابة عن هذا السؤال: “من كان فرانز كافكا ولماذا تُعتبَر أعماله الأدبيّة ثوريّةً وذات أهمّيةً بالغة؟”

الطبعة الأولى من "تأمُّلات" مع إهداء شخص إلى ماكس برود، 1913
الطبعة الأولى من “تأمُّلات” مع إهداء شخص إلى ماكس برود، 1913

وُلِدَ فرانز كافكا في براغ في 3 تمّوز، عام 1883، وهو الابن الأكبر لِهرمان ويولي كافكا، مالِكَيْ متجر أقمشةٍ ومستلزماتها في مركز المدينة. تلته ثلاث أخوات هنّ جابرييل “إيلي” وفاليري “فالي” وأوتيلي “أوتلا”. كانت عائلة كافكا تعتبر نفسها يهوديّة، ولكن مثل العديد من اليهود في ذلك الوقت، اعتبروا أنفسهم في المقام الأوّل جزءًا من الثقافة الألمانية. تلقّى فرانز تعليمه في مدرسة ثانوية ناطقة بالألمانية وتخرّج منها عام 1901.

درس إلى جانب صامويل هوغو بيرغمان، الذي أصبح لاحقًا مديرًا للمكتبة الوطنية اليهودية والجامعية في القدس (المعروفة اليوم باسم المكتبة الوطنية الإسرائيلية) ورئيسًا للجامعة العبرية.

بعد أن أنهى دراسته الثانوية، بدأ كافكا في دراسة القانون وتاريخ الفن والفلسفة والأدب الألماني في جامعة براغ، حيث تعرّف على صديقه المقرّب ماكس برود، الذي كان هو الآخر طالب قانونٍ، بالإضافة إلى كونه كاتبًا وشاعرًا ومؤلّفًا مسرحيًّا وملحنًا. خلال هذه الفترة، كتب كافكا المسودة الأولى لقصّتيه “وصف صراع” و”تحضيرات عرسٍ في الريف”. وعلى الرغم من أنّه عاش في منطقة بوهيميا وتحدّث التشيكية، اختار كافكا الكتابة باللغة الألمانية. بدأ كافكا طريقه في عالم الكتابة بعد أن أنهى دراسته للقانون في جامعة براغ، بينما كان يعمل في الوقت ذاته موظفًا متخصّصًا، وهو دورٌ تطلّب منه فهمًا عميقًا للتعقيدات البيروقراطيّة في عالم التأمين. بعد تخرّجه، انضمّ إلى شركة محاماة في بوهيميا متخصصة في حوادث العمل. لم يكن يحبّ وظيفته، رغم أنّه كان بارعًا فيها. ومع ذلك، كان قبله معلّقًا بالكتابة. وعلى الرغم من وضعه الجديد الذي أصبح فيه مستقلًا ماليًا، استمرّ في العيش مع والديه حتّى المراحل الأخيرة من حياته، وهو ما تسبّب في خلافات عائلية أصبحت لاحقًا من الموضوعات الرئيسية في أعماله الأدبيّة.

غلاف الطبعة الأولى من رواية "المحاكمة"، برلين عام 1925
غلاف الطبعة الأولى من رواية “المحاكمة”، برلين عام 1925

موظّفٌ مكتبيٌّ نهارًا، وكاتبٌ ليلًا

كثيرًا ما استلهم كافكا موضوعات أعماله من تجاربه كمحامٍ في نظام إداري بيروقراطي في الإمبراطورية النمساوية المجرية، حيث عانى من شرخٍ كبير بين هويّته ككاتب وتصوّره عن ذاته. تكشف العديد من نصوصه الشخصيّة (مثل “رسالة إلى والده”، ورسائله الشخصية إلى أصدقائه، بالإضافة إلى يومياته) عن تأملاته بخصوص صورته الذاتية وقدراته الأدبيّة.

 في المقابل، ركّزت أعماله الأدبية على شيءٍ تخصّص فيه شخصيًا، لكنّه كان يثير الخوف والنفور لدى الكثير من الناس، ألا وهو الوحش العظيم للبيروقراطية. تعكس روايتاه “المحاكمة” و”القلعة” تجاربه في عالم البيروقراطية والشعور بالعجز الذي تغرسه في داخل المواطن العادي. وتُعتبَر قصّته القصيرة “أمام القانون” بمثابة ملخّصٍ لهاتين الروايتين. ولم تفقد أيًّا من هذه الأعمال قيمتها بمرور الزمن، حيث لا تزال ذات أهمية حتّى يومنا هذا، وهذا هو سرّ نجاح كافكا في العديد من الثقافات حول العالم.

نشر كافكا كتابه الأول، “تأملات”، في عام 1912، وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة التي كتبها قبل بضع سنوات. لاحقًا، نشر قصّة “الحكم”، التي كتبها في ليلة واحدة في خريف عام 1912، ويبرز فيها أسلوب كافكا القاتم المعتاد. أشهر أعماله، “التحوُّل”، تروي قصّة بائع متجوّل يستيقظ ذات صباحٍ في سريره ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة عملاقة.

دشّنت هذه الأعمال أسلوبًا أدبيًا جديدًا يدعو القرّاء إلى مواجهة الجوانب البغيضة وحتّى المرعبة للوجود الإنساني، وإلى التعامل مع مواقف عبثيّة لا يمكن أن تصدر عن مواقف حقيقيّة، بل عن خيالٍ بارعٍ وخصب. في العديد من أعماله، يُعبَّر عن موضوع البيروقراطية في شكل آليات مظلمة تعمل وفق مبادئ غامضة لا تصبّ في مصلحة المواطن، أو في شكل شخصياتٍ تعمل لصالح تلك الآليات. كان أسلوب كافكا مختلفًا تمامًا عن أي شيءٍ كُتِبَ قبله، وقد كان غالبًا على درايةٍ بذلك، وهو ما قد يكون أحد الأسباب الذي دفعته إلى رفض نشر معظم أعماله، وحتّى الأمر بإتلافها.

الروايات الثلاثة التي كتبها كافكا، وهي “أمريكا (وكان عنوانها الأصلي “المفقود”) و”المحاكمة” و”القلعة”، والتي استكملت المواضيع التي طوّرها في أعماله القصيرة، ظلّت غير مكتملة الكتابة. طلب كافكا من ماكس برود أن يحرق جميع مخطوطاته بعد وفاته، لكنّ برود قرّر عدم تنفيذ رغبة كافكا، ونشرها جميعًا بدلًا من ذلك. وهكذا، أنقذ عددًا من أبرز الروائع الأدبيّة من الضياع، صانعًا من كافكا واحدًا من أعظم الكتّاب في القرن العشرين وشخصية أساسية في الأدب الغربي.

تعليمات كافكا إلى ماكس برود بإتلاف جميع أعماله بعد وفاته، 1921
تعليمات كافكا إلى ماكس برود بإتلاف جميع أعماله بعد وفاته، 1921

إنقاذ كافكا من نفسه

ماذا كان سيحدُث لو أنّ كافكا عاش لسنواتٍ أطول؟ يبدو أنّ نهايته المأساوية، التي منعته من التحكم في قرار نشر (أو عدم نشر) أعماله، هي ما ساعده، يا للمفارقة، على أن يصبح واحدًا من أعظم كتّاب عصرنا. قصّة طلبه بأن تُتلَف أعماله و”خيانة” ماكس برود لوصيته، عندما قام بالعكس من ذلك تمامًا، ساهمت في شهرة كافكا بعد وفاته، وهي شهرة لم تكن من نصيبه أبدًا خلال حياته.

في عام 1917، وخلال الحرب العالمية الأولى، أُصيب كافكا بمرض السلّ، أحد أكثر الأمراض شيوعًا في أوائل القرن العشرين، وهو ما أدّى في النهاية إلى وفاته. ففي ذلك الوقت، لم يكن هناك علاجٌ له، وقد انتشر المرض بشكل رئيسيّ بين السكّان الذين يعانون من سوء التغذية، وكانت فترات الحروب كارثية من ناحية توفّر الغذاء.

في البداية، حاول كافكا أن يتعالج من مرضه بأخذ فترة نقاهة لبضعة أشهر في منزل أخته أوتيلي خارج المدينة، ومع ذلك، ازداد وضعه الصحيّ سوءًا، واضطرّ إلى قضاء فترات أطول في مصحّات مختلفة في بوهيميا والنمسا. وفي الأسابيع الأخيرة من حياته، تفشّى المرض إلى حلقه، مانعًا إيّاه من الكلام، فاضطرّ إلى التواصل مع من حوله عبر الكتابة.

وعلى الرغم من تدهور حالته الصحيّة، لم يتوقّف كافكا عن الإبداع والكتابة. وفي عام 1921، ساورته الخشية بأنّ حصّته من الحياة قد شارفت على النفاد، فأوصى صديقه ماكس برود بإتلاف جميع كتاباته بعد وفاته. ومع ذلك، كتب رواية “القلعة” في عام 1922، لكنّه لم يتمكّن من إنهائها. وفي العام الأخير من حياته، جمع قصصًا قصيرة له لإصدار مجموعته الأخيرة “فنان الجوع”.

غلاف الطبعة العبرية الأولى لرواية "أمريكا" لفرانز كافكا، 1945. كانت هذه أول أعمال كافكا التي تُتَرجَم إلى العبرية
غلاف الطبعة العبرية الأولى لرواية “أمريكا” لفرانز كافكا، 1945. كانت هذه أول أعمال كافكا التي تُتَرجَم إلى العبرية

كافكا يصل إلى فلسطين الانتدابية

أنقذ ماكس برود مخطوطات كافكا مرّتين: المرّة الأولى عندما رفض حرقها، والمرة الثانية عندما حملها معه أثناء هجرته إلى البلاد في عام 1939. ولولا ذلك، لكان من الممكن أن تقع هذه المخطوطات في أيدي النازيين، ولم تكن على الأغلب ستنجو بعد الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك، يُعزى نجاح كافكا أيضًا إلى جهود شلومو زلمان شوكي، رجل القول والفعل. منذ عام 1934، نُشِرَت الأعمال الرئيسية لكافكا من قبل دار نشر “شوكين” في برلين، وبعد انتقال الشركة إلى فلسطين الانتدابية إثر إغلاقها من قبل النازيين، حرص شوكن على ترجمة هذه الأعمال إلى اللغة العبرية. واعتبارًا من عام 1945، نُشِرَت الروايات والقصص في العديد من الطبعات، واكتسب كافكا شهرة أيضًا بين الناطقين بالعبرية، حيث نُشِرَت رواياته في طبعات مختلفة وتُرجِمَت مرات عدّة. بالإضافة إلى ذلك، ساعد بيع حقوق النشر المتعلّقة بترجمة هذه الأعمال إلى لغاتٍ أخرى في نشر كتب كافكا في بلدان وبلغاتٍ لا حصر لها.

بعد هجرته إلى البلاد، واصل ماكس برود العمل هناك وشارك قصصه الشخصية حول علاقته بكافكا في الأوساط الثقافية المحلية. أصبحت أعمال كافكا موضوعًا للبحث الأكاديمي، وحظيت بتحليل في ملحقات الصحف الأدبية، وألهمت فناني البلاد من مختلف المجالات. ساهمت معالجة برود لرواية “القلعة” وتحويلها إلى مسرحية في أن تشقّ الرواية طريقها إلى قلوب جمهور واسع في البلاد.

جذبت كتابات كافكا الفريدة الاهتمام أيضًا في الدول العربية، ففي أواخر الستينيات، بدأت ترجمات مختلفة لكتبه وقصصه القصيرة تُنشَرُ في مصر وسوريا ولبنان والأردن. أثارت هذه الترجمات نقاشات حول كتابات كافكا وعلاقته باليهودية والصهيونية.

تستمرّ قصّة حياة كافكا في جذب قدر كبير من الاهتمام، وبخاصّةٍ بسبب التناقض بين بساطة حياته ومكانته البارزة ككاتبٍ كلاسيكيٍّ حديث. منذ عام 1969، لم تتخذ أي خطوات جادّة في البلاد لتقديم كافكا وعلاقاته بمحيطه وأعماله في معرض كبير. والآن، وبعد انتقال أرشيف ماكس برود الذي يحتوي على مخطوطات وكتابات كافكا إلى المكتبة الوطنية، ستكون هذه المرّة الأولى التي يُعرَض فيها هذا الكمّ الهائل من مواد كافكا الفريدة إلى الجمهور.

رحلة كازانتزاكيس إلى فلسطين الانتدابية: الانغماس في سبت النور بحثًا عن الجوهر

كيف وصف الأديب اليونانيّ الشهير نيكوس كازانتزاكيس تجربته أثناء طقوس الاحتفال بسبت النور في القدس في العام 1926؟

نيكوس كازانتزاكيس

نيكوس كازانتزاكيس

نشر نيكوس كازانتزاكيس (1883-1957)، صاحب رواية “زوربا اليوناني”، انطباعاته عن رحلته إلى فلسطين، والقدس بشكلٍ خاصّ في الصحف، ثمّ أعاد صياغتها أكثر من مرّة لتقترب من أسلوبه الأدبيّ، وقد تُرجمت إلى العربيّة عن الصيغة النهائيّة في كتاب رحلة إلى فلسطين” (1989، مؤسسة خلدون – عمان).

منذ البداية، يعطينا كازانتزاكيس الانبطاع بأنّ الرحلة التي يخوضها هي رحلةٌ في أعماقه وهواجسه الشخصيّة قبل أن تكون في المكان، كأنّه حين ينتقل بين النقطتين أ و ب في الخارج، عليه أن يمرّ عبر نقطةٍ وسطى داخليّةٍ بينهما، فيعجّ كتابه بتأملات صوفيّة ومونولوجات قلقة وذكريات مستعادة، حتّى تصبح ما كانت في الأصل مقالاتٍ صحفيّة، قصائدَ نثرٍ تطفح بصورٍ لا تأبه بالتاريخ والجغرافيا إلّا حين يمرّا عبر غربال الشعر.

تُوصف كنيسة القيامة أثناء سبت النور بخليّة النحل، وهي صورةٌ يتركها الكاتب لتأمّل القارئ، وتساهم في تأويلها الفقرات المكتوبة فيما بعد. فكأنّ كلّ مؤمنٍ من المؤمنين الذين تعجّ بهم الكنيسة يصبّ عسل الإيمان من أعماقه في خلايا شمعيّةً تساهم في خروج النور من القبر المقدّس.

تنبعث أمامنا أثناء القراءة طقوس الجماعة وهي تنتظر لحظة الذروة. يندفع حشدٌ من الرجال المتصبّبين عرقًا لينضموا إلى البحر الهائج من المتعبّدين. تهبّ الروائح المختلفة زكيها وكريها من خمرٍ وثومٍ وشموعٍ محترقةٍ وبخورٍ وزهور ربيع. تصبّ موجةٌ جديدةٌ من العرب في الساحة، يحيط بهم أطفالٌ من جميع الجوانب يحملون شموعًا وفوانيس بحجم أجسادهم. يقفز عجوزٌ من كتفٍ إلى كتفٍ، ملوّحًا بسيفين، تزنّر خصره لهب الشمعات. تأتي موجاتٌ جديدةٌ من الأرمن والأقباط والأحباش والبدو والموارنة، تتبعهم نساءُ بيت لحم بعصائب رؤوسهنّ وشالاتهنّ البيضاء. يفقد أحدهم وعيه من النشوة الصوفيّة التي انبعثت في أجساد المحتفلين. تحلّ روحٌ لامرئيةٌ في الجمع كأنّها الردّ على خلافات الطوائف في تقاسمهم المكان المقدّس. يبدأ إيقاعٌ قرب المذبح تصنعه التراتيل والطَرْقُ بالعصيّ على القرميد، ثمّ يتصاعد الإيقاع حتّى يغدو احتفالات بالأجراس والأيدي المرتفعة ورقصات الأقدام وصيحات القلوب. يدخل البطريرك حجرة القبر المقدّس، فيحلّ السكون. تتكثّف انتظارات المؤمنين مصوّبين حوّاسهم كلّها نحو باب القبر ترقّبًا للولادة. ثمّ يظهر البطريرك، لحظة الذروة، كالخارج من الرحم، حاملًا شموعًا مضاءةً بالنور المقدّس، فتعلن ولادة المسيح من بين الأموات، ويفيض الوهج إذ يتلقّفه المحتفلون بشموعهم فيغطّي أجزاء الكنيسة كلّها، ثمّ يحملونه إلى الخارج ليضيء بيوت القدس، كما أضاء سراج المسيح في بيتٍ في الناصرة بيوتًا في الأصقاع كلّها.

النور المقدّس في كنيسة القيامة.
النور المقدّس في كنيسة القيامة.

 

لكنّ كازانتزاكيس يوحي إلينا أنّ هذا النور صنعته الأجساد المتعرّقة للمؤمنين، وأنّه انبعث منها هي، لا من شموع البطريرك، فيقول بأنّه حتّى لو لم يَحْضُر الرهبان والمثقفون، فإنّ الفلّاحين بحرارة هيبة الربّ في قلوبهم كانوا قادرين وحدهم على بعث الربّ ونوره. فنتذكّر هنا، دون أن يشير لنا الكاتب مباشرةً، وصفه البارد قبل بضع صفحاتٍ لزيارته إلى موسكو الشيوعيّة أو “القدس الجديدة” كما وصفها، وحال العمّال والفلّاحين من جميع الأجناس هناك الذين شبّهم بخليّة النمل (تظهر المفارقة بين الوصف السابق للمؤمنين بخليّة النحل وهذا الوصف، كأنّهم في حكم الشيوعيّة فقدوا أجنحتهم وقدرتهم على صنع العسل والشمع)، وحجّهم بظُهورهم المقوّسة إلى قبر لينين “المقدّس” الرماديّ.

ثمّ حين نستدعي حواره أثناء طقوس سبت النور مع راهبٍ أرثوذكسيّ تمنّى طرد باقي الطوائف، وكيف قام كازانتزاكيس بتوبيخه على ذلك، نشعر أنّ تصويره لاختلاف أشكال وأعراق جماعات المحتفلين في داخل الكنيسة، وقدرة أجسادهم الموحّدة في جسدٍ واحدٍ على بعث نور الربّ، يوحيان بنوعٍ من شيوعيّةٍ مسيحيّةٍ أو صوفيّة، ما يجعلنا ربّما نعذره على أوصافه المزعجة ذات النبرة الاستشراقيّة أحيانًا للمصلّين قبل انبعاث النور، حيث تكثر النعوت الجسديّة لهم بـ “السمنة” و”القباحة” و”النحافة” و”الترهل” و”كثرة الشحم” و”الشعور الزيتيّة” و”النتانة”، حتّى أنّه يشبّه رائحة العرب بـ “رائحة الماعز”، لكنّ حدّة هذه الأوصاف ذات النبرة الاستشراقيّة تخفت في لحظة الذروة، لحظة النور المنبعث من جوهر قلوب المؤمنين المتّحدة.

كذلك، تجعلنا هذه النعوت، وأوصافٌ أخرى في الكتاب لأبنية البلدة القديمة “الجرداء” و”المتآكلة المحتوتة” التي تشبه بنوافذها “الجماجم”، نبصر القدس لا كمدينةٍ مثاليّةٍ مشيّدةٍ فوق الغيوم، بل كجسرٍ أرضيٍّ من لحمٍ ودمٍ وعرقٍ نحو سماءٍ قد تكون في الأعلى أو في دواخلنا، وذلك ما يخالف صورة القدس في أذهان المسيحيّين في العصور الوسطى. فعلى سبيل المثال، تصوّر خريطة “ورقة البرسيم” القدس كمركزٍ يعجّ بالخضرة تنبعث منه القارات “القديمة” الثلاث، الأمر الذي يتشابه مع تصوّرهم إيّاها كجنّة الله على الأرض، أو المكان الذي يعاد فيه تمثيل قصص شخصيّات الكتاب المقدّس مرارًا وتكرارًا.

 

خريطة ورقة البرسيم، رسمها هاينريخ بونتينغ عام 1581 وتظهر القدس في قلب العالم
خريطة ورقة البرسيم، رسمها هاينريخ بونتينغ عام 1581 وتظهر القدس في قلب العالم

 

لذلك، فإنّنا نعثر على صورة القدس المثاليّة في عيون كازانتزاكيس منبعثةً من سكّانها الأرضيّين المرتديين ملابس الضعف والشفقة الإنسانيّة، كأنهم هم المسيح بجروحه التي أثخنته، أو طائر السيمرغ (رمز الله) الذي بحثت عنه الطيور في كتاب “منطق الطير” للعطّار، حتّى أدركت في نهاية رحلتها أنها هي ذاتها في جوهرها ذلك الطائر المنشود، أليسوا هم من نحتوا بإزميل شفاه حبّهم موضع إنزال جسد المسيح عن الصليب؟ فلنتأمل معًا الفقرة التالية لنيكوس كازانتزاكيس صفحة 34 من كتاب “رحلة إلى فلسطين”:

“رقعة المرمر العظيمة، التي تغطّي قطعة الأرض التي مُدِّدَ عليها السيّد المسيح بعد الصلب، كانت قد مُسحت وحُتَّت بفعل القُبَل. فمنذ قرون عديدة، وهذه الحشود البشريّة تنحني فوقها، تقبّلها، وتمرّر كفوفها ملامسةً إيّاها برفقٍ، ثمّ تمرّغ وجوهها وأعناقها عليها ثلاث مرّات. وكما يقول بوذا، فإنّه لو مرّت يوميًّا خلال ألف سنةٍ ريشةٌ من ريش الطاووس على جبل غرانيتي، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي”.

موضع إنزال جسد المسيح في كنيسة القيامة 2018، تصوير غابي لارون
موضع إنزال جسد المسيح في كنيسة القيامة 2018، تصوير غابي لارون

 

مذكرات خالدة: هدى شعراوي تكشف النقاب عن حياتها.

تعتبرُ مذكراتِ هدى شعراوي مرآةً تعكسُ تفانِيَها لتحقيق المساواة بين الجنسين، وفي هذا المقال، نفك شيفرة رحلتها الملهمة من خلال تجاربها الشخصية.

هدى شعراوي

صورة لهدى شعراوي من Google Arts & Culture

في أواخرِ القرنِ التاسعِ عشر، في عالمٍ تَكتنفه التقاليد ، كان مقدرًا لفتاة صغيرة تدعى هدى شعراوي أن تتحدى الوضع الراهن وتستيقظ على إمكاناتها الحقيقية.

وُلِدَت هُدى فيما يعرفُ بعصرِ الحَريم في مِصر، وهي حِقبة تاريخية تميّزت بالفصل الصارمِ بين الجنسين، حتى داخل المنازل. لدى هدى والدتين اعتزت بهما، والدتها البيولوجية، وزوجة والدها، التي كانت تناديها بـ “ماما الكبيرة” والتي كانت ملجأ و بيت أسرار هدى الصغيرة.

وفي أوقاتِ الأعياد، كان المنزلُ ينبض بالحياة، وتتجمع عائلة هدى بأعداد كبيرة. وكان الأطفال يجلسون على مراتب ناعمة حول فانوسٍ ضخم، لأن الكهرباء كانت لا تزال نادرة في تلك الأيام. و كانت الخادِمات والمربيات يمتعونهم بقصص آسرة من بلادهم، ويقنعونهم بلطف بالنوم مع حلول الليل.

حصلت هدى على تعليم خاصٍ غنيّ، إذ لم يكن يسمح آنذاك بتعليم الفتيات بالمدارس. كان معلموها يعلمونها التركية والفرنسية وكانَ ذكاؤها واضحًا لجميع من عرفها، ولكن كونها فتاة في أواخر القرن التاسع عشر جعلها تواجه واقع التفرقة بين الجنسين.

كان لهدى أخ كبير، اسمه إسماعيل، الطفل الذهبي للعائلة، صبيٌ تلقى حنانَ الجميع. عومل اسماعيل كما لو كان هشًا، جوهرة ثمينة يجب حمايتها بأي ثمن. وفي الناحية الأخرى، غالبًا ما شعرت هدى كشخصية ثانوية في حياة عائلتها. “أحسّت هدى بعداءً تجاه شقيقها مع تقدمها في العمر، اذ تتذكر بوضوح  في مذكراتها عندما لم يُعرها أحدٌ اهتماماً حينَ مرضت بشدة. ومع ذلك، عندما استسلم شقيقها لنفس المَرض بعدَ بِضعة أسابيع، أصيبت الأسرة بأكملها بالجنون. بكت أمهاتها، وسهِرت فرق الأطباء بجانبه باستمرار. لقد تقاسموا نَفس الغرفة، لكن العيون كلها كانت عليه فقط.

في ظلِّ تعطشها للعلم، كانت هدى تتسلل بسريةٍ إلى جلسات تدريسِ شَقيقها الخاصة، وتَلتهم كل قطعة من المعرفة يمكنها الحصول عليها. وعلى الرغم من التفاوتات بينهما، الا أن اسماعيل ظل رفيقها الداعم الحقيقي طوال حياتها.

“أشار الطبيب الذي كان يعالج أخي أن يشتروا له مهرًا صغيرًا ركوب الخيل — وهو إذ ذاك في السابعة من عمره — لأن الركوب رياضة سامية تقوي الجسم وتنشط حركة الأمعاء وفي الوقت نفسه لا تتطلب مجهودًا كبيرًا، فطلبت أنا أيضًا أن يشتروا لي مهرًا لأركب مثله، وحاولوا إقناعي بأن ركوب الخيل لا يليق بالبنات، ولكني دحضت زعمهم هذا بحجة دامغة، فضربت لهم مثلًا بجارتنا ابنة الضابط لمعي بك التي تركب الخيل وتقود عربتها الصغيرة بنفسها، ولما عجزت والدتي عن إقناعي، خيرتني بين الحصان والبيانو، وكانت تعرف ميلي الشديد للموسيقى فنجحت إذ فضلت البيانو على الحصان، قائلة في نفسي: أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخي كلما أردت” (هدى شعراوي في مذكراتها)

عند وَفاة والدها، كانت هدى في الخامسة من عمرها فقط، وكان شَقيقها في السابعة من عمره. والغريب أن العائلة اختارت إخفاءَ خبرِ وفاةِ والدها عن شقيقها لعدة أشهر. كانت هدى هي التي قررت أخيرًا الكشف عن الحقيقة لأخيها، في تلك اللحظة بدأ تحالفهما ضد عالم الكبار.

ولكن عندما بلغت هدى الحادية عشرة من عمرها، تغير العالم من حولها. لقد شاركت طفولتها مع أبناء جيرانها الذكور الذين أصبحوا أصدقاء لها. ومع ذلك، فرضت الأعراف المجتمعية عليها أن تقتصر صحبتها على الفتيات والنساء، وكان هذا التحول مؤلمًا. شعرت هدى وكأنها غريبة عن عالم الفتيات، وعاداتهم ومفاهيمهم مختلفة تمامًا عن تلك التي نشأت معها.

نادرًا ما كانت تغادر نساء مجتمعها المنزل دون إخفاء وجوههن؛ إذ رمز الحجاب انذاك إلى مكانتهم الطبقية العليا، وكان  رمزًا للهوية والتقاليد المصرية آنذاك.

صقلت السنوات الأولى من حياة هدى الشعراوي شخصيتها التّي وصفت بالقوية والعازمة. دفعتها طفولتها غير العادلة في نهاية المطاف إلى تحدي التقاليد الاجتماعية وأن تصبح شعلة للحركة النسّوية في مصر، رحلة ستغير مجرى حياتها وحياة العديد من النساء اللواتي سيتبعنها.


ه
ُدى الثائريين
بدأت رحلة هدى كناشطة في سن مبكرة حين حاولت عائلتها  تزويجها في سن الثالثة عشرة. على الرغم من المقاومة الأولية، وجدت هدى نفسها متزوجة في سن الرابعة عشرة من ابن عمتها. ومع ذلك، كان زواجها قصير المدى بسبب فشل زوجها في الامتثال لالتزامه بالزواج الأحادي. وقد أدى رفضها لهذا الزواج في النهاية إلى مفاوضة مبتكرة: لن تقبل هدى بالزواج إلا إذا وافق زوجها على علاقة أحادية، متحديةً بذلك العرف السائد في تلك الحقبة.

وبدعم من أخيها انطلقت هدى في رحلة اكتشاف ذاتها دون القيود. لاكتساب المعرفة وتمكين النساء، انضمت هدى إلى الصالونات النسائية والأندية الفكرية. إذ سمحت هذه المساحات للنساء بالحوار الفكري وتحدي الأعراف المجتمعية ، بعيدًا عن أعين الرجال.

مع ظهور حركات النسوية في أوروبا، نشأ نفس الوعي في الإمبراطورية العثمانية، ووجدت  هدى نفسها في الصدارة لهذا التحول المجتمعي. أصبحت شخصية بارزة في معركتها من أجل حقوق النساء، سواء في مصر أو على الصعيدين العربي و الدولي. وشاركت في تأسيس الاتحاد النسائي المصري الذي دعى إلى تعزيزِ تَعليم المرأة، وإصلاح عادات الزواج المبكر، وتشجيع الصحة العامة، ومكافحة الخرافات. كما هَدفَ من خلال الدعوة الصحفية إلى نَشر مبادئهم وإنشاء مجتمع أكثر إنصافًا.

صحيفة الدفاع،4 شباط 1944
صحيفة الدفاع،4 شباط 1944

 

في عام 1923، قامت هدى بعملُ جريء بإزالة النقاب عن وجهها في محطة القطار بالقاهرة عند عودتها من المؤتمر الدولي للنساء في روما. أثارت هذه الفعلة فضيحةً ًكبيرة بالطبع، لكن هدى بقيت ثابتة.و مَثَّل عملها تحولًا في فكرة النقاب، اذ لم يعد يُنظر إليه كرمز للامتياز بل للخضوع.

تقرير عن زيارة هدى للبلاد، صحيفة فلسطين، 16 أيلول 1944
تقرير عن زيارة هدى للبلاد، صحيفة فلسطين، 16 أيلول 1944

يستمر إرث هدى شعراوي كشهادة على تفانيها اللاهدأ في النضال لحقوق النساء والتقدم الاجتماعي. ساهمت جهودها في تربية جيل جديد من النساء المتعلمات ليس في مصر بل كافة العالم العربي.

وإن كان من الصعب اختصار فكر هدى الذي يختلف الكثيرونَ إلى الآن معه، نَختم باقتباس لها لعله يلخص ما كانت تؤمن “أن الإنسان ميال بفطرته لتشبهه بمن هو أرفع منه قدرًا، فإذا حاولت المرأة المهضومة الحقوق أن تتشبه بالرجل، فلأنها تراه أرفع منها وأعز سلطانًا في الهيئة الاجتماعية لتمتعه بكل حقوقه. وإن اليوم الذي تصل فيه المرأة إلى حقوقها وتتبوأ مركزها بجانب الرجل، تحتفظ بأنوثتها ومميزاتها كما يحتفظ الرجل برجولته ومميزاته.”

الشقيقتان المصريّتان، ذواتا الهويّة اليهوديّة السرّيّة، اللتان احترفتا الرقص الشرقيّ

تعرّفوا إلى ليلى ولمياء جمال، الشقيقتان المتشابهتان حدّ التطابق، اللتان اجتاحت شهرتهما مصر بحركاتهما الراقصة المثيرة للابتهاج.

الشقيقتان جمال

نُقِل عن “حِن مَلول” من العبرية

ساهم الجنود الأجانب، الذين عجّت بهم المدن المصريّة الرئيسيّة في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، في إحداث العديد من التغييرات في ثقافة الترفيه المحليّة. تمّ افتتاح العديد من الملاهي الليليّة، واستفاد الموسيقيّون والممثّلون والراقصون -ذكورًا وإناثًا- من التعطّش الشديد إلى الترفيه، وكانوا متحمّسين للغاية من أجل توفيره.

كان “قصر الحلميّة”، الواقع في أحد أحياء القاهرة، واحدًا من أفضل وأشهر الملاهي الليليّة في تلك الفترة. لم يكن الترفيه الفنّيّ الذي يقدّمه صاحب هذا الملهى عاديًّا، فالاهتمام بأدقّ تفاصيل الأزياء، وبإطلالات الموسيقيّين الماهرين، وبالتصميم الرهيف للرقصات، جعل من الملهى أرضًا خصبةً لثقافةٍ شرقيّةٍ جديدة.

شكّلت “التوأم جمال” جوهرتا تاج قصر الحلميّة، وهما الراقصتان الشرقيّتان اللتان ابتكرتا أسلوبًا جديدًا في هذا النوع الشرقيّ القديم من الرقص. ومع اقتراب عهد الملك فاروق الأوّل من نهايته، أصبحت الشقيقتان، ليلى ولمياء، أهمّ نجمتين في المشهد الترفيهيّ المصريّ. كان المكان يكتظّ بحشودٍ من الجمهور، وكان العاهل المصريّ من أشدّ المعجبين بهما. لكن، ما سرّ سحرهما الذي أطلق مسيرتهما نحو النجوميّة؟

كان الرقص الشرقيّ المتوسّطيّ أحد اختصاصاتهما. قام الموسيقيّون الذين رافقوا الثنائيّ بالتدريب معهما مرّاتٍ كثيرةٍ وساعات طويلة لخلق التناسق بين الحركات الراقصة والقطع الموسيقيّة المختارة بعناية. أثمرت جلسات التدريب الشاقّة، والتمارين اللانهائيّة، وبروفات الرقص اليوميّة عن نتائج مدهشة. كان أداء الشقيقتين جمال مبهرًا ومبتكرًا، حيث تمايلت الراقصتان في انسجامٍ أخّاذٍ بينهما، يصحبه تناغمٌ آخر تامٌّ بين الرقص والموسيقى.

لم يكن أداؤهما، الذي استخدمتا فيه أيضًا دعائم مسرحيّةٍ عديدة، مجرّد رقصٍ مصدره شرقٌ غريبٌ لم يعتده الجمهور. كانتا قادرتين على صُنْع صورةٍ متناسقةٍ بينهما، كأنّ إحداهما صورة المرآة لجسد الأخرى، ثمّ عَكْس الاتّجاه ببراعةٍ فنّيّة، بينما تحافظان على التعبير المتّقد عن الموسيقى التي كانتا تتحرّكان وفقها. كان التواصل بينهما وبين الموسيقيّين حيويًّا ومثيرًا للجمهور.

لم تكن المواهب الموسيقيّة للشقيقتين جمال مفاجئةً على الإطلاق، إذ كانتا ابنتين لموسيقيَّيْن، وقد تعلّمتا العزف على الآلات الموسيقيّة منذ طفولتهما المبكّرة. كان والدهما، فيشِل ألبرت، عازف كمان في أوركسترا فيّينا السيمفونيّة. ويكشف اسمه عن أصله اليهوديّ إذ انتقل من تشيرنويتز إلى العاصمة النمساويّة، حيث أصبح موسيقيَّا محترفًا. أمّا السبب وراء هجرته إلى مصر في العشرينيّات من القرن الماضي، فغير معروف. وقد يكون ذلك ناجمًا عن الأزمة الاقتصاديّة الكبيرة التي دفعته بعيدًا عن أوروبا، إلى مكانٍ سيحظى فيه على مكانةٍ لائقةٍ ودخلٍ جيّد.

في الإسكندريّة، التقى فيشِل بزوجته جيني (جانين) إلبرت، المغنّية الأوبراليّة ابنة مهاجرين يهوديّين. أسر قبله حضورها الساحر وجمالها الأخّاذ. وُلِدَت ابنتهما الكبرى هيلينا بعد عامٍ واحدٍ فقط من زواجهما، ووُلِدَت شقيقتها الأصغر بيرثا بعد عامين ونصف، في عام 1932.

نشأت هيلينا وبيرثا في بيتٍ موسيقيّ، وتمّ إرسالهما من قبل والدهما ووالدتهما إلى دروس الباليه منذ سنٍّ صغيرة، لكن يبدو أنّ البيئة التي نشأتا فيها أثّرت عليهما كي لا تقتصرا على الدروس المعتادة للباليه الكلاسيكيّ، فبدأت الشقيقتان كذلك في دراسة الرقص المتوسّطيّ، وأُصيب أساتذتهما بالدهشة البالغة عندما كشفتا عن موهبةٍ استثنائيّةٍ في تأدية حركات الرقص الشرقيّ. ولم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تبدآ في تلقّي العروض للظهور أمام الجمهور. وبالنسبة إلى أمّهما، فقد أدّى ذلك إلى تفكيرٍ جدّيٍّ في الموضوع من طرفها، إذ كانت قلقةً بشأن مستقبل ابنتيها الصغيرتين، اللتين لا يتجاوز عمرهما 12 و 14 سنة، واللتين ستجدان أنفسهما في جلبة عالمٍ تراه الأمّ فاسقًا وفضائحيًّا. لكن، من ناحيةٍ أخرى، فقد كان إغراء هذه الفرصة كبيرًا.

ففي تلك الفترة، فقد زوجها مصدر دخله الثابت، وواجهت العائلة مشاكل ماليّة. لم تجرؤ جيني على إخباره عن العروض التي تقدّمها الفتاتان، وقررن أن يبقين الأمر سرًّا بينهن. رافقت الأمّ المتفانية ابنتيها إلى كلّ تمرينٍ وعرض، محافظةً بقوّةٍ على براءتهما. استمرّت بفعل ذلك لسنواتٍ عديدة، حيث رافقتهما أيضًا في رحلاتهما الخارجيّة.

مع ذلك، لم تتمكّن نساء عائلة ألبرت الثلاث من إخفاء سرّهنّ عن ربّ أسرتهنّ لفترةٍ طويلة. فقد أصبحت هاتان الشقيقتان الموهوبتان نجمتين بين ليلةٍ وضحاها، وكان نجاحهما باهرًا حقًّا. وبمساعدةٍ من أمّهما وأساتذتهما، أبدعتا أداءً مبتكرًا يبرز مرونتهما وقدراتهما كراقصتين محترفتين.

اختارت الشقيقتان اسمَيْن فنّيَّين هما ليلى ولمياء (أو: ليز ولين)، واحتاج الاسمان إلى اسمٍ عائليٍّ وقصّةٍ تخفي أصلهما وتجذب اهتمام الجمهور. لذلك، أصبحت هيلينا وبيرثا ألبيرت، ابنتا فيشِل من تشيرنويتز، “التوأم جمال”.

كان الملهى الليليّ “قصر الحلمية” نقطة الانطلاق فقط التي صعدت منها الشقيقتان نحو الشهرة العالميّة. كانت أدوارهما في سلسلةٍ من الأفلام المصريّة قصيرةً للغاية في البداية رغم أهمّيتها للحبكة، ثمّ أصبحت أدوارهما أطول وأكثر أهمّيّةً بسبب الطلب الكبير عليهما من الجمهور. سرعان ما انتشر اسماهما في جميع أنحاء العالم العربيّ. لا يبدو أنهما أنّكرتا ديانتهما اليهوديّة، بيد أنّهما كانتا ناجحتين في إخفاء أصولهما. كانت القصّة المستعملة لذلك مثاليّة، ونستطيع أن نفترض أنّ لا أحد من المعجبين العديدين بهما -في مصر وخارجها- قد أدرك أنّ هاتين الفتاتين لم تكونا عربيّتين.

غيّر الانقلاب العسكريّ في مصر وصعود جمال عبد الناصر إلى السلطة تدريجيًّا الأجواء في البلد، التي أسهمت في السابق في صعود نجم الشقيقتين. تمّت دعوتهما إلى المزيد من العروض خارج بلدهما الأصليّ، وقد حظيتا بشعبيّتهما الأكبر في كلٍّ من سنغافورة والهند.

حظرت الرقابة أحد مشاهد الرقص في واحدٍ من الأفلام الهنديّة التي شاركتا فيه بسبب “عدم الاحتشام”. أصبحت السلطات العسكريّة في مصر متشكّكةً في الرحلات المتكرّرة للأختين جمال، وربّما كان مردّ هذا الشكّ معرفتها بأصولهما اليهوديّة.

في أواخر عام 1957، أثناء جولةٍ ناجحةٍ في الشرق الأقصى، تلقّى والدهما، الذي بقي في القاهرة، برقيّةً مفاجئة. بسرعةٍ كبيرةٍ حذّر الفتاتين، اللتين ترافقهما أمّهما كالعادة، من العودة إلى مصر. فقد أصدرت الشرطة المصريّة أمرًا باعتقالهما، إذ كانتا مطلوبتين للتحقيق معهما بتهمة التجسّس.

لم يكن صعبًا على الشقيقتين جمال أن تعثرا على متعهد حفلاتٍ ليدعوهما إلى تأدية العروض في الولايات المتّحدة. لقد أثارت اهتمامهما أمريكا لفترةٍ من الزمن، واعتبرتاها مكانًا مناسبًا للجوء. كانت لديهما في الوقت الراهن مشكلةٌ واحدةٌ مزعجة: كيف ستتمكّنان من الحصول بسرعةٍ على التأشيرات اللازمة لدخول الولايات المتّحدة؟

في ذلك المساء تحديدًا، حضر وفدٌ من أعضاء الكونغرس الأمريكيّ، كان في زيارةٍ إلى بومباي، إلى الملهى الليليّ حيث كانت فقرة الأختين جمال من ضمن برنامج العروض. كان إعجابهم بأدائهما في فقرة الرقص الشرقيّ لا حدود له. وفي صباح اليوم التالي، كانت تأشيرات الدخول التي أرادتاها بين أيديهما.

بأذرعٍ مفتوحة، رحّب المشهد الفنّيّ النابض بالحياة في الحيّ اللاتينيّ في نيويورك بالشقيتين جمال. اندمجت الطاقة الجديدة، التي جلبتاها معهما من الشرق، بسلاسةٍ مع الاتّجاهات الفنّيّة المختلفة التي كانت تحظى بشعبيّةٍ شديدةٍ في أمريكا في الخمسينيّات. ساهم تعاونهما مع الموسيقيّ إيدي “الشيخ” كوتشاك وفرقته في نجاحهما.

لسوء الحظّ، ليس من الواضح ما الذي دفع الشقيقتان، المعروفتان الآن ببساطة باسمَيْ لين وليز، إلى التخلّي عن مسيرتهما المهنيّة الناجحة. هل كانت والدتهما اليهوديّة هي التي ضغطت عليهما من أجل الزواج بسرعةٍ وترك المجال الترفيهيّ؟

سرعان ما استقرّت الشقيقتان، واحدةً تلو الأخرى، مع زوجين جديدَين، بعد فترةٍ ليست بالطويلة من وصولهما إلى أمريكا. ويبدو أنّ الرجلَيْن اللذَيْن اختارتا مشاركة حياتهما معهما، واللذَيْن كانا رَجُلَيْ أعمالٍ محترمَيْن، لم يكونا معجبَيْن كثيرًا بحياتهما المهنيّة كراقصتين في الملاهي الليليّة.

في غضون وقتٍ قصير، تقلّص جدول عروض الشقيقتين جمال. وقد قامتا بالتعبير عن شغفهما إلى الرقص والموسيقى، الذي لا يزال مشتعلًا داخلهما، من خلال تدريس الرقص الشرقيّ في سياقاتٍ وطرقٍ متنوّعة. وخلال فترة الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، اعتُبِرَت الشقيقتان -لا سيّما ليز- من أكثر المعلّمين احترافيّةً في هذا المجال في الغرب.

توفّيت لين في لونغ آيلاند في عام 1992، وعاشت ليز لسنواتٍ عديدة بعد وفاة شقيقتها، إلى أن توفّيت في عام 2016. كانت قد تزوّجت مرّةً أخرى من رجلٍ يدعى ديفيك ماركس، وهو ناجٍ من المحرقة قَدِمَ إلى البلاد قبل سنةٍ من تأسيس الدولة اليهوديّة على متن قارب الهجرة غير القانونيّة “موليدِت”، ثمّ انتقل فيما بعد إلى أمريكا، حيث حقّق نجاحًا في صناعة الأثاث.

كانت ألبومات الصور والتذكارات والقصص التي تعود إلى أيّام مجد زوجته ليز دائمًا مصدر جذبٍ لديفيد. وكرجلٍ عايش بنفسه تقلّبات الحياة اليهوديّة في القرن العشرين، كان يعتقد أنّ قصّة زوجته يجب أن تشكّل أيضًا قطعةً من الفسيفساء متعدّدة الألوان التي توثّق قصّة الشعب اليهوديّ. وفي نيسان عام 2017، تبرّع بأرشيفها الشخصيّ إلى المكتبة الوطنيّة. ليز، أو بيرثا ألبرت، مستخدمين اسمها الحقيقيّ، سوف ترقص الآن إلى الأبد في أرشيف المكتبة الوطنيّة، وستظلّ قصّة الشقيقتين جمال حيّةً دائمًا.