ماذا كان سيحدث لو أنّ كافكا عاش سنواتٍ عديدة أخرى وتوفيّ في سنّ الشيخوخة؟ كيف أصبح هذا الموظّف الذي يبدو عاديًا واحدًا من أعظم الكتّاب في القرن العشرين؟ هل كانت وفاته أفضل ما حدث له على الإطلاق؟ يستكشف معرضٌ جديد في المكتبة الوطنيّة شخصيّةَ كافكا المثيرة للاهتمام، مسلطًا الضوء على رجلٍ أصبحت حياته وأعماله وموته جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية الحديثة. (الكاتب: ستيفان ليت)

فرانز كافكا هو واحدٌ من أعظم الكتاب في القرن العشرين، فأعماله الأدبيّة، وبشكلٍ خاصٍّ “المحاكمة” و”أمريكا” و”القلعة”، تُعتبر من بين أهمّ الأعمال الأدبية التي كُتِبَت في الغرب، وذلك بسبب الثيمات (المواضيع والأفكار) التي تناولتها، بالإضافة إلى أسلوب كتابتها، والذي كان متقدمًا على عصره بشكلٍ بارز.
لكن، لماذا كان لكافكا – وهو موظّفٌ حكوميٌّ يبدو عاديًا للغاية ولم تُنشَر معظم أعماله خلال حياته- تأثيرٌ عميقٌ على الأدب العالميّ؟ كيف أصبح هذا الشخص، الذي أوصى بإحراق كتاباته بعد وفاته المبكّرة، كاتبًا بهذه الأهمّيّة، حيث لا يزال الكتّاب يحاكون أسلوبه بعد مرور 100 عامٍ على وفاته؟
بوسعنا اليوم أن نقول بأنّ كافكا كان رائدًا في الأدب الحديث خلال الربع الأول من القرن العشرين. شملت أعماله مواضيع فريدة في عصره مثل الصراع مع البيروقراطية القمعية، وتساؤلات الهوية وتقدير الذات، وانهيار البنى الاجتماعية التقليدية وتحديات العالم الحديث، وهي مواضيع شقّت طريقها إلى الأدب الحديث بفضله. يظهر الوضع الإنسانيّ في العديد من أعماله مفتقرًا إلى المعنى، تطغى عليه صورةٌ مرعبة، ويائسة، ومشوهة، أو باختصار، صورةٌ “كافكاويّة”، وهو تعبيرٌ أصبح شائعًا اليوم بشكلٍ كبير.
وعلى الرغم من كلّ الثناء المتأخر الذي حصل عليه في النهاية، لم يرغب كافكا في أن تُنشَرَ رواياته وقصصه. وقد نُشِرَ معظمها مع الوقت، خلافًا لإرادته الصريحة، ولم يتمّ ذلك سوى بعد وفاته في 3 حزيران عام 1924، عندما كان يبلغ من العمر 41 عامًا، وتُرجِمَت فيما بعد من الألمانية إلى العديد من اللغات الأخرى.
العديد من الجوانب المثيرة للاهتمام من شخصيّة فرانز كافكا تُعرَضُ حاليًا في معرض خاصّ في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، بمناسبة مرور 100 عام على وفاته، حيث يُسلط الضوء على الكاتب وأعماله وحياته. سأحاول هنا استعراض بعض المحطات الرئيسية في حياته، كما يعرضها المعرض، والإجابة عن هذا السؤال: “من كان فرانز كافكا ولماذا تُعتبَر أعماله الأدبيّة ثوريّةً وذات أهمّيةً بالغة؟”

وُلِدَ فرانز كافكا في براغ في 3 تمّوز، عام 1883، وهو الابن الأكبر لِهرمان ويولي كافكا، مالِكَيْ متجر أقمشةٍ ومستلزماتها في مركز المدينة. تلته ثلاث أخوات هنّ جابرييل “إيلي” وفاليري “فالي” وأوتيلي “أوتلا”. كانت عائلة كافكا تعتبر نفسها يهوديّة، ولكن مثل العديد من اليهود في ذلك الوقت، اعتبروا أنفسهم في المقام الأوّل جزءًا من الثقافة الألمانية. تلقّى فرانز تعليمه في مدرسة ثانوية ناطقة بالألمانية وتخرّج منها عام 1901.
درس إلى جانب صامويل هوغو بيرغمان، الذي أصبح لاحقًا مديرًا للمكتبة الوطنية اليهودية والجامعية في القدس (المعروفة اليوم باسم المكتبة الوطنية الإسرائيلية) ورئيسًا للجامعة العبرية.
بعد أن أنهى دراسته الثانوية، بدأ كافكا في دراسة القانون وتاريخ الفن والفلسفة والأدب الألماني في جامعة براغ، حيث تعرّف على صديقه المقرّب ماكس برود، الذي كان هو الآخر طالب قانونٍ، بالإضافة إلى كونه كاتبًا وشاعرًا ومؤلّفًا مسرحيًّا وملحنًا. خلال هذه الفترة، كتب كافكا المسودة الأولى لقصّتيه “وصف صراع” و”تحضيرات عرسٍ في الريف”. وعلى الرغم من أنّه عاش في منطقة بوهيميا وتحدّث التشيكية، اختار كافكا الكتابة باللغة الألمانية. بدأ كافكا طريقه في عالم الكتابة بعد أن أنهى دراسته للقانون في جامعة براغ، بينما كان يعمل في الوقت ذاته موظفًا متخصّصًا، وهو دورٌ تطلّب منه فهمًا عميقًا للتعقيدات البيروقراطيّة في عالم التأمين. بعد تخرّجه، انضمّ إلى شركة محاماة في بوهيميا متخصصة في حوادث العمل. لم يكن يحبّ وظيفته، رغم أنّه كان بارعًا فيها. ومع ذلك، كان قبله معلّقًا بالكتابة. وعلى الرغم من وضعه الجديد الذي أصبح فيه مستقلًا ماليًا، استمرّ في العيش مع والديه حتّى المراحل الأخيرة من حياته، وهو ما تسبّب في خلافات عائلية أصبحت لاحقًا من الموضوعات الرئيسية في أعماله الأدبيّة.

موظّفٌ مكتبيٌّ نهارًا، وكاتبٌ ليلًا
كثيرًا ما استلهم كافكا موضوعات أعماله من تجاربه كمحامٍ في نظام إداري بيروقراطي في الإمبراطورية النمساوية المجرية، حيث عانى من شرخٍ كبير بين هويّته ككاتب وتصوّره عن ذاته. تكشف العديد من نصوصه الشخصيّة (مثل “رسالة إلى والده”، ورسائله الشخصية إلى أصدقائه، بالإضافة إلى يومياته) عن تأملاته بخصوص صورته الذاتية وقدراته الأدبيّة.
في المقابل، ركّزت أعماله الأدبية على شيءٍ تخصّص فيه شخصيًا، لكنّه كان يثير الخوف والنفور لدى الكثير من الناس، ألا وهو الوحش العظيم للبيروقراطية. تعكس روايتاه “المحاكمة” و”القلعة” تجاربه في عالم البيروقراطية والشعور بالعجز الذي تغرسه في داخل المواطن العادي. وتُعتبَر قصّته القصيرة “أمام القانون” بمثابة ملخّصٍ لهاتين الروايتين. ولم تفقد أيًّا من هذه الأعمال قيمتها بمرور الزمن، حيث لا تزال ذات أهمية حتّى يومنا هذا، وهذا هو سرّ نجاح كافكا في العديد من الثقافات حول العالم.
نشر كافكا كتابه الأول، “تأملات”، في عام 1912، وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة التي كتبها قبل بضع سنوات. لاحقًا، نشر قصّة “الحكم”، التي كتبها في ليلة واحدة في خريف عام 1912، ويبرز فيها أسلوب كافكا القاتم المعتاد. أشهر أعماله، “التحوُّل”، تروي قصّة بائع متجوّل يستيقظ ذات صباحٍ في سريره ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة عملاقة.
دشّنت هذه الأعمال أسلوبًا أدبيًا جديدًا يدعو القرّاء إلى مواجهة الجوانب البغيضة وحتّى المرعبة للوجود الإنساني، وإلى التعامل مع مواقف عبثيّة لا يمكن أن تصدر عن مواقف حقيقيّة، بل عن خيالٍ بارعٍ وخصب. في العديد من أعماله، يُعبَّر عن موضوع البيروقراطية في شكل آليات مظلمة تعمل وفق مبادئ غامضة لا تصبّ في مصلحة المواطن، أو في شكل شخصياتٍ تعمل لصالح تلك الآليات. كان أسلوب كافكا مختلفًا تمامًا عن أي شيءٍ كُتِبَ قبله، وقد كان غالبًا على درايةٍ بذلك، وهو ما قد يكون أحد الأسباب الذي دفعته إلى رفض نشر معظم أعماله، وحتّى الأمر بإتلافها.
الروايات الثلاثة التي كتبها كافكا، وهي “أمريكا (وكان عنوانها الأصلي “المفقود”) و”المحاكمة” و”القلعة”، والتي استكملت المواضيع التي طوّرها في أعماله القصيرة، ظلّت غير مكتملة الكتابة. طلب كافكا من ماكس برود أن يحرق جميع مخطوطاته بعد وفاته، لكنّ برود قرّر عدم تنفيذ رغبة كافكا، ونشرها جميعًا بدلًا من ذلك. وهكذا، أنقذ عددًا من أبرز الروائع الأدبيّة من الضياع، صانعًا من كافكا واحدًا من أعظم الكتّاب في القرن العشرين وشخصية أساسية في الأدب الغربي.

إنقاذ كافكا من نفسه
ماذا كان سيحدُث لو أنّ كافكا عاش لسنواتٍ أطول؟ يبدو أنّ نهايته المأساوية، التي منعته من التحكم في قرار نشر (أو عدم نشر) أعماله، هي ما ساعده، يا للمفارقة، على أن يصبح واحدًا من أعظم كتّاب عصرنا. قصّة طلبه بأن تُتلَف أعماله و”خيانة” ماكس برود لوصيته، عندما قام بالعكس من ذلك تمامًا، ساهمت في شهرة كافكا بعد وفاته، وهي شهرة لم تكن من نصيبه أبدًا خلال حياته.
في عام 1917، وخلال الحرب العالمية الأولى، أُصيب كافكا بمرض السلّ، أحد أكثر الأمراض شيوعًا في أوائل القرن العشرين، وهو ما أدّى في النهاية إلى وفاته. ففي ذلك الوقت، لم يكن هناك علاجٌ له، وقد انتشر المرض بشكل رئيسيّ بين السكّان الذين يعانون من سوء التغذية، وكانت فترات الحروب كارثية من ناحية توفّر الغذاء.
في البداية، حاول كافكا أن يتعالج من مرضه بأخذ فترة نقاهة لبضعة أشهر في منزل أخته أوتيلي خارج المدينة، ومع ذلك، ازداد وضعه الصحيّ سوءًا، واضطرّ إلى قضاء فترات أطول في مصحّات مختلفة في بوهيميا والنمسا. وفي الأسابيع الأخيرة من حياته، تفشّى المرض إلى حلقه، مانعًا إيّاه من الكلام، فاضطرّ إلى التواصل مع من حوله عبر الكتابة.
وعلى الرغم من تدهور حالته الصحيّة، لم يتوقّف كافكا عن الإبداع والكتابة. وفي عام 1921، ساورته الخشية بأنّ حصّته من الحياة قد شارفت على النفاد، فأوصى صديقه ماكس برود بإتلاف جميع كتاباته بعد وفاته. ومع ذلك، كتب رواية “القلعة” في عام 1922، لكنّه لم يتمكّن من إنهائها. وفي العام الأخير من حياته، جمع قصصًا قصيرة له لإصدار مجموعته الأخيرة “فنان الجوع”.

كافكا يصل إلى فلسطين الانتدابية
أنقذ ماكس برود مخطوطات كافكا مرّتين: المرّة الأولى عندما رفض حرقها، والمرة الثانية عندما حملها معه أثناء هجرته إلى البلاد في عام 1939. ولولا ذلك، لكان من الممكن أن تقع هذه المخطوطات في أيدي النازيين، ولم تكن على الأغلب ستنجو بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، يُعزى نجاح كافكا أيضًا إلى جهود شلومو زلمان شوكي، رجل القول والفعل. منذ عام 1934، نُشِرَت الأعمال الرئيسية لكافكا من قبل دار نشر “شوكين” في برلين، وبعد انتقال الشركة إلى فلسطين الانتدابية إثر إغلاقها من قبل النازيين، حرص شوكن على ترجمة هذه الأعمال إلى اللغة العبرية. واعتبارًا من عام 1945، نُشِرَت الروايات والقصص في العديد من الطبعات، واكتسب كافكا شهرة أيضًا بين الناطقين بالعبرية، حيث نُشِرَت رواياته في طبعات مختلفة وتُرجِمَت مرات عدّة. بالإضافة إلى ذلك، ساعد بيع حقوق النشر المتعلّقة بترجمة هذه الأعمال إلى لغاتٍ أخرى في نشر كتب كافكا في بلدان وبلغاتٍ لا حصر لها.
بعد هجرته إلى البلاد، واصل ماكس برود العمل هناك وشارك قصصه الشخصية حول علاقته بكافكا في الأوساط الثقافية المحلية. أصبحت أعمال كافكا موضوعًا للبحث الأكاديمي، وحظيت بتحليل في ملحقات الصحف الأدبية، وألهمت فناني البلاد من مختلف المجالات. ساهمت معالجة برود لرواية “القلعة” وتحويلها إلى مسرحية في أن تشقّ الرواية طريقها إلى قلوب جمهور واسع في البلاد.
جذبت كتابات كافكا الفريدة الاهتمام أيضًا في الدول العربية، ففي أواخر الستينيات، بدأت ترجمات مختلفة لكتبه وقصصه القصيرة تُنشَرُ في مصر وسوريا ولبنان والأردن. أثارت هذه الترجمات نقاشات حول كتابات كافكا وعلاقته باليهودية والصهيونية.
تستمرّ قصّة حياة كافكا في جذب قدر كبير من الاهتمام، وبخاصّةٍ بسبب التناقض بين بساطة حياته ومكانته البارزة ككاتبٍ كلاسيكيٍّ حديث. منذ عام 1969، لم تتخذ أي خطوات جادّة في البلاد لتقديم كافكا وعلاقاته بمحيطه وأعماله في معرض كبير. والآن، وبعد انتقال أرشيف ماكس برود الذي يحتوي على مخطوطات وكتابات كافكا إلى المكتبة الوطنية، ستكون هذه المرّة الأولى التي يُعرَض فيها هذا الكمّ الهائل من مواد كافكا الفريدة إلى الجمهور.