على الرُّغمِ مِن أَنَّ حَرَكَةَ السّلفية مرتبطة في الوعي الشائع بمفاهيم الأصولية وفي بعض الأحيان بالمفهوم المُرَكّب للجهاد، إلا أنها تحتل موقعًا جذابًا في تحفة الإسلام المعاصر. في جوهرها، تتمثل السلفية في رغبة حارقة في العودة إلى أُصول الدين، التي جَسّدَها النّبي محمد – عليه الصّلاة والسلام- وسَلَفه من الخلفاء المبشرين. السلفيون، أتباع هذه الحركة، مدفوعون بمسعى لا هوادة فيه: تنقية الإسلام من خلال مواءمة ممارساتهم مع الأفكار الإسلامية التقليدية، والتي يدعمها التركيز على التفسير الحرفي للقرآن الكريم والحديث الشريف.
تعود جذور السلفية إلى فترة تاريخية بعيدة، حيث وجدت جذورها في أعمال شخصيات بارزة مثل ابن تيمية. وكانت مساعيه الحماسية تهدف إلى تطهير الإسلام من الانحرافات المتصورة، مما مهد الطريق لحركات مثل الوهابية، التي ظهرت خلال السنوات التكوينية للمملكة العربية السعودية.
تقيّ الدين ابن تيمية، كان فقيهًا حنبليًّا بارزًا في القرن الرابع عشر. تركزت دراسته على علوم القرآن والحديث والفقه والتفسير. أسس لأفكار مثيرة للجدل وانتقد بشدة بعض المعتقدات والعادات في زمانه، معتبرًا أن ضعف المسلمين في وجه الغزو المغولي نابع من ضعف العقيدة والدولة المملوكية. عُتقل عدة مرات بسبب إصلاحاته الدينية، فرأى أن القرآن والحديث هما المصادر الأساسية للإسلام. أثرت أفكاره على العلماء لاحقًا وعلى ظهور التيارات الفكرية مثل السلفية والإسلام الحركي.
للمزيد من مواد الإسلام الرقمية في المكتبة الوطنية
عاش ابن تيمية في دمشق في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، و تزامنت سنة ولادته، 1263، مع فترة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الهائلة. لقد كانت فترة أعقبت مباشرة السقوط الوحشي لبغداد في أيدي المغول، وكانت بمثابة علامة على زوال الخلافة العباسية وضربة قاصمة للسلطة والثقافة الإسلامية – وهي الحضارة التي كانت ذات يوم بمثابة منارة عالمية. لقد ظهر ابن تيمية في عالم هزته هذه الأحداث المذهلة، وعاش في عصر من الاضطراب وعدم اليقين الذي لم يشكل حياته فحسب، بل وجهات نظره أيضًا.
لم يكن ابن تيمية مجرد عالم دين تقليدي، بل كان يتحدى بجرأة الممارسات المعتمدة داخل المجتمع الإسلامي آنذاك، الذي كان ميالاً للتصوف والتشيع، معتبراً إياها تحريفاً للدين الحقيقي. لم يكتف ابن تيمية بالنقد فقط؛ بل شارك بحماس في المناظرات، وكتب أعمالاً موجزة وحادة تسلط الضوء على مخاوفه من حال الأمور في العالم الإسلامي.
لم يَتَساهل ابن تيمية مطلقًا فيما يتعلق بأي نوع من أنواع البِدَع (أي الشريعة المُبتَدَعة)، كانت معتقداته واضحة: إذا لم تكن فكرة أو ممارسة مرصودة من النبي محمد (عليه الصلاة السلام) أو الصحابة (السلف)، فليس لها مكان في الإسلام. هذا الموقف كان بعيدًا عن وجهة النظر السائدة في زمانه. فعلى الرغم من حذر الناس من إدخال تعديلات جديدة في الدين، كان الكثير من الابتكارات تُنظر إليها بصورة إيجابية وحتى يتم الترحيب بها.
أَدّى هذا المَوقف الصارم لابن تيمية ضد الممارسات التي اعتبرها بدعًا في الدين، وخاصة في الصوفية، إلى سجنه. كانت آراؤه حول الشريعة الإسلامية ومعارضته الثابتة لأي شكل من أشكال الابتكار فريدة من نوعها في عصره. وتعكس كتاباته تصنيفه الصارم للشريعة الإسلامية. فما هذه الممارسات التي اعتبرها ابن تيمية مُبتَدَعة في الإسلام؟
مسيلة القبور والاستنجاد بالمقبور
امتد انتقاد ابن تيمية إلى ممارسات صوفية محددة. فقد انتقد بشدة ممارسات مثل الذكر (ترديد متكرر لأسماء الله) والسما (التأمل الروحي الذي يتضمن الموسيقى)، إلى جانب مفاهيم مثل الفناء (إبادة الذات) المرتبطة بالتصوف. كان الأمر المثير للجدل بشكل خاص هو معارضته القوية لممارسة واسعة النطاق تتمثل في زيارة قبور الأولياء، وهي ممارسة راسخة في التاريخ الإسلامي وغالبًا ما ترتبط بالصوفية. لقد أدان هذا بشدة، خوفًا من أن يكون قريبًا جدًا من الشرك أو عبادة الأصنام.
وفقًا لابن تيمية، لم تكن هناك أماكن مقدسة بطبيعتها، وطلب المساعدة لا يمكن أن يكون إلا من الله مباشرة، رافضًا مفهوم الشفاعة من الميت. كان موقفه آنذاك مثيرًا للجدل إلى حد كبير، خاصة وأن الصوفية كانت الشكل السائد للإسلام في ذلك الوقت. ونهى عن الحج إلى هذه القبور والأضرحة إلا في حالة الزيارة العارضة أثناء السفر لغرض آخر، دون طلب فضل أو بركات من الأولياء والأنبياء.
وعلى الرغم من أنه كان مرتبطًا تقنيًا بالمذهب الحنبلي، فإن ابن تيمية لم يكن خائفًا من كسر القالب. كان ينحرف كثيرًا عن وجهات نظرهم، وكان يثير الجدل في كثير من الأحيان بآرائه التي تعارض الأعراف المُعتمدة. ومع ذلك، أصبح أسلوبه الذي اتخذه أساسًا للسلفية، مما أثر بشكل كبير على التفكير الإسلامي المعاصر.