تقاليد العبادة والمرح في عيد الفطر السّعيد

مع أن عيد الفطر مناسبة دينيّة، إلّا أن كثير من عادات استقباله والاحتفال به هي عادات تراثية واجتماعية تكونت في الثقافات المختلفة. تعرفوا معنا على بعض هذه العادات بين الماضي والحاضر.

مراجيح عيد الفطر في مدينة يافا 1920-1923، ارشيف بن تسفي

مراجيح عيد الفطر في مدينة يافا 1920-1923، ارشيف بن تسفي

عيد الفطر هو أكثر الأعياد بهجة عند المسلمين، لانه يأتي بعد صيام شهر رمضان ويكون أول عيد في السنة يليه عيد الأضحى. مع أن هذا العيد مناسبة دينيّة إلا أن الكثير من عاداته اجتماعية وثقافية وعريقة أيضًا، وهي في تجدد على الدوام. في هذه المقالة الصغيرة نهنئكم بقدوم عيد الفطر، ونتعرف سويا على عادات عيد الفطر في المنطقة بين الماضي والحاضر.

تقاليد عيد الفطر المتنوّعة  

يدل على مكانة عيد الفطر الحديث المأثور عن النبي محمّد، وفيه يقول للمسلمين بأن الله استبدل أيام اللعب (الأعياد) في الجاهلية بعيدين خيرا منهم وهما عيد الفطر وعيد الأضحى. إلا انه هناك المزيد من الأحاديث التي استقيت منها تقاليد عيد الفطر الدينيّة، وهي انتظار رؤية الهلال لاعلان حلول العيد، والتكبير في ليلته، وإخراج الصّدقة والاغتسال وتقديم التّهنئة للأقارب وللجيران ولأصحاب الفضل، وصلاة العيد والخطبة. كلّها مستقاة من الحديث النبوي ولكلّها أحكام في المذاهب الفقهيّة.

فمثلًا، الصّدقة أو زكاة عيد الفطر تُعتبر فريضة على المسلم، ويجب أن تتم هذه الفريضة بعد غروب الشمس من آخر يوم في رمضان وقبل صلاة العيد، ومن المستحبّ التعجّل بها، حتّى يتمكّن الحاصلون عليها من الاستفادة بها في أيام العيد وان لا تتأخر عليهم. وهناك معايير لتحديد قيمة هذه الزّكاة بحسب الحالة المادّية للمتصدّق بها وبحسب حاجة الفقراء في ذلك المكان وفي عهد الرسول كانت زكاة العيد من الشّعير والتّمر. ولكّل من هذه العادات الدّينية أحكام وأقوال متعددة في الرّأي، ولذلك، يكثر استفتاء الشّيوخ وسؤالهم عنها في الأيام الأخيرة لشهر رمضان.

يتم أداء صلاة العيد في المساجد الكبرى حول العالم ويشارك بها الآلاف، ويتم بثّ الخطبة مباشرة من المساجد الأكثر قداسة في الإسلام ليسمعها المسلمون في البلاد البعيدة. ولذلك، فان تقاليد عيد الفطر تدل على مكانة الجماعة والاحتفال بها، من خلال الصلاة الجماعيّة والصّدقة وتقديم التهانئ، فهو احتفال بالاخرين ومعهم.

استقبال عيد الفطر

لهذه البهجة المميّزة نشأت تقاليد غير دينيّة عبر العصور لاستقبال عيد الفطر قبل مجيئه، أي ترحيبًا به وتهيئة للفرح قبل وصوله. من هذه التّقاليد المعاصرة مثلًا شراء ملابس جديدة كمظهر من مظاهر الفرح، وتحضير الحلويات الخاصّة بالعيد المعروفة بالكعك. ومن المثير للاهتمام ان كعك العيد يعتمد على ذات الحلوى الطبيعيّة الّتي أكلها المسلمون وزكّوا بها في عصر الرسول محمدّ وهي التّمر، فيتم حشو الكعك التقليدي بمعجون التّمر والاعتماد على بساطته. وهي طريقة تناقلتها الاجيال، فيتم تحضير الكعك وخبزه أيام قليلة قبل قدوم العيد، وفي جلسة تتشارك بها العائلة، وتتبادل كل عائلة بعضًا من كعكها الى الأقارب أو الجيران كنوع من التهنئة.

بيع الحلويات في عيد الفطر في مدينة القدس، أرشيف دانتشو أرنون.
بيع الحلويات في عيد الفطر في مدينة القدس، أرشيف دانتشو أرنون.


الاحتفال بالعيد

إن تقاليد الاحتفال بالعيد الغير مرتبطة بالتعاليم الدينيّة هي الأكثر تنوّعًا، فمن ما تقوم به العائلات المسلمة في البلاد هو التّنزّه في الطبيعة، زيارة الأقارب والأصدقاء، تحضير الطّعام المميّز وحضور المهرجانات أو الاحتفالات العامّة. تقريبا في كل البلدات العربيّة تكون هناك مساحة لمرح الأطفال واللعب، ويتم تحضير مراجيح خاصّة أو عربات نقل أو وسائل ترفيه أخرى، كما تقوم الجهات المحلية بتنظيم احتفالات للأطفال وعروض عائلية وتزيين البلدات، وهذا التقليد يعود لعشرات السنين الى الوراء.

 

مراجيح عيد الفطر في مدينة يافا 1920-1923، أرشيف بن تسفي
مراجيح عيد الفطر في مدينة يافا 1920-1923، أرشيف بن تسفي

 

مجمّع ألعاب الأطفال على شاطئ يافا 1920-1923، أرشيف بن تسفي
مجمّع ألعاب الأطفال على شاطئ يافا 1920-1923، أرشيف بن تسفي

 

إن تطور تقاليد الاحتفال بالعيد دليلًا على حبّه وعلى فرح الناس الحقيقي به، فهم يقومون بتجهيز المزيد من النشاطات الممتعة لإحيائها بالإضافة لتلك الدّينيّة. والأمر صحيح في جميع أماكن تواجد المسلمين، ففي الهند تتزيّن السّيدات والبنات برسم الحنّاء على كفوفهن، وفي تركيا يقوم الأطفال بجولة على بيوت الحي الذي يقطنون فيه ليهنّئوا الجيران بقدوم العيد ويحصلون على الحلوى أو بعض المال.

تقوم مرافق التّرفيه أيضًا بتجهيز برامج مميّزة من أجل العيد، فمثلًا في العام 1930 مثلًا قامت “سينما عدن” بعرض فيلم ملائم لكل الأجيال وللعائلات لشارلي شابلن بمناسبة عيد الفطر. وهذا مثال واحد من عدة مواد أرشيفية مميّزة عن عيد الفطر.

فمن أي البلدان أنتم؟ وكيف تحتفلون بعيد الفطر؟

الصّحيفة الكاملة السجّادية: مخطوطة إيرانية مزوّقة

الصحيفة السجّادية هي مخطوطة مزوّقة تعود لإيران في أواخر القرن السّابع عشر للميلاد ومكتوبة بكلتا اللغتين العربيّة والفارسيّة، نستعرض في هذه المقالة أجملها.

السرلوحة المذهّبة والملوّنة بالأزرق اللازوردي

السرلوحة المذهّبة والملوّنة بالأزرق اللازوردي

تعتبر الصّحيفة السجّادية العمل الأوّل الّذي تناقل المسلمون فيه مجموعة من الأدعية الموثّقة لترديدها. وللصّحيفة السّجاديّة مكانة هامة عند الشّيعة، وتعتبر الكتاب الثالث من حيث الأهميّة الروحانية بعد القرآن الكريم وكتاب “نهج البلاغة” المنسوب لعليّ بن أبي طالب، حتّى أن لها أسماء أخرى مثل: “أخت القرآن” و”إنجيل أهل البيت” وغيرها. في المكتبة الوطنية بعض المخطوطات الجميلة للصحيفة السجّادية، نستعرض في هذه المقالة أجملها، وهي مخطوطة مزوّقة تعود لإيران في أواخر القرن السّابع عشر للميلاد ومكتوبة بكلتا اللغتين العربيّة والفارسيّة.

 

المؤلّف

ولد عليّ بن الحسين الملقّب بزين العابدين في المدينة المنوّرة تقريبًا في العام 658 للميلاد. ترعرع في كنف عمّه وأبيه الحسن والحسين حفيديّ النّبي محمّد المحببان إليه. يُقال إنّ أمّه شهربانة ابنة آخر ملوك فارس الكسرى يزدجرد الثّاث، والّتي أحضرت إلى المدينة جارية إلى أن تزوّج منها الحسين بن عليّ، ولهذا كان من ألقاب زين العابدين أيضًأ “ابن الخيارتين”، أي ابن الأخيار من الناحيتين، أخيار قريش من ناحية العرب وأخيار الفرس من ناحية العجم.

كان زين العابدين صبيًا ضعيفًا حين وقعت حادثة كربلاء الشّهيرة في العام 680 للميلاد. حينها قُتل معظم رجال عائلته إلّا أن عمّته زينب حمته بنفسها، وتوسّلت للقائد الأمويّ عمر بن سعد أن يتركه ليعيش، وبعد سبيه مع النّساء إلى دمشق سُمح له بالعودة إلى المدينة حيث أمضى بقية حياته بالحزن على عائلته وبالتزهّد والعبادة ونقل الحديث، وعرف عنه الورع والانشغال بالصّلاة حتّى لُقّب بالسجّاد أي كثير السّجود، وزين العابدين أي أفضل العابدين.

رَفض زين العابدين الانخراط في أي شكل من أشكال المعارضة السّياسيّة للدولة الأموية، مما أضعف أحقّيته بالإمامة في نظر فئة صغيرة من الشيعة في ذلك الوقت، لا سيّما الفئة التي عُرفت بالـ “توّابين” الّذين ثاروا على الحكم الأموي بهدف الثأر لدم الحسين وإزاحة حكم الأمويين عن الكوفة.

أنجب زين العابدين خمسة عشر طفلًا، وعاش حياة روحانيّة في المدينة المنوّرة ترك خلالها الكثير من القصص التي تدل على الورع والحكمة. أحبّه الناس لجدّه الأكبر النّبي محمّد وأشفقوا عليه لرؤيته مذبحة عائلته، وتعتبر الصّحيفة السّجادّية، وهي مجموعة من الأدعية المنسوبة إليه، عملًا هامًا في العبادات والتّراث الشّيعي، وهي من أهمّ الكتب بعد القرآن ونهج البلاغة.


الصّحيفة الكاملة السّجاديّة

المقصود بالصّحيفة هو الكتاب، وتسمّى السّجاديّة نسبةً لصاحبها السجّاد زين العابدين، أي كتاب السجّاد، أما وصف “الكاملة” فمعناه التّامة والغير ناقصة وهو نوع من أنواع المديح، أي أنّها لا يمكن ان تبلغ من الكمال أكثر مما هي عليه.

تُعتبر الصّحيفة السجّادية نصوص شاعرية وروحانية وآية في التضرّع والتّواضع، وبكلمات ويليام تشيتيك، هي نموذج للرّوحانيّة الإسلاميّة المبكّرة والفريدة، والّتي تتمثّل بسعي المؤمن إلى الكمال من خلال علاقته مع الخالق.

تحتوي الصّحيفة الكاملة السجّادية على أدعية مقسّمة لأبواب، فهناك لكل حالة يمكن أن يعيشها الإنسان دعاء كان السجّاد يتضرّع به، وهي معدّة ومقسّمة لأبواب فيستخدمها القارئ كدليل للدّعاء، فإن كان مريضًا مثلًا، يذهب إلى باب الدّعاء عند المرض ويتلو ما جاء فيه بصوت عالٍ وورع، ومن هنا فإن للصحيفة مكانة قدسيّة في التراث الشيعي، إذ لم تتناقلها الأجيال لكي تعرف كيف كان يدعو السّجاد الله من باب المطالعة والاحتفاظ بالإرث فقط، إنّما استخدمت الصّحيفة للصلوات الشّخصيّة اللحوحة وفي الحياة اليوميّة وفي الأحداث الصّغيرة والكبيرة وعند الفرح وعند الحزن وعند المناجاة وعند الشّكر.

بحسب التّراث الشّيعي، كان زين العابدين يردّد هذه الأدعية وقام بتحفيظها لأولاده من بعده، ثمّ أصبحت معروفة وأخذ أهل الشّيعة يحفظونها ويعلّمونها أولادهم. وبحسب علماء الحديث فإن الصّحيفة متواترة بالفعل، وان نسبتها للإمام الرابع زين العابدين عليّ بن الحسين على الأغلب صحيحة. ولكن مع الوقت تمّ زيادة بعض الإضافات وهناك اختلاف على أصل بعض أجزائها، ولكن هناك اتّفاق عام على أن الجزء الأكبر والمركزي منها يعود لزين العابدين بالفعل.

 

 جلدة مخطوطة الصّحيفة الكاملة
جلدة مخطوطة الصّحيفة الكاملة

ترجمها إلى الفارسيّة محتشم إصفهاني ونسخها عبدالله اليزدي، وأغلب الظّن أنّ الترجمة الفارسيّة كُتبت بخطّ يد محتشم في عام 1100 للهجرة 1688 للميلاد.

تتميّز هذه النّسخة بعدّة أمور، أولًا بجلدة فنيّة وملمّعة بالطّلاء صنعت لتلائم فحوى الصّحيفة ككتاب للدّعاء، مزيّنة بأشكال الزّهور المتداخلة وزواياها مرسومة بالأشكال الهندسيّة الجميلة، وفي مركزها طُبعت العبارة “قال رسول الله صلّى الله عليه وآله الدّعاء سلاح المؤمن وععمود الدّين ونور السموات والارضين”، وفي الجزء العلوي “يا مجيب الدعوات” وفي الأسفل “يا كافي المهمات”.

أمّا الصّفحة الأولى فتترأسها سرلوحة بديعة مذهّبة، ومزيّنة بأشكال الزّهور والنّباتات المتداخلة، وبها يلمع اللون الأزرق الفاخر المستخرج من حجر اللازورد. ويمتدّ رسم النباتات والزهور ليملأ كافة هامش الصفحة الأولى والثّانية. السّرلوحة أو السرلوح هي الزخارف التي تفتتح بها المخطوطات وهي تتشابه في هيكل المبنى. يعتبر عادة ان السّرلوحة مقتصرة على المصاحف إلا انها في الحقيقة منتشرة بكثرة في المخطوطات العثمانيّة والفارسيّة من غير المصاحف، ومخطوطة الصّحيفة الكاملة السّجاديّة التي نعرضها هنا خير مثال على ذلك، فهي ليست مصحف ولكن تمّ تزويقها وتذهيبها بسرلوحة للدلالة على تقديرها.

بعد الصّفحة الثّانية يستقرّ شكل الصّفحات من حيث التّزويق والعناية الخطّية ويبقى كما هو إلى آخرها; خطّ النّاسخ بالحبر الأسود وخطّ المترجم بالحبر الأحمر بين السّطور المرسومة بعناية، والهوامش مذهّبة بلطف ومعزّزة بالحبر الاحمر من الداخل وبالحبر الاسود من الخارج.

التكعيبة أسفل الصفحة اليمنى
التكعيبة أسفل الصفحة اليمنى

 

خارج الهوامش نجد ملاحظات عديدة، غالبًا بخط المترجم، باللغة الفارسية. ونلاحظ أيضًا استخدام أسلوب التكعيبة بترتيب الصّفحات، فتجدون أن الأحرف الّتي تبدأ بها الصّفحة على اليسار تكون مدوّنة أيضًا في أسفل الصّفحة اليمنى، وذلك لضمان عدم اختلاط الصّفحات عند تخييطها وتجليدها.

جدول في آخر المخطوطة عن آل البيت ومعلومات حولهم
جدول في آخر المخطوطة عن آل البيت ومعلومات حولهم

 

في آخر المخطوطة نجد قائمة بأسماء آل البيت وبها تواريخ ولادتهم والمدينة التي ولدوا فيها وتوفوا فيها ومعلومات أخرى حولهم.

تعبّر العناية الجماليّة لهذه المخطوطة على قيمتها التّراثيّة لدى الشّيعة، إذ تبدو لأوّل وهلة وكأنها نسخة من القرآن الكريم. في المكتبة الوطنيّة نماذج إضافيّة من مخطوطات للصحيفة الكاملة، يمكنكم تصفّحها هنا وملاحظة الفروق فيما بينها.

الإجازة في التّراث الإسلامي – إجازة الآخسخوي في المكتبة الوطنية

تعتبر الإجازة تقليد عريق في المدارس الإسلاميّة عبر التّاريخ منحت رُخصة لنقل النصوص التّراثيّة وممارسة علوم معيّنة. تعرّفوا على إجازة جميلة كُتبت في إسطنبول في منتصف القرن التّاسع عشر.

إجازة الآخسخوي، 1862، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

إجازة الآخسخوي، 1862، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

نعرف اليوم بحور عديدة من العلوم التّراثيّة في الدّين الإسلامي، والّتي تأصّلت عبر قرون عديدة وصولًا إلى النّبيّ محمّد وصحابته منذ ظهور الإسلام، من قراءات القرآن إلى الحديث والفقه والتّفسير وحتّى علوم اللّغة العربيّة. تمنحنا الإجازات المتبقّية اليوم فرصة للتعرّف على آلية عمل هذا التّأصيل عبر التّاريخ، وعلى الرّجال الّذين نقلوا هذه العلوم وعلى التّقاليد والقيم التّربويّة الّتي رافقت مسير من أراد أن يسعى وراء العلم في البلاد الإسلامية.

تصفحوا بوابات في علوم الدين الإسلامي

في هذه الحالة، إجازة الآخسخوي مثال جميل لتتبّع مبنى وفحوى إجازة عامّة مرموقة من عاصمة الدّولة العثمانيّة في منتصف القرن التّاسع عشر، منحها نعمان بن محمد بن إبراهيم الآخسخوي (نسبة الى مدينة آخسخه كورجستان) في  رجب عام 1278 هجري/ 1862 ميلادي، للسيد علي الرضا الإستانبولي بن محمد أمين رئيس المشائخ، الواعظ بجامع أيا صوفيا الكبير حينها. هي إجازة نفيسة ومزوّقة، تزوّدنا بموعظة عن أهمّية العلم الشّرعي في الإسلام، وبسلسة إسناد الشّيخ الآخسخوي مانح الإجازة، وبوصاياه لملتقّي الإجازة في العلم والدّين والحياة.

إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الإستانبولي

الإجازة عبارة عن رخصة أو اعتراف أو تأهيل رسمي، تخوّل الحاصل عليها لنقل نصوص تراثيّة أو تعليمها، أو تشهد بتلقّيه علوم دينيّة مختصّة على يد شيخ أهل لذلك. أي أنّها توازي إلى حدّ ما الشّهادة الجامعيّة اليوم. أمّا إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الإستانبولي فتصنّف بالإجازة العامّة، وهي درجة علميّة أقل من تلك الّتي تمنحها الإجازة المتخصّصة في علوم معيّنة. كما تعتبر شهادة التّخصص في درجة الدّكتوراة درجة علميّة أعلى من شهادة الباكالوريوس.

نعلم من الصّفحات الأولى للإجازة من كاتبها ومانحها فيشير النّص إلى كاتبه “وبعد فيقول العبد الفقير إلى عفو ربه القدير، غبار أقدام الفضلاء، وعثار مسالك الصّلحاء، نعمان بن محمّد بن إبراهيم الأخسخوي، أوصله الله تعالى إلى معرفته أجلّ النعماء، وأكمله بدوام عبوديّته شكر الآلاء، إنّ العلم أنفسُ ما صُرفت به نفايس الأعمار.”

من تعريفه المتواضع بنفسه، عرفنا اسم الشّيخ وكنيته “الأخسخوي” نسبة إلى مدينته، الّتي لا تظهر في خاتمة الإجازة ولا في خاتمه الشّخصي الّذي طُبع عليها. وقد أورد تعريفه بنفسه قبل أن يبتدئ بمقدّمته البليغة حول مكانة العلم ورفعته، وبعد أن افتتح النّص بحمد الله والصّلاة على نبيّه وآله وصحبه والتّابعين، كما هي العادة بافتتاح أي نصّ من نصوص العلوم الإسلاميّة.

ثمّ يعدّد الآخسخوي الآيات الّتي تعلي من شأن العلم في القرآن الكريم، وتبعها بالأحاديث النّبويّة الّتي تتمحور حول ذات الموضوع. ثمّ يعرّج على أهمّية الإسناد، وهو العمود الفقري للإجازة ولباع كبير من العلوم الإسلاميّة، إذ بكلمات الآخسخوي “وقد خُصّت هذه الأمّة ببقاء الإسناد وهو من الدّين ولولاه لقال من شاء ما شاء”. والإسناد هو إثبات أصالة النّصوص والعلوم المتناقلة بتزويد أسماء الرّجال الّذين تدحرجت هذه المعلومات من خلالهم حتّى وصلت الى المتحدّث، ليثبت اتّصال معرفته وصحّتها إلى النّبي محمّد وصحابته. وهو ما يقوم الآخسخوي بعرضه، بعد أن يعرّف بمتلقّي الإجازة، والّذي بسبب حصوله عليها سيصير جزءًا من هذا الاسناد. ومن خلال تعريف تعريف الآخسخوي بعلي الرّضا سنعرف سبب تزويق الإجازة الملفت:

“وإنّ ممن لاحظته العناية الربانيّة وحفّته الهداية الرّحمانية حتّى حضر مجلس هذا الأدنى (يشير إلى نفسه) واعتنى في تحصيل الفنون بالجد الأعلى، ونال منها النّصيب الأوفى، المولى العالم العامل، والفاضل الكامل، البارع المحقق الصالح، الفائق المدقّق الفالح، آثار المجد في جبينه لامعة، وشمس الهداية من أفق عرفانه طالعة، شعاع استعداده كاد أن ينبسط على نفوس المستعدين، وضياء أفادته قرب أن يحرك همم المستفيدين، خلاصة الأخوان عمدة الأوان، أعني به الحاج الحافظ السيد علي الرضا الأستانبولي المدرس بدار الخلافة العليّة ابن السيد محمد أمين المشتهر برئيس المشايخ السلاطين العظام الواعظ بجامع أيا صوفية كبير ابن السيد عمر بن حمزة الخربوتي الشهير بالمحدّث حفظه الله تعالى…”

نفهم إذًا أنّ متلقّي الإجازة، علي الرّضا الأستانبولي، لم يكن تلميذًا عاديًا لدى الشيخ الآخسخوي في أستانبول، إنّما كان موظّفًا بدار الخلافة، وكان ابنًا لواعظ جامع أيا صوفيا أحد أكبر جوامع عاصمة الخلافة، وأنّه ينتمي لأسرة من العلماء والشّيوخ وأنّ لهذه المكانة العالية، قام الآخسخوي بتعريفه في صفحتين، بين الألقاب والمدح والتّبجيل والدّعاء له. لكن يُعلمنا النّص أيضًا، أنّ الإجازة لم تُمنح إلى الحاج والمدرّس الكبير في دار الخلافة كنوع من انواع الإكرام والمجاملة، إنّما يؤكّد الآخسخوي أن المذكور حضر مجالسه بالفعل، وبدى منه الجدّية والاستفادة.

إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الأستانبولي
إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الأستانبولي

 

يكمل الآخسخوي “ثمّ طلب منّي الإجازة ظنّا منه أنّي أهل لذلك مع علمي أنّي لست من رجال تلك المسالك، فحسّنت ظنه فأجزت له بأن يروي ما يسوغ لي وعنّي روايته من جميع العلوم نظريّة وعمليّة عقليّة ونقليّة حديثًا وتفسيرًا أصولًا وفروعًا.” ومن هنا نعلم أنّ الإجازة عامّة، وأن علي الرّضا لم يتخصصّ بإحدى تلك العلوم على يد الشّيخ.

هنا ينتهي الجزء الأوّل من كل إجازة، المقدّمة البلاغيّة والتّعريف بالمجيز والمجاز، ويبدأ الجزء الثّاني والأطول والّذي يعتبر كنز من المعرفة التاريخيّة، وهو الإسناد. يعتبر الإسناد فرصة رائعة للتعرّف على الخلفيّات الاجتماعيّة والثّقافيّة لصانعي المعرفة الدّينيّة عبر العقود، إذ لا يحتاج الباحث لجهد كبير ليعرف من أين أتى العالم الفلاني بتلك الفكرة أو بتلك المعلومة، فإن كانت إجازة هذا العالم متاحة للباحث، فبإمكانه الرّجوع عليها لمعرفة منابع علومه. يعرّفنا الإسناد على القناة البشريّة الّتي أوصلت هذه المعرفة والنّصوص إلى يومنا هذا، ويدلّ على أهمّية الإسناد ومدى التّعامل معه بجدّية عبر العصور.

من إسناد الآخسخوي
من إسناد الآخسخوي

 

أما الآخسخوي فيبدأ إسناده من الشّيخ محمّد أسعد الشّهير بإمام زاده أحد كبار عصره الّذي تتلمذ الآخسخوي على يديه، ويمتدّ إسناده مرورًا بالكثير من الأسماء المعروفة في علم الفقه والتّفسير والحديث، أمثال الخادمي والرّملي والأنصاري وابن حجر والتفتازاني، يعرّف بهم جميعًا بلغة التّعظيم، ويذكر أسماء كتبهم الشّهيرة ومشايخهم الكبار، ويورد بعضًا من الأحاديث الّتي رواها عن بعضهم. فمثلًا، في روايته الحديث النّبوي الشّهير (من يقل علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النّار)، يبدأ الإسناد عند إستاذه مرورًا بصالح بن إبراهيم الجينيني وآخرين، مرورًا بامرأة تدعى عايشة بنت محمد بن الهادي الدّمشقيّة، وهكذا حتّى يصل إلى سلمة ابن الأكوع عن لسان النّبي. ويلخّص الآخسخوي غايته من اختيار هذا الحديث ليرويه فيقول عن لسان معلّمه “فبيني وبين البخاري أربعة عشر رجلًا. وأعلى ما للبخاري الثلاثيات فيكون بيني وبين النّبي عليه السلام ثمانية عشر رجلًا. قال وهذا في غاية العلو ولا يمكن في هذا الوقت أعلى من ذلك فيما أعلم والله سبحانه أعلم”.

من إسناد الآخسخوي
من إسناد الآخسخوي

 

ينتهي الآخسخوي من سرد إسناده فيقول “هذا تمام الإسناد”، ويختتم الشّيخ إجازته بتوصيات وعظة لمتلقّي الإجازة في ثمانية صفحات، يضع فيها كلّ ما لديه ليذكّر نفسه وتلميذه به من العبادة، وترك ما لا يعنيه، والتّمسّك بالله والتّزهّد في الدّنيا، والتّواضع وصحبة الفقراء.

من وصايا الآخسخوي لعلي الرّضا
من وصايا الآخسخوي لعلي الرّضا

 

قفلة الإجازة المزوّقة، وخاتم الآخسخوي
قفلة الإجازة المزوّقة، وخاتم الآخسخوي

 

قرآن عربي، هوية فارسية

تكشف مخطوطة من المكتبة الوطنية عن الظهور الأول للفارسية الجديدة على الساحة التاريخية.

بقلم/ راحيل غولدبيرغ

لا توجد معلومات كثيرة حول أحمد حيقاني. ولد في القرن التاسع للميلاد، على ما يبدو في منطقة خراسان شرقيّ أيران، وكان مرجعًا للعديد من المفكّرين في فجر الإسلام. المؤكد هو أنّه كان يتمتع بمعرفة غنية باللغة العربية تمكّنه من تشكيل نصّ بتلك اللغة- وليس أي نصّ، إنّما القرآن الكريم ذاته.

على الرغم من قلة المعلومات بشأنه، يعتبر أحمد حيقاني شخصية مركزية في تاريخ إيران: ويقترن اسمه بالتغيير الجذري الذي طرأ على اللغة الفارسية في العصور الوسطى.

تبدأ قصتنا  بـ مخطوطة للقرآن الكريم  اقتناها هاوي الجمع الشهير أبراهام شالوم يهودا. كانت تلك المخطوطة التي شملت جزءًا من القرآن، سورة النحل ( حتى سورة الكهف (18)، منسوخة على جلد رقيق، مع زخرفة ذهبية اللون تشير إلى بداية الآية، ونقاط تشير إلى علامات تشكيل كل كلمة.  كانت تلك العلامات، بالإضافة إلى الخط العربي المربع، المعروف بـ “الخط الكوفي”، تدلّ على أنّ كتاب القرآن هذا قديم جدًا.

إلى أي فترة يعود؟ في نهاية كتاب القرآن، كُتبت ملاحظة بخط يد شخص قام بتنقيح التشكيل بخطٍ يدل على أنّ كتاب القرآن هذا نُسخ في عام 905. ما يميز هذه الملاحظة، وتُدعى حرد المتن، هو أنّها نصّ فارسي بأحرف عربية. كان ذلك أول ظهور معروف للفارسية الجديدة بخط عربي على الساحة التاريخية.

الصفحة الأولى من جزءٍ من كتاب القرآن وفيه الآية التي تطرقت إلى “رحلة الإسراء والمعراج” للنبي محمد عليه الصلاة والسلام

كُتب في تلك هذه الملاحظة:

این جزء سی پاره جمله درست بکرد بعجم ونقط وتشدید احمد خیقانی نصره الله فی الدین بمنه سنه اثنی وتسعین واثنی مایه

“أحمد حيقاني، حفظه الله في سعة رحمته وفضله، قام بتنقيح هذا الجزء من أصل 30 جزءًا (من القرآن الكريم) بواسطة إضافة شكلات وشدّات، في عام 292 للهجرة (905حسب التقويم الميلادي)”.

صورة لحرد المتن

ما يميّز الفارسية الجديدة هو حفاظها من ناحية على خصائص اللغة الفارسية الـوسطى، اللغة “البهلوية”، التي سبقت الفتوحات الإسلامية، ومن ناحية أخرى تحويل الخط الفارسي القديم لأحرف عربية ودخول مفردات جديدة للغة الفارسية. تشير هذه السيرورة إلى الهوية الفارسية المستقلة، المختلفة عن هوية العرب الذين أتوا إلى إيران في إطار الفتوحات الإسلامية في فجر الإسلام.

عندما تمدّد الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية في القرون الأولى لظهوره، التقى بحضارتين رئيسيتين في العصر القديم: فارس واليونان. كانت الحضارة اليونانية، البيزنطية لاحقًا، سائدة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت لغتها اليونانية والديانة السائدة فيها المسيحية. بالمقابل، كانت هناك الحضارة الفارسية السائدة في آسيا الوسطى الناطقة بالفارسية والديانة السائدة فيها الزرادشتية.

وفي حين أنّ اللغة اليونانية، التي كانت سائدة في حوض البحر الأبيض المتوسط، اندثرت تدريجيًا مع ترسيخ جذور الحكم العربي-الإسلامي في هذه المنطقة من العالم، اتخذ سكان الإمبراطورية الفارسية، القابعين تحت حكم عربي-إسلامي، مسارًا آخر. بدلًا من تبنّي العربية كلغة سائدة، قاموا بدمج الخط العربي وطوروا لغة جديدة: الفارسية الجديدة.

لم يكن التغيير فوريًا: بين القرنين السابع والعاشر، اندثرت الفارسية الوسطى وظهرت بشكلها الجديد، الفارسية الجديدة، في القرن العاشر. التغييرات التي طرأت على اللغة: ما أهمِل منها، ما استعير من العربية وما استمر من الفارسية الوسطى، موجودة في مخطوطات بالفارسية اليهودية تعود لتلك الفترة.  الفارسية اليهودية، أي الفارسية الجديدة المكتوبة بأحرف عبرية، مهمّة لتدارس تطور اللغة الفارسية الجديدة، لأنّ بعض النصوص بالفارسية-اليهودية حافظت على خصائص لغوية من الفارسية الوسطى.

مخطوطة لتفسير سفر اللاويين الإصحاح 11 من الجنيزا الأفغانية، مكتوبة بالفارسية اليهودية

الفصل بين الهوية الفارسية والعربية لا يعني رفض الإسلام أو اللغة العربية، باعتبارها لغة مهمة. في العصور الوسطى، اعتاد المفكرون الفُرس السفر للدراسة والتدريس في مراكز المعرفة في بلدان ناطقة بالعربية. اعتادوا أيضًا الكتابة بالعربية عن مواضيع عديدة ومتنوعة، ابتداءً من علوم الشريعة الإسلامية وحتى التاريخ والجغرافيا.

كتاب القرآن الذي عرضناه أمامكم في بداية المقالة هو نموذج للدمج بين الهوية الفارسية وقبول العربية كلغة مهمة. تم نسخ كتاب القرآن بالعربية، لأنّه لغة القرآن الأصلية.  حرد المتن، والذي يعبّر عن شخص ناسخ النص، أحمد حيقاني، يعكس هويته الفارسية.

الهوية الفارسية التي تبلورت إلى جانب العربية، وأحيانًا في ظلّها وحتى خلافًا لها، تعززت وأمست أكثر وضوحًا وحضورًا على مر السنين. ينعكس هذا التميز في العصر الحالي في هوية وطنية ودينية مختلفة عن هوية العالم العربي.

 

نتقدم بجزيل الشكر لد. أوفير حاييم على ترجمة حرد المتن