نعرف اليوم بحور عديدة من العلوم التّراثيّة في الدّين الإسلامي، والّتي تأصّلت عبر قرون عديدة وصولًا إلى النّبيّ محمّد وصحابته منذ ظهور الإسلام، من قراءات القرآن إلى الحديث والفقه والتّفسير وحتّى علوم اللّغة العربيّة. تمنحنا الإجازات المتبقّية اليوم فرصة للتعرّف على آلية عمل هذا التّأصيل عبر التّاريخ، وعلى الرّجال الّذين نقلوا هذه العلوم وعلى التّقاليد والقيم التّربويّة الّتي رافقت مسير من أراد أن يسعى وراء العلم في البلاد الإسلامية.
تصفحوا بوابات في علوم الدين الإسلامي
في هذه الحالة، إجازة الآخسخوي مثال جميل لتتبّع مبنى وفحوى إجازة عامّة مرموقة من عاصمة الدّولة العثمانيّة في منتصف القرن التّاسع عشر، منحها نعمان بن محمد بن إبراهيم الآخسخوي (نسبة الى مدينة آخسخه كورجستان) في رجب عام 1278 هجري/ 1862 ميلادي، للسيد علي الرضا الإستانبولي بن محمد أمين رئيس المشائخ، الواعظ بجامع أيا صوفيا الكبير حينها. هي إجازة نفيسة ومزوّقة، تزوّدنا بموعظة عن أهمّية العلم الشّرعي في الإسلام، وبسلسة إسناد الشّيخ الآخسخوي مانح الإجازة، وبوصاياه لملتقّي الإجازة في العلم والدّين والحياة.
إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الإستانبولي
الإجازة عبارة عن رخصة أو اعتراف أو تأهيل رسمي، تخوّل الحاصل عليها لنقل نصوص تراثيّة أو تعليمها، أو تشهد بتلقّيه علوم دينيّة مختصّة على يد شيخ أهل لذلك. أي أنّها توازي إلى حدّ ما الشّهادة الجامعيّة اليوم. أمّا إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الإستانبولي فتصنّف بالإجازة العامّة، وهي درجة علميّة أقل من تلك الّتي تمنحها الإجازة المتخصّصة في علوم معيّنة. كما تعتبر شهادة التّخصص في درجة الدّكتوراة درجة علميّة أعلى من شهادة الباكالوريوس.
نعلم من الصّفحات الأولى للإجازة من كاتبها ومانحها فيشير النّص إلى كاتبه “وبعد فيقول العبد الفقير إلى عفو ربه القدير، غبار أقدام الفضلاء، وعثار مسالك الصّلحاء، نعمان بن محمّد بن إبراهيم الأخسخوي، أوصله الله تعالى إلى معرفته أجلّ النعماء، وأكمله بدوام عبوديّته شكر الآلاء، إنّ العلم أنفسُ ما صُرفت به نفايس الأعمار.”
من تعريفه المتواضع بنفسه، عرفنا اسم الشّيخ وكنيته “الأخسخوي” نسبة إلى مدينته، الّتي لا تظهر في خاتمة الإجازة ولا في خاتمه الشّخصي الّذي طُبع عليها. وقد أورد تعريفه بنفسه قبل أن يبتدئ بمقدّمته البليغة حول مكانة العلم ورفعته، وبعد أن افتتح النّص بحمد الله والصّلاة على نبيّه وآله وصحبه والتّابعين، كما هي العادة بافتتاح أي نصّ من نصوص العلوم الإسلاميّة.
ثمّ يعدّد الآخسخوي الآيات الّتي تعلي من شأن العلم في القرآن الكريم، وتبعها بالأحاديث النّبويّة الّتي تتمحور حول ذات الموضوع. ثمّ يعرّج على أهمّية الإسناد، وهو العمود الفقري للإجازة ولباع كبير من العلوم الإسلاميّة، إذ بكلمات الآخسخوي “وقد خُصّت هذه الأمّة ببقاء الإسناد وهو من الدّين ولولاه لقال من شاء ما شاء”. والإسناد هو إثبات أصالة النّصوص والعلوم المتناقلة بتزويد أسماء الرّجال الّذين تدحرجت هذه المعلومات من خلالهم حتّى وصلت الى المتحدّث، ليثبت اتّصال معرفته وصحّتها إلى النّبي محمّد وصحابته. وهو ما يقوم الآخسخوي بعرضه، بعد أن يعرّف بمتلقّي الإجازة، والّذي بسبب حصوله عليها سيصير جزءًا من هذا الاسناد. ومن خلال تعريف تعريف الآخسخوي بعلي الرّضا سنعرف سبب تزويق الإجازة الملفت:
“وإنّ ممن لاحظته العناية الربانيّة وحفّته الهداية الرّحمانية حتّى حضر مجلس هذا الأدنى (يشير إلى نفسه) واعتنى في تحصيل الفنون بالجد الأعلى، ونال منها النّصيب الأوفى، المولى العالم العامل، والفاضل الكامل، البارع المحقق الصالح، الفائق المدقّق الفالح، آثار المجد في جبينه لامعة، وشمس الهداية من أفق عرفانه طالعة، شعاع استعداده كاد أن ينبسط على نفوس المستعدين، وضياء أفادته قرب أن يحرك همم المستفيدين، خلاصة الأخوان عمدة الأوان، أعني به الحاج الحافظ السيد علي الرضا الأستانبولي المدرس بدار الخلافة العليّة ابن السيد محمد أمين المشتهر برئيس المشايخ السلاطين العظام الواعظ بجامع أيا صوفية كبير ابن السيد عمر بن حمزة الخربوتي الشهير بالمحدّث حفظه الله تعالى…”
نفهم إذًا أنّ متلقّي الإجازة، علي الرّضا الأستانبولي، لم يكن تلميذًا عاديًا لدى الشيخ الآخسخوي في أستانبول، إنّما كان موظّفًا بدار الخلافة، وكان ابنًا لواعظ جامع أيا صوفيا أحد أكبر جوامع عاصمة الخلافة، وأنّه ينتمي لأسرة من العلماء والشّيوخ وأنّ لهذه المكانة العالية، قام الآخسخوي بتعريفه في صفحتين، بين الألقاب والمدح والتّبجيل والدّعاء له. لكن يُعلمنا النّص أيضًا، أنّ الإجازة لم تُمنح إلى الحاج والمدرّس الكبير في دار الخلافة كنوع من انواع الإكرام والمجاملة، إنّما يؤكّد الآخسخوي أن المذكور حضر مجالسه بالفعل، وبدى منه الجدّية والاستفادة.
يكمل الآخسخوي “ثمّ طلب منّي الإجازة ظنّا منه أنّي أهل لذلك مع علمي أنّي لست من رجال تلك المسالك، فحسّنت ظنه فأجزت له بأن يروي ما يسوغ لي وعنّي روايته من جميع العلوم نظريّة وعمليّة عقليّة ونقليّة حديثًا وتفسيرًا أصولًا وفروعًا.” ومن هنا نعلم أنّ الإجازة عامّة، وأن علي الرّضا لم يتخصصّ بإحدى تلك العلوم على يد الشّيخ.
هنا ينتهي الجزء الأوّل من كل إجازة، المقدّمة البلاغيّة والتّعريف بالمجيز والمجاز، ويبدأ الجزء الثّاني والأطول والّذي يعتبر كنز من المعرفة التاريخيّة، وهو الإسناد. يعتبر الإسناد فرصة رائعة للتعرّف على الخلفيّات الاجتماعيّة والثّقافيّة لصانعي المعرفة الدّينيّة عبر العقود، إذ لا يحتاج الباحث لجهد كبير ليعرف من أين أتى العالم الفلاني بتلك الفكرة أو بتلك المعلومة، فإن كانت إجازة هذا العالم متاحة للباحث، فبإمكانه الرّجوع عليها لمعرفة منابع علومه. يعرّفنا الإسناد على القناة البشريّة الّتي أوصلت هذه المعرفة والنّصوص إلى يومنا هذا، ويدلّ على أهمّية الإسناد ومدى التّعامل معه بجدّية عبر العصور.
أما الآخسخوي فيبدأ إسناده من الشّيخ محمّد أسعد الشّهير بإمام زاده أحد كبار عصره الّذي تتلمذ الآخسخوي على يديه، ويمتدّ إسناده مرورًا بالكثير من الأسماء المعروفة في علم الفقه والتّفسير والحديث، أمثال الخادمي والرّملي والأنصاري وابن حجر والتفتازاني، يعرّف بهم جميعًا بلغة التّعظيم، ويذكر أسماء كتبهم الشّهيرة ومشايخهم الكبار، ويورد بعضًا من الأحاديث الّتي رواها عن بعضهم. فمثلًا، في روايته الحديث النّبوي الشّهير (من يقل علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النّار)، يبدأ الإسناد عند إستاذه مرورًا بصالح بن إبراهيم الجينيني وآخرين، مرورًا بامرأة تدعى عايشة بنت محمد بن الهادي الدّمشقيّة، وهكذا حتّى يصل إلى سلمة ابن الأكوع عن لسان النّبي. ويلخّص الآخسخوي غايته من اختيار هذا الحديث ليرويه فيقول عن لسان معلّمه “فبيني وبين البخاري أربعة عشر رجلًا. وأعلى ما للبخاري الثلاثيات فيكون بيني وبين النّبي عليه السلام ثمانية عشر رجلًا. قال وهذا في غاية العلو ولا يمكن في هذا الوقت أعلى من ذلك فيما أعلم والله سبحانه أعلم”.
ينتهي الآخسخوي من سرد إسناده فيقول “هذا تمام الإسناد”، ويختتم الشّيخ إجازته بتوصيات وعظة لمتلقّي الإجازة في ثمانية صفحات، يضع فيها كلّ ما لديه ليذكّر نفسه وتلميذه به من العبادة، وترك ما لا يعنيه، والتّمسّك بالله والتّزهّد في الدّنيا، والتّواضع وصحبة الفقراء.