ماذا تعرفون عن دعاء الجوشن الكبير؟ مخطوطات متميّزة في المكتبة الوطنيّة

لدعاء الجوشن الكبير مكانة خاصّة عند مجتمعات شيعيّة عديدة في بداية شهر رمضان وفي ليلة القدر، فما هو؟ وما قصّته؟ انظروا لمخطوطات جميلة لدعاء الجوشن الكبير في المكتبة الوطنية.

مخطوطة إيرانية للجوشن الكبير، أواخر القرن السابع عشر، مجموعة المكتبة الوطنية

مخطوطة إيرانية للجوشن الكبير، أواخر القرن السابع عشر، مجموعة المكتبة الوطنية

تعني كلمة “الجوشن” الدّرع الثقيل الّذي يلبسه المحارب، ووفقًا للرواية الشّيعيّة فإنّ الدعاء سُمّي بهذا الإسم لأنّه نزل على النّبي محمد عن طريق الملاك جبريل خلال قتاله في إحدى الغزوات، فتلاه عليه جبريل وأمره بترك الدّرع الحديديّ الضّيق وبترديد هذا الدّعاء ليحميه بدلًا عنه،  ثمّ نقله عنه بعد ذلك عليّ بن ابي طالب إلى ولده ومن ثمّ إلى حفيده زين العابدين الملقّب بالسّجاد، فوصلنا عن طريق المجلسي الأصفهاني وحسين النوري الطبرسي وغيرهم من راوية الحديث الشّيعي.

الشيعة: مخطوطات وكتب رقمية من بغداد وطهران للتنزيل

يُحفظ دعاء الجوشن ويُردد منذ مئات السّنين عند الطائفة الشّيعيّة في مناطق عدّة لا سيّما في رمضان وفي ليلة القدر على وجه الخصوص. له عدّة شارحين وما زال الى اليوم يُطبع دعاء الجوشن الكبيرعلى هيئة كتب صغيرة تُحمل في الجيب، ويُترجم إلى الفارسيّة والتركية والإنجليزيّة وغيرها من اللغات مع الاحتفاظ بالنّص العربي كمتن إلى جانب الترجمة من أجل فهم العبارات، تمامًا كما تُطبع أجزاء من القرآن الكريم في البقاع الواسعة للعالم الإسلامي. كما تتواجد مخطوطات عديدة لدعاء الجوشن الكبير، وذلك لمكانته الخاصة عبر العصور.

 

مخطوطة إيرانية لدعاء الجوشن كتبت عام 1112هـ 1701 م، مجموعة المكتبة الوطنية
مخطوطة إيرانية لدعاء الجوشن كتبت عام 1112هـ 1701 م، مجموعة المكتبة الوطنية

 

يبدأ دعاء الجوشن الكبير بالبسملة والصلاة على النّبي محمد وعلى آل البيت، لا يحمل الكثير من الأدعية الّتي تأتي على شكل طلب أو رجاء من الإله، إنّما هو تسبيح وطلب واحد متكرر مثل اللازمة الشّعرية: “الغوث الغوث، خلّصنا من النّار“، أمّا المضمون الرّئيسي للجوشن الكبير وما يكوّنه بالفعل هو أكثر من ألف اسم او صفة لله تعالى، يتم الاستغاثة بها من خلال ترديدها على شكل مجموعة من الأسماء تشكّل المقطع الواحد من بين ال 55 مقطع للجوشن الكبير. يفتتح الدّعاء بالمناجاة “اللهم إنّي أسألك باسمك يا الله” ومن ثمّ يأتي المقطع أو المجموعة من الأسماء والصّفات، وتُذيّل كل مجموعة بدعاء متكرر وهو الإغاثة من النار. يبدو كل مقطع من مقاطع الجوشن على هذا النّحو:

فاتحة الدّعاء تبدأ كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وعلى آل محمّد

اللهم إنّي أسألك باسمك يا الله:

ومن ثمّ يبدأ المقطع الأوّل من الأسماء والصفات لله تعالى موزونة بصيغة شعرية ويصل عددها في كل مقطع إلى أحد عشر اسم او صفة. فمثلًا في المقطع الأوّل:

يا رحمن يا رحيم يا كريم يا مقيم يا عظيم يا قديم يا عليم يا حليم يا حكيم.

ومن ثمّ تأتي العبارة التي تتكرر كما هي بعد جميع المقاطع ال 100 للدعاء: سبحانك لا إلا إله إلّا أنت الغوث، الغوث خلّصنا من النار يا رب“.

هكذا يكون انتهى المقطع الأوّل. ويبدأ بعده المقطع الثّاني مباشرة بدون العودة على الفاتحة “اللهم إني أسألك..” بل بمناجاة الله بالمجموعة التالية من أسمائه وصفاته فيبدأ المقطع الثاني على هذا النحو:

يا سيّد السادات يا مجيب الدّعوات يا رافع الدّرجات يا وليّ الحسنات يا غافر الخطيئات يا معطي المسألات يا قابل التّوبات يا سامع الأصوات يا عالم الخفيّات يا دافع البليّات

ويختتم المقطع بذات العبارة المتكررة في آخر كل مقطع آخر:

سبحانك لا إله إلا أنت الغوث خلّصنا من النّار.

يبدو من قراءة نصّ الدّعاء بتمعّن انّه يحيط بكل جوانب وصف الخالق في التّراث الإسلامي، والّتي غالبًا ما تتحدّث عنه من خلال الإشارة إلى المخلوقات لأنّها من صنعه، فتدلّ على الخالق من خلالها. ويتربّع الإنسان ومصلحة الانسان في قلب هذه المعادلة اللغويّة والأدبيّة. فالإنسان – المناجي – يتوجّه إلى الله بصفته أفضل من يمكن للإنسان أن يتوجه إليه.

والمقطع السّتين هو أفضل نموذج لذلك:

“يا كافي من استكفاه، يا هادي من استهداه، يا كالئ من استكلاه، يا راعي من استرعاه، يا شافي من استشفاعه، يا قاضي من استقضاه، يا مغني من استغناه، يا موفي من استوفاه، يا مقوّي من استقواه يا وليّ من استولاه”

إلّا أنّ الدعاء في عمومه يستند إلى الجماليّة اللغوية في القرآن ويقتبس منه، وهو على سبيل المثال يبدأ بأوّل وصف للخالق ورد في القرآن الكريم وهو “الرحمن الرّحيم”.

فسّر دعاء الجوشن الكبير ثلّة من العلماء السّنة والشّيعة، من أشهرهم ملّا هادي السبزواري أحد العلماء الرّوحانيين والفلاسفة في إيران القرن التّاسع عشر، وتفسيره يعتمد على المعاني الروحانيّة والفلسفيّة للدعاء وأيضًا تفسير لغوي.

غلاف لطبعة طهرانية لشرح الجوشن الكبير للملا هادي السبزواري
غلاف لطبعة طهرانية لشرح الجوشن الكبير للملا هادي السبزواري

بالطّبع، تسمية الجوشن الكبير هي إشارة من أجل التفريق بين هذا الدعاء وبين دعاء الجوشن الصّغير، وهو دعاء واسع الانتشار كذلك، منقول عن موسى بن جعفر الإمام السّابع عند الشيعة الامامية.

في الموروث الشّيعي هناك فضائل كثيرة لدعاء الجوشن، غالبا ما يتم ذكرها في مقدمة الكتاب قبل البدء بالدعاء، ومنها توصيات بقراءته في أول شهر رمضان أو في ليلة القدر، وكتابته على كفن الميّت، وغيرها. ولذلك كثيرًا ما نجد دعاء الجوشن الكبير في مخطوطات ضمّت مجموعة من الأدعية المأثورة واشتملت على دعاء الجوشن الكبير. لجميع المخطوطات التي اشتملت على الجوشن الكبير في فهرس المكتبة الوطنية.

الإجازة في التّراث الإسلامي – إجازة الآخسخوي في المكتبة الوطنية

تعتبر الإجازة تقليد عريق في المدارس الإسلاميّة عبر التّاريخ منحت رُخصة لنقل النصوص التّراثيّة وممارسة علوم معيّنة. تعرّفوا على إجازة جميلة كُتبت في إسطنبول في منتصف القرن التّاسع عشر.

إجازة الآخسخوي، 1862، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

إجازة الآخسخوي، 1862، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

نعرف اليوم بحور عديدة من العلوم التّراثيّة في الدّين الإسلامي، والّتي تأصّلت عبر قرون عديدة وصولًا إلى النّبيّ محمّد وصحابته منذ ظهور الإسلام، من قراءات القرآن إلى الحديث والفقه والتّفسير وحتّى علوم اللّغة العربيّة. تمنحنا الإجازات المتبقّية اليوم فرصة للتعرّف على آلية عمل هذا التّأصيل عبر التّاريخ، وعلى الرّجال الّذين نقلوا هذه العلوم وعلى التّقاليد والقيم التّربويّة الّتي رافقت مسير من أراد أن يسعى وراء العلم في البلاد الإسلامية.

تصفحوا بوابات في علوم الدين الإسلامي

في هذه الحالة، إجازة الآخسخوي مثال جميل لتتبّع مبنى وفحوى إجازة عامّة مرموقة من عاصمة الدّولة العثمانيّة في منتصف القرن التّاسع عشر، منحها نعمان بن محمد بن إبراهيم الآخسخوي (نسبة الى مدينة آخسخه كورجستان) في  رجب عام 1278 هجري/ 1862 ميلادي، للسيد علي الرضا الإستانبولي بن محمد أمين رئيس المشائخ، الواعظ بجامع أيا صوفيا الكبير حينها. هي إجازة نفيسة ومزوّقة، تزوّدنا بموعظة عن أهمّية العلم الشّرعي في الإسلام، وبسلسة إسناد الشّيخ الآخسخوي مانح الإجازة، وبوصاياه لملتقّي الإجازة في العلم والدّين والحياة.

إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الإستانبولي

الإجازة عبارة عن رخصة أو اعتراف أو تأهيل رسمي، تخوّل الحاصل عليها لنقل نصوص تراثيّة أو تعليمها، أو تشهد بتلقّيه علوم دينيّة مختصّة على يد شيخ أهل لذلك. أي أنّها توازي إلى حدّ ما الشّهادة الجامعيّة اليوم. أمّا إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الإستانبولي فتصنّف بالإجازة العامّة، وهي درجة علميّة أقل من تلك الّتي تمنحها الإجازة المتخصّصة في علوم معيّنة. كما تعتبر شهادة التّخصص في درجة الدّكتوراة درجة علميّة أعلى من شهادة الباكالوريوس.

نعلم من الصّفحات الأولى للإجازة من كاتبها ومانحها فيشير النّص إلى كاتبه “وبعد فيقول العبد الفقير إلى عفو ربه القدير، غبار أقدام الفضلاء، وعثار مسالك الصّلحاء، نعمان بن محمّد بن إبراهيم الأخسخوي، أوصله الله تعالى إلى معرفته أجلّ النعماء، وأكمله بدوام عبوديّته شكر الآلاء، إنّ العلم أنفسُ ما صُرفت به نفايس الأعمار.”

من تعريفه المتواضع بنفسه، عرفنا اسم الشّيخ وكنيته “الأخسخوي” نسبة إلى مدينته، الّتي لا تظهر في خاتمة الإجازة ولا في خاتمه الشّخصي الّذي طُبع عليها. وقد أورد تعريفه بنفسه قبل أن يبتدئ بمقدّمته البليغة حول مكانة العلم ورفعته، وبعد أن افتتح النّص بحمد الله والصّلاة على نبيّه وآله وصحبه والتّابعين، كما هي العادة بافتتاح أي نصّ من نصوص العلوم الإسلاميّة.

ثمّ يعدّد الآخسخوي الآيات الّتي تعلي من شأن العلم في القرآن الكريم، وتبعها بالأحاديث النّبويّة الّتي تتمحور حول ذات الموضوع. ثمّ يعرّج على أهمّية الإسناد، وهو العمود الفقري للإجازة ولباع كبير من العلوم الإسلاميّة، إذ بكلمات الآخسخوي “وقد خُصّت هذه الأمّة ببقاء الإسناد وهو من الدّين ولولاه لقال من شاء ما شاء”. والإسناد هو إثبات أصالة النّصوص والعلوم المتناقلة بتزويد أسماء الرّجال الّذين تدحرجت هذه المعلومات من خلالهم حتّى وصلت الى المتحدّث، ليثبت اتّصال معرفته وصحّتها إلى النّبي محمّد وصحابته. وهو ما يقوم الآخسخوي بعرضه، بعد أن يعرّف بمتلقّي الإجازة، والّذي بسبب حصوله عليها سيصير جزءًا من هذا الاسناد. ومن خلال تعريف تعريف الآخسخوي بعلي الرّضا سنعرف سبب تزويق الإجازة الملفت:

“وإنّ ممن لاحظته العناية الربانيّة وحفّته الهداية الرّحمانية حتّى حضر مجلس هذا الأدنى (يشير إلى نفسه) واعتنى في تحصيل الفنون بالجد الأعلى، ونال منها النّصيب الأوفى، المولى العالم العامل، والفاضل الكامل، البارع المحقق الصالح، الفائق المدقّق الفالح، آثار المجد في جبينه لامعة، وشمس الهداية من أفق عرفانه طالعة، شعاع استعداده كاد أن ينبسط على نفوس المستعدين، وضياء أفادته قرب أن يحرك همم المستفيدين، خلاصة الأخوان عمدة الأوان، أعني به الحاج الحافظ السيد علي الرضا الأستانبولي المدرس بدار الخلافة العليّة ابن السيد محمد أمين المشتهر برئيس المشايخ السلاطين العظام الواعظ بجامع أيا صوفية كبير ابن السيد عمر بن حمزة الخربوتي الشهير بالمحدّث حفظه الله تعالى…”

نفهم إذًا أنّ متلقّي الإجازة، علي الرّضا الأستانبولي، لم يكن تلميذًا عاديًا لدى الشيخ الآخسخوي في أستانبول، إنّما كان موظّفًا بدار الخلافة، وكان ابنًا لواعظ جامع أيا صوفيا أحد أكبر جوامع عاصمة الخلافة، وأنّه ينتمي لأسرة من العلماء والشّيوخ وأنّ لهذه المكانة العالية، قام الآخسخوي بتعريفه في صفحتين، بين الألقاب والمدح والتّبجيل والدّعاء له. لكن يُعلمنا النّص أيضًا، أنّ الإجازة لم تُمنح إلى الحاج والمدرّس الكبير في دار الخلافة كنوع من انواع الإكرام والمجاملة، إنّما يؤكّد الآخسخوي أن المذكور حضر مجالسه بالفعل، وبدى منه الجدّية والاستفادة.

إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الأستانبولي
إجازة الآخسخوي لعلي الرّضا الأستانبولي

 

يكمل الآخسخوي “ثمّ طلب منّي الإجازة ظنّا منه أنّي أهل لذلك مع علمي أنّي لست من رجال تلك المسالك، فحسّنت ظنه فأجزت له بأن يروي ما يسوغ لي وعنّي روايته من جميع العلوم نظريّة وعمليّة عقليّة ونقليّة حديثًا وتفسيرًا أصولًا وفروعًا.” ومن هنا نعلم أنّ الإجازة عامّة، وأن علي الرّضا لم يتخصصّ بإحدى تلك العلوم على يد الشّيخ.

هنا ينتهي الجزء الأوّل من كل إجازة، المقدّمة البلاغيّة والتّعريف بالمجيز والمجاز، ويبدأ الجزء الثّاني والأطول والّذي يعتبر كنز من المعرفة التاريخيّة، وهو الإسناد. يعتبر الإسناد فرصة رائعة للتعرّف على الخلفيّات الاجتماعيّة والثّقافيّة لصانعي المعرفة الدّينيّة عبر العقود، إذ لا يحتاج الباحث لجهد كبير ليعرف من أين أتى العالم الفلاني بتلك الفكرة أو بتلك المعلومة، فإن كانت إجازة هذا العالم متاحة للباحث، فبإمكانه الرّجوع عليها لمعرفة منابع علومه. يعرّفنا الإسناد على القناة البشريّة الّتي أوصلت هذه المعرفة والنّصوص إلى يومنا هذا، ويدلّ على أهمّية الإسناد ومدى التّعامل معه بجدّية عبر العصور.

من إسناد الآخسخوي
من إسناد الآخسخوي

 

أما الآخسخوي فيبدأ إسناده من الشّيخ محمّد أسعد الشّهير بإمام زاده أحد كبار عصره الّذي تتلمذ الآخسخوي على يديه، ويمتدّ إسناده مرورًا بالكثير من الأسماء المعروفة في علم الفقه والتّفسير والحديث، أمثال الخادمي والرّملي والأنصاري وابن حجر والتفتازاني، يعرّف بهم جميعًا بلغة التّعظيم، ويذكر أسماء كتبهم الشّهيرة ومشايخهم الكبار، ويورد بعضًا من الأحاديث الّتي رواها عن بعضهم. فمثلًا، في روايته الحديث النّبوي الشّهير (من يقل علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النّار)، يبدأ الإسناد عند إستاذه مرورًا بصالح بن إبراهيم الجينيني وآخرين، مرورًا بامرأة تدعى عايشة بنت محمد بن الهادي الدّمشقيّة، وهكذا حتّى يصل إلى سلمة ابن الأكوع عن لسان النّبي. ويلخّص الآخسخوي غايته من اختيار هذا الحديث ليرويه فيقول عن لسان معلّمه “فبيني وبين البخاري أربعة عشر رجلًا. وأعلى ما للبخاري الثلاثيات فيكون بيني وبين النّبي عليه السلام ثمانية عشر رجلًا. قال وهذا في غاية العلو ولا يمكن في هذا الوقت أعلى من ذلك فيما أعلم والله سبحانه أعلم”.

من إسناد الآخسخوي
من إسناد الآخسخوي

 

ينتهي الآخسخوي من سرد إسناده فيقول “هذا تمام الإسناد”، ويختتم الشّيخ إجازته بتوصيات وعظة لمتلقّي الإجازة في ثمانية صفحات، يضع فيها كلّ ما لديه ليذكّر نفسه وتلميذه به من العبادة، وترك ما لا يعنيه، والتّمسّك بالله والتّزهّد في الدّنيا، والتّواضع وصحبة الفقراء.

من وصايا الآخسخوي لعلي الرّضا
من وصايا الآخسخوي لعلي الرّضا

 

قفلة الإجازة المزوّقة، وخاتم الآخسخوي
قفلة الإجازة المزوّقة، وخاتم الآخسخوي

 

قرآن عربي، هوية فارسية

تكشف مخطوطة من المكتبة الوطنية عن الظهور الأول للفارسية الجديدة على الساحة التاريخية.

بقلم/ راحيل غولدبيرغ

لا توجد معلومات كثيرة حول أحمد حيقاني. ولد في القرن التاسع للميلاد، على ما يبدو في منطقة خراسان شرقيّ أيران، وكان مرجعًا للعديد من المفكّرين في فجر الإسلام. المؤكد هو أنّه كان يتمتع بمعرفة غنية باللغة العربية تمكّنه من تشكيل نصّ بتلك اللغة- وليس أي نصّ، إنّما القرآن الكريم ذاته.

على الرغم من قلة المعلومات بشأنه، يعتبر أحمد حيقاني شخصية مركزية في تاريخ إيران: ويقترن اسمه بالتغيير الجذري الذي طرأ على اللغة الفارسية في العصور الوسطى.

تبدأ قصتنا  بـ مخطوطة للقرآن الكريم  اقتناها هاوي الجمع الشهير أبراهام شالوم يهودا. كانت تلك المخطوطة التي شملت جزءًا من القرآن، سورة النحل ( حتى سورة الكهف (18)، منسوخة على جلد رقيق، مع زخرفة ذهبية اللون تشير إلى بداية الآية، ونقاط تشير إلى علامات تشكيل كل كلمة.  كانت تلك العلامات، بالإضافة إلى الخط العربي المربع، المعروف بـ “الخط الكوفي”، تدلّ على أنّ كتاب القرآن هذا قديم جدًا.

إلى أي فترة يعود؟ في نهاية كتاب القرآن، كُتبت ملاحظة بخط يد شخص قام بتنقيح التشكيل بخطٍ يدل على أنّ كتاب القرآن هذا نُسخ في عام 905. ما يميز هذه الملاحظة، وتُدعى حرد المتن، هو أنّها نصّ فارسي بأحرف عربية. كان ذلك أول ظهور معروف للفارسية الجديدة بخط عربي على الساحة التاريخية.

الصفحة الأولى من جزءٍ من كتاب القرآن وفيه الآية التي تطرقت إلى “رحلة الإسراء والمعراج” للنبي محمد عليه الصلاة والسلام

كُتب في تلك هذه الملاحظة:

این جزء سی پاره جمله درست بکرد بعجم ونقط وتشدید احمد خیقانی نصره الله فی الدین بمنه سنه اثنی وتسعین واثنی مایه

“أحمد حيقاني، حفظه الله في سعة رحمته وفضله، قام بتنقيح هذا الجزء من أصل 30 جزءًا (من القرآن الكريم) بواسطة إضافة شكلات وشدّات، في عام 292 للهجرة (905حسب التقويم الميلادي)”.

صورة لحرد المتن

ما يميّز الفارسية الجديدة هو حفاظها من ناحية على خصائص اللغة الفارسية الـوسطى، اللغة “البهلوية”، التي سبقت الفتوحات الإسلامية، ومن ناحية أخرى تحويل الخط الفارسي القديم لأحرف عربية ودخول مفردات جديدة للغة الفارسية. تشير هذه السيرورة إلى الهوية الفارسية المستقلة، المختلفة عن هوية العرب الذين أتوا إلى إيران في إطار الفتوحات الإسلامية في فجر الإسلام.

عندما تمدّد الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية في القرون الأولى لظهوره، التقى بحضارتين رئيسيتين في العصر القديم: فارس واليونان. كانت الحضارة اليونانية، البيزنطية لاحقًا، سائدة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت لغتها اليونانية والديانة السائدة فيها المسيحية. بالمقابل، كانت هناك الحضارة الفارسية السائدة في آسيا الوسطى الناطقة بالفارسية والديانة السائدة فيها الزرادشتية.

وفي حين أنّ اللغة اليونانية، التي كانت سائدة في حوض البحر الأبيض المتوسط، اندثرت تدريجيًا مع ترسيخ جذور الحكم العربي-الإسلامي في هذه المنطقة من العالم، اتخذ سكان الإمبراطورية الفارسية، القابعين تحت حكم عربي-إسلامي، مسارًا آخر. بدلًا من تبنّي العربية كلغة سائدة، قاموا بدمج الخط العربي وطوروا لغة جديدة: الفارسية الجديدة.

لم يكن التغيير فوريًا: بين القرنين السابع والعاشر، اندثرت الفارسية الوسطى وظهرت بشكلها الجديد، الفارسية الجديدة، في القرن العاشر. التغييرات التي طرأت على اللغة: ما أهمِل منها، ما استعير من العربية وما استمر من الفارسية الوسطى، موجودة في مخطوطات بالفارسية اليهودية تعود لتلك الفترة.  الفارسية اليهودية، أي الفارسية الجديدة المكتوبة بأحرف عبرية، مهمّة لتدارس تطور اللغة الفارسية الجديدة، لأنّ بعض النصوص بالفارسية-اليهودية حافظت على خصائص لغوية من الفارسية الوسطى.

مخطوطة لتفسير سفر اللاويين الإصحاح 11 من الجنيزا الأفغانية، مكتوبة بالفارسية اليهودية

الفصل بين الهوية الفارسية والعربية لا يعني رفض الإسلام أو اللغة العربية، باعتبارها لغة مهمة. في العصور الوسطى، اعتاد المفكرون الفُرس السفر للدراسة والتدريس في مراكز المعرفة في بلدان ناطقة بالعربية. اعتادوا أيضًا الكتابة بالعربية عن مواضيع عديدة ومتنوعة، ابتداءً من علوم الشريعة الإسلامية وحتى التاريخ والجغرافيا.

كتاب القرآن الذي عرضناه أمامكم في بداية المقالة هو نموذج للدمج بين الهوية الفارسية وقبول العربية كلغة مهمة. تم نسخ كتاب القرآن بالعربية، لأنّه لغة القرآن الأصلية.  حرد المتن، والذي يعبّر عن شخص ناسخ النص، أحمد حيقاني، يعكس هويته الفارسية.

الهوية الفارسية التي تبلورت إلى جانب العربية، وأحيانًا في ظلّها وحتى خلافًا لها، تعززت وأمست أكثر وضوحًا وحضورًا على مر السنين. ينعكس هذا التميز في العصر الحالي في هوية وطنية ودينية مختلفة عن هوية العالم العربي.

 

نتقدم بجزيل الشكر لد. أوفير حاييم على ترجمة حرد المتن

الطّريقة المولويّة: مبادؤها ومراكزها

بعض مظاهر الطّريقة المولويّة وقصّة الرقصة ومصدرها في التّصوّف الإسلامي. إليكم لمحة صغيرة حول الموضوع.

درويشان من دمشق بداية القرن العشرين، أرشيف بن تسفي.

درويشان من دمشق بداية القرن العشرين، أرشيف بن تسفي.

“إنّ قلبي مثل الفرجار، ساقٌ ثابتة في أرض الشّريعة، وساقٌ تدور على اثنين وسبعين ملّة”

في مقولة جلال الدّين الرّومي هذه تفسير للمبدأ المولويّ الذي ينصّ على التقبّل والتّسامح كقيمة أساس للطّريقة المولويّة. فلكيّ يكون طالب الطّريقة جاهز للترقي في الحبّ الإلهي عليه أن يبدأ بما حوله من ظواهر وموجودات وأحوال، وأن يتقبّلها جميعًا انطلاقًا من دورانه الدّاخلي وهو المركز والرّكينة الأساسيّة لهذا التّقبّل. وهكذا تكون بذرة التّوحيد الحقيقي جاهزة لأن تثمر وتنبت بحسب الرّومي. تنعكس هذه المقولة كذلك في رقصة الدّراويش الشّهيرة والتي يقال أنّ الرومي تعلّمها من شمس الدين التّبريزي، والّتي تمثّل كذلك دوران الأرض حول نفسها وحول الشّمس، وأيضًا طواف المسلمين حول الكعبة. فمن جلال الدّين الرّومي؟ وما رقصة الدّراويش وما الطّريقة المولويّة؟

اقرأ/ي أيضًا: جلال الدّين الرّومي

ولد جلال الدين الرّومي في بلخ (أفغانستان اليوم) عام 1207 ونشأ في مدينة قونية (تركيا اليوم) وأصبح من أشهر شيوخها بعد أن ورث مكانة أبيه كمعلّم وإمام. حدث تحوّل كبير في حياة الرومي بعد لقائه بالمتصوّف شمس الدين التّبريزي الّذي أصبح رفيق روحه وعلّمه الكثير عن التّصوف وعن حالة الحبّ الإلهي. عشق الرومي هذا الطّريق وانغمس فيه، وبعد اختفاء رفيق روحه من حياته دخل في عزلة عن النّاس لمدّة طويلة، وعاد بعدها إلى التّدريس والتّربية والوعظ بإصرار من ابنه وتلاميذه الّذين افتقدوه. لكنّ وعظه هذه المرّة كان قد اختلف تمامًا عمّا ذي قبل.

اقرأ/ي أيضًا: مخطوطات رقمية من تاريخ الصوفية في العالم الإسلامي

في ديوانه “ديوان شمس الدّين التّبريزي” وصف حبّه وفقده العميق لرفيقه شمس الدّين، وأسسّ الرومي في ديوانه الكبير “مثنوي معنوي” رؤية كونيّة، ووضع تجربته الرّوحية في كلمات وأبيات ألهمت متّبعيه وتأسست بها عادات وتقاليد وتراث صوفي حمله من أطلقوا على أنفسهم اسم “المولويين” نسبةً إلى اللقب الذي اكتسبه الرومي “مولانا”، أو كما باتوا يُعرفون في بلاد الشّام “المَلَويين”.

من مخطوطة "مثنوي معنوي"، 1618، مجموعة يهودا، مجموعة المكتبة الوطنيّة.
من مخطوطة “مثنوي معنوي”، 1618، مجموعة يهودا، مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

المولويّة هي طريقة من طُرق الصّوفيّة أسسّها تابعو جلال الدّين الرّومي لاسيّما ابنه سلطان ولد بعد وفاته مباشرة. إذ بادروا دون توصية منه إلى تثبيت بعض الأسس والممارسات لتتناقل عبر الأجيال وتحفظ إرث ما تعلّموه من جلال الدّين الرّومي وأطلقوا على طريقتهم هذه اسم “المولويّة”، أي طريقة مولانا وهو اللّقب الّذي منحوه لمعلّمهم جلال الدّين الرّومي.

تعتمد الطّريقة المولويّة على بعض الشّعائر الرّوحانيّة الّتي يمارسونها بالإضافة إلى شعائر الصّلاة والصّيام الإسلاميّة. من هذه الممارسات الذّكر والإنشاد، والّذي اتّخذ طريقه إلى خارج التّكايا والزّوايا ليصبح تراث فنّي إسلامي غير محصور على المتصوّفة في بلاد الشّام ومصر. بالإضافة إلى الرّقصة الشّهيرة “رقصة الدّوران”، يرتدي الدّراويش في رقصات الذّكر والإنشاد رداء خاصّ يحمل دلالات عديدة، ويشير الى التّواضع في الدّنيا.

من التّفسيرات الّتي أطلقت على طقوس الذّكر ورقصة الدّراويش هي أنّها تحاكي حركة الوجود، دوران الأرض حول نفسها وحول الشّمس، دوران المسلمين حول الكعبة، ودوران كل شيء في الوجود كحركة تلقائيّة محتّمة ترتكز عليها الحياة بأكملها. يرتدي هؤلاء “السكة” أو غطاء الرأس الطويل المصنوع من مادّة خشنة إشارة إلى صعوبة الحياة، بالإضافة إلى الرّداء الأبيض الّذي يرمز للكفن، وعباءة سوداء ترمز للموت والتّزهّد.

درويشان من دمشق بداية القرن العشرين، أرشيف بن تسفي.
درويشان من دمشق بداية القرن العشرين، أرشيف بن تسفي.

تُمارس طقوس الذّكر والرّقص المحدّدة بدقّة في قاعات خاصّة بها في الزّوايا والتّكايا المولوليّة حول العالم، وقد انتشرت الطّريقة بشكلٍ واسع في العهد العثمانيّ. ووصلت إلى بلاد الشّام ومصر والمغرب ومدنها الكبيرة حيث انتشرت التّكايا المولويّة لتعلّم القرآن الكريم وتقيم الذّكر وتمنح حياة التّقشّف لتابعيها ولطالبي الطّريقة، وفي مدينة القدس يوجد المسجد المولوي أو التّكيّة المولويّة دخل أسوار البلدة القديمة. وفي العقود الأخيرة، وجدت الطّريقة سبيلها إلى أوروبا كذلك وشهدت اهتمام غربي ملحوظ بالتّصوف الإسلامي وخاصّة بإرث جلال الدّيني الرّومي الّذي اتّسم بالإنسانيّة والكونيّة.

للمزيد حول الشخصيات الإسلامية في مجموعات المكتبة الوطنية