شعر ابن الفارض: سيمفونية الحب الصوفية

في هذا المقال، نكشف عن أبيات ابن الفارض التي تتجاوز الحدود الزمنية والثقافية، وتَكشف جوهر سعي الصوفية إلى الحب والوحدة مع الله.

مخطوطة "ديوان ابن الفارض"،نسخة من عام1665 ميلادي، متوفرة بالمكتبة الوطنية

مخطوطة "ديوان ابن الفارض"،نسخة من عام1665 ميلادي،متوفرة بالمكتبة الوطنية

يزخرُعالم ُالتّصوفِ دونَ شكٍ بالتنوع والجمال، ويحاولُ الصّوفيون، مع الحفاظِ على جوهرِ هذا التقليد، استلهام تعبيراتهم الفنّية من أشكال محلّية من الموسيقى والشعر متعدد اللغات، فتارة يستحضرون الطير وتارة أخرى الخمر والمحبوب، للتعبيرعن أعمقِ تجاربهم الرّوحية.

وضمنَ هذه اللوحةِ الصوفية، يبرزُ نجمٌ لامعٌ، قد يكون أهمَ وأشهرَ شاعرِ صوفيِّ عربيِّ في تاريخ الشعر الصوفي، وهو عمر بن أبي حسن المعروف بابن الفارض والملقب بـ “سلطان العاشقين”، الذي أبدع في قصائده بأسلوب ثوري يتجلى فيه جمال الوحدة والحب بطرق لم تجارِ بها الأقلام الأخرى قلَمَه. ولاتزال قصائده ُتحظى بشعبية ٍكبيرةِ حتى اليوم، خاصةً في وطنهِ مصر، حيث يتم غناءها في الجلسات الصوفية الرسميةِ وفي المجالس الشعبية.

 

صحيفة الإتحاد: 5 شباط 1991
صحيفة الإتحاد: 5 شباط 1991

 

التائية الكبرى

لم يسمى ابن الفارض بمحض الصدفة بـ “سلطان العاشقين”؛ إذ شَكّلُ الحُب القلبَ النابضَ لإبداعاته، وتكرر هذا المفهوم مجازياً وبشكلٍ مباشر في أشعاره. إذ تناولَ في العديد من أبياته موضوعَ العاشقِ والمحبوب، والرغبة الشغوفة للعاشق في الاقتراب والاتحاد مع المحبوب، أي الله سبحانه.

بينما تَحظى كلُّ إبداعاته بتقدير عالٍ، تُعتبر قصديته بعنوان ‘التائية الكبرى من أعماله الأكثر شهرة ، المعروفة أيضًا ب ‘نظم السلوك’1، أو قصيدة ُالطّريقِ الصّوفي. تعتبرهذه القصيدةُ أطول قصيدة صوفية في اللغة العربية، حيث تحتوي على 761 بيتًا. ولكن شهرتها ليست مرتبطة بطولها فقط، بل أيضًا لكونها واحدةً من أعظمِ التعبيراتِ عن الطريق الصوفي والوحدة الإلهية.

تبدأُ القصيدةُ كالعديدِ من قصائدِ الحبِ الأخرى، راسمةً مشهدًا يستحضرُ صورة النبيذ المُسكر والشوق العميق الذي يشعر به الشاعر نحو الحبيب. استخدم ابن الفارض في قصيدته، أسلوب شعري فريد ليعبر عن تجربته العميقة، حيث أدى حبه للمحبوب – الله سبحانه وتعالى – إلى حالة الثمالة .

 

سَقَتني حُمَيَّا الحُبَّ راحَةَ مُقلَتي   وَكَأسي مُحَيَّا مَن عَنِ الحُسنِ جَلَّتِ

وبالحَدَقِ استغنَيتُ عن قَدَحي ومِن   شَمائِلِها لا من شَموليَ نَشوَتي

ففي حانِ سُكري حانَ شُكري لِفِتيَةٍ    بِهِم تَمَّ لي كَتمُ الهَوَى مَعَ شُهرَتي

 

مخطوطة "ديوان ابن الفارض"، نسخة من عام1665 ميلادي
مخطوطة “ديوان ابن الفارض”، نسخة من عام1665ميلادي

في القسمِ الأولِ من القصيدة، يتوقُ الشاعرُ بشغفٍ للاتحاد مع المحبوب، الذي يُمثل الله. ما يثيرُ الاهتمام هو أن الله، المحبوب، يُشار إليه بالضمير المؤنث على مرالقصيدة، كما يُشار إلى الثمالة كتشبيه لنشوة الحب، حيث تنسجم مجازية العاشق والمحبوب في السرد بشكل جميل.

في البيت الخامس والثمانون، تأخذ القصة منعطفا دراماتيكياً؛ إذ ترفضُ المحبوبةُ الشاعرَ دون سابقِ إنذار. تباهى الشاعر في بدايةِ القصيدة بحبهِ الشديد وتفانيه المخلص وتحمّله للصعابِ وحتى عثورَهُ على متعةٍ فيها سعيًا للاتحاد مع الحبيبة. لكن أصبح من الواضح أن هذا الاحتفاء بالنفس كان مبنياً على الكِبْر وأنَّ حب الشاعر موجه في الأساس نحوه لا نحو المحبوب.

 

يوضح الحبيب بأن الشاعر يسعى للحب، بالتأكيد، ولكن من أجله، ليس من أجل المحبوب، ويشرح الحبيب أن الشاعر احتفظ بجزء من ذاته، وأنه لن يحب حقًا حتى يفقد نفسه بالكامل داخل الحبيب:

حليف غرام أنت لكن بنفسه   وإبقاك وصفا منك بعض أدلتي

فلم تهوني ما لم تكن في فانيا   ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي

بعدَ هذا الرفض الجارح، يحدث تحول عميق في الشاعر؛ إذ تتواضع نفسُه و ُيدركُ خطأه و يصل إلى حالة تسليم كاملة، حيث يدرك أن السبيل الوحيد لتحقيق رغبة الحبيب هو إلغاء إرادته الشخصية تمامًا، لكي لا يبقى في قلبه شيء سوى الحبيب. عندها فقط يحقق الشاعر ما كان يبحث عنه طويلًا.

يكتب ابن الفارض في مخطوطته المنشورة عام 1665.

لها صلواتي بالمقامِ أُقيمها   وأشهَدُ فيها أنّها ليَ صَلّتِ
كِلانَا مُصَلٍّ واحِدٌ، ساجِدٌ إلى   حقيقَتِهِ، بالجمعِ، في كلّ سجدَة
وما كان لي صَلّى سِواي، ولم تكن     صلاتي لغيري في اذا كلِّ ركعة

مخطوطة "ديوان ابن الفارض"، نسخة من عام1665 ميلادي
مخطوطة “ديوان ابن الفارض”، نسخة من عام1665 ميلادي

تروي القصيدةُ قصةَ رحلة نحو الوحدانية مع الله، وتأخذنا عبر مراحل مختلفة من فهم الذات؛ إذ للقاء المحبوب -أي الله- يختبر الشاعرُ إلغاء النفس، لينصَهِرَ تمامًا مع الذات الإلهية، حيث تختفي جميع إشارات التعدد. وهذا ما يطلقُ عليه الصوفيون بـ “الفناء”.

ولكن بعد الفناء تأتي مرحلة “البقاء” في الله. عندها، يعود المتصوف من حالة النشوة إلى نوع آخر من الوضوح. يعود إلى ذاته في العالم الواقعي، لكنّ رؤيته للعالم تغيّرت. لم يعد ينظر إلى نفسه ككيان مستقل، وإنما كإظهار لذات الله. لم يعد وجوده محدودًا ومنفصلًا، بل أصبح واحدًا مع الواقع الذي يضم كل شيء في وحدته.

 

الحبُ الأبدي

تُعبرُ “التائية الكبرى” بجماليتها عن رحلة عميقة نحو المفاهيم الصوفية. يبرزُ الحَبّ كموضوع جوهريّ في القصيدة، إنه الحب الذي يدفع المحبوب للتخلي عن ذاته والانصهار مع ذات المحبوب ليشكلا ذاتاً واحدة. هذا الحب الذي يملأ قلب الصوفي الزاهد المستنير. من هذا المنظار، يكتشف الصوفي العالم بأكمله كنسيج محبوكٍ من الحب، والحب الذي يتحقق يمتد ليشمل جميع خلق الله. إنه حب لا نهائي في جوهره يتسع ليشمل الطبيعة وجميع كائنات العالم. إن هذا الحب، بكل ما يتضمنه من أهمية عميقة، يشكل نبض الواقع.

يقول الحديثُ القُدسي: “كُنتُ كنزاً مَخفياً فأحببتُ أن أُعْرَف فخَلَقتُ الخَلْقَ لكي أُعرف”

تقاليد العبادة والمرح في عيد الفطر السّعيد

مع أن عيد الفطر مناسبة دينيّة، إلّا أن كثير من عادات استقباله والاحتفال به هي عادات تراثية واجتماعية تكونت في الثقافات المختلفة. تعرفوا معنا على بعض هذه العادات بين الماضي والحاضر.

مراجيح عيد الفطر في مدينة يافا 1920-1923، ارشيف بن تسفي

مراجيح عيد الفطر في مدينة يافا 1920-1923، ارشيف بن تسفي

عيد الفطر هو أكثر الأعياد بهجة عند المسلمين، لانه يأتي بعد صيام شهر رمضان ويكون أول عيد في السنة يليه عيد الأضحى. مع أن هذا العيد مناسبة دينيّة إلا أن الكثير من عاداته اجتماعية وثقافية وعريقة أيضًا، وهي في تجدد على الدوام. في هذه المقالة الصغيرة نهنئكم بقدوم عيد الفطر، ونتعرف سويا على عادات عيد الفطر في المنطقة بين الماضي والحاضر.

تقاليد عيد الفطر المتنوّعة  

يدل على مكانة عيد الفطر الحديث المأثور عن النبي محمّد، وفيه يقول للمسلمين بأن الله استبدل أيام اللعب (الأعياد) في الجاهلية بعيدين خيرا منهم وهما عيد الفطر وعيد الأضحى. إلا انه هناك المزيد من الأحاديث التي استقيت منها تقاليد عيد الفطر الدينيّة، وهي انتظار رؤية الهلال لاعلان حلول العيد، والتكبير في ليلته، وإخراج الصّدقة والاغتسال وتقديم التّهنئة للأقارب وللجيران ولأصحاب الفضل، وصلاة العيد والخطبة. كلّها مستقاة من الحديث النبوي ولكلّها أحكام في المذاهب الفقهيّة.

فمثلًا، الصّدقة أو زكاة عيد الفطر تُعتبر فريضة على المسلم، ويجب أن تتم هذه الفريضة بعد غروب الشمس من آخر يوم في رمضان وقبل صلاة العيد، ومن المستحبّ التعجّل بها، حتّى يتمكّن الحاصلون عليها من الاستفادة بها في أيام العيد وان لا تتأخر عليهم. وهناك معايير لتحديد قيمة هذه الزّكاة بحسب الحالة المادّية للمتصدّق بها وبحسب حاجة الفقراء في ذلك المكان وفي عهد الرسول كانت زكاة العيد من الشّعير والتّمر. ولكّل من هذه العادات الدّينية أحكام وأقوال متعددة في الرّأي، ولذلك، يكثر استفتاء الشّيوخ وسؤالهم عنها في الأيام الأخيرة لشهر رمضان.

يتم أداء صلاة العيد في المساجد الكبرى حول العالم ويشارك بها الآلاف، ويتم بثّ الخطبة مباشرة من المساجد الأكثر قداسة في الإسلام ليسمعها المسلمون في البلاد البعيدة. ولذلك، فان تقاليد عيد الفطر تدل على مكانة الجماعة والاحتفال بها، من خلال الصلاة الجماعيّة والصّدقة وتقديم التهانئ، فهو احتفال بالاخرين ومعهم.

استقبال عيد الفطر

لهذه البهجة المميّزة نشأت تقاليد غير دينيّة عبر العصور لاستقبال عيد الفطر قبل مجيئه، أي ترحيبًا به وتهيئة للفرح قبل وصوله. من هذه التّقاليد المعاصرة مثلًا شراء ملابس جديدة كمظهر من مظاهر الفرح، وتحضير الحلويات الخاصّة بالعيد المعروفة بالكعك. ومن المثير للاهتمام ان كعك العيد يعتمد على ذات الحلوى الطبيعيّة الّتي أكلها المسلمون وزكّوا بها في عصر الرسول محمدّ وهي التّمر، فيتم حشو الكعك التقليدي بمعجون التّمر والاعتماد على بساطته. وهي طريقة تناقلتها الاجيال، فيتم تحضير الكعك وخبزه أيام قليلة قبل قدوم العيد، وفي جلسة تتشارك بها العائلة، وتتبادل كل عائلة بعضًا من كعكها الى الأقارب أو الجيران كنوع من التهنئة.

بيع الحلويات في عيد الفطر في مدينة القدس، أرشيف دانتشو أرنون.
بيع الحلويات في عيد الفطر في مدينة القدس، أرشيف دانتشو أرنون.


الاحتفال بالعيد

إن تقاليد الاحتفال بالعيد الغير مرتبطة بالتعاليم الدينيّة هي الأكثر تنوّعًا، فمن ما تقوم به العائلات المسلمة في البلاد هو التّنزّه في الطبيعة، زيارة الأقارب والأصدقاء، تحضير الطّعام المميّز وحضور المهرجانات أو الاحتفالات العامّة. تقريبا في كل البلدات العربيّة تكون هناك مساحة لمرح الأطفال واللعب، ويتم تحضير مراجيح خاصّة أو عربات نقل أو وسائل ترفيه أخرى، كما تقوم الجهات المحلية بتنظيم احتفالات للأطفال وعروض عائلية وتزيين البلدات، وهذا التقليد يعود لعشرات السنين الى الوراء.

 

مراجيح عيد الفطر في مدينة يافا 1920-1923، أرشيف بن تسفي
مراجيح عيد الفطر في مدينة يافا 1920-1923، أرشيف بن تسفي

 

مجمّع ألعاب الأطفال على شاطئ يافا 1920-1923، أرشيف بن تسفي
مجمّع ألعاب الأطفال على شاطئ يافا 1920-1923، أرشيف بن تسفي

 

إن تطور تقاليد الاحتفال بالعيد دليلًا على حبّه وعلى فرح الناس الحقيقي به، فهم يقومون بتجهيز المزيد من النشاطات الممتعة لإحيائها بالإضافة لتلك الدّينيّة. والأمر صحيح في جميع أماكن تواجد المسلمين، ففي الهند تتزيّن السّيدات والبنات برسم الحنّاء على كفوفهن، وفي تركيا يقوم الأطفال بجولة على بيوت الحي الذي يقطنون فيه ليهنّئوا الجيران بقدوم العيد ويحصلون على الحلوى أو بعض المال.

تقوم مرافق التّرفيه أيضًا بتجهيز برامج مميّزة من أجل العيد، فمثلًا في العام 1930 مثلًا قامت “سينما عدن” بعرض فيلم ملائم لكل الأجيال وللعائلات لشارلي شابلن بمناسبة عيد الفطر. وهذا مثال واحد من عدة مواد أرشيفية مميّزة عن عيد الفطر.

فمن أي البلدان أنتم؟ وكيف تحتفلون بعيد الفطر؟

ماذا تعرفون عن دعاء الجوشن الكبير؟ مخطوطات متميّزة في المكتبة الوطنيّة

لدعاء الجوشن الكبير مكانة خاصّة عند مجتمعات شيعيّة عديدة في بداية شهر رمضان وفي ليلة القدر، فما هو؟ وما قصّته؟ انظروا لمخطوطات جميلة لدعاء الجوشن الكبير في المكتبة الوطنية.

مخطوطة إيرانية للجوشن الكبير، أواخر القرن السابع عشر، مجموعة المكتبة الوطنية

مخطوطة إيرانية للجوشن الكبير، أواخر القرن السابع عشر، مجموعة المكتبة الوطنية

تعني كلمة “الجوشن” الدّرع الثقيل الّذي يلبسه المحارب، ووفقًا للرواية الشّيعيّة فإنّ الدعاء سُمّي بهذا الإسم لأنّه نزل على النّبي محمد عن طريق الملاك جبريل خلال قتاله في إحدى الغزوات، فتلاه عليه جبريل وأمره بترك الدّرع الحديديّ الضّيق وبترديد هذا الدّعاء ليحميه بدلًا عنه،  ثمّ نقله عنه بعد ذلك عليّ بن ابي طالب إلى ولده ومن ثمّ إلى حفيده زين العابدين الملقّب بالسّجاد، فوصلنا عن طريق المجلسي الأصفهاني وحسين النوري الطبرسي وغيرهم من راوية الحديث الشّيعي.

الشيعة: مخطوطات وكتب رقمية من بغداد وطهران للتنزيل

يُحفظ دعاء الجوشن ويُردد منذ مئات السّنين عند الطائفة الشّيعيّة في مناطق عدّة لا سيّما في رمضان وفي ليلة القدر على وجه الخصوص. له عدّة شارحين وما زال الى اليوم يُطبع دعاء الجوشن الكبيرعلى هيئة كتب صغيرة تُحمل في الجيب، ويُترجم إلى الفارسيّة والتركية والإنجليزيّة وغيرها من اللغات مع الاحتفاظ بالنّص العربي كمتن إلى جانب الترجمة من أجل فهم العبارات، تمامًا كما تُطبع أجزاء من القرآن الكريم في البقاع الواسعة للعالم الإسلامي. كما تتواجد مخطوطات عديدة لدعاء الجوشن الكبير، وذلك لمكانته الخاصة عبر العصور.

 

مخطوطة إيرانية لدعاء الجوشن كتبت عام 1112هـ 1701 م، مجموعة المكتبة الوطنية
مخطوطة إيرانية لدعاء الجوشن كتبت عام 1112هـ 1701 م، مجموعة المكتبة الوطنية

 

يبدأ دعاء الجوشن الكبير بالبسملة والصلاة على النّبي محمد وعلى آل البيت، لا يحمل الكثير من الأدعية الّتي تأتي على شكل طلب أو رجاء من الإله، إنّما هو تسبيح وطلب واحد متكرر مثل اللازمة الشّعرية: “الغوث الغوث، خلّصنا من النّار“، أمّا المضمون الرّئيسي للجوشن الكبير وما يكوّنه بالفعل هو أكثر من ألف اسم او صفة لله تعالى، يتم الاستغاثة بها من خلال ترديدها على شكل مجموعة من الأسماء تشكّل المقطع الواحد من بين ال 55 مقطع للجوشن الكبير. يفتتح الدّعاء بالمناجاة “اللهم إنّي أسألك باسمك يا الله” ومن ثمّ يأتي المقطع أو المجموعة من الأسماء والصّفات، وتُذيّل كل مجموعة بدعاء متكرر وهو الإغاثة من النار. يبدو كل مقطع من مقاطع الجوشن على هذا النّحو:

فاتحة الدّعاء تبدأ كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وعلى آل محمّد

اللهم إنّي أسألك باسمك يا الله:

ومن ثمّ يبدأ المقطع الأوّل من الأسماء والصفات لله تعالى موزونة بصيغة شعرية ويصل عددها في كل مقطع إلى أحد عشر اسم او صفة. فمثلًا في المقطع الأوّل:

يا رحمن يا رحيم يا كريم يا مقيم يا عظيم يا قديم يا عليم يا حليم يا حكيم.

ومن ثمّ تأتي العبارة التي تتكرر كما هي بعد جميع المقاطع ال 100 للدعاء: سبحانك لا إلا إله إلّا أنت الغوث، الغوث خلّصنا من النار يا رب“.

هكذا يكون انتهى المقطع الأوّل. ويبدأ بعده المقطع الثّاني مباشرة بدون العودة على الفاتحة “اللهم إني أسألك..” بل بمناجاة الله بالمجموعة التالية من أسمائه وصفاته فيبدأ المقطع الثاني على هذا النحو:

يا سيّد السادات يا مجيب الدّعوات يا رافع الدّرجات يا وليّ الحسنات يا غافر الخطيئات يا معطي المسألات يا قابل التّوبات يا سامع الأصوات يا عالم الخفيّات يا دافع البليّات

ويختتم المقطع بذات العبارة المتكررة في آخر كل مقطع آخر:

سبحانك لا إله إلا أنت الغوث خلّصنا من النّار.

يبدو من قراءة نصّ الدّعاء بتمعّن انّه يحيط بكل جوانب وصف الخالق في التّراث الإسلامي، والّتي غالبًا ما تتحدّث عنه من خلال الإشارة إلى المخلوقات لأنّها من صنعه، فتدلّ على الخالق من خلالها. ويتربّع الإنسان ومصلحة الانسان في قلب هذه المعادلة اللغويّة والأدبيّة. فالإنسان – المناجي – يتوجّه إلى الله بصفته أفضل من يمكن للإنسان أن يتوجه إليه.

والمقطع السّتين هو أفضل نموذج لذلك:

“يا كافي من استكفاه، يا هادي من استهداه، يا كالئ من استكلاه، يا راعي من استرعاه، يا شافي من استشفاعه، يا قاضي من استقضاه، يا مغني من استغناه، يا موفي من استوفاه، يا مقوّي من استقواه يا وليّ من استولاه”

إلّا أنّ الدعاء في عمومه يستند إلى الجماليّة اللغوية في القرآن ويقتبس منه، وهو على سبيل المثال يبدأ بأوّل وصف للخالق ورد في القرآن الكريم وهو “الرحمن الرّحيم”.

فسّر دعاء الجوشن الكبير ثلّة من العلماء السّنة والشّيعة، من أشهرهم ملّا هادي السبزواري أحد العلماء الرّوحانيين والفلاسفة في إيران القرن التّاسع عشر، وتفسيره يعتمد على المعاني الروحانيّة والفلسفيّة للدعاء وأيضًا تفسير لغوي.

غلاف لطبعة طهرانية لشرح الجوشن الكبير للملا هادي السبزواري
غلاف لطبعة طهرانية لشرح الجوشن الكبير للملا هادي السبزواري

بالطّبع، تسمية الجوشن الكبير هي إشارة من أجل التفريق بين هذا الدعاء وبين دعاء الجوشن الصّغير، وهو دعاء واسع الانتشار كذلك، منقول عن موسى بن جعفر الإمام السّابع عند الشيعة الامامية.

في الموروث الشّيعي هناك فضائل كثيرة لدعاء الجوشن، غالبا ما يتم ذكرها في مقدمة الكتاب قبل البدء بالدعاء، ومنها توصيات بقراءته في أول شهر رمضان أو في ليلة القدر، وكتابته على كفن الميّت، وغيرها. ولذلك كثيرًا ما نجد دعاء الجوشن الكبير في مخطوطات ضمّت مجموعة من الأدعية المأثورة واشتملت على دعاء الجوشن الكبير. لجميع المخطوطات التي اشتملت على الجوشن الكبير في فهرس المكتبة الوطنية.

الصّحيفة الكاملة السجّادية: مخطوطة إيرانية مزوّقة

الصحيفة السجّادية هي مخطوطة مزوّقة تعود لإيران في أواخر القرن السّابع عشر للميلاد ومكتوبة بكلتا اللغتين العربيّة والفارسيّة، نستعرض في هذه المقالة أجملها.

السرلوحة المذهّبة والملوّنة بالأزرق اللازوردي

السرلوحة المذهّبة والملوّنة بالأزرق اللازوردي

تعتبر الصّحيفة السجّادية العمل الأوّل الّذي تناقل المسلمون فيه مجموعة من الأدعية الموثّقة لترديدها. وللصّحيفة السّجاديّة مكانة هامة عند الشّيعة، وتعتبر الكتاب الثالث من حيث الأهميّة الروحانية بعد القرآن الكريم وكتاب “نهج البلاغة” المنسوب لعليّ بن أبي طالب، حتّى أن لها أسماء أخرى مثل: “أخت القرآن” و”إنجيل أهل البيت” وغيرها. في المكتبة الوطنية بعض المخطوطات الجميلة للصحيفة السجّادية، نستعرض في هذه المقالة أجملها، وهي مخطوطة مزوّقة تعود لإيران في أواخر القرن السّابع عشر للميلاد ومكتوبة بكلتا اللغتين العربيّة والفارسيّة.

 

المؤلّف

ولد عليّ بن الحسين الملقّب بزين العابدين في المدينة المنوّرة تقريبًا في العام 658 للميلاد. ترعرع في كنف عمّه وأبيه الحسن والحسين حفيديّ النّبي محمّد المحببان إليه. يُقال إنّ أمّه شهربانة ابنة آخر ملوك فارس الكسرى يزدجرد الثّاث، والّتي أحضرت إلى المدينة جارية إلى أن تزوّج منها الحسين بن عليّ، ولهذا كان من ألقاب زين العابدين أيضًأ “ابن الخيارتين”، أي ابن الأخيار من الناحيتين، أخيار قريش من ناحية العرب وأخيار الفرس من ناحية العجم.

كان زين العابدين صبيًا ضعيفًا حين وقعت حادثة كربلاء الشّهيرة في العام 680 للميلاد. حينها قُتل معظم رجال عائلته إلّا أن عمّته زينب حمته بنفسها، وتوسّلت للقائد الأمويّ عمر بن سعد أن يتركه ليعيش، وبعد سبيه مع النّساء إلى دمشق سُمح له بالعودة إلى المدينة حيث أمضى بقية حياته بالحزن على عائلته وبالتزهّد والعبادة ونقل الحديث، وعرف عنه الورع والانشغال بالصّلاة حتّى لُقّب بالسجّاد أي كثير السّجود، وزين العابدين أي أفضل العابدين.

رَفض زين العابدين الانخراط في أي شكل من أشكال المعارضة السّياسيّة للدولة الأموية، مما أضعف أحقّيته بالإمامة في نظر فئة صغيرة من الشيعة في ذلك الوقت، لا سيّما الفئة التي عُرفت بالـ “توّابين” الّذين ثاروا على الحكم الأموي بهدف الثأر لدم الحسين وإزاحة حكم الأمويين عن الكوفة.

أنجب زين العابدين خمسة عشر طفلًا، وعاش حياة روحانيّة في المدينة المنوّرة ترك خلالها الكثير من القصص التي تدل على الورع والحكمة. أحبّه الناس لجدّه الأكبر النّبي محمّد وأشفقوا عليه لرؤيته مذبحة عائلته، وتعتبر الصّحيفة السّجادّية، وهي مجموعة من الأدعية المنسوبة إليه، عملًا هامًا في العبادات والتّراث الشّيعي، وهي من أهمّ الكتب بعد القرآن ونهج البلاغة.


الصّحيفة الكاملة السّجاديّة

المقصود بالصّحيفة هو الكتاب، وتسمّى السّجاديّة نسبةً لصاحبها السجّاد زين العابدين، أي كتاب السجّاد، أما وصف “الكاملة” فمعناه التّامة والغير ناقصة وهو نوع من أنواع المديح، أي أنّها لا يمكن ان تبلغ من الكمال أكثر مما هي عليه.

تُعتبر الصّحيفة السجّادية نصوص شاعرية وروحانية وآية في التضرّع والتّواضع، وبكلمات ويليام تشيتيك، هي نموذج للرّوحانيّة الإسلاميّة المبكّرة والفريدة، والّتي تتمثّل بسعي المؤمن إلى الكمال من خلال علاقته مع الخالق.

تحتوي الصّحيفة الكاملة السجّادية على أدعية مقسّمة لأبواب، فهناك لكل حالة يمكن أن يعيشها الإنسان دعاء كان السجّاد يتضرّع به، وهي معدّة ومقسّمة لأبواب فيستخدمها القارئ كدليل للدّعاء، فإن كان مريضًا مثلًا، يذهب إلى باب الدّعاء عند المرض ويتلو ما جاء فيه بصوت عالٍ وورع، ومن هنا فإن للصحيفة مكانة قدسيّة في التراث الشيعي، إذ لم تتناقلها الأجيال لكي تعرف كيف كان يدعو السّجاد الله من باب المطالعة والاحتفاظ بالإرث فقط، إنّما استخدمت الصّحيفة للصلوات الشّخصيّة اللحوحة وفي الحياة اليوميّة وفي الأحداث الصّغيرة والكبيرة وعند الفرح وعند الحزن وعند المناجاة وعند الشّكر.

بحسب التّراث الشّيعي، كان زين العابدين يردّد هذه الأدعية وقام بتحفيظها لأولاده من بعده، ثمّ أصبحت معروفة وأخذ أهل الشّيعة يحفظونها ويعلّمونها أولادهم. وبحسب علماء الحديث فإن الصّحيفة متواترة بالفعل، وان نسبتها للإمام الرابع زين العابدين عليّ بن الحسين على الأغلب صحيحة. ولكن مع الوقت تمّ زيادة بعض الإضافات وهناك اختلاف على أصل بعض أجزائها، ولكن هناك اتّفاق عام على أن الجزء الأكبر والمركزي منها يعود لزين العابدين بالفعل.

 

 جلدة مخطوطة الصّحيفة الكاملة
جلدة مخطوطة الصّحيفة الكاملة

ترجمها إلى الفارسيّة محتشم إصفهاني ونسخها عبدالله اليزدي، وأغلب الظّن أنّ الترجمة الفارسيّة كُتبت بخطّ يد محتشم في عام 1100 للهجرة 1688 للميلاد.

تتميّز هذه النّسخة بعدّة أمور، أولًا بجلدة فنيّة وملمّعة بالطّلاء صنعت لتلائم فحوى الصّحيفة ككتاب للدّعاء، مزيّنة بأشكال الزّهور المتداخلة وزواياها مرسومة بالأشكال الهندسيّة الجميلة، وفي مركزها طُبعت العبارة “قال رسول الله صلّى الله عليه وآله الدّعاء سلاح المؤمن وععمود الدّين ونور السموات والارضين”، وفي الجزء العلوي “يا مجيب الدعوات” وفي الأسفل “يا كافي المهمات”.

أمّا الصّفحة الأولى فتترأسها سرلوحة بديعة مذهّبة، ومزيّنة بأشكال الزّهور والنّباتات المتداخلة، وبها يلمع اللون الأزرق الفاخر المستخرج من حجر اللازورد. ويمتدّ رسم النباتات والزهور ليملأ كافة هامش الصفحة الأولى والثّانية. السّرلوحة أو السرلوح هي الزخارف التي تفتتح بها المخطوطات وهي تتشابه في هيكل المبنى. يعتبر عادة ان السّرلوحة مقتصرة على المصاحف إلا انها في الحقيقة منتشرة بكثرة في المخطوطات العثمانيّة والفارسيّة من غير المصاحف، ومخطوطة الصّحيفة الكاملة السّجاديّة التي نعرضها هنا خير مثال على ذلك، فهي ليست مصحف ولكن تمّ تزويقها وتذهيبها بسرلوحة للدلالة على تقديرها.

بعد الصّفحة الثّانية يستقرّ شكل الصّفحات من حيث التّزويق والعناية الخطّية ويبقى كما هو إلى آخرها; خطّ النّاسخ بالحبر الأسود وخطّ المترجم بالحبر الأحمر بين السّطور المرسومة بعناية، والهوامش مذهّبة بلطف ومعزّزة بالحبر الاحمر من الداخل وبالحبر الاسود من الخارج.

التكعيبة أسفل الصفحة اليمنى
التكعيبة أسفل الصفحة اليمنى

 

خارج الهوامش نجد ملاحظات عديدة، غالبًا بخط المترجم، باللغة الفارسية. ونلاحظ أيضًا استخدام أسلوب التكعيبة بترتيب الصّفحات، فتجدون أن الأحرف الّتي تبدأ بها الصّفحة على اليسار تكون مدوّنة أيضًا في أسفل الصّفحة اليمنى، وذلك لضمان عدم اختلاط الصّفحات عند تخييطها وتجليدها.

جدول في آخر المخطوطة عن آل البيت ومعلومات حولهم
جدول في آخر المخطوطة عن آل البيت ومعلومات حولهم

 

في آخر المخطوطة نجد قائمة بأسماء آل البيت وبها تواريخ ولادتهم والمدينة التي ولدوا فيها وتوفوا فيها ومعلومات أخرى حولهم.

تعبّر العناية الجماليّة لهذه المخطوطة على قيمتها التّراثيّة لدى الشّيعة، إذ تبدو لأوّل وهلة وكأنها نسخة من القرآن الكريم. في المكتبة الوطنيّة نماذج إضافيّة من مخطوطات للصحيفة الكاملة، يمكنكم تصفّحها هنا وملاحظة الفروق فيما بينها.