يزخرُعالم ُالتّصوفِ دونَ شكٍ بالتنوع والجمال، ويحاولُ الصّوفيون، مع الحفاظِ على جوهرِ هذا التقليد، استلهام تعبيراتهم الفنّية من أشكال محلّية من الموسيقى والشعر متعدد اللغات، فتارة يستحضرون الطير وتارة أخرى الخمر والمحبوب، للتعبيرعن أعمقِ تجاربهم الرّوحية.
وضمنَ هذه اللوحةِ الصوفية، يبرزُ نجمٌ لامعٌ، قد يكون أهمَ وأشهرَ شاعرِ صوفيِّ عربيِّ في تاريخ الشعر الصوفي، وهو عمر بن أبي حسن المعروف بابن الفارض والملقب بـ “سلطان العاشقين”، الذي أبدع في قصائده بأسلوب ثوري يتجلى فيه جمال الوحدة والحب بطرق لم تجارِ بها الأقلام الأخرى قلَمَه. ولاتزال قصائده ُتحظى بشعبية ٍكبيرةِ حتى اليوم، خاصةً في وطنهِ مصر، حيث يتم غناءها في الجلسات الصوفية الرسميةِ وفي المجالس الشعبية.
التائية الكبرى
لم يسمى ابن الفارض بمحض الصدفة بـ “سلطان العاشقين”؛ إذ شَكّلُ الحُب القلبَ النابضَ لإبداعاته، وتكرر هذا المفهوم مجازياً وبشكلٍ مباشر في أشعاره. إذ تناولَ في العديد من أبياته موضوعَ العاشقِ والمحبوب، والرغبة الشغوفة للعاشق في الاقتراب والاتحاد مع المحبوب، أي الله سبحانه.
بينما تَحظى كلُّ إبداعاته بتقدير عالٍ، تُعتبر قصديته بعنوان ‘التائية الكبرى من أعماله الأكثر شهرة ، المعروفة أيضًا ب ‘نظم السلوك’1، أو قصيدة ُالطّريقِ الصّوفي. تعتبرهذه القصيدةُ أطول قصيدة صوفية في اللغة العربية، حيث تحتوي على 761 بيتًا. ولكن شهرتها ليست مرتبطة بطولها فقط، بل أيضًا لكونها واحدةً من أعظمِ التعبيراتِ عن الطريق الصوفي والوحدة الإلهية.
تبدأُ القصيدةُ كالعديدِ من قصائدِ الحبِ الأخرى، راسمةً مشهدًا يستحضرُ صورة النبيذ المُسكر والشوق العميق الذي يشعر به الشاعر نحو الحبيب. استخدم ابن الفارض في قصيدته، أسلوب شعري فريد ليعبر عن تجربته العميقة، حيث أدى حبه للمحبوب – الله سبحانه وتعالى – إلى حالة الثمالة .
سَقَتني حُمَيَّا الحُبَّ راحَةَ مُقلَتي وَكَأسي مُحَيَّا مَن عَنِ الحُسنِ جَلَّتِ
وبالحَدَقِ استغنَيتُ عن قَدَحي ومِن شَمائِلِها لا من شَموليَ نَشوَتي
ففي حانِ سُكري حانَ شُكري لِفِتيَةٍ بِهِم تَمَّ لي كَتمُ الهَوَى مَعَ شُهرَتي
في القسمِ الأولِ من القصيدة، يتوقُ الشاعرُ بشغفٍ للاتحاد مع المحبوب، الذي يُمثل الله. ما يثيرُ الاهتمام هو أن الله، المحبوب، يُشار إليه بالضمير المؤنث على مرالقصيدة، كما يُشار إلى الثمالة كتشبيه لنشوة الحب، حيث تنسجم مجازية العاشق والمحبوب في السرد بشكل جميل.
في البيت الخامس والثمانون، تأخذ القصة منعطفا دراماتيكياً؛ إذ ترفضُ المحبوبةُ الشاعرَ دون سابقِ إنذار. تباهى الشاعر في بدايةِ القصيدة بحبهِ الشديد وتفانيه المخلص وتحمّله للصعابِ وحتى عثورَهُ على متعةٍ فيها سعيًا للاتحاد مع الحبيبة. لكن أصبح من الواضح أن هذا الاحتفاء بالنفس كان مبنياً على الكِبْر وأنَّ حب الشاعر موجه في الأساس نحوه لا نحو المحبوب.
يوضح الحبيب بأن الشاعر يسعى للحب، بالتأكيد، ولكن من أجله، ليس من أجل المحبوب، ويشرح الحبيب أن الشاعر احتفظ بجزء من ذاته، وأنه لن يحب حقًا حتى يفقد نفسه بالكامل داخل الحبيب:
حليف غرام أنت لكن بنفسه وإبقاك وصفا منك بعض أدلتي
فلم تهوني ما لم تكن في فانيا ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي
بعدَ هذا الرفض الجارح، يحدث تحول عميق في الشاعر؛ إذ تتواضع نفسُه و ُيدركُ خطأه و يصل إلى حالة تسليم كاملة، حيث يدرك أن السبيل الوحيد لتحقيق رغبة الحبيب هو إلغاء إرادته الشخصية تمامًا، لكي لا يبقى في قلبه شيء سوى الحبيب. عندها فقط يحقق الشاعر ما كان يبحث عنه طويلًا.
يكتب ابن الفارض في مخطوطته المنشورة عام 1665.
لها صلواتي بالمقامِ أُقيمها وأشهَدُ فيها أنّها ليَ صَلّتِ
كِلانَا مُصَلٍّ واحِدٌ، ساجِدٌ إلى حقيقَتِهِ، بالجمعِ، في كلّ سجدَة
وما كان لي صَلّى سِواي، ولم تكن صلاتي لغيري في اذا كلِّ ركعة
تروي القصيدةُ قصةَ رحلة نحو الوحدانية مع الله، وتأخذنا عبر مراحل مختلفة من فهم الذات؛ إذ للقاء المحبوب -أي الله- يختبر الشاعرُ إلغاء النفس، لينصَهِرَ تمامًا مع الذات الإلهية، حيث تختفي جميع إشارات التعدد. وهذا ما يطلقُ عليه الصوفيون بـ “الفناء”.
ولكن بعد الفناء تأتي مرحلة “البقاء” في الله. عندها، يعود المتصوف من حالة النشوة إلى نوع آخر من الوضوح. يعود إلى ذاته في العالم الواقعي، لكنّ رؤيته للعالم تغيّرت. لم يعد ينظر إلى نفسه ككيان مستقل، وإنما كإظهار لذات الله. لم يعد وجوده محدودًا ومنفصلًا، بل أصبح واحدًا مع الواقع الذي يضم كل شيء في وحدته.
الحبُ الأبدي
تُعبرُ “التائية الكبرى” بجماليتها عن رحلة عميقة نحو المفاهيم الصوفية. يبرزُ الحَبّ كموضوع جوهريّ في القصيدة، إنه الحب الذي يدفع المحبوب للتخلي عن ذاته والانصهار مع ذات المحبوب ليشكلا ذاتاً واحدة. هذا الحب الذي يملأ قلب الصوفي الزاهد المستنير. من هذا المنظار، يكتشف الصوفي العالم بأكمله كنسيج محبوكٍ من الحب، والحب الذي يتحقق يمتد ليشمل جميع خلق الله. إنه حب لا نهائي في جوهره يتسع ليشمل الطبيعة وجميع كائنات العالم. إن هذا الحب، بكل ما يتضمنه من أهمية عميقة، يشكل نبض الواقع.
يقول الحديثُ القُدسي: “كُنتُ كنزاً مَخفياً فأحببتُ أن أُعْرَف فخَلَقتُ الخَلْقَ لكي أُعرف”