أدّى صدور كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” عام 1978 وما تبعه من نقاشاتٍ وتساؤلات، لا سيّما في العالم العربيّ، إلى حصر نظرتنا إلى سِير المستشرقين في كونهم غربيّين لا أكثر. وإنّهم من خلال دراستهم للإسلام أو للبلاد الإسلاميّة مهّدوا إلى الاستعمار أو ساهموا في بناء النّظرة الدّونيّة تجاه العرب والمسلمين بسبب رؤيتهم للعالم ضمن فريقين؛ الشّرق بكل ما تحمله هذه الكلمة من غرابة وأسطرة، والغرب العقلانيّ والتقدّمي إلخ..
وبالرّغم من أنّ ما قدّمه سعيد كان غاية في الأهمّية للكشف عن عدسة متحيّزة لا بدّ وأنها أثّرت في قراءة الغرب للبلاد الإسلاميّة والعربيّة ومن ثمّ معالجتها وتفكيكها لاحقًا، إلّا أنه يمكننا أن نتساءل أيضًا، هل كانت “غربيّة” هؤلاء المستشرقين الدّافع الوحيد وراء اهتمامهم بال”شرق”؟ هل كان سحر الشّرق المزعوم كافيًا لافناء عمرٍ في دراسة الإسلام دينًا وتاريخًا وثقافة؟ كيف يمكننا أن نرى هؤلاء كأشخاص، أي كأفراد حملوا مركّبات عديدة في إنسانيّتهم عدى عن انتمائهم للغرب، وخاضوا بكامل إرادتهم مشوار طويل للانغماس في عالم آخر غير الّذي ولدوا فيه؟
إغناس جولتسهير
تحمل قصّة إغناس جولتسهير الكثير من الإلهام لمن يسأل هذه الأسئلة. وربّما علينا أن نعرف من هو جولتسهير قبل أن نجيب لماذا.
يعتبر الكثيرون المستشرق إغناس جولتسهير، أو إسحق يهودا جولتسهير، أحد مؤسسّي، إن لم يكن المؤسّس الرّئيسيّ، للدّراسات الإسلاميّة في أوروبا. بحث اللّغة العربيّة وآدابها ولغات ساميّة أخرى وجوانب متعدّدة للإسلام، كتفسير القرآن، والحديث والعقيدة، وصولًا إلى اهتمامه بتيّارات حديثة في الفكر الدّيني الإسلامي. تربّع اهتمامه على إسلام العصور الوسطى، إلا أنّ الأثر العلميّ الذّي تركه ما زال يعتبر مادّة مؤسّسة للدّراسات الإسلاميّة كمجال أكاديميّ حديث.
ولد جولتسهير لعائلة يهوديّة عام 1850 في المجر، موطنه الّذي بقي مخلصًا له حتّى توفّي في بودابست عام 1921. ومن المفارقة أن الفترة الّتي عاش فيها جولتسهير تميّزت بصعود اللّاساميّة الأوروبيّة بشكل كبير، ممّا أثر في حياته اليوميّة وفي سعيه الأكاديميّ، فرغم انجازات جولتسهير المبهرة أكاديميّا، إلا أن تعيينه بدرجة أستاذ (بروفسور) بشكل رسميّ، تأخّر كثيرًا. فاخلاصه لمعتقده اليهوديّ ولدين أجداده منعه من اعتناق المسيحيّة واكتساب الامتيازات الممكنة الّتي حُرم منها كيهوديّ يعيش في أوروبا في المنتصف الثّاني من القرن التّاسع عشر.
بدأت مسيرة جولتسهير العلميّة من الاهتمام بالعبريّة واليهوديّة كصبيّ يافع، ولإلمامه الشّديد في الأعمال الكلاسيكيّة والأدبيات اليهوديّة تلقّى فرصة الدّراسة العليا تبعًا للإصلاحات الأكاديميّة الّتي بثّتها الحكومة المجريّة حينها، والّتي احتوت على تطوير الدرّاسات الشرقيّة ومن ضمنها الدّراسات اليهوديّة في المجر.
تطوّرت معارف جولتسهير وتشعّبت، وفي دراساته اللاحقة في جامعات عدّة في برلين ولازبك وليدن، تحوّل اهتمام جولتسهير إلى الإسلام وقام بتوسعة بحثه واهتماماته بشكل ملحوظ، ممّا أعطاه الفرصة لزيارة بلدان عدة في الشّرق الأوسط بدعم من الحكومة المجريّة. فزار سوريا وفلسطين والقاهرة، حيث مكث وتمكّن من تلقي المحاضرات وسماع الخطب في جامع الأزهر، بل وممارسة الحياة الإسلاميّة ومعايشتها عن قرب، وهناك دوّن مذكّرات رحلته الّتي أثرت فيه في مذكّراته الّتي نشرت بعنوان Tagebuch بالألمانيّة، وأبدى في أجزاء منها تقرّبًا من الإسلام ومن الثّقافة الإسلاميّة على نحوٍ مفاجئ.

إلّا أن جولتسهير العالِم من جهة أخرى، لو يتوانى عن إظهار نظرته النّقديّة في دراسة الإسلام، والقصد هنا هو دراسة تاريخ الدّيانة الإسلاميّة بجوانبها المتعدّدة، كإبداء رأيه في أدبيات الحديث أو تأثّر مراحل معيّنة من تطوّر الدّين الإسلاميّ بديانات أخرى أو حضارات أخرى. ولذلك نجد احيانا نقدًا شديدًا لشخص جولتسهير في المصادر العربيّة الّتي ذكرته، كترجمات أعماله أو في مؤلّفات تحت عنوان “الغزو الفكري”. كما نجد من جهة أخرى تقديرًا له ولأبحاثه الأصيلة، وربّما لشغفه تجاه الإسلام. لكنّنا هنا نعود لسؤالنا: ما الّذي دفعه إلى دراسة الإسلام، لا سيّما في ظلّ غربته كيهوديّ عاش في فترة امتازت بكراية اليهود في أوروبا؟
مكتبة جولتسهير وأرشيفه
خلّف جولتسير مكتبة ضخمة من مؤلّفات وأعمال جمعها في مواضيع ولغات شتّى، وكان أبراهام شالوم يهودا، تلميذه وصديق عائلته، من أشرف على انتقال محتويات هذه المكتبة على يد المنظّمة الصّهيونيّة إلى المكتبة الوطنيّة اليهوديّة حينها (المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة اليوم) بعد وفاة جولتسهير وموافقة عائلته. تحتوي المواد الأرشيفيّة الخاصّة بجولتسهير والّتي يتواجد جزء منها في المكتبة الوطنيّة وجزء كبير في مكتبة الأكاديميا المجريّة للعلوم على مراسلات شخصيّة وعلى مذكرّات جولتسهير الخاصّة الّتي بدأ بتدوينها في سنّ الأربعين.

ومن خلال هذه المراسلات الشخصيّة والرّسميّة والمدونات اليوميّة، تمكّن المهتمّون بحياته الشّخصيّة من الكشف عن الشخصيّته الحساسة والمفعمة بالإنسانيّة والتّعقيد. قدّم بعضٌ من طلّاب جولتسهير أو أصدقائه وزملائه بالإضافة الى باحثين معاصرين محاولات عديدة لتحليل شخصيّته وحياته، ولمحاولة فهم دوافعه لعيش حياة شاقة، بين البحث في الإسلام من جهة، ونشاطه في خدمة مجتمعه اليهوديّ في المجر من جهة، والتّمييز ضده كأكاديميّ لم ينل ما يستحقّه من تقديرٍ كافٍ لفترة طويلة من حياته.
مؤتمر في ذكرى مرور مائة عام على رحيل جولتسهير وفيه محاضرات عديدة عن أعماله وعن حياته
فبالرغم من تلقّي جولتسهير لعروض مغرية لشغل مناصب أكاديميّة رفيعة في بلدان أخرى ، ومنها في جامعة القاهرة بدعوة من الأمير فؤاد (الملك فؤاد لاحقًا) وتلقّي رواتب أفضل في جامعة كامبريدج على سبيل المثال، فقد رفض مغادرة المجر، وآثر أن يبقى بجوار عائلته ومجتمعه رغم الظروف الصّعبة، كما إنّه لم ينتسب إلى الحركة الصّهيونيّة الّتي عايش ازدهارها واعتبر المجر موطنه.
فجولتسهير الإنسان لم يكن أوروبيًا عاديًا، بل كان من هؤلاء الّذين شعروا بالغربة في أوروبا في ذلك الوقت، الغربة لا بمعنى عدم الانتماء، بل هو عكس ما تظهره مسيرة جولتسهير واختياراته المهنيّة والشخصيّة إذ لم يبد أي تردد في رفض كل عروض خروجه من المجر، بل الغربة بمعنى الاغتراب اليوميّ، والقلق والأرق الّذي عاشه الإنسان اليهوديّ المضطهد في بيئة أقصته ولم يتمكّن من التمّاهي معها. وهو ما يظهر في مراسلاته مع أصدقائه المقرّبين.
ربّما كان الإسلام وخوض غمار التّعرف عليه كثقافة مغايرة عن تلك الّتي يعايشها في مكانه وزمانه ملاذًا له؟ ربما أراد التّعرف على الحضارة التي عرفها جولتسهير الصّبي من كتابات موسى بن ميمون وغيره؟ ربّما مكنته خلفيّته الثّرية في التّراث اليهوديّ من رؤية الإسلام بعيون أكثر تفهمًا من غيره، فكانت حياته العلميّة منفذًا للانسان الّذي يعيش في أزمة ما بين تعلقه بانتمائه التراثي والديني من جهة وموطنه من جهة أخرى ؟ هل عاش جولتسهير “خارج المكان” هو الآخر كما وصف ادوارد سعيد تجربته في سيرته الذّاتية؟ لا ندري، لكن ليس ببعيد أن تتشابه التجارب الانسانيّة إلى هذا الحد، وإن بدت متضادة من بعيد.

المصادر والمراجع:
1. Ignaz Goldziher and his Oriental diary: a translation and psychological portrait / Raphael Patai.
2. Ignac Goldziher: His life and scholarship as reflected in his works and correspondence / Robert Simon
3. يوميات ايجناس جولدتسهير: ترجمة محمد عوني وعبد الحميد مرزوق