واجه المطاردة والاضطهاد لأكثر من أربعين عامًا، اتّهم بالكفر والكذب وسُجن ونُفي أكثر من مرّة، راسل ملوك ورؤساء دول العالم ليطالبهم بالاتّحاد والعمل من أجل السّلام ووحدة البشر، وعند وفاته دُفن في حدائق بديعة أخّاذة، ما زالت مزارًا لمئات الآلاف من حول العالم. فمن يكون بهاء الله مؤسّس الدّيانة البهائيّة؟
لعلّ أفضل ما يعرّف عن بهاء الله وعن ما آمن به ودعا إليه هو كلامه حين رحّب بالمستشرق إدوارد غرانفيل براون الّذي زاره في “قصر البهجة”، منفاه الأخير في مدينة عكّا في سبعينيّات أو ثمانينيّات القرن التّاسع عشر .
يقول براون أنه كان مأخوذًا ببريق عينيه النّافذتين وبجلال هيئته، أخذه الذّهول مع أنه لم يجهل من هو ذاهب للقائه. فإذا بصوت هادئ جليل يأمره بالجلوس ويقول:
“حمدًا لله على سلامتك. جئت لترى مسجونًا ومنفيًا..نحن لا نريد إلّا إصلاح العالم وسعادة الأمم، وهم مع ذلك، يعتبروننا مثيرين للفتنة والعصيان ومستحقّين للحبس والنّفي.
فأيّ ضرر في أن يتّحد العالم على دين واحد وأن يكون الجميع إخوانًا؟ وأن تستحكم روابط المحبّة والاتّحاد بين بني البشر، وأن تزول الاختلافات الدّينيّة وتُمحى الاختلافات العرقيّة؟ وأنّه لا بدّ من حصول هذا كلّه. فستنقضي هذه الحروب المدمّرة والمشاحنات العقيمة. وسيأتي الصّلح الأعظم”.
في ذلك الوقت، كان بهاء الله الفارسيّ الأصل يسكن في “قصر البهجة” القريب من مدينة عكّا، والّذي اشتراه له ولده “عبّاس أفندي” من التّاجر العكّي المسيحيّ عودة خمّار بعد أن سمحت الدّولة العثمانيّة لبهاء الله بقضاء المدّة المتبقيّة من سنوات سجنه في بيتٍ مقفل خارج سجن عكّا.
لم يكن بهاء الله مواطنًا عثمانيًا من الأساس، إلا أن السّلطات الإيرانيّة استمرّت بالضّغط على الدّولة العثمانيّة لعقود متواصلة لإبقائه في السّجون أو لنفيه من مدينة إلى أخرى باستمرار خشية من انتشار دعوته الّتي اعتبرها الإيرانيّون فتنة يجب قتلها في مهدها. ورغم نجاحها باغتيال صاحب هذه الدّعوة الأول والّذي يدعى بالـ “باب” استمرّت الدولة الإيرانية بملاحقة أتباعه وناشري دعوته وكان “بهاء الله” من أبرزهم وأكثرهم شهرة ومحبّة. ولقد تمكّن هؤلاء من إنشاء طائفة كاملة ومستقلّة عن الإسلام، لها كتبها وتعاليمها وأتباعها المتّحدين حول العالم.
تعاليم بهاء الله
اشتهرت الدّيانة البهائيّة بكونها ديانة جميع الدّيانات، أي أن أتباع هذه الدّيانة يرون بأن جميع الأديان الموجودة على الأرض منبثقة من الحقيقة الواحدة أي من الإله الواحد، لكنّ هذا لا يعني أنها لا تملك عقيدة وتعاليم خاصّة بها.
تستقي الدّيانة البهائيّة تعاليمها ونهجها من كتابات بهاء الله والباب وغيرهم من أئمّة أو قادة الدّين البهائيّ، وتوصف كتابات بهاء الله على أنّها أُنزلت أو أُوحيت إليه في قصر البهجة وفي أماكن أخرى. وكشخصٍ عانى الظّلم والأذى والعداوة من معارضي دعوته ومن بعض أتباعها، ومن ضمنهم أخيه غير الشّقيق الّذي أراد منافسته على رئاستها، إلا أنّ تعاليمه اتّسمت بالتّسامح والتّواضع والكونيّة والرّوحانيّة، ولم يدعُ قطّ للعداوة أو الانتقام لما حلّ به. وقد قام بهاء اللّه بإرسال دعوته للوحدة والسّلام لكثير من الملوك والرؤساء في وقته، ومنهم السّلطان العثمانيّ، وملك إيران ناصر الدّين شاه، وقيصر روسيا وملك النّمسا والملكة فيكتوريا وغيرهم. وما زال أتباع الدّيانة البهائيّة يرون أن السّعي لتحقيق السّلام العالميّ غاية دينيّة أساسيّة في إيمانهم.
إلّا أن هذا البُعد الكونيّ الّذي يميّز الدّيانة البهائية على غيرها من الأديان ليس العنصر الوحيد بها، فللديانة البهائيّة عدّة كتب مقدّسة، أكثرها قداسة “الكتاب الأقدس” ومن ثمّ يليه “كتاب الإيقان” و”الوديان الأربعة” و”كلمات مكنونة” و”جواهر الأسرار” و”الوديان السّبعة” أو “الدّلائل السّبعة”.
وعند الاطّلاع على بعض نصوص بهاء الله نجد تأثرًا بالعقيدة الشّيعيّة الّتي انشقت عنها الدّعوة البابيّة منذ بدايتها، وكذلك تأثرًا بالتّصوف الإسلاميّ. فإلى جانب الإيمان بكونيّة الأديان ووحدتها يذكّر بهاء الدّين مرة تلو الأخرى بأهمّية رعاية “حياة القلب” و”حياة الرّوح”.
فالجسد عند البهائيّين ليس إلا بيتًا مؤقتًا للرّوح الخالدة، توضع فيه في هذه الحياة لكي تقدّم الخير وترعى إخوانها من بني البشر فتكتسب الصّفات الملكوتيّة الّتي تبدأ بها رحلتها إلى الكمال بعد موت الجسد، وهذه الرّحلة أبديّة لا تنتهي. وعن هذا قال بهاء الله: “لو رُزقتَ قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأن الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياة الجسد”. وفي موضعٍ آخر: “عندما تكون النّفس لحياة الرّوح، عندها تثمر ثمارًا جيّدة، وتصبح شجرة إلهيّة”.