لكي تثمر وتكون شجرة إلهيّة – عن تعاليم بهاء الله

"لكي تثمر وتكون شجرة إلهيّة؛" عن تعاليم بهاء الله والديانة البهائية ومؤسسها بهاء الله وسيرته في مدينة عكا.

قبة عباس

واجه المطاردة والاضطهاد لأكثر من أربعين عامًا، اتّهم بالكفر والكذب وسُجن ونُفي أكثر من مرّة، راسل ملوك ورؤساء دول العالم ليطالبهم بالاتّحاد والعمل من أجل السّلام ووحدة البشر، وعند وفاته دُفن في حدائق بديعة أخّاذة، ما زالت مزارًا لمئات الآلاف من حول العالم. فمن يكون بهاء الله مؤسّس الدّيانة البهائيّة؟

لعلّ أفضل ما يعرّف عن بهاء الله وعن ما آمن به ودعا إليه هو كلامه حين رحّب بالمستشرق إدوارد غرانفيل براون الّذي زاره في “قصر البهجة”، منفاه الأخير في مدينة عكّا في سبعينيّات أو ثمانينيّات القرن التّاسع عشر .

يقول براون أنه كان مأخوذًا ببريق عينيه النّافذتين وبجلال هيئته، أخذه الذّهول مع أنه لم يجهل من هو ذاهب للقائه. فإذا بصوت هادئ جليل يأمره بالجلوس ويقول:

“حمدًا لله على سلامتك. جئت لترى مسجونًا ومنفيًا..نحن لا نريد إلّا إصلاح العالم وسعادة الأمم، وهم مع ذلك، يعتبروننا مثيرين للفتنة والعصيان ومستحقّين للحبس والنّفي.

فأيّ ضرر في أن يتّحد العالم على دين واحد وأن يكون الجميع إخوانًا؟ وأن تستحكم روابط المحبّة والاتّحاد بين بني البشر، وأن تزول الاختلافات الدّينيّة وتُمحى الاختلافات العرقيّة؟ وأنّه لا بدّ من حصول هذا كلّه. فستنقضي هذه الحروب المدمّرة والمشاحنات العقيمة. وسيأتي الصّلح الأعظم”.

في ذلك الوقت، كان بهاء الله الفارسيّ الأصل يسكن في “قصر البهجة” القريب من مدينة عكّا، والّذي اشتراه له ولده “عبّاس أفندي” من التّاجر العكّي المسيحيّ عودة خمّار بعد أن سمحت الدّولة العثمانيّة لبهاء الله بقضاء المدّة المتبقيّة من سنوات سجنه في بيتٍ مقفل خارج سجن عكّا.

قصر البهجة في ضواحي عكّا عام 1953، أرشيف يتسحاك بن تسفي
قصر البهجة في ضواحي عكّا عام 1953، أرشيف يتسحاك بن تسفي

لم يكن بهاء الله مواطنًا عثمانيًا من الأساس، إلا أن السّلطات الإيرانيّة استمرّت بالضّغط على الدّولة العثمانيّة لعقود متواصلة لإبقائه في السّجون أو لنفيه من مدينة إلى أخرى باستمرار خشية من انتشار دعوته الّتي اعتبرها الإيرانيّون فتنة يجب قتلها في مهدها. ورغم نجاحها باغتيال صاحب هذه الدّعوة الأول والّذي يدعى بالـ “باب” استمرّت الدولة الإيرانية بملاحقة أتباعه وناشري دعوته وكان “بهاء الله” من أبرزهم وأكثرهم شهرة ومحبّة. ولقد تمكّن هؤلاء من إنشاء طائفة كاملة ومستقلّة عن الإسلام، لها كتبها وتعاليمها وأتباعها المتّحدين حول العالم.

 

 صورة لبهاء الله من عام 1868، صفحة ويكيبيديا عن بهاء الله بالإنجليزيّة.
صورة لبهاء الله من عام 1868، صفحة ويكيبيديا عن بهاء الله بالإنجليزيّة.

 

تعاليم بهاء الله

اشتهرت الدّيانة البهائيّة بكونها ديانة جميع الدّيانات، أي أن أتباع هذه الدّيانة يرون بأن جميع الأديان الموجودة على الأرض منبثقة من الحقيقة الواحدة أي من الإله الواحد، لكنّ هذا لا يعني أنها لا تملك عقيدة وتعاليم خاصّة بها.

مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
من مخطوطة الدلائل السّبعة تأليف مؤسّس الدعوة البابيّة الشّيرازي الملقّب بالـ “باب”. عام 1911 من مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

تستقي الدّيانة البهائيّة تعاليمها ونهجها من كتابات بهاء الله والباب وغيرهم من أئمّة أو قادة الدّين البهائيّ، وتوصف كتابات بهاء الله على أنّها أُنزلت أو أُوحيت إليه في قصر البهجة وفي أماكن أخرى. وكشخصٍ عانى الظّلم والأذى والعداوة من معارضي دعوته ومن بعض أتباعها، ومن ضمنهم أخيه غير الشّقيق الّذي أراد منافسته على رئاستها، إلا أنّ تعاليمه اتّسمت بالتّسامح والتّواضع والكونيّة والرّوحانيّة، ولم يدعُ قطّ للعداوة أو الانتقام لما حلّ به. وقد قام بهاء اللّه بإرسال دعوته للوحدة والسّلام لكثير من الملوك والرؤساء في وقته، ومنهم السّلطان العثمانيّ، وملك إيران ناصر الدّين شاه، وقيصر روسيا وملك النّمسا والملكة فيكتوريا وغيرهم. وما زال أتباع الدّيانة البهائيّة يرون أن السّعي لتحقيق السّلام العالميّ غاية دينيّة أساسيّة في إيمانهم.

إلّا أن هذا البُعد الكونيّ الّذي يميّز الدّيانة البهائية على غيرها من الأديان ليس العنصر الوحيد بها، فللديانة البهائيّة عدّة كتب مقدّسة، أكثرها قداسة “الكتاب الأقدس” ومن ثمّ يليه “كتاب الإيقان” و”الوديان الأربعة” و”كلمات مكنونة” و”جواهر الأسرار” و”الوديان السّبعة” أو “الدّلائل السّبعة”.

مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

 

وعند الاطّلاع على بعض نصوص بهاء الله نجد تأثرًا بالعقيدة الشّيعيّة الّتي انشقت عنها الدّعوة البابيّة منذ بدايتها، وكذلك تأثرًا بالتّصوف الإسلاميّ. فإلى جانب الإيمان بكونيّة الأديان ووحدتها يذكّر بهاء الدّين مرة تلو الأخرى بأهمّية رعاية “حياة القلب” و”حياة الرّوح”.

فالجسد عند البهائيّين ليس إلا بيتًا مؤقتًا للرّوح الخالدة، توضع فيه في هذه الحياة لكي تقدّم الخير وترعى إخوانها من بني البشر فتكتسب الصّفات الملكوتيّة الّتي تبدأ بها رحلتها إلى الكمال بعد موت الجسد، وهذه الرّحلة أبديّة لا تنتهي. وعن هذا قال بهاء الله: “لو رُزقتَ قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأن الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياة الجسد”. وفي موضعٍ آخر: “عندما تكون النّفس لحياة الرّوح، عندها تثمر ثمارًا جيّدة، وتصبح شجرة إلهيّة”.

 

قصة مجموعة التمائم الغامضة التي أتت من موسكو إلى المكتبة الوطنية

وصلت إلينا عشرات التمائم التي كتبت بهدف حماية أصحابها من المخاطر الطبيعية والخارقة للطبيعة. تتبعوا تفاصيل الحكاية في المقال.

لدينا معلومات قليلة جدًا عن زيارة د. ماكس ليوبولد برودني إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1959، زيارة عاد منها إلى مدينة شيكاغو، حيث يسكن، حاملًا حقيبة إضافية، غير تلك التي حملها إلى موسكو. كانت حقيبة سوداء، صغيرة وبالية. فهم د. برودني، وهو جرّاح يهودي شهير متخصص في طب المسالك البولية، أنّه تلقى شيئًا مهمًا، واحتفظ بالحقيبة في إحدى خزائن منزله، حيث بقيت حتى وفاته في عام 1979. عند تقسيم الميراث، انتقلت الحقيبة إلى ابنته إلينور، التي حرصت، مثل أبيها، على الاحتفاظ بها في منزلها.

د. ماكس ليوبولد برودني. الصورة مقدمة بلطف من العائلة
د. ماكس ليوبولد برودني. الصورة مقدمة بلطف من العائلة

 

توجّهت إلينور مرتين إلى باحثين في اليودايكا في شيكاغو، ولكنهم لم يبدوا اهتمامًا شديدًا بمحتوى الحقيبة. وفقط عندما توجّهت إلى ستيسي ديربي، باحثة في مجال السير الذاتية وأديبة تساعد العائلات على تدوين سيرهن الذاتية، اكتسبت الحقيبة اهتمامًا. أرت إلينور الحقيبة لستيسي، وأخبرتها بالظروف التي أوصلت الحقيبة إليها.

صورة لابنة د. برودني، إلينور. الصورة مقدّمة بلطف من العائلة
صورة لابنة د. برودني، إلينور. الصورة مقدّمة بلطف من العائلة

 

قصة الحقيبة

لنعود الآن إلى رحلة د. ماكس إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1959.

في تلك الرحلة، زار ماركس كنيسًا في موسكو. قاده الحاخام المسؤول عن إدارة الكنيس إلى غرفة جانبية، ووضع بين يديه حقيبة جلدية سوداء. “لا يوجد لها أي مستقبل، خذها من هنا، واحتفظ بها”، توسّل الحاخام من موسكو إلى الطبيب اليهودي من شيكاغو. “ولكن احذر، فهناك من يتعقبنا”.

استجاب ماكس لطلب الحاخام، وأخرج الحقيبة من الاتحاد السوفيتي. أثار محتوى الحقيبة وقصّتها اهتمام ستيسي. توجّهت إلى أستاذة سابقة، بروفسور راحيل إليؤور من الجامعة العبرية في القدس، التي وجّهتها بدورها إلى جهات مختصة في المكتبة الوطنية في إسرائيل، على أمل استكشاف محتوى الحقيبة.

الحقيبة التي قدّمتها إلينور للمكتبة الوطنية
الحقيبة التي قدّمتها إلينور للمكتبة الوطنية

 

أثار محتوى الحقيبة وقصتها اهتمام د. تسفي لشيم، مدير مجموعة غرشوم شوليم المتخصص في الكابالا والحسيدية اليهودية، الذي تلقى التوجّه، وقام بدوره بإخبار د. يوئيل فينكلمان، أمين مجموعة اليهودية في المكتبة الوطنية، بذلك.

وجد طاقم المكتبة 85 قطعة مختلفة في الحقيبة، معظمها تمائم صغيرة وبسيطة (وعددها 76)  كتبت بخط يد. كتبت معظم التمائم في شمال أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر أو في مطلع القرن العشرين، بينما كتبت البقية في البلاد، وكُتب عدد قليل في أماكن أخرى. تحدد ذلك بناءً على نمط الكتابة، الأسماء الظاهرة في التمائم، مثل سلام ابن جدال أو سلطانة بنت أيستريليا ، وفي حالة واحدة أو اثنتين، أشير بوضوح إلى مكان الكتابة (“هنا، في إسرائيل”).

كتبت جميع التمائم لاستجداء الملائكة والقوى السماوية لحماية أصحابها من المخاطر الطبيعية والخارقة للطبيعة. كتبت بعض التمائم للحفاظ على الصحة، كتبت أخرى لحماية المنجبة والمولود، وكتب جزءٌ آخر لحماية المنزل.

كتبت التمائم الـ 76 الصغيرة على بطاقة أو ورقة على شكل لفيفة، وبأحجام مختلفة- يبلغ حجم أطولها قرابة المتر، وقد وضعت داخل أسطوانة (أو تم طيها) لتمكين أصحابها من حملها بسهولة في الجيب أو في الحقيبة. صبغت 11 تميمة باللون الوردي، بينما صبغت تمائم أخرى بألوان أغمق.

كتبت سبع تمائم أخرى بشكل مفصل وبارع، خاصة تلك التي تصف خرائط هيئة الألوهية قبل الكابالا .

قطعة فريدة أخرى تعود إلى القرن التاسع عشر، وقد نسبت إلى شمال أفريقيا، هي ورقة مكتوبة بخط يد وتحتوي على وصفات سحرية وإرشادات لكتابة التمائم. إنّها أكثر القطع تلفًا، يبدو بسبب الاستخدام المتكرر. سنوافيكم بمزيد من التفاصيل في مقالة مستقبلية.

 

بضع صفحات من دفتر التمائم، وسنكتب عنه لاحقًا بإسهاب

 

 

بضع صفحات من دفتر التمائم، وسنكتب عنه لاحقًا بإسهاب
بضع صفحات من دفتر التمائم، وسنكتب عنه لاحقًا بإسهاب

إن لم تظهر معلومات جديدة حول هذه القضية الغامضة، وهذا وارد، لا يمكننا أن نعرف كيف وصلت هذه المجموعة القيّمة ليد الحاخام في موسكو. بسبب قلة التمائم الآتية من أوروبا، يُرجّح أنّ المجموعة غير تابعة لمتصوف روسي/أوروبي شرقي كان ناشطًا في تلك الفترة. ربما كانت هذه المجموعة تابعة لباحث أو هاوٍ جمع في موسكو، وعند وفاته، ورث الكنيس في موسكو مجموعة التمائم هذه، ولكن العِلم عند الله.

حتى إن لم تُكتشف هوية الشخص الذي جمع هذه التمائم، فإنّ المسافات التي قطعتها التمائم (من أفريقيا والبلاد، مرورًا بروسيا والولايات المتحدة إلى أن وصلت أخيرًا إلى القدس) تثبت ما يعرفه باحثون عديدون اليوم- السحر اليهودي ليس أمرًا هامشيًا وخفيًّا. مع أنّ القصة التي عرضناها أمامكم مليئة بالثغرات المعلوماتية، إلّا أنّ اهتمام اليهود بالسحر هو اهتمام يومي، تاريخي بل ومعاصر أيضًا. “على مر التاريخ، تعاطت الجاليات اليهودية السحر والجِن”، يقول فينكلمان.

بعد تخبّط، وبالتشاور مع باحث اليهودية النادرة دافيد فوختل من نيويورك، قررت إلينور التبرع بالمجموعة للمكتبة الوطنية في القدس، بما في ذلك الحقيبة الصغيرة التي حُفظت داخلها التمائم. بعد أسبوعين على إرسال الحقيبة إلى البلاد، انفجر في منزل إلينور أنبوب التدفئة في مكان كان سيُتلف حقيبة التمائم. يقول د. فينكلمان مازحًا ربما حدث ذلك صدفة، و”ربما لا”.

لا نحظى كل يوم بمجموعة قيّمة كهذه تثري مجموعة التمائم والمخطوطات في المكتبة الوطنية. في الوقت الحاضر، تمر المجموعة، التي تم التبرع بها لذكرى د. ماكس ليوبولد برودني، بسيرورة تصنيف وفهرسة، من ثم سيتم مسحها ضوئيًا ورفعها على شبكة الإنترنت لإتاحة هذه المجموعة القيّمة لجمهور الباحثات والباحثين في السحر اليهودي- وهو مجال بحثي يكتسب زخمًا متزايدًا منذ أكثر من عقد من الزمن.

“بفضل التبرع بالمجموعة للمكتبة الوطنية في إسرائيل”، تقول إلينور، “حققنا أمنية الحاخام من موسكو”.

“إذا أتى أباك من مصر أو العراق أو سوريا، فستسكن الفقر لا إسرائيل”: عن حركة الفهود السّود

في العام 1971، تأسست حركة "الفهود السّود" لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل والتي أصبحت ضمن حلقات ماضي التمرّد لليهود الشّرقيين في إسرائيل

من مظاهرة للفهود السّود عام 1974، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

في العام 1971 اجتمع شباب من اليهود الشّرقيين في جادة “مصرارة” في القدس من أجل تأسيس حركة “الفهود السّود” لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل. وقد اختاروا هذا الاسم تيمّنًا بالحراك السّياسيّ للأفارقة الأمريكيّين تحت ذات المسمّى في الولايات المتّحدة الأمريكيّة سنوات السّتينيّات. “الفهود السّود”. اسمٌ يدلّ على البشرة الغامقة، والقوّة والعنفوان.

من مظاهرة للفهود السّود عام 1973، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.
من مظاهرة للفهود السّود عام 1973، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

في أيار من ذات العام، أي قبل أربعين سنة من اليوم، خرج الفهود السّود في مظاهرة اندلعت عنها اشتباكات عنيفة مع الشّرطة الإسرائيليّة في شوارع القدس. ونُعتوا بالمخرّبين والمتطرّفين، كما لوحق وتمّ  اعتقال الكثير منهم. فما الّذي حدث في ذلك الوقت؟ وأين ذهبت “جهود الفهود السّود” اليوم؟

ماضي لتمرّد اليهود الشّرقيين

لم تكن حركة الفهود السّود الشّرارة الأولى التي تنبعث عن المجتمعات اليهوديّة الشّرقية الوافدة إلى البلاد، فالأدبيات الخاصّة بتلك الحراكات تفيض بإشارات تعود لسنوات قدومهم الأولى، إذ منذ البداية شعر اليهود القادمون من بلدان عربيّة أنهم مضطّهدون “عرقيّا”. كما تشير إحدى منشورات الفهود السّود عام  1977 “إن وصلت أنت أو والدك من شمال إفريقيا أو سوريا أو مصر أو اليمن أو العراق إلى إسرائيل، فاحتمال وصولك إلى شيء ما في هذا البلد يقترب إلى المستحيل، وإن هاجرتم إلى هنا بعد عام 1951، فاحتمال هلاككم كبير جدًا”.

من تلك الإشارات والحراكات السّابقة  “صغار الشّرق” في تل أبيب عام 1913، الّتي ضمّت يهود يمنيين وهدفت للاعتناء بحالتهم الماديّة والرّوحيّة وتعزيز مكانتهم الإجتماعيّة، بالإضافة إلى “علم صهيون”، “إسرائيل الفتاة” و”الحزب السفارادي الوطني” وغيرها من الجهات الّتي نادت بالمساواة. ولعلّ الحدث الأبرز في تلك الذّاكرة “احداث وادي صليب” في حيفا عام 1951 حين اندلعت اشتباكات عنيفة بين يهود شرقيين وعناصر للشرطة على أثر إطلاقها النار على رجلٍ مغربيّ. أدّت هذه الاشتباكات لجرح واعتقال العشرات من اليهود الشرقيين وإصابة بعض عناصر الشّرطة.

ولذلك لم تكن نشأة حركة الفهود السّود أمر مفاجئ للمجتمع الإسرائيليّ، إلّا أن تنظّمهم وسعيهم عبر التّظاهر والحشد الجماهيري إلى المطالبة اللحوحة بحقوقهم بدت كتحذير من صعود قوّة يهوديّة شرقيّة ذات شعبيّة كبيرة، وأظهرت بوادر للعمل الجماهيري السياسي المختلف لتلك الأوساط الّتي عانت من الفقر والإهمال في كلّ من مجالات التنمية والتعليم وتمكّنت من جهة أخرى من خلق حركة احتجاجيّة ذات شعبيّة واسعة.

من مظاهرة للفهود السّود عام 1971، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.
من مظاهرة للفهود السّود عام 1971، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

كان جميع مؤسسّي الحركة الأوائل من أبناء المغاربة، وتتراوح أعمارهم بين الثّامنة عشر والعشرين، حتّى أن لبعضهم كانت ملفّات جنائيّة لدى الشّرطة، وقد مُنعت مظاهراتهم الأولى من ترخيص السّلطات وأحيانًا تمّ اعتقالهم قبل بدايتها.

تشير بعض المصادر إلى أن بعض عناصر الفهود السّود أعلنوا إضرابهم عن الطّعام إلى أن وافقت رئيسة الوزراء آنذاك جولدا مئير على لقاء بعض قاداتهم في الثّالث عشر من نيسان من ذات العام بهدف الاستماع إلى مطالبهم. إلا أن اللقاء لم يسر على ما يرام، كما يصف أحد أعضاء الحركة آنذاك: استخفّت السيّدة بهم، ووصفتهم بمرتكبي الجرائم والمعربدين ولم تعترف بهم كحركة حقوقيّة.

المواجهات والجدل الجماهيريّ

فيما بعد بدأ الفهود السّود بتنظيم مظاهرات كبيرة بدون طلب ترخيص من الشّرطة. كانت أكبرها في الثّامن عشر من أيار وهي اللّيلة الّتي سمّيت لاحقًا ب”ليلة الفهود السّود” بسبب الجدل الّذي أثارته في المجتمع الإسرائيلي لاحقَا.

في ذلك اليوم حشد الفهود السّود أكثر من خمسة آلاف متظاهر وانطلقوا للسير سويًا من دوّار “دافيدكا” بالقدس باتجاه دوار “صهيون”، مطالبين بالمساواة العرقيّة وإنهاء الفقر والتمييز.  تخلّلت المسيرة ساعات من الاشباكات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة وأدت إلى اعتقال مئة من المتظاهرين وإصابة العشرات، كما قام بعض المتاظرين برمي الزجاجات الحارقة (المولوتوف) باتّجاه الشّرطة الّتي قامت بدورها برشّهم عبر مدفعيّات خاصّة بمياه مصنّعة ومصبوغة باللون الأخضر.

استمرّت المواجهات والاعتقالات طوال الليل حتى صباح اليوم التّالي. وفي الأيام التي تلت “ليلة الفهود السّود”، ظهر فرقٌ كبير بتغطية الحدث إعلاميًا بين الصّحف العبريّة والعربيّة في البلاد، وتراوحت الآراء في الشّارع الإسرائيليّ، فحتّى تلك الأصوات الّتي عبّرت عن تضامنها مع اليهود الشّرقيين وما يعانونه من ظروف لا تُحتمل، أكدّت على استنكارها للمظاهرات “العنيفة”. بينما قامت صحيفة الاتّحاد باستنكار “عنف الشّرطة” من جهة أخرى، واستنكرت اعتقالاتهم. كما قامت الكتلة الشّيوعيّة في الكنيست بالمطالبة بتحقيق حول عنف الشّرطة واعتقالات الفهود السّود وطالبت بالإفراج عنهم، مظهرة تضامنًا تحوّل بعد سنوات قليلة إلى تعاون رسميّ بين الحزب الشّيوعي الإسرائيليّ والفهود السّود ليؤسسّوا سوية “الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة” ويترشّح أعضاؤها لانتخابات الكنيست التّاسعة لأوّل مرّة جنبًا إلى جنب.

من منشور الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة للكنيست التاسعة عام 1977، المكتبة الوطنيّة.
من منشور الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة للكنيست التاسعة عام 1977، المكتبة الوطنيّة.

                                        لقراءة اتّفاقيّة الفهود السّود مع الحزب الشّيوعي في جريدة الاتّحاد


أثرُ الفهود السّود

 ليس هناك “فهود سود” اليوم في السّياسة أو الشّارع الإسرائيليّ. فالحركة الّتي بدأت كحراكٍ شعبويّ من الشّارع اتّخذت خيارًا بالتّحرك نحو السّياسة والانتخابات، وكان لمجموعة ذات خلفيّة مستضعفة مثلها أن تكون دائمة البحث عن تحالفات كبرى تسند وجودها في الكنيست. بدأت تحالفاتهم من الحزب الشّيوعيّ وترشّحوا  فيما بعد كحزب مستقلّ عام 1990 ولكن لأسباب داخليّة تفكّك الحزب وتنقّل أعضاؤه فرادى بين أحزابٍ شتّى بين اليمين واليسار ولم يعد هناك أثرٌ مرئيٌ لهم كمجموعة واحدة في مشهد السّياسة الإسرائيليّة.

يشير ميناحم هوفنونج في كتابه “أثر تظاهرات الفهود السّود على ميزانيّات المجتمع والرّفاه” إلى أنّ تعامل الدّولة القمعي مع الفهود السّود كحركة في بداياتها كان خوفًا من تعاظم شعبيّتهم في الشّارع، مما كان ليجلب الكثير من الفوضى لأجهزة الدّولة. إلّا أنّها من جهة أخرى، وبسبب تلك التّظاهرات الضّخمة، أضحت تدرك جيّدًا ما قد يواجهها من غضب إن لم تصنع أثرًا فارقًا في ترتيب ميزانيّاتها وتأهيل أجهزتها للعناية بمجتمعات اليهود الشّرقيين بشكلٍ أفضل. بكلمات أخرى، لم تعترف الدّولة ولم تأخذ بمطالبات ومشاكل الفهود السّود كما قاموا هم بصياغتها، إلّا أنها رأت من خلال حركتهم مؤشّرًا لضرورة العمل بشكلٍ مختلف مع هذه الشّريحة في مؤسساتها.

 

 

حكاية مكتبة محمد هادي الحاج مير؛ ثروةٌ فُقدت في البقعة

"لكن الذي يهمني في الحقيقة مكتبتي" – من كلمات الأستاذ محمد هادي الحاج مير في رسالته التي كتبها للبروفيسور هوغو بيرغمان طالبًا منه العون في البحث عن مكتبته في القدس والمحافظة عليها.

ربما حرب عام 1948 قد وضعت أوزارها، إلّا أنّ العديد من القصص والحكايات فُـقدت أثناء الحرب. ومن أكثر الحكايات التي آلمت أصحابها، هي حكاية مكتباتهم المفقودة التي فارقوها خلال الحرب آملين بعودتهم إليها واستعادة هذه الثروة المعرفية التي امتلكوها؛ مثل كتب خليل السكاكيني، محمد هادي الحاج مير، محمد إسعاف النشاشيبي، فايز أبو رحمة، توفيق كنعان وغيرهم من روّاد الثقافة الفلسطينية خلال عهد الانتداب البريطاني.

اختلفت سبل وتوجهات كلٍّ منهم بالمطالبة بمكتبته وتتبع أماكن وجود كتبهم، وكان من بين الأشخاص الأستاذ والمربي محمد هادي الحاج مير الذي تكاتب، برسالة بخط اليد، كتبها للبروفيسور هوجو بيرغمان مستفسرًا عن حال مكتبته أو كما سمّاها بالثروة العلمية.

ارتأينا أن نشارككم قصّة مكتبة الحاج مير وبحثه الضّنين عنها. فمن هو الأستاذ محمد الحاج مير؟

وردت بعض القصص والذكريات من الكلية العربية في كتاب “الكلية العربية في القدس: ذكريات وتاريخ” لـ مالك المصري وذلك توثيقاً لتاريخ هذا الصرح العلمي الأصيل والغني؛ حيث عرّف بكل الأساتذة فيما ترك الختام للأستاذ محمد هادي الحاج مير، وذلك للإسهاب في الحديث عنه كقامة تربوية وعلمية، فأخبرنا المصري: “لقد تلقى الدكتور الحاج مير دراسته العليا في ألمانيا، ومنها حصل على شهادة الدكتوراة، ومنها عاد إلى فلسطين ليمارس مهنة التعليم، حيث ارتقى حتى أصبح مدّرساً لمادة التاريخ في الكلية العربية. ولقد كان دائمًا يخبرنا أنّ التاريخ كالرياضيات، هكذا كان يقول الحاج مير، المقدمات تؤدي إلى النتائج.” لقد كان الحاج مير أستاذًا لمادة التاريخ المتوسط والتاريخ الحديث، ومن المربيين الذي دعموا الطلبة لتحصيل المعرفة وكذلك ممن يمازحون طلبتهم ويهتمون بهم وبأحوالهم الشخصية والعائلية وذوي الهيبة بين طلبتهم. (الكلية العربية في القدس: ذكريات وتاريخ، 1995)

كتب الأستاذ الحاج مير العديد من المقالات في مجلة الكلية العربية، منها مقالة الفوضى الثقافية في الشرق العربي” الصادرة في العام 1946، وكذلك نشر بعض الاقتراحات لتدريس مادة التاريخ في العام 1928. ظلّ الالحاج مير من أبرز المدرّسين المتميّزين في كلٍّ من الكليّة العربيّة والمدرسة الرّشيديّة في القدس حتّى أتى العام 1948 وغيّر أحوال البلاد وأهلها.

المنتدى، 22 شباط 1946
المنتدى، 22 شباط 1946

 

⁨⁨الكلية-العربية⁩⁩، 01 كانون الأوّل 1928
⁨⁨الكلية-العربية⁩⁩، 01 كانون الأوّل 1928

 

ماذا حلّ بـ الحاج مير؟

في تاريخ 14 تموز 1951، بعد ثلاثة أعوام من الحرب، أرسل الأستاذ الحاج مير رسالة بخط اليد وباللغة العربية للبروفيسور هوغو بيرغمان يطلب منه مساعدته لإيجاد مكتبته، ونفهم من خلالها ماذا حلّ بحياته بعد خروجه من بيته في القدس وأين انتهى به المطاف.

رسالة محمد حاج مير إلى هوغو بيرغمان
رسالة محمد حاج مير إلى هوغو بيرغمان


حضرة الأستاذ هوغو بيرغ
من المحترم،

أرجو أن تكون وعائلتك بصحة وعافية.
أكتب لك هذه الرسالة من أدنبرة – اسكتلندا راجيًا أن تفيدوني عن مسألة تهمني جدّا ألا وهي: مكتبتي
library

عندما غادرتُ البقعة في 5/5/1948 وكنت أسكن في بيت القوّاس في البقعة الفوقاء في جوار مدرسة الأمة على الطريق المؤدي إلى ميكور حاييم – تركت بيتي كما هو؛ أيّ بكل ما فيه من أثاث وغيره.

لكنّ الذي يهمني في الحقيقة مكتبتي الذي لا أشك بأنكم تقدّرون ما فيها من مؤلفات في جميع المراجع الإنسانية من تاريخ وفلسفة وفن واقتصاد والعلوم الإسلامية وكتب قّيمة جدًا في الصهيونية وتاريخها عدا عن بعض المخطوطات والآثار. كما أنّي تركت ثروة عظيمة من المحاضرات والمواضيع التي كنت جهّزتها للطبع وخاصة في تاريخ الحروب الصليبية وغيرها من المواضيع الإسلامية والأدبية.

وبما أّني أعتقد باهتمامك في هذا التراث العلمي القيّم وددتُ أن أتصل بك حتى تفيدني عما تمّ بذلك كما أنّي أرجوك أن تهتم بالمحافظة على هذه المكتبة لأنّي أعتقد بأنّك لا تشكّ بأنّ الأمر لو كان بالعكس؛ أي لو كانت مكتبتك في منطقة تخصني لما تأخرتُ أصلاً عن المحافظة كتراث علميّ أقدّر قيمته وعلى أمل أن أحصل على جواب مطمئن منك.

أتقدم باحتراماتي،
المخلص،
محمد الحاج مير

فما كان من البروفيسور هوجو بيرغمان إلا أن قام بالرّد عليه برسالة باللغة الألمانية “ليطمئنه” وذلك في تاريخ 29 تموز 1951، قمنا بترجمتها للعربية هنا:

 

رد هوغو بيرغمان على حاج مير
رد هوغو بيرغمان على حاج مير

عزيزي الأستاذ الحاج مير،
لقد استلمتُ رسالتك، شكراً لك. كنت أتمنى لو كان بمقدرتي أن أساعدك من الناحية القانونية لتتبع مسار مكتبتك. خلال القتال آنذاك، سعت مكتبتنا جاهدة لمنع تلف ودمار المكتبات وذلك من أجل الحفاظ على الكثير من الكتب، وهذه المكتبات الآن تحت رعاية السلطات المخوّلة بالحفاظ عليها. لقد توجهتُ إلى المدير الحالي للبحث والفحص مع مجموعة من الخبراء فيما لو كانت كتبك ضمن المجموعة التي حُفظت. بكل أسف، لقد أعلموني أنّ كتبك لم تكن ضمن المجموعة المحتفظ بها. أعتذر لهذا الخبر.

يُسرني أنك الآن في أدنبرة وأنك قد باشرتَ العمل على أبحاثك العلمية.
تحياتي الحارة وأطيب الأمنيات بالخير والسعادة،

مع الاحترام،
هوغو بيرغمان

لم يكن توجه الحاج مير لهوجو بيرغمان عبثًا، فلقد كان هوجو بيرغمان بروفيسورًا في الجامعة العبرية ولاحقاً رئيساً لدار الكتاب القومي والجامعي (المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة)، ومن نخبة المثقّفين الأوروبيين وصديقاً للعديد من الكُتّاب والفلاسفة مثل فرانز كافكا. لقد علم الحاج مير أن هوجر بيرغمان سيقّدر هذه الثروة العلمية ويساعده، وهو ما لم يحدث، مع الأسف. ولكن السؤال الأهم: أين المكتبة؟

لم يتمّ العثور على مكتبة محمد هادي الحاج مير حتّى هذه اللحظة، بعد ثلاثة وسبعون عامًا منذ أن افترق عنها في حي البقعة عام 1948. ربما اختفت المكتبة لعدم توثيق الكتب باسمه، وربّما أحيلت تحت قانون “أملاك الغائبين” وما زالت مقفلة في إحدى المخازن، وربما هُرست كما أسلف بعض الباحثين، إلّا أن عمله كمربي وأكاديمي لم يختفي وما زال حاضرًا حتى يومنا هذا.

يمكنكم الاطّلاع على كتابات الأستاذ محمد هادي الحاج مير في مجلّة الكلّية العربيّة على موقع أرشيف الصّحف الفلسطينيّة القديمة في المكتبة (جرايد).

هوغو بيرغمان: هو فيلسوف وأكاديمي إسرائيلي من أصول نمساوية ولد في مدينة براغ في العام 1883 وتوفي في مدينة القدس في العام 1975. قدم إلى البلاد عام 1920 وترأس دار الكتب القومية ولاحقاً في عام 1925 (افتتاح الجامعة العبرية في القدس) أصبح بروفيسورًا ورئيسًا للجامعة العبرية ولدار الكتب القومية والوطنية. بالإضافة لتأليف أكثر من عشرة كتب في مجالي الفلسفة والسياسة، والعديد من الكتب المترجمة والدراسات البحثية إلى اللغة العبرية.