نشر جبران خليل جبران كتابه “النبيّ” باللغة الإنكليزيّة عام 1923، وقد حقّق له شهرةً عالميّة، وتُرجِم إلى أكثر من 50 لغة، من بينها العربيّة التي ترُجِم إليها عدّة ترجمات. وضع في هذا الكتاب خلاصة حياته وتجربته، وقد اعتبر أنّ روحه كتبته منذ الأزل، وقال عنه أيضًا: “شغل هذا الكتاب الصغير كلّ حياتي. كنتُ أريد أن أتأكّد بشكلٍ مطلق من أن كلّ كلمة كانت حقًا أفضل ما أستطيع تقديمه“.
كتب جبران كتابه بلغةٍ شعريّةٍ عذبة، وبأسلوبٍ أدبيّ قابلٍ للتأويلات العميقة يذكّر بالكتب الدينيّة كالإنجيل والأسفار المقدّسة. ونشعر أثناء القراءة بانفتاح أفق الكتاب على مناطق ثقافيّة وإنسانيّة واسعة، كالصوفيّة ووحدة الوجود ومعاني الحبّ العابرة للحضارات، وكالرومانسيّة ممثّلةً بتقديسها للطبيعة، وبمفهومها عن الشاعر النبيّ الخلّاق.
جريدة الإعلان، 25 تشرين الأوّل 1926*
يبدأ الكتاب من نقطة النهاية، من اللحظة التي تصل فيها سفينةٌ إلى المدينة الخياليّة أورفاليس، لتعيد النبيّ -المسمّى في الكتاب “المصطفى”، والموصوف بأنّه “المختار الحبيب”- إلى وطنه، بعد أن قضى في هذه المدينة 12 عامًا. وعندما يعلم السكّان بالأمر، يهرعون إليه، طالبين منه ألّا يغادرهم، لأنّ “المحبّة لا تعرف عمقها إلّا ساعة الفراق“. لكنّه لا يستطيع البقاء أكثر، لأنّ البقاء يعني لديه الجمود، وعليه أن يمضي إلى الآفاق الواسعة كالموج الذي لا يهدأ. حينها، يطلب منه السكّان أن يحدّثهم حديثًا أخيرًا نابعًا من حبّه لهم عن الحقيقة التي يعرفها، المحفور حبّها وشوقها في نفوسهم.
قد تكون مدينة أورفاليس رمزًا للدنيا، وأهلها رمزًا للبشر، والسفينة رمزًا للموت، الذي يحمل الميّت إلى وطنه، إلى الأمّ الأزليّة كما يصفها، وإلى البحر اللامتناهي الذي يرمز بالأدب الصوفيّ إلى الله. وقد يكون النبيّ هنا رمزًا للصوفيّ، أو الشاعر كما وصفته المدرسة الرومانسيّة، وربّما أيضًا حين نتأمّل حبّه لأهل المدينة وتأجيله للرحيل كثيرًا وأمنيته أن يصحبهم معه، يُذكّرنا ذلك بالبوديساتفا في البوذيّة، وهو شخصٌ يؤجّل استنارته الكاملة كي يساعد الآخرين، نتيجة عطفه وحبّه لهم، في أن يصلوا الحقيقة وينالوا الاستنارة.
وكما يلخّص كتاب النبيّ حياة جبران وتجربته، فإنّ الحبّ يلخّص هذا الكتاب. فهو أوّل ما يتحدّث النبيّ عنه في حديثه الأخير لأهل مدينته، بعد أن تسأله عنه “ألمِطرا”، أبرز شخصيّةٍ بعده في الكتاب، وقد كانت هذه المرأة الكاهنة أوّل من عطف عليه وآمن به يوم وصوله إلى المدينة. والحبّ أيضًا موجودٌ إمّا بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ في كلّ أجوبة النبيّ على أسئلة سكّان المدينة عبر فصول الكتاب.
الاتحاد، 21 تشرين الثاني 1994*
يأمرنا نبيّ جبران منذ البداية أن نتبع الحبّ دائمًا، حتّى لو كان نداؤه إلينا، لا بصوتٍ جهورٍ مباشر، بل بمجرّد الإشارة. لكنّه يحذّرنا في الوقت ذاته بأنّ الحبّ ليس سهلًا، لأنّ طرقه صعبةٌ ووعرة وكثيرة المزالق. فالحبّ لدى نبيّ جبران هو الشيء ونقيضه معًا، هو نعومة ريش الأجنحة، وهو أيضًا السيف الجارح المختبئ بين هذا الريش. وكأنّ جبران حين يقول على لسان نبيّه بأنّ الحبّ يكلّل الإنسان بالمجد، لكنّه أيضًا يصلبه، أراد أن يُشير إلى هذه الآية من إنجيل يوحنا عن صلب المسيح: “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ“، لكنّ الفرق لدى جبران أنّ هذا الحبّ الذي يؤمّن الحياة الأبديّة رغم جراحه القريبة من آلام الموت على الصليب، هو حبٌّ ليس مقتصرًا على الآلهة، بل يستطيعه جميع الناس، نظرًا لإيمان جبران، كما يظهر في كتابه، بقوّة قلب الإنسان، وبوحدة الوجود، وبوجود نفسٍ عليا داخل كلٍّ منّا، وقطرةٍ لامتناهية من البحر الإلهيّ الأبديّ.
وحين يكمل النبيّ وصفه للحبّ، يشبّهه بعمليّة الخَبز، فهو يضمّنا إليه كحزمة قمح، ويدرسنا على البيادر ليعرّينا من غرورنا، وهو يغربلنا ليخلّصنا من القشور التي نحبس أنفسنا داخلها، ثمّ يطحننا ليجعلنا أنقياء كالثلج، ثمّ يعجننا بالدموع كي نلين، ثمّ أخيرًا يسلّمنا إلى ناره المقدّسة فنصير خبزًا من حبٍّ يليق بأن يقدّم على مائدة الربّ. وفي هذه الأوصاف جميعها ندرك أنّ الحبّ لا يصنع منّا نسخًا أفضل من أنفسنا، إلّا بالألم (الطحن) أو بالحزن (الدموع)، وبأنّ على نار شوقه أن تحرقنا كي نكون جزءًا من مائدة الله اللانهائيّة. ونلمح مرّةً أخرى إشاراتٍ إنجيليّة تذكّرنا بالعلاقة بين الخبز وجسد المسيح، وبقول المسيح بأنّ من يأكل خبزه يحيا إلى الأبد.
ثمّ يحذّرنا نبيّ جبران بأنّنا إن كنّا لا نمتلك الشجاعة على تحمّل مشاقّ الحبّ، ولا نبحث فيه إلّا على الطمأنينة واللذة، فالأولى أن نغادر بيدر الحبّ إلى “عالمٍ لا تتعاقب فيه الفصول، حيث تضحكون، لكن ليس كلّ ضحكم، وتبكون، لكن ليس كلّ دموعكم“. وربّما قصد جبران بذلك أنّ الحياة بلا حبٍّ، وبلا ألم الحبّ ولذّته، ستشبه في رتابتها عالمًا بفصلٍ واحد لا يتجدّد، وسيعيشها الإنسان على السطح فقط، بفرحٍ لا يغوص إلى الأعماق، وبحزنٍ لا يأخذه إلى نبع الدموع داخله، فبالحبّ وحده يعيش أقصى طاقاتها وعواطفها.
وقبل أن ينهي النبيّ عظته عن الحبّ، وقبل أن ينهي جبران كتابة فصله الأوّل عن الحبّ الذي يلخّص الكتاب كأنّ باقي الفصول تذوب فيه، يؤكّد لنا أنّ الحبّ ليس تملّكًا، وليس سلبًا لحريّة الآخر، فالحبّ لا يملك إلّا ذاته، ولا يعطي إلّا ذاته، وهو مكتفٍ بها، وهو يقودك إن وجدك خليقًا له، ولا تقوده، فكأنّه يقصد أنّ علينا تسليم أنفسنا إليه، كما يسلّم الصوفيّ أمره لله يفعل به ما يشاء، لأنّ الحبّ، كما يقول نبيّ جبران، هو الذي يُذيبُ الإنسان في قلب الله الذي يسع كلّ شيء.
تستطيعون أن تستمعوا إلى مقتطفاتٍ عن الحبّ من كتاب النبيّ بغناء فيروز هنا:
https://www.youtube.com/watch?v=0WKMnEflR50
* للمزيد حول “جبران خليل جبران” في موقع “جرايد” أرشيف الصحف الفلسطينية التاريخية