أثناء تصفّحنا لكتاب “درجات القراءة” الصادر عام 1934 والخاصّ بالصفّ الخامس الابتدائيّ لخليل بيدس، نفاجأ بكميّة القصص التي توحي برسائل سياسيّة تتعلّق بالعلاقة مع السلطة الحاكمة، لكنّ دهشتنا تقلّ حين نتذكّر أنّ خليل بيدس، وهو أحد أوائل الذين كتبوا الرواية والقصّة القصيرة في فلسطين، كان عضوًّا في “المجلس المختلط” الذي أنشأته الحكومة العثمانيّة، الموكّل بإدارة شؤون الطائفة العربيّة الأرثوذكسيّة، وأنّه شارك في الثورة العربيّة الكبرى عام 1916، وفي النشاطات السياسيّة ضد حكومة الانتداب البريطانيّ عام 1920.
كتب خليل بيدس مقالاتٍ سياسيّةً طالب فيها السلطات العثمانيّة باتّباع العدل والإنصاف في تعاملها مع العرب. كذلك، دعا العرب إلى الامتناع عن تنفيذ أوامر الحكومة البريطانيّة، وألقى خطبًا رنّانةً في المظاهرات المحتجّة على سياساتها، فحُكِم عليه بالإعدام في العهد العثمانيّ، ونجّاه من المشنقة هروبه إلى البطريركيّة الأرثوذكسيّة في القدس، وحكم عليه البريطانيّون بالسجن 15 عامًا، ليبصر سوء المعاملة والتمييز التي عاناها السجناء العرب، حتّى خرج حين عفا المندوب الساميّ، هربرت صمويل، عن السجناء السياسيّين من العرب واليهود.
أدرك خليل بيدس، إذن، أهمّيّة الكلمة جيّدًا في النضال، وخطرها على قائلها في الوقت ذاته، إذ قد تجعله يتدلّى من حبل المشنقة، ألم يقل في كتابه درجات القراءة “من استخفّ بالسلطان ذهبت دنياه”؟ كأنّ الناطق في وجه السلطة يُذكّر بما يرويه الكتابُ عن السلحفاة المحمولة هواءً بين بطّتين تُمسكان طرفَيٍ عودٍ تُغلِق عليه فمها، ما إن تفتحه لتتكلّم حتّى تقع على الأرض ميتةً.
فربّما، ولو بطريقةٍ لاواعيةٍ، أدرك خليل بيدس أنّ عليه أن يلجأ إلى الحيلة، كي يقول ما يريد، حيث يعجّ كتابه باستعمالها في قصصه، مثل القبّرة التي هربت بالخداع من يد الرجل الذي يرغب في أكلها، وأخذت تسخر منه حرّةً على الجبل، فدسّ بيدس رسائلَ سياسيّةً في حقائب طلاب الصف الخامس تنتظر من يفكّ شفرتها، إذ تتنكّر بزيّ الحكايات التراثيّة المختارة في الكتاب، كأنّ وصفه للغز، في صفحة 72، بأنّه ما يَشْتَبِهُ مَعْناهُ ويَلْتَبِسُ” ينطبق عليها.
وما يجعل القارئ يميل إلى هذا الاستنتاج كذلك، هو العديدُ من القصص المقتبسة من كتاب “كليلة ودمنة”. يقول عبد الله بن المقفّع عن ترجمته لكليلة ودمنة (أو كتابته؟): ” من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه ولم يعلم غرضه ظاهرًا أو باطنًا لم ينتفع بما بدا له من خطّه ونقشه” (كليلة ودمنة، صفحة 39). ألم يُرِد ابن المقفّع أن يبعث رسائلَ سياسيّةً عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مختبئةً في حكايات أطفالٍ أبطالها حيواناتٌ ناطقة؟ ألم يكن غرضه أن يعظ -بالحيلة- الخليفة المنصور، من كان شديد البأس على من يعارضه ولو بالقول؟ يضطرّ الكاتب أن يدسّ لسانه في أفواه حيواناتٍ لتتحدّث عوضًا عنه، حين لا “يمتلك لسانه” كالسلحفاة السابقة الذكر، حين لا يمتلك حرّيّة استخدامه كما يشاء.
نقدّم لكم هنا رحلةً في كتاب درجات القراءة، لنحاول اكتشاف بعض الرسائل المخفيّة فيه، لأنّ أي كتابٍ، ولو كان مخصّصًا -كما يوضّح صاحبه- لتعليم القراءة العربيّة لطلّاب الصفّ الخامس، يحتمل دائمًا قراءاتٍ جديدةً تنقّب في نصوصه.
قد تنجي الحيلة من الموت، أحيانًا!
كثيرًا ما يكتفي الحاكم بالنظر إلى ظاهر الأمور فقط، ففي قصّة “الأعرابيّ والشاعر”، وقصّة “حسن البديهة” لا يصدّق الحاكم أنّ أعرابيًّا (في الأولى) وأن شاعرًا رثّ الهيئة (في الثانية) يكتب شعرًا حسنًا، تمامًا كما الأسد الناظر إلى صورته في المرآة ظانًّا أنّها أسدٌ آخر في قصّة “الأرنب والأسد”، بعد أن أوهمه الأرنب بذلك ليهرب من أنيابه. لذلك، قد تُنجي الحيلةُ من الموت، حين تُدرَكُ قواعد “اللعبة” التي لا يستطيع الحاكم ألّا يطبّقها خشيةً على صورته، كقصّة الخليفة عمر بن الخطّاب مع الهُرْمُزان، حين أدرك الأخير أنّ الحاكم لا ينبغي له التراجع عن كلامه، فاستغلّ ذلك متحايلًا لينجو. كذلك، يسلَمُ أحدُ الخوارج من قطع رأسه أمام المأمون، في قصّة “نصير بن منيع والمأمون”، حين ينشد أبياتًا عذبةً، مستغلًّا رغبة الخلفاء أن يظهروا أمام قومهم بصورة المتذوّق للشعر. وتنقذ الطرافةُ رجلًا في قصّة “عفو زيادٍ”، لأنّ الحكّام كثيرًا ما يصيبهم الملل، كالذي هاجم هارون الرشيد في قصّته مع جعفر البرمكي في الكتاب، فتنجح الطرفة في تسليته، عندما يفشل البستان والأنهار والأطيار.
أيّها الحاكم، كنُ مثل حاتم!
يخصّص خليل بيدس عددًا كبيرًا من القصص كي يتحدّث عن عدل الحاكم، مثل عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، لكنّ النصيب الأكبر من هذه القصص خصّصها لحاتم الطائيّ، الذي كان أمير قومه واشتهر بكرمه الشديد، فذبح حصانه (رمز القوة العسكريّة وقتها) في قصّة “حاتم يجود بفرسه” ليطعم الناس، حين جاء قومٌ إليه يقصدون النعمان ملك الحيرة، ففي الطريق بين الناس والنعمان (رمز البذخ) يجب أن يكون الكرم (ممثّلًا بحاتم) موجودًا، لأنّ مُلْكَ الظلم زائل، كما في قصّة “بنت النعمان” التي كانت تنشر عليها ألف نسيجٍ من الحرير، فزال جمالها وجلالها حين قابلها سعد بن أبي وقّاص بعد الفتح، فأنشدتْ شعرًا عن غياب عدل أهلها، ملوك الحيرة، عن الناس، وذكرتْ كيف أذهَبَ الدهرُ نعيمهم.
طالبوا بحقوقكم بشجاعة الأطفال!
في قصّة “هشام والغلام” ينحبس المطر عن البادية، فيتوجّه زعماء القبائل ليقابلوا الخليفة، لكنّهم يخافون الحديث عن مطالبهم، فيطالب طفلٌ بحقوق الناس مستغلًّا مهاراته بالحديث، فينال ما يشاء. وفي قصّة “عبد الله بن الزبير في صغره” يرفض عبد الله أن يترك حقّه في التواجد بالطريق وتسليمه بالكامل لمرور الحاكم. لكن، ربّما علينا أن نحذر عند المطالبة، حين نتذكّر كيف أنّ الحجّاج قتل عبدَ الله عندما ثار على الدولة الأمويّة. (تصف قصّة “الحجّاج وشيخٌ من الأعراب” الحجّاجَ بالغشوم الظلوم، وبأنّ الخليفة عبد الملك الذي عيّنه أغشم وأظلم).
أرض الله واسعةٌ ولو امتلأت بالأفاعي!
تصف قصّة “الأسد وأصحابه والجمل” كيف غدر ملك الحيوانات بجملٍ بعد أن أعطاه الأمان والغنى. وفي قصّة “الحاج والعجوز” تعلّم امرأةٌ تعيش في خيمةٍ حاجًّا تائهًا اصطياد الأفاعي ليأكل، وكيفيّة حصوله على الماء المالح. وحين تسأله عن بلاده ويخبرها أنّ فيها النعم الكثيرة والأطعمة الطيّبة والمياه العذبة، تسأله إن كانت بلاده تحت يد سلطانٍ جائر، قد يخرجهم إذا شاء من بيوتهم، وحين يردّ أنّ الأمر قد يكون كذلك، تقول له ألا تصبح النعمة مع الظلم سمًّا، وتصبح الأفاعي إذا توفّر العدل ترياقًا؟ هنا نتذكّر كيف رفض خليل بيدس العمل في وظائف عرضتها عليه سلطات الانتداب.
في النهاية، ربّما لا يكون خليل بيدس قصد ذلك كلّه، لكنّ هدف أيّ قراءةٍ أن تجعل القارئ شريكًا للكاتب في كتابته، وأن تحرّر القارئ من سلطة الكاتب في احتكار التفسير الواحد، ومن البخل في التأويل، ألم يقل أبو نواس مسرورًا عندما سمع ناقدًا يفسّر شعره: “أعلمني عن شعري ما لم أعلمه”؟