كتاب “درجات القراءة” لخليل بيدس: رحلة استكشافيّة في القصص المختارة

خليل بيدس (1875-1949) هو كاتبٌ وأديبٌ ومترجمٌ عن الروسيّة، لكنّه كان كذلك ناشطًا سياسيًّا، فهل تقاطعت أعماله الأدبيّة مع عمله السياسيّ؟

خليل بيدس، ويكيبيديا

صورة رائجة لخليل بيدس، المصدر: ويكيبيديا

أثناء تصفّحنا لكتاب “درجات القراءة” الصادر عام 1934 والخاصّ بالصفّ الخامس الابتدائيّ لخليل بيدس، نفاجأ بكميّة القصص التي توحي برسائل سياسيّة تتعلّق بالعلاقة مع السلطة الحاكمة، لكنّ دهشتنا تقلّ حين نتذكّر أنّ خليل بيدس، وهو أحد أوائل الذين كتبوا الرواية والقصّة القصيرة في فلسطين، كان عضوًّا في “المجلس المختلط” الذي أنشأته الحكومة العثمانيّة، الموكّل بإدارة شؤون الطائفة العربيّة الأرثوذكسيّة، وأنّه شارك في الثورة العربيّة الكبرى عام 1916، وفي النشاطات السياسيّة ضد حكومة الانتداب البريطانيّ عام 1920.

كتب خليل بيدس مقالاتٍ سياسيّةً طالب فيها السلطات العثمانيّة باتّباع العدل والإنصاف في تعاملها مع العرب. كذلك، دعا العرب إلى الامتناع عن تنفيذ أوامر الحكومة البريطانيّة، وألقى خطبًا رنّانةً في المظاهرات المحتجّة على سياساتها، فحُكِم عليه بالإعدام في العهد العثمانيّ، ونجّاه من المشنقة هروبه إلى البطريركيّة الأرثوذكسيّة في القدس، وحكم عليه البريطانيّون بالسجن 15 عامًا، ليبصر سوء المعاملة والتمييز التي عاناها السجناء العرب، حتّى خرج حين عفا المندوب الساميّ، هربرت صمويل، عن السجناء السياسيّين من العرب واليهود.

أدرك خليل بيدس، إذن، أهمّيّة الكلمة جيّدًا في النضال، وخطرها على قائلها في الوقت ذاته، إذ قد تجعله يتدلّى من حبل المشنقة، ألم يقل في كتابه درجات القراءة “من استخفّ بالسلطان ذهبت دنياه”؟ كأنّ الناطق في وجه السلطة يُذكّر بما يرويه الكتابُ عن السلحفاة المحمولة هواءً بين بطّتين تُمسكان طرفَيٍ عودٍ تُغلِق عليه فمها، ما إن تفتحه لتتكلّم حتّى تقع على الأرض ميتةً.

من قصّة "البطّتان والسلحفاة"، كتاب درجات القراءة صفحة 116.
من قصّة “البطّتان والسلحفاة”، كتاب درجات القراءة صفحة 116.

فربّما، ولو بطريقةٍ لاواعيةٍ، أدرك خليل بيدس أنّ عليه أن يلجأ إلى الحيلة، كي يقول ما يريد، حيث يعجّ كتابه باستعمالها في قصصه، مثل القبّرة التي هربت بالخداع من يد الرجل الذي يرغب في أكلها، وأخذت تسخر منه حرّةً على الجبل، فدسّ بيدس رسائلَ سياسيّةً في حقائب طلاب الصف الخامس تنتظر من يفكّ شفرتها، إذ تتنكّر بزيّ الحكايات التراثيّة المختارة في الكتاب، كأنّ وصفه للغز، في صفحة 72، بأنّه ما يَشْتَبِهُ مَعْناهُ ويَلْتَبِسُ” ينطبق عليها.

من قصّة "رجل وقبّرة والسلحفاة"، كتاب درجات القراءة صفحة 31.
من قصّة “رجل وقبّرة والسلحفاة”، كتاب درجات القراءة صفحة 31.

وما يجعل القارئ يميل إلى هذا الاستنتاج كذلك، هو العديدُ من القصص المقتبسة من كتاب “كليلة ودمنة”. يقول عبد الله بن المقفّع عن ترجمته لكليلة ودمنة (أو كتابته؟): ” من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه ولم يعلم غرضه ظاهرًا أو باطنًا لم ينتفع بما بدا له من خطّه ونقشه” (كليلة ودمنة، صفحة 39). ألم يُرِد ابن المقفّع أن يبعث رسائلَ سياسيّةً عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مختبئةً في حكايات أطفالٍ أبطالها حيواناتٌ ناطقة؟ ألم يكن غرضه أن يعظ -بالحيلة- الخليفة المنصور، من كان شديد البأس على من يعارضه ولو بالقول؟ يضطرّ الكاتب أن يدسّ لسانه في أفواه حيواناتٍ لتتحدّث عوضًا عنه، حين لا “يمتلك لسانه” كالسلحفاة السابقة الذكر، حين لا يمتلك حرّيّة استخدامه كما يشاء.

من قصّةٍ عن احتيال أزهر على الخليفة المنصور، كتاب درجات القراءة صفحة 28.
من قصّةٍ عن احتيال أزهر على الخليفة المنصور، كتاب درجات القراءة صفحة 28.

نقدّم لكم هنا رحلةً في كتاب درجات القراءة، لنحاول اكتشاف بعض الرسائل المخفيّة فيه، لأنّ أي كتابٍ، ولو كان مخصّصًا -كما يوضّح صاحبه- لتعليم القراءة العربيّة لطلّاب الصفّ الخامس، يحتمل دائمًا قراءاتٍ جديدةً تنقّب في نصوصه.

قد تنجي الحيلة من الموت، أحيانًا!

كثيرًا ما يكتفي الحاكم بالنظر إلى ظاهر الأمور فقط، ففي قصّة “الأعرابيّ والشاعر”، وقصّة “حسن البديهة” لا يصدّق الحاكم أنّ أعرابيًّا (في الأولى) وأن شاعرًا رثّ الهيئة (في الثانية) يكتب شعرًا حسنًا، تمامًا كما الأسد الناظر إلى صورته في المرآة ظانًّا أنّها أسدٌ آخر في قصّة “الأرنب والأسد”، بعد أن أوهمه الأرنب بذلك ليهرب من أنيابه. لذلك، قد تُنجي الحيلةُ من الموت، حين تُدرَكُ قواعد “اللعبة” التي لا يستطيع الحاكم ألّا يطبّقها خشيةً على صورته، كقصّة الخليفة عمر بن الخطّاب مع الهُرْمُزان، حين أدرك الأخير أنّ الحاكم لا ينبغي له التراجع عن كلامه، فاستغلّ ذلك متحايلًا لينجو. كذلك، يسلَمُ أحدُ الخوارج من قطع رأسه أمام المأمون، في قصّة “نصير بن منيع والمأمون”، حين ينشد أبياتًا عذبةً، مستغلًّا رغبة الخلفاء أن يظهروا أمام قومهم بصورة المتذوّق للشعر. وتنقذ الطرافةُ رجلًا في قصّة “عفو زيادٍ”، لأنّ الحكّام كثيرًا ما يصيبهم الملل، كالذي هاجم هارون الرشيد في قصّته مع جعفر البرمكي في الكتاب، فتنجح الطرفة في تسليته، عندما يفشل البستان والأنهار والأطيار.

 قصّة "عمر والهرمزان" ، كتاب درجات القراءة صفحة 109.
قصّة “عمر والهرمزان” ، كتاب درجات القراءة صفحة 109.

أيّها الحاكم، كنُ مثل حاتم!

يخصّص خليل بيدس عددًا كبيرًا من القصص كي يتحدّث عن عدل الحاكم، مثل عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، لكنّ النصيب الأكبر من هذه القصص خصّصها لحاتم الطائيّ، الذي كان أمير قومه واشتهر بكرمه الشديد، فذبح حصانه (رمز القوة العسكريّة وقتها) في قصّة “حاتم يجود بفرسه” ليطعم الناس، حين جاء قومٌ إليه يقصدون النعمان ملك الحيرة، ففي الطريق بين الناس والنعمان (رمز البذخ) يجب أن يكون الكرم (ممثّلًا بحاتم) موجودًا، لأنّ مُلْكَ الظلم زائل، كما في قصّة “بنت النعمان” التي كانت تنشر عليها ألف نسيجٍ من الحرير، فزال جمالها وجلالها حين قابلها سعد بن أبي وقّاص بعد الفتح، فأنشدتْ شعرًا عن غياب عدل أهلها، ملوك الحيرة، عن الناس، وذكرتْ كيف أذهَبَ الدهرُ نعيمهم.

من قصّة "بنت النعمان" ، كتاب درجات القراءة صفحة 135.
من قصّة “بنت النعمان” ، كتاب درجات القراءة صفحة 135.

طالبوا بحقوقكم بشجاعة الأطفال!

في قصّة “هشام والغلام” ينحبس المطر عن البادية، فيتوجّه زعماء القبائل ليقابلوا الخليفة، لكنّهم يخافون الحديث عن مطالبهم، فيطالب طفلٌ بحقوق الناس مستغلًّا مهاراته بالحديث، فينال ما يشاء. وفي قصّة “عبد الله بن الزبير في صغره” يرفض عبد الله أن يترك حقّه في التواجد بالطريق وتسليمه بالكامل لمرور الحاكم. لكن، ربّما علينا أن نحذر عند المطالبة، حين نتذكّر كيف أنّ الحجّاج قتل عبدَ الله عندما ثار على الدولة الأمويّة. (تصف قصّة “الحجّاج وشيخٌ من الأعراب” الحجّاجَ بالغشوم الظلوم، وبأنّ الخليفة عبد الملك الذي عيّنه أغشم وأظلم).

قصّة "عبد الله بن الزبير في صغره" ، كتاب درجات القراءة صفحة 59.
قصّة “عبد الله بن الزبير في صغره” ، كتاب درجات القراءة صفحة 59.

 

أرض الله واسعةٌ ولو امتلأت بالأفاعي!

تصف قصّة “الأسد وأصحابه والجمل” كيف غدر ملك الحيوانات بجملٍ بعد أن أعطاه الأمان والغنى. وفي قصّة “الحاج والعجوز” تعلّم امرأةٌ تعيش في خيمةٍ حاجًّا تائهًا اصطياد الأفاعي ليأكل، وكيفيّة حصوله على الماء المالح. وحين تسأله عن بلاده ويخبرها أنّ فيها النعم الكثيرة والأطعمة الطيّبة والمياه العذبة، تسأله إن كانت بلاده تحت يد سلطانٍ جائر، قد يخرجهم إذا شاء من بيوتهم، وحين يردّ أنّ الأمر قد يكون كذلك، تقول له ألا تصبح النعمة مع الظلم سمًّا، وتصبح الأفاعي إذا توفّر العدل ترياقًا؟ هنا نتذكّر كيف رفض خليل بيدس العمل في وظائف عرضتها عليه سلطات الانتداب.

من قصّة "الحاج والعجوز"،  كتاب درجات القراءة صفحة 35.
من قصّة “الحاج والعجوز”،  كتاب درجات القراءة صفحة 35.

في النهاية، ربّما لا يكون خليل بيدس قصد ذلك كلّه، لكنّ هدف أيّ قراءةٍ أن تجعل القارئ شريكًا للكاتب في كتابته، وأن تحرّر القارئ من سلطة الكاتب في احتكار التفسير الواحد، ومن البخل في التأويل، ألم يقل أبو نواس مسرورًا عندما سمع ناقدًا يفسّر شعره: “أعلمني عن شعري ما لم أعلمه”؟

أبو نواس يهجو بخيلًا، كتاب درجات القراءة صفحة 57.
أبو نواس يهجو بخيلًا، كتاب درجات القراءة صفحة 57.

المتشائل: كيف وظّف إميل حبيبي الموروث العربيّ لخلق طرق تعبيرٍ جديدة؟

تعتبر رواية المتشائل من أفضل الروايات الفلسطينيّة والعربيّة، ونقدّم لكم هنا نظرةً موجزة لاستخدام موروث الثقافة العربية.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

لا تشبه رواية إميل حبيبي غيرها من الروايات الفلسطينيّة، فكاتبها من الفلسطينيّين الذين ظلّوا في البلاد بعد حرب العام 1948، فكان أقدر من غيره على رسم صورةٍ مغروسةٍ في طين الواقع بكلّ تناقضاته، بعيدًا عن أخرى تقترب من المثاليّة رسمها آخرون رحلوا ثمّ أطلّوا على فردوسهم المفقود من غيوم المنفى. لذلك، فإنّ بطل الرواية سعيد أبو النحس المتشائل، الحامل تناقضه منذ البداية في اسمه، هو بطلٌ غير تقليديّ، ساخرٌ من البطولة، وربّما “أسوأ خلق الله” كما يصفه إميل حبيبي في حواره مع محمود شريح، لكنّه أيضًا كما يكمل في الجملة ذاتها “مثالٌ للصمود واستيعاب الظلم، ولاستمرار الحياة في أسوأ الأوضاع”.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)
إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

 

لكنّ زاوية النظر المختلفة إلى الواقع لا تكفي وحدها لخلق عملٍ أدبيٍّ فريدٍ كالمتشائل، إذ إنّ صاحبه استفاد كذلك في كتابته من خبرةٍ سياسيّةٍ راكمها نتيجة نشاطه الحزبيّ، ومن هضمه للثقافة العالميّة، فاستلهم على سبيل المثال شخصيّة المتشائل من شخصيّة كانديد في رواية فولتير، فأضاف لكانديد المتفائلِ تشاؤمًا، فنحتَ اسمًا وأفعالًا لبطله هي المزيج من التفاؤل والتشاؤم، فصار متشائلًا. كما هضم أساليب اللغة العربيّة جيّدًا حتّى قال عن نفسه في “الحوار الأخير” في مجلة مشارف بأنّه “يعبد اللغة العربيّة”، وأعاد توظيف الموروث التاريخيّ والثقافيّ العربيّ بمهارةٍ ليخدم أغراضًا جديدةً تلائم حاضره، فنلمح أساليب ألف ليلة وليلة بالقصّ، وسخرية المقامة الأدبيّة، والاستعانة بالحكايات التراثيّة كما حين يستعير صفات جحا، وأبياتًا شعريّةً يعيد مكانُها في النصّ تأويلها، وأمثالًا شعبيّةً محرّفةً عن قصد…

إميل حبيبي: أديب فلسطيني وسياسي في الكنيست

وفي هذا المقال، سنقدّم لكم بعض الأمثلة على الطريقة المبتكرة التي أبدعها إميل حبيبي لاستخدام أساليب اللغة العربيّة والموروث الثقافيّ، حتّى غدا استخدامه وسيلةً لتكثيف المعنى، تروي الكثير بكلماتٍ قليلة.

أيدي عرب ولمّا

“وبعد النحس الأول، في سنة 1948 تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لما يجرِ احتلالها.” (صفحة 16، المتشائل، طبعة دار الشروق 2006)

نشاهد هنا كيفيّة الاستفادة من مثلٍ عربيٍّ وقصّةٍ تاريخيّةٍ. فالمثل المعاد كتابته هو “تفرّقوا أيدي سبأ”، واليد في اللغة العربيّة تعني أيضًا الطريق، فبعد أن انهار سد مدينة مأرب في اليمن قبل الإسلام، غمر سيل العرم أراضيهم التي كانت أشبه بالجنّات، فتحوّل مصدر الحياة لديهم سيلَ موتٍ، فتبعثر قوم سبأ الذين سكنوا المدينة في طرقٍ مختلفة، وقطع بعضهم الصحراء العربيّة بحثًا عن ملجأ. لكنّ إميل حبيبي يغيّر بالمثل، فيضع طرق العرب بدل طرق سبأ، ربّما ليدلّ على التشتّت في حال العرب جميعهم وقت النكبة، حتى غدا حالهم مضربًا جديدًا للمثل، فيقول إذن إنّ العائلة تفرّقت في لجوئها كُلّ منهم إلى مكان كتفرّق طرق العرب.

كذلك، نلحظ استعمال حرف الجزم “لمّا” بدل “لم”، وسبب ذلك أن “لمّا” تنفي الماضي حتّى وقت الحديث، لكن مع توقّع حدوث ما تنفيه في المستقبل القريب، فمعنى الجملة أنّه لم يجرِ احتلالها حتّى الآن، لكن يتوّقع حدوث ذلك مستقبلًا. هكذا نلمح في هذين المثالين كيف يُقال الكثير بكلماتٍ قليلةٍ، فتتعدّد المعاني وتتشعّب كأيادي العرب.

إميل حبيبي برفقة كتّاب عرب بمعرض القاهرة، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001
إميل حبيبي برفقة كتّاب عرب بمعرض القاهرة، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001


بعدي خراب بُصرى!

“ويُقال إن أول من أطلقها علينا هو تيمورلنك نفسه بعد مذبحة بغداد الثانية. وذلك لمّا وشَوا بجدّي الأكبر، أبجر بن أبجر، وأنه، وهو على متن فرسه خارج أسوار المدينة، التفتَ فشاهد ألسِنَة اللهب، فهتف: بعدي خراب بُصرى!” (صفحة 19)

المثل بالأصل هو “بَعْدَ خرابِ البَصرة”، فحين وقعت ثورة الزنج في مدينة البَصرة، أنجدهم الخليفة العبّاسيّ بجيش إنقاذٍ قضى على التمرّد بعد فوات الأوان وتدمير المدينة. لكن نلاحظ أن المكان المذكور هو “بُصرى”، لا البَصرة، فما سبب ذلك؟

حملت عدّة أماكن اسم “بُصرى” إحداها قريةٌ في بغداد، فربّما جاء التعديل ليناسب وقوف قائله على أسوار بغداد، وليؤكّد بذلك أيضًا أنّ هول الخرائب في مدن العرب عبر التاريخ لم يقتصر على البصرة، فغدت مدنٌ أخرى مضربًا للمثل.

كذلك، هناك بُصرى أدوم المذكورة في التوراة: “لأَنِّي بِذَاتِي حَلَفْتُ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّ بُصْرَى تَكُونُ دَهَشًا وَعَارًا وَخَرَابًا وَلَعْنَةً، وَكُلُّ مُدُنِهَا تَكُونُ خِرَبًا أَبَدِيَّةً” (سفر إرميا 49: 13). وأيضًا، فإنّ تيمورلنك، زعيم المغول مرتكب المذابح ومدمّر المدن، تشبه أوصافُه المحاربَ في سفر إشعياء، الإصحاح 63: ” مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ، بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَى؟ هذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ (…) وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ، فَدُسْتُهُمْ بِغَضَبِي، وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي، فصَبَغَ دَمُهُمْ ثِيَابِي، فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي”. فقد تكون هذه المدينة هي المقصودة، مدينة مدمّرة بنبوءة، ولو بطريقةٍ لاواعيةٍ من الكاتب، إذ قال في حواره مع مجلّة الكرمل عام 1981 إنّه قرأ التوراة، وأهمل الإنجيل، وبأنّه يحاول أن “يهرب من تأثيرها، لأنّ ترجمة اليازجي ليست عربيّة، وقد لعبت دورًا في تشويهنا”.

 

عباءة الليل العبّاسيّة

“استقبلتنا عكا، حين دخلناها، وقد التفت بعباءة الليل العباسيّة.” (صفحة 26)

للوهلة الأولى، تبدو استعارة عباءة الليل ملغزةً بسبب وصفها بالعبّاسيّة، فما الذي قد تعنيه هذه الإضافة؟

ربّما كان المقصود هو علم الخلافة العبّاسيّة، فأثناء ثورة العبّاسيّين على الخلافة الأمويّة، اتّخذوا رايةً من السواد التامّ، بلا شعاراتٍ أو رموزٍ تضيف أيّ لونٍ أو بياضٍ إليها، وهي مقتبسة من راية العبّاس، الذي انتسبوا إليه، وهو عمّ النبيّ عقدها له يوم فتح مكّة. فوَصْفُ لون ليل عكا بالسواد التامّ، أثناء النكبة، يلائم الموقف.

وقد يكون المقصود أيضًا أنّ ليل عكا وقتها كان يثير في النفس الذعر، فهو، كما يصف بعد عدّة صفحات، يعجّ بالأشباح، وبالموت، وبالصرخات المحبوسة، وبالأنفاس المخنوقة، وذلك ما كانت تثيره رايات العبّاسيّين في نفوس الأمويّين، حسب الروايات التاريخيّة، حيث طاردت جيوشُهم براياتها السوداء الأمويّين من مكانٍ إلى آخر ليبيدوهم.

 

محمود درويش عن إميل حبيبي، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001
محمود درويش عن إميل حبيبي، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001

هذه بعض الأمثلة السريعة عن مهارات إميل حبيبي في التعبير المكثّف مستخدمًا دلالاتٍ تراثيّة، وتعجّ روايته بالعديد منها، والتي ندعوكم إلى اكتشافها بأنفسكم، مثل: أبجر بن أبجر، قناديل جحا، شروى نقير، مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسيّ، ضيّعت اللبن، هذا جناه عليّ جدّي، الأثافي الثلاث، والمزيد…

محمود درويش: اللّجوء والفنّ

"الأنا عند محمود درويش منفصمة دائمًا ومضطربة دائمًا. هو غير مرتاح "هنا" وغير مرتاح "هناك". في كلّ منفًى وطن وفي كلّ وطن منفًى. اللّجوء والفنّ في شعر محمود درويش.

محمود درويش. تصوير: هاليت يشورون

محمود درويش. تصوير: هاليت يشورون

نصّ | النّهر لا يختفي في البحر

بقلم: د.رائف زريق

لا أظنّ أنّي سأبالغ إنْ قلت إنّ محمود درويش، بشعره ونثره وحواراته، أثّر عليّ أكثر من أيّ أديب أو مفكّر أو فيلسوف آخر. لا يمكنني تأمُّل عالم المعاني والاستعارات الذي خلقه هذا الشّاعر، والأفكار والجماليّات التي أبدعها ومحيط اللّغة الذي أسبح فيه وأنهل منه استعاراتي، دون أن أشعر بعبق مياه نهره الذي يصبّ في البحر الكبير. أكاد أجزم أنّ نهر درويش من الأنهر القليلة التي تصبّ في البحر لكنّها لا تختفي فيه. وربّما عليّ أنْ أقول إنّ البحر لن يظلّ هو ذاته بعد أنْ تصبَّ فيه مياه نهر درويش. اللّغة لم تعد نفس اللّغة. لقد ساعدنا درويش في العثور على المفردات الصّحيحة وفي بناء الصّياغات المُركّبة التي يمكنها أنْ تصف لنا، نحن كفلسطيّنيين، وللعالم الخسارة الكبرى، الحزن والغضب، النّكبة واللّجوء، والتي تُعبّر أيضًا عن الأمل والحبّ والعلاقة بين الخاصّ والعامّ. لقد صنع كلّ ذلك وظلّ وفيًّا لمشروعه الفنّي، ولقيَمهِ الجماليّة التي لم يتنازل عنها يومًا. لقد آمنَ درويش، منذ مرحلة الشّباب المُبكّر، بأنّه وُلد ليكون شاعرًا وبأنّ هذا هو قدره ومشروع حياته، وأدرك بأنّ هذا القدر ليس غايةً جامدة قابلة للتّحقيق، بل طريقًا لا نهاية له ولا سكينة فيه. لهذا، كتب أكثر من مرّة “سأصير يومًا ما أُريدُ سأصيرُ يومًا شاعرًا”. وقد صار. ربّما صار الشاعر، بأل التّعريف، كما وصف أبو العلاء المعرّي أعظم شعراء العربيّة، المتنبّي.

كانت قضيّة اللجوء وستظلّ مفتاح فهم عالم درويش. الطّفل ابن السّابعة يُقتلَع من بيته في قرية البروة في الجليل الغربيّ ويقطع الحدود تحت القصف والنّار إلى لبنان. كلمة “لاجئ” تحوم حول هذا الطّفل فيصطدم بها أينما حلّ. درويش الصّغير يُصرّ على فهم معناها لكنّ أباه لا يستجيب لسؤاله ويخبره بأنّه لن يفهم معنى هذه الكلمة التي غزت حياة الطّفل كالصّاعقة وقضت على باقي المفردات وأخضعتها لجبروتها. لكنّ الجدّ يفتح باب الكلام لحفيده ويشرح له ما أخفاه الأب: “أن لا تكون طفلاً منذ الآن”. لم يتحدّث درويش عن معنى هذه العبارة وتأثيرها على حياته، لكنّي أعتقد أنّها كانت أوّل بيت شعر سمعه، وأوّل استعارة تمكّن عبرها من استيعاب الواقع: اللّجوء يعني مصادرة الطّفولة. في تلك اللّحظة يخلع الطّفل ابن السابعة رداء الطّفولة ويفهم بأنّ مخيّمات اللّجوء هي الواقع الجديد وبأنّ البيت في البروة، والوطن كلّه، أصبحا مجازًا. هو يفهم أيضًا أنّ هناك طفلاً آخر ينام على سريره ويأكل من ثمار تينة البيت ويترعرع مكانه، ويستكمل مسار حياته الذي انقطع. منذ تلك اللّحظة تُصبح كلمة “العودة” كلمة سحريّة، كما وصفها في كتاب حيرة العائد: “العودة إلى المكان، العودة إلى الزّمان، العودة من المؤقت إلى الدائم، العودة من الماضي إلى الحاضر والغد معًا… العودة من علب الصّفيح إلى بيت من حجر”

عاد الطّفل ولم يعد. حالة اللّجوء القصيرة في لبنان تنتهي بعد سنة عندما يعود إلى فلسطين لكن ليس إلى البيت ولا إلى قريته إنّما إلى قرية الجدَيْدة القريبة. البروة ضاعت وعلى أنقاضها أقيمت مستوطنه يهوديّة. لكنّ فلسطين كلّها ضاعت، والمكان الذي عاد إليه لم يكن نفس المكان الذي خرج منه. في هذه المرحلة يتعلّم درويش الدّرس الثاني: العودة لم تكن، ولن تكون، عودةً حقيقيةً، والمكان ليس مجرّد مكان: المكان هو ذلك المجموع المُركّب للبشر والحجر والهواء وتفاصيل الحياة. ويظلّ الطّفل العائد منشغلًا بالتّفكير في الأطفال الذين لم يرجعوا وباللّاجئين الذين لم “يعودوا”. لكنّ الطّفل الذي يفقد عالمه يجد الملاذ في عالم الكلمة، فيستغيث باللّغة التي تبْسِط عليه جناحَيها ومن خلالها يبني عالمًا بديلاً. في اللّغة يجد المأوى والحميميّة اللّذَيْن غابا عن العالم الحقيقيّ ويكتشف قوّة الكلمة. اللّغة ليست عن العالم بل هي العالم، هي لا تصفه بل تخلقه.

الطّفل الذي عاد لم يعد حقًّا. قطعة من قلبه ظلّت هناك، بعيداً وراء الحدود. في المقابل تُنهِك الاعتقالات والمداهمات المتكرّرة من الشرطة الشّاعر الشابّ الذي يُصرّ على تنفّس الحرّيّة، فيكتشف أنّ ما بدا له بيتًا هو أشبهُ بالمنفى. في الوطن أيضًا يشعر بالاغتراب. الفتى الذي صار رجلًا لا يزال يُصغي لهواجس قلب الطّفل الذي فقد طفولته في سنّ السّابعة. بعضٌ من هذا الطّفل ظلّ هناك، وهو يأمل أنْ يتواصل ذلك البعض مع بعضه لكي يعود إلى ذاته.

الرّجل الشّابّ، الشّاعر الذي ذاع صيته في جميع أنحاء العالم العربيّ، يقطع الحدود للمرّة الثّالثة، لكن في الاتّجاه المعاكس. يخرج من فلسطين. يزور موسكو لمدّة قصيرة لكنّه يقرّر عدم الرجوع إلى حيفا بل السّفر إلى القاهرة التي سيسكن فيها لفترة قصيرة قبل أن ينتقل إلى بيروت ويستقرّ فيها. هو لا يزال يأمل في العثور على فلسطين الأخرى: فلسطين الفدائيّين وليس اللاّجئين، الثوّار الفلسطينيّين الذين سيُعيدون له الوطن. وكأنّ فلسطين تعيش خارج ذاتها، خارج الجغرافيا، وكأنّها فكرة أو تجربة وليست مجرّد مكان محسوس. شهرة الشّاعر الشّابّ تصل السّماء ويصبح من الأسماء اللّامعة في الثّقافة العربيّة، لكنّ ذلك لا يعوّض عن الحقيقة البسيطة: اللّجوء لم يَنْتَهِ. فمع أنّه يشعر أنّه في البيت مع إخوته الفلسطينيّين الذين يقاتلون من أجل فلسطين، إلّا أنّ ذلك لا ينفي حالة المنفى واللّجوء. درويش بعيد مرّة أخرى عن البيت والعائلة. سنة 1982، بعد انتهاء حرب لبنان، وعندما سأله صحفيّون عن برامجه المستقبليّة بعد الخروج من بيروت، كانت إجابته قصيرة وحادّة كالسّيف: أبحث عن جدار أعلّق عليه ملابسي. وها نحن نكتشف من جديد أنّ قطعةً من قلب الشّاعر الشّابّ لا تزال في مكانٍ ما في الجليل وفي سفوح الكرمل، وأنّه لا يزال يَتُوق لجدار في بيت يُعلّق عليه ثيابه.

المرّة الرّابعة التي قطع فيها درويش الحدود كانت بعد اتفاقيّات أوسلو، التي كان معارضًا لها ورأى فيها تفريطًا كبيرًا بأهمّ المسلمّات في الرّواية / السّرديّة الفلسطينيّة، وعلى هذه الخلفيّة قدّم استقالته من اللّجنة المركزيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة. على الرّغم من ذلك “عاد”. وهذه المرّة “عاد” ليسكن في رام الله وليس داخل إسرائيل. في كلّ مرّة رغب فيها بزيارة بيته وعائلته كان عليه الحصول على مصادقة السّلطات الإسرائيليّة. مجرّد فكرة اضطرارِهِ للحصول على تصاريح أمنيّة من أجل زيارة أمّه والبيت الذي ترعرع فيه، كانت تُثير فيه مشاعر الغضب والاستياء. في الغالب لم يكن يطلب تصريحًا بل كان “يتسلّل” لبيته. لكنّ الطّريق من رام الله إلى حيفا بدت له كعودة داخل عودة أو عودة بعد عودة، واكتشف أنّ في فلسطين ذاتها مستوياتٍ مختلفةً للعودة. العودة إلى رام الله ليست عودة حقيقيّة، فهي ليست عودة للكرمل أو للقرية التي نشأ فيها، الجدَيْدة، والتي هي في إسرائيل، فيبدو أنّنا نحتاج هنا إلى عودة إضافيّة: العودة إلى البروة، ذلك المكان الذي لم يَعُد قائماً. هذه “العودات” تُنهِك درويش الذي صار يُدرك أنّه مَهْما حاول العودة لن يصل، فلا أحد يعود حقًّا.

هذه الانفصامات المتواصلة تقود درويش إلى فهم الإشكاليّة الكامنة في كلّ هويّة وإلى إدراك معنى الـ “أنا”. “أنا” درويش منفصمة دائمًا ومضطربة دائمًا. هو غير مرتاح “هنا” وغير مرتاح “هناك”. في كلّ منفًى وطن وفي كلّ وطن منفًى. في كلّ “أنا” يوجد “آخر” وفي كلّ “آخر” جزء يُغرَس في الـ “أنا”. لم يحتج درويش لنظريّة ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة ليُدرك هذه الحقيقة. لقد حاول بكلّ بساطة تأمُّل ذاته العميقة ومجرى حياته وسعى إلى تجسيد ما رآه بصدق وأمانة. لقد كان “هنا” وكان “هناك”، وهو نتاج الـ “هنا” والـ “هناك” في نفس الوقت. الشّعب الذي صادر طفولته وحوّلهُ إلى لاجئ هو نفس الشّعب الذي جاءت منه حبيبته الأولى. هو يُدرك أنّه مجموع أجزاءٍ لا تكتمل على الرّغم من رغبتها الشّديدة بالاكتمال. يبدو أحيانًا أنّ ماهيّة درويش تكمن في الاضطراب والشّهوة في سعْيِهِ لتجميع أجزاء الأنا حتّى تصل للاكتمال، مع أنّه يُدرك استحالةَ تحقيق هذا التّكامل.

يتعلّق درويش بالشّعر مع أنّه لا يُعلّق عليه آمالاً كبيرة كوسيلة لتغيير العالم. الشّعر لا يَستبدِل أيّ نضال. في إحدى قصائده التي هي رسالة مفتوحة لصديق عمره الشّاعر سميح القاسم، يَسأل درويش: “أما زلتَ تؤمن أنّ القصائد أقوى من الطّائرات؟ لنا الذّكرياتُ، وللغزوِ ترجمةُ الذّكرياتِ إلى أسلحة ومستوطنات”. دور الشعر بالنسبة لدرويش متواضع جدا فوصفه: “إن الشعر فرح غامض بالتغلب على الصعوبة والخسارة”.

لكن لكي يكون للشّعر أثر ولكي يستطيع دعم الحياة، عليه أن يكون مختلفًا عنها، وليس فعلًا طفيليًّا أو مُلحقًا بالسياسيّ والاجتماعيّ. ولتحقيق ذلك، على الشّعر أن يكون حُرًّا، وذا قيمة بحدّ ذاته، وهذه القيمة هي التي تمنحه تفرّده، هي قيمته الجماليّة. تكون للشّعر أهميّة ومكانة خاصّة في الحياة فقط إذا “خانها” وتجاوَزَها ولم يكتَفِ بالتّعبير عنها. الشّعر- كما كتب درويش أكثر من مرّة – يُحوّل الخيال إلى واقع والواقع إلى خيال.

تظهر أهميّة البعد الجماليّ بالنّسبة لدرويش في إصراره العنيد على مشروعه الفنّي. لقد أدرك درويش أنّه أوّلًا وقبل أيّ شيء شاعر، وأنّ إخلاصه الفنّي هو للشّعر فقط. لا يمكن للسّياسة والأخلاق أن يبرّرا كتابة شعر لا يحمل قيمة جماليّة. على الشّاعر واجب تجاه نفسه وتجاه الشّعر، وهذا هو الواجب لفنّ الشّعر. عليه أن يواظب على تطوير أدواته الفنّيّة: اللّغة، الاستعارات والتّشبيهات المختلفة. درويش حالة نادرة، وربّما وحيدة، في قدرته على الجمع إلى حدّ التّناغم بين الشّكل والمضمون. جزء كبير من شعره هو شعر سياسيّ خالص، لكنّه بعيد كلّ البعد عن السّطحيّة والنّمطيّة. هو شعر سياسيّ من حيث تعامله مع الأسئلة العميقة للوجود الفرديّ والجماعيّ الفلسطينيّ، بمصائبه وخيباته، آماله وأحلامه (مع أنّ شعره المتأخّر يميل إلى الانطواء على تجربته الوجوديّة الشّخصيّة). عندما يطرح درويش أسئلة شخصيّة فإنه يُدرك أنّ الأنا، الذّاتيّة، تعيش في عالم اجتماعيّ، هو جزء من مجتمع كامل؛ ويجب أن يتضمّن التّعبير الشّعريّ عن الأنا هذه العلاقة كشرط فنّي أوّلاً وقبل أيّ شيء. مع ذلك، عندما يتحدّث درويش عن الـ “نحن” أو عن الشّعب، أو عن المجتمع، فإنّه يعي تمامًا أنّه يتحدّث كفرد وأنّه لا يستطيع “تمثيل” المجموع أكثر من حدود قدرته على التّحدّث عن نفسه. لم يشعر درويش أنّه مُلزم بتقديم الشّعر “المُجنّد” أو أنّ عليه إقحام الوطن في شعره. لقد كان يتنفّس الوطن، ولهذا عندما كان يتحدّث عن نفسه كان الوطن حاضرًا، ليس ككائن مستقلّ فرضَ نفسه على الشّعر، إنّما كشرط مؤسِّس للأنا.

من هذا المنطلق نجد أنّ الشّكل الفنّيّ عند درويش لا يفرض نفسه على المضمون، والمضمون لا يفرض وجوده بفظاظة لا تكترث بالشّكل. الشّكل والمضمون يلتقيان بأسلوب يدمج ما بين المصادفة والضّرورة؛ بخِفّةٍ ما، تبدو من القراءة الأولى وكأنّها مصادفة، وكأنّهما التقيتا دون أن يكون للشّاعر أيّ دور؛ لكنّ هذه المصادفة “القدريّة” تظهر بعد قراءة معمّقة ومتكاملة كفعل ضروريّ. وهذا الفعل لا يفرض نفسه إنّما يبزغ بصورة طبيعيّة من بين ثنايا النصّ، وكأنّ شكله ومضمونه وُلدا ليكونا معًا. التّناغم (الهرمونيا) عند درويش يشبه هرمونيا موسيقى الجاز عندما يعرف السّاكسفون متى يدخل بعد أن يُنهي البيانو وصلةً ارتجاليّة. لحظة “الدّخلة” لم تُحدَّد مسبقًا بموجب معادلة ما، لكن عندما نسترجع المعزوفة نكتشف أنّ تلك اللّحظة كانت التّوقيت الأمثل للدّخول. يمكننا تشبيه اللّقاء بين الشّكل والمضمون في شعر درويش كغريبَين، سيُصبحان عاشقَين، يلتقيان مصادفةً في قطار بجبال الألب. فبعد النّظرة الأولى التي تُشعل نار الحبّ سيشعران، بأنهما وإن التقيا صدفة، فقد كان مُقدرًا لهذه الصدفة أن تحدث. الشّعر الجميل هو ذلك الذي يجعلنا نشعر بأنّه قدرٌ انبَتَتْهُ يد المصادفة، أو مصادفة كانت تحمل مشيئة القدر. فكما هو الحال في كل قصة حب حقيقية، تجمع في آن واحد ما بين ذلك الشعور بحرية اختيارنا لشخص المحبوبة، ومع الشعور المُلازم له، بأننا كنا تحت سطوة القدر ومشيئته عندما اخترنا هوية المعشوق.  هذا هو السّحر. ودرويش في هذا المعنى ساحر.

درويش، في شعره ونثره على حدّ سواء، حاضر في وعيي وفي حساسيّاتي الشّخصيّة تجاه العالم، لأنّه قادر على استحضار تكثيف تجارب الحياة بكلّ أشكال احتمالاتها في قصيدة واحدة، بل في بيت شعر يتيم. مقولاته الفلسفيّة تُصاغ دائمًا بجماليّة مذهلة، وجماليّاته لا تكون جوفاء بل مُشرّبة بالحكمة والإدراك، ولهذا يخلو شعره دائمًا من أيّ حسّ وعظيّ. كتابات محمود درويش تخلو أيضًا من التّجريد، بل هي مُشبعة بالاستعارات الحسّيّة. قصائده تقدّم وجبات دسمة من الحياة، فالحياة تنزل علينا ككُلّ واحد كامل (على عكس إدراكنا مثلًا للجامعة التي يمكن اعتبارها تحالفًا لكليّات مختلفة تتعاون لفكّ طلاسم الكون). في شعر محمود درويش يتشابك الأخلاقيّ مع الجماليّ مع السياسيّ، والغوص في شعر درويش هو غوص في الحياة ككُلّ واحد.

____________________________________________________________________________

* د. رائف زريق هو خرّيج كلّيّة الحقوق في الجامعة العبريّة، وواصل تعليمه في جامعتَيّ كولومبيا وهارفارد حيث أكمل شهادة الدكتوراة. تتمحور أبحاثه حول الفلسفة السياسيّة وفي فلسفة القانون، ويكتب في النقد الثقافيّ والأدبيّ. أستاذ فلسفة القانون في الكلّيّة الأكاديميّة كريات أونو وباحث كبير في معهد فان لير. كتابه عن كانط ونضاله للاستقلاليّة صدرَ هذه السّنة بالإنجليزيّة من دار لكسينجتون.

** هذا النص مُترجم عن النص الأصلي باللغة العبرية. ترجمة: نبيل أرملي

ميخائيل نعيمة في النّاصرة

توثيق محاضرات ميخائيل نعيمة في مدينة الناصرة في الصحف الفلسطينية التاريخية.

حرّروا أنفسكم لتستقلوا عن الأجانب

في الأول من نيسان من العام 1935 زار الأديب والمفكّر اللبناني ميخائيل نعيمة مدينة النّاصرة، وهناك ألقى محاضرة قيّمة عن العوامل النّفسية الإنسانيّة، وقد قامت بتغطيتها والإشادة بها صحف فلسطينيّة عديدة. فحول ماذا كانت هذه المحاضرة؟ وماذا نعرف عن زيارة ميخائيل نعيمة ورؤيته للبلاد في عهد الانتداب البريطانيّ؟

من ميخائيل نعيمة؟

ولد ميخائيل نعيمة عام 1889 في قرية بسكنتا في سفح جبل صينين في لبنان ودرس في مدرستها قبل أن يلتحق للدّراسة في دار المعلّمين في النّاصرة عام 1902؛ حيث أمضى ستّ سنوات غاب بعدها عن المدينة إلى روسيا، ثمّ إلى الولايات المتّحدة ثمّ إلى باريس ليدرس الآداب والفكر، ثمّ عاود زيارتها عام 1935 بدعوة من النّادي الأدبيّ وبلديّة النّاصرة ليلقي فيها محاضرة. عُرفت أعمال ميخائيل نعيمة من رواية أو كتاب إلى شعر أو مسرحيّة أو قصّة بعمقها الفلسفيّ والإنسانيّ وبقدرته على إضفاء بعدٍ رمزيّ على أعماله منحها طابعًا عالميًّا. ومن أعماله الشّهيرة في المسرح “الآباء والبنون” و “أيّوب، ومن الشّعر ديوانه “همس الجفون” ومن الرّوايات “لقاء” و”مذكّرات الأرقش”، بالإضافة إلى مجموعات قصّصيّة عديدة منها: “كان ياما كان” و”هوامش”. حصل نعيمة على جائزة رئيس جمهوريّة لبنان عن الإبداع الأدبي عام 1961، وتُرجمت العديد من أعماله إلى لغات اجنبيّة عدّة.

زيارته للبلاد ومحاضرته عن علم النّفس في النّاصرة

لم تكن زيارة نعيمة في نيسان 1935 هي الأولى للبلاد، فكان قد تلقّى تعليمه كمدرّس في دار المعلمين في النّاصرة والمعروفة بالـ “مسكوبيّة” في سنوات ريع شبابه وأمضى بها ستّ سنوات. ولعلّ عودته إليها ضيفًا يحتفى به من قبل أوساطها الثّقافيّة الرّفيعة حينها قد عنت له الكثير.

⁨⁨فلسطين⁩⁩: 2 نيسان 1935
⁨⁨فلسطين⁩⁩ 2 نيسان 1935

لا نعرف الكثير عن تفاصيل زيارته والمدن الّتي قام بالتّجول بها خلال هذه الزّيارة، إلا أنّ بعض الأخبار الواردة في كلّ من جريدة فلسطين، الدّفاع والأوقات العربيّة تكمل التّفاصيل بين بعضها البعض من خلال الأخبار الّتي قامت بتغطيتها عن هذه الزّيارة في المنتصف الأول من شهر نيسان 1935. وإن زخم الأخبار الّتي تناولت الزّيارة واهتمام الصّحافيين الكتّاب بتفاصيلها والعبارات العاطفيّة الّتي قاموا باستخدامها لتقديم الضيّف وأهميّة زيارته للقرّاء تشهد على محبّة وتقدير واسع حظي به نعيمة في فلسطين الانتدابيّة. فنرى جريدة فلسطين تتابع زيارته يومًا بعد يوم وتنشر لقرّائها، لعلّ أحدهم يرغب بلقاء الأديب الشّهير ويتابع تفاصيل زيارته بحماسة. فنراه اليوم في بيت لحم، واليوم التّالي في طبريّا، ومرّة في حيفا وأخيرًا في النّاصرة.

⁨⁨الأوقات العربية⁩⁩: 5 نيسان 1935
⁨⁨الأوقات العربية⁩⁩: 5 نيسان 1935

 

أمّا محاضرته في النّادي الأدبيّ في النّاصرة، فقد برزت في غالبيّة المقالات والأخبار الّتي تناولت زيارة ميخائيل نعيمة للبلاد. اقتبست الصّحف مقولة من محاضرته لتكون العنوان، وقامت بوصف الحدث لحظة بلحظة كي يتسنّى لمن يقرأ المقالة أن يشاهد المحاضرة ولا يفوّت أي من تفاصيلها كأنه حضرها بنفسه. فتزوّدنا هذه المقالات بأسماء النّاشطين في النّادي الأدبيّ في النّاصرة في تلك الفترة، وبأعداد الحضور، وبتكريم نعيمة من قبل الأديب الفلسطينيّ خليل السّكاكيني، وبلهفة الحضور لسماع المحاضرة حتّى قاموا بمقاطعة نعيمة عدّة مرّات أثناء كلامه بالتّصفيق الحارّ!

⁨⁨الدفاع⁩⁩: 3 نيسان 1935
⁨⁨الدفاع⁩⁩: 3 نيسان 1935

 

“حرّروا أنفسكم لتستقلو عن الأجانب” كان عنوان القصّة الصّحافيّة الّتي نشرتها جريدة فلسطين في السّابع من نيسان عن محاضرة الأديب التّي وُصفت بالـ “ساحرة”! والّتي انتظرها الكثير من القرّاء الّذين لم يتمكّنوا من حضور المحفل الأدبيّ بأنفسهم. وكما ورد في مقالة سابقة في جريدة فلسطين فقد كان عنوان المحاضرة “تأثير العوامل النّفسيّة على الإنسان”، إلّا أن مضمونها على ما يبدو لم يكن بعيدًا عن واقع الحال في فلسطين الانتدابيّة، فنرى من خلال بعض الاقتباسات الّتي وردت في هذه المقالات أن نعيمة أسهب في الحديث عن العوامل النّفسية وعلاقتها بالحريّة والاستعباد.

 

⁨⁨الدفاع⁩⁩: 7 نيسان 1935
⁨⁨الدفاع⁩⁩: 7 نيسان 1935

 

إليكم بعض ممّا ورد عن كلام نعيمة في هذه المحاضرة في مقالة السّابع من نيسان في جريدة فلسطين، والتي نختتم بها هذه المقالة.

“لمَ أنا مستعبد؟ لمَ لست حرًا؟ لم أنا حزين؟ لمَ أنا فرح؟ لمَ أنا قلق؟ لمَ أنا مطمئن؟ أسئلة نفسيّة دقيقة نجد أجوبتها في قراراتنا ولا حلّ لها في خارجنا. فأنت ترى العالم بعينيك، وتسمعه بأذنيك، وكيف تكون حالة هاتين الأداتين يظهر لك العالم. إذًا، جمّل وجهك، تر الحياة جميلة، اضحك لها، تراها ضاحكة. وهذه الشّرور المنتشرة والمفاسد العائثة، إن هي إلّا صورة لما فيك من شرور ومفاسد. وهذا الرّبيع الزّاهي والزّهور البديعة، لن تستطيع تحويل قلبك عن الكآبة إن كان في نفسك مناحة. فأنت إذا سعيد إن أردت وشقيّ إن أردت.

لم أنا مستعبد؟

ما كان يمكن ذلك لو لم تكن عبدًا لنفسك ولشهوة فيها. فتحررك من ظالم يقتضي أولًا تغلّبك على شهوتك وما دمت لها عبدًا فلن يبزغ لك فجر الحريّة الحقّة .

الحرّية طبيعة فينا. والعبوديّة منّا. فلو أردنا أن نكون أحرارًا لما منعنا أي إنسان.”

للمقالة كاملة

 

⁨⁨فلسطين⁩⁩: 5 نيسان 1935
⁨⁨فلسطين⁩⁩: 5 نيسان 1935

 

للمزيد حول مدينة الناصرة إليكم بوابة المحتوى الرقمي حول مدينة الناصرة والتي يمكن من خلالها الوصول إلى مواد رقمية متنوعة حول المدينة وتاريخها وسكانها.