مراحل فرض الصيام في الإسلام: من عاشوراء إلى رمضان

مرّ الصيام في الإسلام بعدّة مراحل قبل أن يصل شكله النهائيّ المتمثّل في صيام رمضان كما يعرفه المسلمون حول العالم، فما هي تلك المراحل؟

مصحف بهاري هندي – من مجموعات المكتبة الوطنية

مصحف بهاري، نسخة هندية، القرن الـ 15، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

مثل العديد من التشريعات الإسلاميّة، لم يُفرض صيام رمضان مرّةً واحدة، ولا في بدايات الإسلام؛ إذ شُرع على مراحل – بعد الهجرة – في المدينة. وهدف ذلك، التأكّد من استقرار الدين الجديد في قلوب المؤمنين به، واتّباع مبدأ التدريج، كي يتعوّد المسلمون على الفرائض الجديدة، خاصّة الشاقّة منها، كالامتناع عن الطعام والشراب لشهرٍ كاملٍ في أجواءٍ حارّةٍ كالتي تسود شبه الجزيرة العربيّة. يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد: “لما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطّنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات“.

ونستطيع أن نقسّم مراحل فرض الصيام إلى أربعة مراحل، المرحلة الأولى كانت في فرض أيّام للصوم غير شهر رمضان، والمراحل الثلاثة التالية تتعلّق بتغيّر أحكام شهر رمضان حتّى وصولها إلى شكلها النهائيّ.


صيام عاشوراء ثمّ ثلاثة أيّام من كلّ شهر

أوّل يومٍ أمر الإسلام بصومه كان يوم عاشوراء (العاشر من محرّم)، حيث كانت قريش تصومه في مكّة، حتّى نُسِخَ (لُغِيَ) فرض صيامه حين فُرِض رمضان، وغدا صيام هذا اليوم من النوافل المستحبّة. تقول عائشة في حديثٍ رواه البخاريّ: “إنّ قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثمّ أمر رسول الله بصيامه حتى فرض رمضان، فقال رسول الله من شاء فليصمه ومن شاء أفطره“. وفي روايةٍ أخرى كان صوم عاشوراء في المدينة لا مكّة، عندما شاهد الرسولُ اليهودَ يصومونه، ففي حديثٍ عن عبد الله بن عباس أخرجه البخاري في باب صوم عاشوراء، قال: “قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالح نجّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوّهم فصامه، وقال: أنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه“.

وتشير عددٌ من الروايات أنّ الرسول أمر بعد عاشوراء وقبل رمضان بصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، ففي سنن البيهقي وأبي داود عن ابن أبي ليلى يقول: “حدّثنا أصحابنا أن رسول الله لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام ثمّ أنزل رمضان وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام وكان الصيام عليهم شديدًا“.


التخيير بين صوم رمضان أو الإفطار مع دفع فدية

في هذه المرحلة الأولى من تشريع رمضان، كان للمسلم القادر على الصيام خيارٌ بين أن يصوم شهر رمضان، وهو الأفضل، وبين أن يُفطر (رغم قدرته على الصوم) مقابل دفع فدية على كلّ يومٍ يُفطِره وهي إطعام مسكين، فعن سلمة بن الأكوع قال: “لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 184]، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا” (رواه البخاري). والآية المقصودة بعدها التي لغت التخيير، وجعلت صوم الشهر فرضًا على البالغ غير المريض أو المسافر هي: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185].

ولابن عبّاس كما يروي عنه البخاري رأيٌ آخر في آية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، إذ يقول: “ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعما مكان كلّ يوم مسكينًا”، وكأنّه بذلك لا يعتبر حكمها ملغي بالكامل، بل أنّ مجال التخيير قُلّص ليشمل فقط الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، عوضًا عن الجميع.

"على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" – مصحف غربي إفريقي
“على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين” – مصحف غربي إفريقي


وجوب صيام شهر رمضان والإفطار بعد الغروب بشرط عدم النوم

في هذه المرحلة، فُرِض صيام رمضان على المسلم البالغ العاقل، المقيم وغير المريض، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وبعد الغروب، يستطيع الأكل والشرب بشرط عدم النوم، وفي حالة نومه، يحرّم عليه الطعام والشراب (حتّى لو استيقظ قبل الفجر) إلى غروب شمس اليوم التالي. وقد كانت هذه المرحلة صعبة على المسلمين، وسبّبت لبعضهم مشاقًا بالغة، مثل قيس بن صرمة الذي نام بسبب تعبه من العمل قبل أن يفطر، فظلّ بلا طعامٍ حتّى اليوم التالي حيث أُغمِيَ عليه، ففي حديث البراء بن عازب، قال: “كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]، فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] ” (رواه البخاري).

مصحف بغدادي من القرن الخامس الهجري-من مجموعات المكتبة
مصحف بغدادي، القرن الحادي عشر، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وجوب الصيام على الحالة الحاليّة بعد رفع الشرط السابق

في المرحلة الأخيرة، رُفِع شرط عدم النوم كما ورد في حديث البراء بن عازب عندما نزلت الآية 187 من سورة البقرة، وصار بإمكان المسلمين الأكل والشرب من غروب الشمس حتّى طلوع الفجر، سواءً ناموا بين الوقتين أم لا، مع الاحتفاظ بالرخص الشرعيّة للإفطار المتعلّقة بالمسافر أو المريض، ويُضيف إليها الفقهاء رخصًا أخرى، كإمكانيّة أن يفطر كبار السنّ ممّن يشقّ عليهم الصوم، مقابل إطعام مسكين عن كلّ يومِ يفطرونه.

كتاب الصوم من مخطوط ملتقى الأبحر في فروع الحنفية
كتاب الصوم من مخطوط ملتقى الأبحر في فروع الحنفية