إسكندر الخوري: شاعر الوحدة العربية

كان إسكندر جرجس يعقوب الخوري البيتجالي شخصية متعددة الجوانب في المجتمع العربي- فهو كاهن، قاضٍ، محامٍ، كاتب، وشاعر. وُلد في بلدة بيت جالا قرب بيت لحم، وكان ابنًا لكاهن أورثوذكسي يدرس اللغة العربية والعلوم الدينية في مدرسة روسية. تلقى تعليمه الأولي في العديد من المؤسسات البارزة، بما في ذلك المدرسة الروسية في الناصرة، حيث درس إلى جانب شخصيات أدبية مستقبلية مثل ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة.

832 629

كان إسكندر جرجس يعقوب الخوري البيتجالي شخصية متعددة الجوانب في المجتمع العربي- فهو كاهن، قاضٍ، محامٍ، كاتب، وشاعر. وُلد في بلدة بيت جالا قرب بيت لحم، وكان ابنًا لكاهن أورثوذكسي يدرس اللغة العربية والعلوم الدينية في مدرسة روسية. تلقى تعليمه الأولي في العديد من المؤسسات البارزة، بما في ذلك المدرسة الروسية في الناصرة، حيث درس إلى جانب شخصيات أدبية مستقبلية مثل ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة.

المنتدى 1 حزيران 1944
المنتدى 1 حزيران 1944

كانت الصداقات التي كونها هناك، إلى جانب المعرفة التي اكتسبها، ستشكل مستقبله بطرق لم يكن يتخيلها.شغفه بالعلم دفعه لمواصلة تعليمه في مدرسة البطريركية في بيروت، حيث حصل على شهادة في الحقوق وأتقن ست لغات: العربية، التركية، الإنجليزية، الفرنسية، اليونانية، والروسية.

تم تعيينه قاضيًا، وهو المنصب الذي شغله بنزاهة وتفانٍ. لكن إسكندر لم يكن فقط رجل قانون، بل كان أيضًا شاعرًا وكاتبًا، يصب أفكاره ومشاعره في مقالات وقصائد نُشرت في أبرز المجلات والصحف الفلسطينية في ذلك الوقت.

شعر الخوري

شعر إسكندر الخوري هو انعكاس للواقع الاجتماعي والسياسي في زمنه. كان الخوري من رواد الشعر الفلسطيني، خاصة في الموضوعات الاجتماعيون تميز شعره بأسلوب سردي جعل أبياته تشبه المقالات الصحفية. هذا الأسلوب المباشر والموضوعي في الشعر مكنه من معالجة القضايا الاجتماعية الملحة بوضوح وبدون تردد.

أسلوب إسكندر المباشر، رغم أنه يُنظر إليه أحيانًا على أنه بسيط، يسلط الضوء على حقيقة عميقة: أن الوصولية غالبًا ما تفضي إلى التواصل. بينما قد تكون الاستعارات المعقدة مؤثرة، فإن قوة البساطة تكمن في قدرتها على نقل العاطفة الخام دون تصفيتها. فربما لا يكون قياس الشعر في تعقيده، بل في قدرته على جذب القراء وتحريكهم من خلال انعكاس المشاعر الحقيقية للشاعر. بينما قد يُفضل بعض القراء الأبيات المعقدة والغنية بالاستعارات، قد يجد آخرون قيمة في صراحة تعبيره. وهذا يثير سؤالاً مهماً: هل من الأهم أن تكون القصيدة معقدة ومتحدية، أم أن تنقل بفعالية رسالتها وتترجم العواطف التي ألهمتها؟

أكد إسكندر الخوري في شعره على الأهمية البالغة لوحدة العرب المسلمين والمسيحيين، مذكرًا دائمًا بأن هويتهم العربية المشتركة تسبق أي اختلاف ديني. كان يعتقد أن من الحماقة أن يتورط المسلمون والمسيحيون في صراعات داخلية، خاصة في ظل التهديدات الخارجية التي كانت تلوح في الأفق. رأى الخوري أن هذه الانقسامات لا تؤدي إلا إلى إضعافهم وإسعاد أعدائهم الذين يرغبون في رؤيتهم منقسمين.

على سبيل المثال، خلال نزاع في حيفا حول مقبرة ادعى كل من المسلمين والمسيحيين ملكيتها وأدى الى مقتل الكاتب القدير جميل البحري، كتب الخوري قصيدة توحيدية. شددت أبياته على الهوية المشتركة للفلسطينيين، بغض النظر عن الاختلافات الدينية، ودعا إلى الوحدة في مواجهة الانقسامات.

لا لن تنال من اتحاد الأمتين يد الفتن
كنا وما زلنا كما كنا فدا هذا الوطـــن

كما عَبّرّ في قصيدته “بلد السلام”  عن ارتباطه العميق ببلاده و أبدى شهادة على وطنيته ورغبته في التعايش بين مختلف الطوائف الدينية. تعكس القصيدة إيمانه بوحدة الشعب الفلسطيني والروابط المستمرة بين المسيحيين والمسلمين المتجذرة في هويتهم العربية المشتركة.

بلدَ السلامِ وليس فيكَ سلامُ               مني إليكَ تحيةٌ وسلامُ 
أنا إن نأيتُ وإن أقمتُ فإنني لكَ     مخلصٌ ما لي سواك مُقام 
تفديكَ نصرانيّتي ويقيكَ من            غدرِ الزمانِ وكيده الإسلام 

نعمة سليمان الصباغ: شاعر الناصرة الأول

في عام 1886، وتحديدًا في مدينة الناصرة، ولد نعمة سليمان الصباغ. لم يكن الصباغ، الملقب بشاعر الناصرة الأول شاعرا فقط، بل كان أيضًا معلمًا ورجلًا عاش فترة مليئة بالتحديات والتحولات، فترك أثراً عميقًا في مسيرة الأدب الفلسطيني، ممزوجًا بين شغفه بالكلمة وحبه للتعليم. منذ صغره، أظهر الصباغ ولعًا بالتعلم. درس في مدرسة البروتستانت في الناصرة،

832 629

في عام 1886، وتحديدًا في مدينة الناصرة، ولد نعمة سليمان الصباغ. لم يكن الصباغ، الملقب بشاعر الناصرة الأول شاعرا فقط، بل كان أيضًا معلمًا ورجلًا عاش فترة مليئة بالتحديات والتحولات، فترك أثراً عميقًا في مسيرة الأدب الفلسطيني، ممزوجًا بين شغفه بالكلمة وحبه للتعليم.

Screenshot 2024 09 19 133538

منذ صغره، أظهر الصباغ ولعًا بالتعلم. درس في مدرسة البروتستانت في الناصرة، ثم التحق بدار المُعَلّمين الروسية التابعة للجمعية الإمبراطورية الفلسطينية، وهو ما شكّل بدايته الحقيقية في عالم التعليم. بعد تخرجه عام 1904، بدأ الصباغ مسيرة طويلة في إدارة المدارس في لبنان وفلسطين، لكن خلف جدران الفصول الدراسية كان ينمو شغفاً آخر له وهو الشعر.

تخرّج الصباغ من السمنار الروسي في الناصرة، الذي خرّج أيضًا العديد من الشخصيات الأدبية البارزة مثل ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد، حيث لعبت الجمعية الروسية الفلسطينية دورًا مهمًا في تخريج معلمين وأدباء ساهموا في النهضة الأدبية في فلسطين.

Screenshot 2024 09 19 133710

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاد الصباغ إلى مسقط رأسه الناصرة، حيث استمر في خدمة التعليم، لكن تحوّله الأهم جاء بعد نكبة 1948. اضطر إلى ترك منزله ومكتبته العامرة بالكتب والذكريات، واللجوء إلى لبنان. هناك، بدأ فصلاً جديدًا في حياته، حيث واصل التدريس ونشر أعماله الشعرية في صحف المهجر، مستفيدًا من الأجواء الثقافية في بيروت التي أصبحت مأواه الجديد.

شاعر الناصرة الأول

وفقاً لكتاب صدر حديثاً عن “الدار العربية للعلوم – ناشرون” في بيروت بعنوان “طلائع أدباء عصر النهضة في فلسطين”، والمتوفر بالمكتبة الوطنية، يُعتَبَر نِعمة سليمان الصباغ واحداً من أوائل وأهم الأدباء الذين ساهموا في النهضة الأدبية الفلسطينية. يخصص الكتاب مساحة واسعة لقراءة حياة الصباغ وإبداعاته، حيث يلقب بـ”شاعر الناصرة الأول”، ويوثّق مسيرته التي شهدت فترتي الاحتلال العثماني والانتداب البريطاني، وصولاً إلى عام 1948.

نعمة الصباغ و عائلته
نعمة الصباغ و عائلته

فضلاً عن احتواء الكتاب لمجموعته الشعرية، يُعتَبَرُ الكتاب مرجعاً شاملاً يسرد تفاصيل حياة الصبّاغ ومسيرته الأدبية والتعليمية. يوثّق الكتاب كيف أبدع الصباغ في نظم الشعر العمودي والموشحات الأندلسية، وكيف تمكن من استخدام حساب الجُمَّل لتأريخ المناسبات، مما يعكس اطلاعه الواسع على التراث العربي القديم.

من خلال هذا العمل، نلمس مدى إسهام الصباغ في الحركة الأدبية الفلسطينية، ونتعرف على أسلوبه الشعري الذي يمزج بين الأصالة والتجديد. يُظهر الكتاب أيضًا كيف تأثر نثره بتيارات الحداثة التي كانت تنتشر في بداية عصر النهضة في فلسطين، ليصبح جزءًا من جيل الأدباء الذين وضعوا أسس الأدب الفلسطيني المعاصر.

رغم كل ما مر به الصباغ من صعوبات بعد حرب عام 1948، لم يتوقف عن الإبداع. كان يلجأ إلى قلمه للتعبير عن مشاعره، حيث أبدع قصائد مفعمة بالحياة والتجديد، بعيداً عن التكلف اللفظي. كان شعره رقيقًا ومعبرًا، يجمع بين قوة الفكرة وبساطة المفردات، وهو ما جعله قريبًا من القلوب. سواء كتب عن المديح أو الغزل أو الرثاء، كانت قصائده تُظهر عمق مشاعره وقوة خياله.

توفي نعمة سليمان الصباغ في بيروت عام 1971، لكن إرثه الأدبي يستمر في الإلهام، إذ تبقى قصائده شاهدة على مسيرته الإبداعية وعلى روح شاعر عاش بين أزمات وطنه وأحلامه التي خطها بكلماته.

كلثوم عودة: من خالدات الأدب العربي

تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.

832 629

تُعد كلثوم عودة واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في البلاد، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز الثقافة العربية وحفظها. بإصرارها وشغفها، ضَحَت عودة رمزًا للأدب العربي حتى اليوم.

وُلدت كلثوم عودة في نيسان من العام 1892 في مدينة الناصرة، لتأتي إلى عالم يقدّر الذكور أكثر من الإناث. ولدت في زمن كانت فيه التوقعات المجتمعية تحدّ من فرص الفتيات، وكان ذلك واضحاً في رَدِّ فعل والدتها تجاهها.

كانت عودة الابنة الخامسة لوالدين كانا ينتظران ولادة الصبي الأول، ولم يُستقبل وصولها بالترحاب. وبما أنها لم تكن تمتلك جمالًا يشفع لها، فقد نشأت وهي تعاني من قسوة والدتها وتعليقاتها الساخرة. لم تجد كلثوم مخرجًا سوى التفوق في دراستها، رغم معارضة والدتها الشديدة. مع ذلك، وجدت كلثوم العزاء والتشجيع في دعم والدها الذي رغِب في تعليمها.

بدأت الطالبة كلثوم رحلتها الأكاديمية في الكلية الروسية للمعلمين في بيت جالا، حيث نما شغفها باللغة العربية والأدب، اذ تَتَلمَذَت على يَد المُعلم الكبير خليل سكاكيني.

من الناصرة إلى روسيا: رحلة العلم والإصرار

كان حلم كلثوم منذ الطفولة أن تكون معلمة وأن تستقل بذاتها دون الحاجة للعيش كـ “خادمة عند زوجة أخي المستقبلية”، كما اعتادت والدتها أن تردد. لقد عملت بجد لتحقيق هذا الحلم، متغلبةً على كافة العقبات التي واجهتها، بما في ذلك معارضة والدتها الشديدة. بفضل إصرارها، أكملت تعليمها وبدأت العمل كمعلمة في الناصرة.

خلال سنوات عملها كمعلمة، كانت تدرك تمامًا أهمية التعليم والاستقلالية المادية التي تمنح الفتاة القدرة على اتخاذ قراراتها بنفسها. لكن كان الثمن النفسي كبيرًا؛ فقد عانت من الضغوط والتحديات، حيث كانت تعيش في العمارة الروسية مع رفيقة تمردت على التقاليد أيضاً، وكان على كلثوم أن تتحمل الكثير من الألم بسبب رفض أسرتها لمستقبلها. برغم هذه الصعوبات، وجدت عزاءها في حبها لعملها، فكانت تكرس وقتها وطاقتها لتعليم الطالبات، مما أسهم في بناء علاقات قوية ومحببة معهن.

فيما بعد، تزوجت كلثوم من الطبيب الروسي إيفان فاسيليف، الذي كان يشرف على صحة تلميذات المدرسة، ولعب الحب دورًا كبيرًا في جمعهما. على الرغم من رفض أهلها لهذا الزواج ومحاولتهم إبعادها عنه، تمكنت كلثوم من الزواج منه بدعم من قريب لها من الناصرة. انتقل الزوجان إلى روسيا في عام 1914، حيث واجها تحديات الحرب العالمية الأولى، مما دفع كلثوم للانضمام إلى الصليب الأحمر والعمل كممرضة في صربيا والجبل الأسود، ثم في أوكرانيا لمكافحة وباء التيفوئيد.

عندما توفي زوجها في عام 1917، لم تستسلم كلثوم، بل تبنت أسلوب حياة جديد. أقدمت على زراعة الأرض وعملت بجد رغم صعوبة الحياة، واستمرت في تعليم بناتها ورعايتهن. لم تكتفِ بذلك، بل واصلت مسيرتها الأكاديمية في روسيا، درست في كلية اللغات الشرقية، وعملت في القسم العربي بمعهد الفلسفة والفنون والتاريخ. وبعد تأسيس معهد الاستشراق في موسكو، انتقلت من لينينغراد إلى موسكو لمواصلة عملها. كما عملت في معهد العلاقات الدولية والمعهد الدبلوماسي العالي.

خلال الحقبة الستالينية في أواخر الثلاثينيات، تم اعتقالها ثلاث مرات، لكنها أُفرج عنها في المرة الأخيرة عام 1939 دون أن تُثبت أي تهم ضدها. سرعان ما نالت تقديراً واسعاً من قبل المثقفين السوفييت، وخاصة من الأوساط السياسية. ولذلك، عندما شن النازيون هجومهم على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، كانت ضمن أولئك الذين تم إجلاؤهم لحمايتهم.

أصبحت أول امرأة تشغل منصب “عضو في جمعية العلاقات الثقافية السوفييتية مع البلدان العربية”. كانت تؤمن بأن الأدب هو الطريق إلى القلوب الإنسانية، فبدأت بترجمة الأدب السوفييتي إلى العربية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم شرعت بترجمة الأدب العربي إلى الروسية، مساهمة بشكل كبير في بناء جسر حضاري بين روسيا والعالم العربي وتعريف الروس بالعرب.

في عيد ميلادها السبعين، مُنحت وسام الشرف، وتلقت وسام “الصداقة بين الشعوب”، وهو أعلى وسام يمنحه الاتحاد السوفييتي لشخصيات تكرس علاقات الصداقة بين الشعب السوفييتي والشعوب الأخرى. وبعد وفاتها، منحتها منظمة التحرير الفلسطينية “وسام القدس للثقافة والفنون والآداب” في يناير 1990، تقديراً لدورها الثقافي والسياسي في روسيا.

توفيت في 24 أبريل 1965، وحضر جنازتها عدد كبير من الأساتذة والعلماء والطلاب والفلاحين، إلى جانب وزراء ومسؤولين كانوا من طلابها، ودُفنت في مقبرة الأدباء والعلماء بالقرب من موسكو.

يُعَدّ إِرث كلثوم عودة شهادة على قوة الروح البشرية. قصتها هي قصة تجاوز المحن ودمج الحواجز الثقافية وتقديم إسهامات دائمة في العالم من خلال تجاربها وانتصاراتها.

الحِبر والحَميميّة: مُراسلات مي زيادَة وَجُبران خليل جبران

تقاسمت مي زيادة وجبران خليل جبران رابطة فكرية غير عادية في عالم الأدب العربي؛ إذ شكّلا علاقة عميقة تجاوزت الزمان والمكان من خلال مراسلاتهم الموثقة في "الشعلة الزرقاء"

715 537

مي زيادة وجبران خليل جبران وكتاب الشعلة الزرقاء

“أُفكرُ فيكِ يا ماري كلَّ يومٍ وكل ليلة، أفكرُ فيكِ دائماً وفي كل فكر شيءٌ منَ اللّذة وشيء من الألم. والغريبُ أّنَّني ما فَكرتُ فيكِ يا مَريم إلّا وَقُلتُ لكِ في سرّي ” تعالي واسكبي جَميعَ هُمومِكِ هُنا، هُنا على صَدري”، “تقولين لي أنّكِ تَخافينَ الحُب. لماذا تَخافينه يا صَغيرتي؟ أتخافينَ نورَ الشّمس؟ أتخافين مدَّ البحر؟ أتخافينَ طُلوعَ الفَجر؟ أتخافينَ مَجيء الرَّبيع؟ لما يا تُرى تَخافينَ الحُب؟”.

Alittihad20000124 01.1.14 1312 380 1129 316 565w

الاتحاد، 24 كانون الثاني 2000

قَد يَصل لقارئِ الكلماتِ هذهِ شعورٌ بالارتباكِ حولَ طبيعةِ العلاقةِ بين المُرسِل والمُرسَل إليها، وربما أصابت هذه المشاعر بالضبط جوهَرَ طَبيعةِ العلاقةِ التّي خُلِقَت بينَ الأديبيْن مي زيادة وجبران خليل جبران. تلك العلاقة التي كَلّفت ميّ صحتها النفسية وأودت بها، بحسب الروايات السائدة، الى مشفى للأمراض النفسية وثم الإعياءُ الجسديَ الذي أودى بحياتها في نهايةِ المَطاف.

يُمكن اعتبار العلاقة بين مي وجبران من أغرب الروابط العاطفية بين كاتبين، حيثُ اكتَنَفَها الغُموضُ وَتَخضَع لتأويلاتٍ مُختلفة. هل نَتحدثُ هُنا عن قِصةِ حُبٍ أم علاقةِ صداقةٍ أفلاطونيةٍ بحتة؟

بَدَأَت هذهِ القّصة الفريدة في عام 1920، عِندمَا تَلَقّت مَيّ نُسخةً من روايةِ “الأَجنحةِ المُتكسّرة” التي كتبها جبران. على الرغم من أنهما لم يلتقيا أبدًا في الواقع، فإن كلماتِ جُبران الجَذّابة وَقُدرتهِ على التعبيرِ عن الأفكارِ العميقةِ أَسَرَت قَلبَ مي بشكل لا يمكنُ وَصفه.

 نادراً ما كانَ في تاريخِ العلاقاتِ الطويلةِ مِثل هذه العلاقة العاطفية، التي يتم التعبير عنها فقط من خلال تبادل الرسائل لما يقرب من عقدين من الزمن، دونَ أن يحاول أي منهما التغلب على الحاجزِ الجُغرافيّ والاقتراب من الآخر، تلك الرسائل التي جُمعت ونشرت في كتاب “الشعلة الزرقاء”. ومع ذلك، فإن هذه الخصوصية بالتحّديد هي التّي جَذَبَت انتباهَ العَديدِ مَنَّ النُّقادِ والباحِثين، ممّا أّدّى إلى ظهورِ عشراتِ الكتب والأطروحات التي تتناول كل جانب من جوانب حياتهم بالتفصيل.

تُعتبرُ الرَسائِلُ المتبادلةُ بينَ الاثنيْن المرجع الأساسي لفِهمِ طَبيعةِ علاقَتِهِما، وَتَنقَسِمُ الرسائلُ إلى فئتين: فكرية وعاطفية. تتَميز الأولى بالجرأة النقدية والغنى الفكري، في حين تَتَراوح الأخيرة بينَ الاعترافات الخفية والتردد إلى التصريحات الصريحة بالحب. وبينما أَثنَت مي على رواية جبران في «الأجنحة المتكسرة»، أبدت تحفظها على موقفه السلبي من الزواج وتبريره للخيانة الزوجية حتى ولو كان الحُبُّ هو الدافع الوحيد. تنتقد مي “لهجة جبران المضطربة وأفكاره الصبيانية” في كتابه “دمعة وابتسامة”. لم يشعر جبران بالإهانة من هذا النقد بل تقبله بصدر رحب و بعقل فضولي حولَ هذه الناقدة الجريئة.

مي و جبران 4

من كتاب الشعلة الزرقاء، متوفر بالمكتبة الوطنية

ومَع الوَقت، توالَت المُرسلات بين مَي وجُبران، وازدادت وتيرتها ودرجة خصوصيتها، فيكادُ يَتراءى لقارئ “الشعلة الزرقاء” بأنه يقرأ مُذكرات جُبران اليومية لا مراسلاتٍ بين طرفين، ولا يساعدُ في دَحضِ هذا التّصور أَنَّ ما يَتَوَفَّر لَنا مِن مُراسلاتِ مي لا يُعدُّ على الأصابع. و هذا ما يجبُ أخذه بعين الاعتبار عند قراءة الكتاب أو محاولة فهم طبيعة علاقتهما.

مع ذلك، يمكننا رؤية تحت قشرة الخطاب الأدبي تيار خفي من الحميمية العاطفية، إذ اعترفت مي لجبران: “كُنت أجلس للكتابة إليك أنسى من وأين أنت، وكثيراً ما أَنسى حتّى أَنَّ هُناكَ رَجُلاً أُخاطبهُ فَأُكلمكَ كَما أُكلّمُ نَفسي وأحياناً كأنَّكَ رَفيقةُ لي في المدرسة”. وعلى الرغم من اعتراف جبران بمَوَدَّتِهِ وَشَوقِ مَي لِحُضوره، إلا أنَّ المسافة الجسدية بينهما شَكَّلَت عائقاً أمامَ اتّحادهما.

ربما، كما تَكَهَّن بَعضُ العُلماء، كانت استحالة حُبهما هيَ التّي صَبَغَتهُ بِشُعورٍ من العَظَمة الأسطورية – حب كان موجودًا في عالم الخيال، بمنأى عن بَلادَةِ الواقعِ وَلَرُبما أنَّ جُبران ومي لم يَكن لَديهما الرغبة الكاملة، دون وَعي، في اللقاء، مدركين أن مثل هذه القفزة من شأنها أن تُحول علاقتهما من عوالم الخيال السامية إلى مشهد الواقع الدنيوي، حيثُ تَسود الرّتابة وخيبة الأمل في كثير من الأحيان. كانتِ المَساحاتُ الشّاسعة من الأرض والبحر بمثابة شهود صامتين، حيث فرضت حاجزًا ماديًا يمنعهم من احتضانهم المباشر، تاركين مخيلتهم لتكون بمثابة مهندس لاتصالهم، والكلمات كأوعية لمودتهم، دون الحاجة لأكثر من ذلك.