صلة آل التميمي بالصحابي تميم الدّاري: مخطوطة نادرة من الخليل

ومن قرأ هذه النّسخة يرى من العجايب كما رأى تميم الدّاري رضي الله عنه، إمام وخطيب الحرم الإبراهيمي والمتولي على أوقاف جدّه تميم الدّاري. للمزيد في المقال.

مخطوطة نسبة تميم الداري

ومن قرأ هذه النّسخة يرى من العجايب كما رأى تميم الدّاري رضي الله عنه.

هكذا افتتح عمر بن أحمد الحرتاني النّسبة الّتي كتبها إلى عبد المنعم التميمي، “إمام وخطيب الحرم الإبراهيمي في الخليل والمتولي على أوقاف جدّه تميم الدّاري” عام 1861. وهي النّسبة الّتي تُظهر اتّصال الإمام التّميميّ وأولاده وأولاد عمومته وأولادهم بالصّحابيّ تميم الدّاري الّذي أعطاه الرّسول منطقة الخليل وبيت عينون (شمال الخليل) والمرطوم (رامة الخليل) وبيت إبراهيم، وفقًا لروايات إسلاميّة عديدة.

وُجدت هذه المخطوطة في المكتبة الوطنيّة إلى جانب مخطوطات أخرى متّصلة بالخليل ضمن مجموعة المخطوطات النّادرة، ويبدو أنّها كُتبت بخطّين مختلفين؛ أحدهما يعود إلى كاتب المخطوطة الّذي أشار إلى نفسه في المقدّمة “الفقير إلى الله تعالى عمر ابن أحمد المرحوم الحرتاني المغربيّ أصلًا المالكي مذهبًا القادري البكري طريقةً القاطن في غزّة سيدنا هاشم سكنًا“، أما القسم الآخر فقد يكون بيد عبد المنعم التّميمي نفسه، إذ أشار إلى نفسه في موضعٍ آخر من الكتاب.

فيبدأ كاتب النّسبة بعرض هذه المكانة العالية مباشرة قبل المقدّمات والتّمهيدات؛ فيضع بين يدي القارئ وصيّة يخصّ الرّسول بها الصّحابيّ تميم الدّاري بهبة؛ وهي أرض الخليل وبعض البلدات المجاورة له ولأولاده من بعده.

 هبة الرّسول كما تظهر في الصّفحة الأولى من المخطوطة، مجموعة المخطوطات النّادرة، المكتبة الوطنية
هبة الرّسول كما تظهر في الصّفحة الأولى من المخطوطة، مجموعة المخطوطات النّادرة، المكتبة الوطنية

هذا ما أنطى محمّد رسول الله لتميم الدّاري وأصحابه: إنّي أنطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطيّة بتّ ونفذت وسلمت، ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الآبدين فمن آذاهم فيه آذاه الله. شهد بذلك أبو بكر ابن أبي قحافة وعمر ابن الخطّاب وعثمان ابن عفّان وعليّ ابن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان“.

فيما بعد، يبدأ الكاتب بافتتاحيّة النّسبة الّتي يقوم بكتابتها، وكما يتطلّب أي نوعٌ من الكتابة مقدّمة خاصّة به فالنّسبة كذلك تتطلّب تقديم مناسب يشمل اسم كاتب النّسبة ومكانه وزمانه، واسم الرّجل الّذي يكتبها له، ومبتدأ النّسبة وآخرها، أي من الرّجل الّذي سيبدأ من عنده ومن الرّجل الّذي سينتهي عنده.

بعد افتتاحيّة من صفحتين تبدأ المقدّمة الطّويلة المعهودة في الأدب العربيّ، حيث الصّلاة والسّلام والقصّة القصيرة ذات العبرة والأقوال المأثورة، وهي عوامل قد تبدو لأوّل وهلة غير متّصلة لموضوع الكتاب الّذي نحن بصدد قراءته، إلّا انّنا إذا تمعنّا بتلك القصص والأقوال الّتي يختارها الكاتب لوجدنا أنّه يختارها بعناية للتأكيد على قيمٍ مرتبطة بالموضوع المتناول، أو أنّه يضع فيها نظرته للموضوع المتناول دون أن يصرّح بها بشكلٍ مباشرٍ في متن النّص، وقد يفعل ذلك في خاتمته أيضًا. وكذلك هو الحال في مقدّمة هذه النّسبة الّتي تناول بها الكاتب قصّة اقتتال قابيل وهابيل، حين قتل الأخ أخاه حسدًا.

بعد هذه المقدّمة الأدبيّة ينتقل كاتب النّسبة إلى متن النّص فيكتب “أمّا بعد” بالأحمر مؤشّرًا إلى بداية متن النّسبة. فيبدأ بذكر المصادر الّتي اعتمدها في عمله وهدفه من كتابتها.

بداية متن النّسبة من المخطوطة
بداية متن النّسبة من المخطوطة

 

لتصفّح المخطوطة كاملة

فيقول: “هذه نسبةُ شريفة متّصلة بتميم الداري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، نُقلت من كتاب الأنساب الّذي جمعه الفاضل حاوي المزايا والفضائل الأصمعي ومن كتب التّواريخ الواردة عن العيني وابن خلكان كالواقدي والبكري وما جاء من كلام أهل الفصاحة والبلاغة، لأن هذا الكتاب عندي مخلّف عن الآباء والأجداد وفيه جميع النبذات من الصّحابة والتّابعين والملوك والسّلاطين من تبع الحميري إلى الآن“.

وهكذا يبدأ الكاتب بالنّسبة من عند “الملك خزرج” وبحسب المخطوطة فهو الجد الأوّل للسلالة الّتي انحدر منها الصّحابيّ تميم الدّاري، وفي ذكر فضائله وأخباره تروي المخطوطة أن الملك خزرج هو المقصود بذي القرنين الوارد ذكره في سورة الكهف، ومن إحدى التّفسيرات الّتي أوردها كاتب النّسبة أنه “ملك قرنيّ الدّنيا مشرقًا ومغربًا” وأنه عاش في قصرٍ قرب نهرٍ مبارك، يشفى بمائة كلّ عليل وأنه كان كريمًا شجاعًا ومغوارًا، وأنّه آمن بنبوءة إبراهيم.

وانطلاقًا من الملك خزرج إلى أولاده التّسعة عشر، يروي الكاتب ما تيسّر له من أخبار عنهم، فالنّسبة هنا لا تهتمّ بصلة الدّم فحسب، بل تروي قصص هؤلاء الرّجال وأحيانًا مواطن زوجاتهم وما رُوي عنهم من طُرف وعجائب، فتعتبر، هنا، نوعًا أدبيّا من الكتابة بامتياز، يدمج ما بين الواقعيّة والخيال والأسطورة.

فمثلًا، ومع تقدّم القصّة، أجيال عديدة يصل كاتب النّسبة إلى الشّيخ أحمد والد الشّيخ عبد الرّحمن أفندي، وزمانهما غير واضح، فيحكي قصّة زيارة الشّيخ أحمد إلى الحرم الإبراهيميّ حيث قابل “رجلًا من أكابر دولة ذلك الزّمان” ورافقه بدخول الغار حيث يرقد الأنبياء. “فطلب منهم أن يفتحوا باب الغار الشّريف فنزلوا جميعًا حتى وصلوا إلى المحل الّذي فيه أعضاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وإذا بقاطع فيه حضرة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ملقًا على ظهره ومدرج في ديباج أخضر قد بدا وشيبته الشريفة مفروقة فرقتين من النسيم الذي ريحته كالمسك الأوفر ثم ذهبوا وإذا بقاطع فيه سيدنا إسحاق عليه الصلاة والسلام فوجدوه كذلك ثم ذهبوا كذلك إلى محل آخر وإذا فيه سيدنا يعقوب عليه السلام ثم ذهبوا إلى محل آخر وإذا بصوت قايل الحريم يرحمكم الله تعالى فخرجوا جميعًا وقد رأوا جميع الأكفان وأثره فطلعوا من الغار الشريف بعد الزيارة ورؤيتهم ما قد رأوا وشاهدوا فعند ذلك صنع لهم أكفانًا ووضعهم على أجسادهم كما كانوا موضوعين سابقًا وبنوا عليهم بنيانًا خوفًا لا أحد يجسر عليهم فطوبا لهم“.

قصة دخول الغار عند الحرم الإبراهيمي.
قصة دخول الغار عند الحرم الإبراهيمي.

وفي المراحل المتقدّمة يبدأ التّركيز حول سلالة تميم الدّاري في الخليل ونابلس، ويختتم الكاتب النّسبة ببعض من شيوخ طائفة الخطباء التميميّين في الخليل، أولادهم وأولاد عمومتهم، ويختتم كتابه بآيتين من سورة المؤمنون “فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ – فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ“.

نسخة عن صحيح البخاري كُتبت في الحرم الإبراهيميّ في الخليل، 1739.
نسخة عن صحيح البخاري كُتبت في الحرم الإبراهيميّ في الخليل، 1739.

كتبت مخطوطة صحيح البخاري قبل مخطوطة النّسبة بمائة عام، ويظهر في آخرها اسم ناسخها؛ إمام الحرم الإبراهيمي حينها الشّيخ محمّد بن يوسف التّميمي، وقد ورد ذكره في مخطوطة النّسبة أيضًا.

لتصفح بوابة مدينة الخليل حيث العديد من المخطوطات المتاحة والمواد المنوّعة.

البحث عن المسحّراتي يعقوب مراد

تعرفوا على شخصية المسحراتي اليهودي الذي تغنى بحب التقاليد والعادات العربية والإسلامية بشهر رمضان الفضيل ضمن مجموعة الموسيقيين في راديو إذاعة صوت إسرائيل

يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة "الكروان" سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.

 

 

         مصدر الصورة : من كتيّب “الأغاني الدّينيّة ليهود العراق”، مركز تراث يهود بابل، أرشيف المكتبة الوطنيّة.

لا شكّ أن دور المسحّراتي لم يولد ويتشكّل كما هو اليوم على يد شخصٍ واحدٍ أو في حقبة معيّنة يمكننا الإشارة إليها بسهولة، كما أن طبيعة الدّور تختلف بين منطقةٍ جغرافيّة وأخرى وبين حقبةٍ وأخرى.

فالمسحّراتي أحد التقاليد الكثيرة الّتي اتلفّت وتكوّنت حول العبادات والمعاني الرّوحيّة عبر مئات السّنين ومختلف المجتمعات الإسلاميّة بعفويّة، كالفانوس والزّينة والمأكولات الرّمضانيّة والحلويّات الّتي تستقرّ في ذاكرتنا ونجدها تتغيّر وتزداد غنىً وتنوّعًا عام بعد عام. وقد وجد تقليد المسحراتي طريقه كذلك إلى الرّاديو والتلفاز في سبعينيّات القرن الماضي، كما يجد طريقه إلى التطبيقات الإلكترونيّة اليوم. ولكن، هل يستبدل التّسجيل طرقة الباب وصوت المسحّراتي وهو ينادي باسم عائلتكم ويمازحكم بأغنياته؟ وهل نجح المنبّه والهاتف بتحويل المسحّراتي من شخصٍ نعرفه ونألفه إلى فكرة نحبّها ونتذكّرها بدفء؟ وماذا نفعل حين نفتقد المسحراتي؟ أو حين نعيش في مكانٍ لا مسحّراتي فيه؟

أردنا في المكتبة الوطنيّة تقفّي أثر مسحّراتيّا حُفظ صوته منذ عام 1972 بإحدى تسجيلات إذاعة “صوت إسرائيل بالعربيّة” المؤرشفة في المكتبة، على سبيل عدم تجريد المسحّراتي من كونه شخص حقيقيّ، وعلى سبيل الفضول والاستكشاف.  ففي البوابة الرّقميّة حول شهر رمضان في موقع المكتبة، تجدون من بين التّسجيلات واحدًا بعنوان “مسحّراتي”. قد يشدّكم صوت المسحّراتي إذا نقرتم على التّسجيل وتجدون اسمه كما يظهر بالعبريّة في بيانات المادّة “ياعكوف مراد”، وتتسائلون كما فعلنا: هل كان المسحّراتي يهوديًا؟ هل كانت أصوله مغربيّة أم مصريّة أم عراقيّة؟ ولماذا كان يؤدّي دور “مسحراتي” على إذاعة صوت إسرائيل؟

للاستماع للتّسجيل، اضغطوا هنا.

على الطريقة التقليديّة، بدون آلات موسيقيّة سوى الطّبلة الصغيرة، تبدأ الطبلة برنّة السّحور الشّهيرة- خمس ضربات متواضعة تصمت الطّبلة بعدها لينطلق بالغناء منفردًا، فلا نسمع سوى صوت المسحّراتي، تمامًا كما يكون الحال في الأزقّة والحارات قبل آذان الفجر في رمضان. الصّوت نديّ وهادئ، العُرب منسابة والكلمات عفويّة وبسيطة، فيقول ما هو مألوف مرّة “سحورك يا صايم، قوم وحّد الدّايم”، وينادي العمّ “حسين” والسيّد “عطيّة” مرّة، كأنه معتاد على الدّور، يتنقّل بين الطّبقات بطربيّة وخفّة عالية، ينخفض بصوتٍ جهور كأنه يتلو القرآن ثمّ يرتفع كأنّه يغنّي ألحانًا غزليّة لعبدالوهاب. المؤكّد أن من يؤدّي هذا التّسجيل متمرّس في الغناء العربيّ ولا سيّما المصريّ بدرجة ملفتة.

إذا كتبتم بالعربيّة “يعقوب مراد” على محرّك البحث “جوجل” سيأخذكم مباشرة إلى يعقوب مراد الكاتب والصّحافيّ السّوريّ فتفهمون مباشرة أنّه ليس الرّجل المطلوب، وأن من تبحثون عنه ليس واسع الشّهرة. واذا استغرقتم في التّصفّح قليلًا كما فعلنا، ستجدون بعض الصّور لرجل يحمل عودًا، مستدير الوجه وممتلئ الكتفين، وكثير من الفيديوهات اليوتيوبيّة والتّسجيلات الصّوتيّة المنشورة على منتديات محبّي التّراث العراقي تحمل اسم “الموسيقار اليهوديّ يعقوب مراد العمّاري”، وغالبًا ترتبط عناوينها بأغانٍ تراثيّة عراقيّة، المقام العراقي والجالغ البغدادي، أغاني الأعراس والطّرب وأغانيات أخرى قام العمّاري بتلحينها ونظمها بنفسه. فهل يكون المسحّراتي هو نفسه يعقوب مراد العمّاري؟ أو كما سّمّي بالعبريّة بعد تركه إذاعة بغداد وهجرته للبلاد، بار-ناي (أي ابن النّاي) العمّاري؟

تنتبهون بعد وهلة أن فارق الصّوت جليًا، كما أن الأداء العراقيّ المشدود للعمّاري يبتعد كثيرًا عن الطّربيّة المصريّة المنسابة في تسجيل “المسحراتي”. وعند محاولة البحث بالعبريّة، تظهر لكم عشرات الفيديوهات لشخصٍ أسمر طويل لا يشبه العمّاري، مستطيل الوجه ويرتدي نظّارة سميكة، يغنّي جالسًا في الأعراس والحفلات وأمامه طبلة ينقرها بعصاتين صغيرتين أو يحمل دفًا، في بعض الفيديوهات يعزف الإيقاع فقط، وفي بعضها تجدونه يغنّي “يا وابور قلّي” لعبد الوهاب، و”حبيبي يسعد أوقاته” لزكريا أحمد، و”اشكي لمين” لبليغ حمدي. يتنقّل بين المقامات بسلاسة، يؤدّي بهدوء وهو مغمض العينين تارة ويعلو بصوته تارة أخرى كما في تسجيل المسحّراتي. إنه يعقوب مراد، عازف الإيقاع والمغنّي في الفرقة الموسيقيّة لإذاعة “صوت إسرائيل بالعربيّة” منذ سنوات الخمسينيّات.

لم نجد الكثير حول يعقوب مراد، فلم نجد موادًا تحمل اسمه سوى تسجيلًا إضافيًا كمسحّراتي في الإذاعة، محفوظاً في المكتبة الوطنيّة كذلك، وصورة صغيرة له إلى جانب بقيّة أعضاء الفرقة في أحد منشورات “مركز تراث يهود بابل” حين قاموا باطلاق تسجيلات لمجموعة من الأغاني الدّينيّة ليهود بابل واشترك في أدائها مراد فتم إرفاق صورته على ظهر الغلاف مع بقيّة العازفين ومنهم “صالح الكويتي”، عازف الكمان والملحّن العراقيّ الشّهير الّذي بدأ مشواره في إذاعة بغداد قبل أن يهاجر إلى البلاد.

ولد يعقوب مراد في بغداد عام 1938، كان يعاني من ضررٍ في عينيه فكانت رؤيته شديدة الضّبابية. كما يحدّثنا صديقه وعازف الكمان إلى جانبه سليم ندّاف، كان الغناء والسّمع الطّربيّ ملاذًا للكثيرين ممن يعانون من إعاقة بصريّة في ذلك الوقت، فلا يذهبون للسينما مثلًا كأبناء جيلهم. كان يجلس يعقوب الطفل على قهوة في بغداد وينتظر أغاني عبدالوهاب الّتي كان مولعًا بها حتّى حفظها كلّها، ممّا يفسّر أداءه المصريّ وابتعاده عن الغناء العراقيّ، حتّى أن صديقه ندّاف يذكر أن مراد كان يتكلّم باللهجة المصريّة في حياته اليوميّة لشدّة حبّه لها.

يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة "الكروان" سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.
يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة “ليالي زمان” سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.

كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا حين وصل إلى البلاد مع بعض أفراد أسرته. التحق بإذاعة صوت إسرائيل وبعض الفرق الموسيقيّة الشّرقيّة الّتي كانت تؤدّي في أعراس ومناسبات اليهود القادمين من بلدان عربيّة. توفّي يعقوب مراد في الثّامن والعشرين من شباط عام 1994، ولم يخلّف لنا سوى تسجيلات المسحّراتي، وعشرات الفيديوهات وهو يغنّي أغاني مصريّة وتحتها تعليقات بالعبريّة؛ تترحّم عليه وتلقّبه بعبد الوهاب اليهودي.

مدفع رمضان – في بعديه الروحاني والسياسي

شكّل مدفع رمضان جزءً من الثقافة العربية في البلاد؛ حيث كان له طقوسه الخاصة التي تجاوزت في الكثير من الأحيان غاياتها الدينيّة والاجتماعيّة لأهداف سياسيّة. المقال يستعرض تقاليد وطقوس مدفع رمضان في البلاد.

بغضّ النظر عن أصل منشأ مدفع رمضان الحقيقيّ وتعدّد الروايات حول ذلك، إلا أنّ المعلومات التي نملكها تشير وبشكل واضح أنّه قد استخدم بشكل منتظم منذ فترة محمد علي باشا أي قبل أكثر من مائة وخمسين عامًا، حيث كان التحول المُهم في تلك الفترة في إعلان بدء الصوم وانتهاءه، خاصة في فترة لم يكن فيها بعد كهرباء، ولا تلفاز، ولا مذياع ولا تواصل تكنولوجيّ.

مجلة المنتدى. 26 حزيران 1946

شكّل مدفع رمضان جزءً من الثقافة العربية في البلاد أيضًا، حيث كان له تقاليد وطقوسه الخاصة التي تجاوزت في الكثير من الأحيان غاياتها الدينيّة والاجتماعيّة نحو تحقيق غايات سياسيّة، قسم منها كانت مهمّة للمسلمين فيما كانت بعضها مهمة للسلطات البريطانيّة لتحقيق أهدافها وماربها عبر مدفع رمضان.

كان الأمر يجري سنويًّا وذلك من خلال تقاليد المدفع، حيث كانت السلطات البريطانية تقوم بتسليم المدفع لرئيس البلدية أو للمجلس الاسلاميّ الأعلى وسط احتفالات مهيبة تُلقى فيها الخطابات، ويُرتل القرآن، وتوزع الحلويات.

جريدة فلسطين. 6 تشرين أول 1945

قراءة سريعة التقرير أعلاه كافية لأن تعطينا صورة واضحة عن تفاصيل الحدث واجراءات التسليم، حيث يلتقي المسؤولون البريطانيّون مع القيادة الدينيّة والسياسيّة للفلسطينيّين، ثم يقوم القائد العام بتسليم المدفع لرئيس البلدية في المدن أو لرئيس المجلس الأعلى في القدس لما لها من رمزيّة دينيّة، ثم يلقى القائد البريطاني العام كلمة يرد عليه بعدها رئيس البلدية، ثم تعقبه الكلمات والخطابات ينصّب خلالها المدفع، بعدها تُتلى من القرآن الكريم ومن بعدها يودع المسؤولون البريطانيّون فيما يمضي الفلسطينيون إلى دار المجلس الاسلامي الأعلى بجوار الحرم لقضاء الوقت والأحاديث.

لكن هذا البعد الروحاني لا ينفصل بطبيعة الحال عن البعد السياسي، وكما نقرأ في الجريدة فالقائد العام في خطابه يقول: “أهدي هذا المدفع إلى المجلس الاسلاميّ الأعلى، لقد استخدم هذا المدفع ضد العدو المشترك، وانه لمن المبهج حقًّا أن يعرف أنّه سيخصّص الآن لغاية سلميّة، وكم يكون اغتباطًا عظيمًا، لو أمكن الاستفادة من كل المعدّات العسكريّة لمثل هذه الغاية”.

إن بريطانيا ورغم كل صراعاتها مع الفلسطينيّين آنذاك ورغم التاريخ الحافل إلا أنّها استخدمت عنصر “العدو المشترك” مستحضرة ذكرى العثمانيّين محاولة منها خلال الاحتفال بناء المشترك وتوطيد العلاقات وايصال رسائل سياسية واضحة للفلسطينيّين قد تحمل معها نوعًا من تعزيز العلاقات.

لم تكن احتفاليّة تسليم المدفع تجري فقط في القدس، إنّما في المدن الرئيسيّة كلّها كحيفا وعكا ويافا وغيرها،  وعادة ما كانت الاجراءات ذاتها.

جريدة الدفاع. 2 حزيران 1947

توفّر لنا جريدة الدفاع مدخلاً لمقارنة الاحتفالات في المدن المختلفة، فنرى في عكا الاجراءات ذاتها مع التأكيد على الرسالة البريطانية التي ستتكرر دومًا بضرورة أن يكون السلاح لأغراض سلميّة، ونقرأه هنا في صيغة مشابهة للصيغة التي قيلت في القدس: “… وإني أقدم لكم الآن مدفعًا بالنيابة عن الجيش البريطاني في الشرق الأوسط، وسوف لا يستعمل هذا المدفع بعد الآن للحرب، وعندما تسمعون طلقاته أن يفكر المؤمنون بالأشياء الروحانية بدلاً من ميدان المعركة”.

جريدة فلسطين. 7 حزيران 1947

في نابلس أيضًا تتكرر ذات الاجراءات، وكما في كل محفل، يبدأ خطاب القائد العام عادة بتعداد مآثر المدينة وأهميّتها، ثم يشدد على القضية المؤرقة لبريطانيا: “ان أعظم حرب عرفتها الانسانية قد انتهت، ولكنه لا يوجد جندي أو مدني أو شخص واحد يرغب في أن تعود هذه الحروب، ولذلك يسرني في هذا اليوم أن لا يرمي هذا المدفع الذي لي الشرف في اهدائه الى مدينة نابلس بمقذوفاته في الحرب بعد الآن، بل يبقى ملازماً أميناً لطقوسنا الروحية نحو اخواننا وليكن رمز العواطف، السلام والصداقة التي تقوم بين أمتينا”.
إن تركيز القائد البريطاني العام على السلاح مفهوم ضمن الرسائل السياسية، ليس فقط بسبب الإرث الطويل بين الفلسطينيين والبريطانيين بل بسبب استخدام المدفع ذاته أحيانًا لأغراض أخرى كما حدث في ثورة ال-36

جريدة الدفاع. 22 تموز 1936

رغم كل الخطابات والاحتياطات والتشديد على ضرورة استخدام المدافع لأغراض سلميّة وروحانيّة وليس لأغراض عسكريّة أو حربيّة إلا أنّ كل ذلك لن يجدي، حيث ستحمل الأطراف كلها السلاح، وستخوض حروبًا ومعارك، بعضها لا يزال مستمرًا حتى اليوم، لتخلق واقعًا جديدًا في المنطقة، واقع سيعيد تشكيل المجالات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة كلها في المنطقة.

 

كعبة القلب: الحج في التصوف الإسلامي

الرومي وابن عربي والمفهوم الصوفي الراديكالي للدين

رسم توضيحي للمسجد النبوي في المدينة المنورة (يسار) والمسجد الحرام في مكة المكرمة(يمين). من مخطوطة تركية عثمانية تعود للقرن الثامن عشر لكتاب الصلاة الصوفي- دلالة الخيرات، مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

بقلم: سام ثروب

في وقت ما في منتصف القرن التاسع الميلادي، انطلق متصوف يدعى بايزيد سيرًا على الأقدام من منزله في شمال وسط إيران باتجاه مكة المكرمة، ذلك بهدف أداء مناسك الحج إلى المدينة المقدسة – وهي رحلة تقارب 2500 كيلومتر. على طول الطريق، في كل بلدة وقرية مر بها، بحث بايزيد عن المتصوفين والأولياء المحليين، على أمل العثور على معلمه الحقيقي. أخيرًا، في بلدة غير معروفة، التقى بايزيد صوفيًا فقيرًا ضريرًا منحني الظهر مع تقدم العمر. سأله الحكيم عن مراده، فأخبره بايزيد أنه يهدف إلى أداء مناسك الحج.

“فقط طوف حولي سبع مرات بدلاً من ذلك ؛ أجاب الشيخ: هذا أفضل من الحج. وهكذا تكون قد أديّت كامل حجتك! ووصلت إلى نهاية رحلتك! لقد أديت الصفا، دخلت النقاء ؛ قد أديت العمرة. عش إلى الأبد!. لنقارن: إن الكعبة هي موطن التقوى، لكني تحتوي على أعمق غموضه. داخل الكعبة لم يخط أحد قط وقلبي النقي لا يقبله أحد إلا الله ؛ لما رأيتني رأيت الله أيضًا. ستضع دائرة حول الكعبة التي هي الصدق المطلق.

قصة الشيخ الذي قال لبايزيد ، "أنا الكعبة ، طوف حولي!" من القصيدة الصوفية لجلال الدين الرومي ، مثنوي مانائي. من مخطوطة عثمانية تعود للقرن السابع عشر. من مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
قصة الشيخ الذي قال لبايزيد ، “أنا الكعبة ، طوف حولي!” من القصيدة الصوفية لجلال الدين الرومي ، مثنوي مانائي. من مخطوطة عثمانية تعود للقرن السابع عشر. من مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

تبدو هذه القصة، المأخوذة من ملحمة جلال الدين الرومي الصوفية “مثنوي-يي مانعي” (التي تعني “المقاطع الروحية”، في ترجمة جويد مجددي الإنجليزية الحائزة على جوائز) محيرة للوهلة الأولى. بدلاً من أداء الحج في مكة، من المتوقع أن يؤدي كل مسلم قادر جسديًا وماديًا الحج مرة واحدة على الأقل، وهو واجب شعائري، يطلب الشيخ الغامض من بايزيد التخلي عن رحلته. فبدلاً من الطواف ، فإن الطواف حول الكعبة الذي هو سمة مركزية في الحج ، يقول الولي أن يطوف حوله؛ بدلاً من االسعي بين الصفا والمروة، يقول له الولي إنه قد أدى بالفعل واجبه الديني.

بالنسبة للمسلمين عبر التاريخ وحتى اليوم، كانت الرحلة إلى مكة هدفًا مدى الحياة، وكانت ذروة الإشباع الروحي، وكانت جغرافية المدينة المقدسة الصعبة مصدرًا ثابتًا للتأمل. هل الشيخ – ومن بعده الرومي – يدافعون عن الكفر؟

يكمن جزء من الإجابة في حقيقة أن بايزيد الذي ينسج الرومي حوله هذه الرواية – مجرد واحدة من آلاف القصص التي يتألف منها المثنوي- لا شيء يُعرف عنه سوى أنه بايزيد بسطامي (توفي 874 ميلادي) أحد أهم الرموز الصوفية المبكرة. في حين لا يُعرف سوى القليل عن حياة بايزيد ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنه كان منعزلاً ولم يترك وراءه أي عمل مكتوب، إلا أنه تم الحفاظ على أقواله الجريئة والممتعةـ إذ تعتمد شهرته على تلك الأقوال، التي يمكن أن تصدم القرّاء اليوم، مثل مفاهيم مسبقة عن الإسلام على أنها محافظة وصارمة، ومفاجئة مثل تعليمات الشيخ القديم في قصة الرومي. من بين أمور أخرى ، ورد أن بيازيد قال “المجد لي! ما أعظم جلالتي! ” وأن يقارن نفسه بالله ، ليعلن أن الكعبة تطوف به، ويستجيب لدعوة المؤذن للصلاة “الله أكبر!” بالإجابة “أنا أعظم!”.

رسم توضيحي لتجمع صوفي، من مخطوطة هندية من القرن السابع عشر للأعمال المجمعة للشاعر الفارسي خاقاني، مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

لم تكن تصريحات بايزيد علامة على الجنون أو الإلحاد العدمي. بدلاً من ذلك، سعى بايزيد للتعبير عن تجربة أن الوعي الفردي أصبح حقيقة لمحو قدسية الإله. بل حتى أن إنقلاب بايزيد على مركزية الكعبة، بيت الله الذي نزل من السماء والتي يتجه إليها المسلمون أثناء الصلاة، تجعل بيانه أكثر قوة. بدلاً من انتهاك الإسلام، فإن بايزيد والرومي من بعده يتخيلون تفسيرًا روحيًا بديلًا للدين، بناءً على المعرفة المتعالية والتحويلية للغيب: أي “جذور أصول الدين”. كما وصف الرومي المثنوي في مقدمة العمل. ومع ذلك ، لم يكن الأمر كذلك دائمًا أن مثل هذه التصريحات لم تكن لها تداعيات ؛ وقد تم إعدام منصور الحلاج (المتوفى عام 922) ، كما يعتقد بعض العلماء ، بسبب الإدلاء بهذه التصريحات.

يلعب الحج دورًا بارزًا مماثلًا في عمل مركزي آخر للتصوف الإسلامي. في عمل “الفتوح المكية” لإبن العربي. ولد ابن عربي (1165-1240) ، المعروف بالشيخ الأكبر ، في الأندلس (إسبانيا الحالية). هو كاتب صوفي غزير الإنتاج، شرع أداء نسك الحج عام 1201 ومكث في مكة لمدة ثلاث سنوات. وأثناء وجوده هناك، بدأ أشهر أعماله، وهي “الفتوح المكية”. تحتوي المجلدات السبعة والثلاثون من الكتاب المركب وعميق الطبقات على العديد من الرؤى العميقة؛ في الفصل الأول من الفصل الثاني والسبعين الكعبة “ترفع أذرعها” وتنهض من أساسها وتهدد ابن العربي وتحاول قطع طوافه. فكما أن الكعبة، المتخيلة كفتاة صغيرة ومخاطبتها “هي”، مستعدة للقفز. ينطق ابن عربي قصائد حبه حول الكعبة في ثماني رسائل حب للكعبة، جُمّعت في كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل.

اقرأ/ي أيضًا: عيد الأضحى: مخطوطات ومقتطفات من تاريخ العيد والحج وسكة الحجاز

الصفحة الافتتاحية لنسخة تعود إلى أواخر القرن السابع عشر من أوراد الأصبعة، وهي مجموعة من 14 صلاة تعبدية يومية كتبها الفيلسوف الصوفي والصوفي ابن عربي، مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

بالنسبة لابن عربي كما بالنسبة للمتصوفين الآخرين، فإن الكعبة والحج جزء من أيقونة. تُمثل مكة المكرمة البنية المادية فيها حيث تسكن الذات والله معًا؛ الرحلة إلى القلب الحقيقي تحل محل الرحلة إلى القلب المادي أي الكعبة. كما يكتب ابن عربي (في ترجمة ستيفن هيرتنشتاين):

اقرأ/ي أيضًا: من تاريخ التصوف: مخطوطات رقمية من تاريخ الصوفية في العالم الإسلامي

فلما خلق الله جسدك وضع فيه الكعبة التي هي قلبك. لقد جعل هيكل القلب هذا أشرف البيوت في شخص الإيمان. أخبرنا أن السماوات… والأرض التي فيها الكعبة لا تشمله بل محصورة عليه، ولكنه يحيط به هذا القلب في تكوين الإنسان المؤمن. والمقصود هنا بكلمة “شمول” هو معرفة الله (فتوحات الفصل 355).

ومع ذلك، فإن الكعبة الجسدية تتطلب الاحترام – كما تعلم ابن عربي بشكل مرعب – على وجه التحديد لأن مواجهة الكعبة وجهاً لوجه مع الذات: الذات الأكثر وضوحًا التي هي موضع مظهر من مظاهر الألوهيه. وطقوس الحج هي أداة لتحقيق هذا الوحي وجغرافية المدينة المقدسة خارطة تشير إليها.

رسم توضيحي للمسجد النبوي في المدينة المنورة (يسار) والمسجد الحرام في مكة المكرمة(يمين). من مخطوطة تركية عثمانية تعود للقرن الثامن عشر لكتاب الصلاة الصوفي- دلالة الخيرات، مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
رسم توضيحي للمسجد النبوي في المدينة المنورة (يسار) والمسجد الحرام في مكة المكرمة(يمين). من مخطوطة تركية عثمانية تعود للقرن الثامن عشر لكتاب الصلاة الصوفي- دلالة الخيرات، مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

لا شك أن المسلمين، على مر العصور، تصوروا مكة المكرمة كوسيلة للإلهام الروحي وانعكس ذلك على العديد من المخطوطات. ومن هنا، تحتوي مجموعة المكتبة الوطنية الإسرائيلية على العديد من نسخ المخطوطات؛ من ضمنها مجموعة تعود إلى القرن الخامس عشر للنبي محمد والمعروفة باسم “دليل الخيرات والشوارق الأنوار في الذكر على النبي المختار”، التي تعود إلى الصوفي محمد بن سليمان الجزولي (ت 1465 ميلادي).

تحتوي العديد من المخطوطات على رسمين توضيحيين: أحدهما لمكة ، بما في ذلك الكعبة والمواقع المقدسة الأخرى، والآخر من المدينة المنورة، موقع المسجد النبوي. أما الصور، فهي تعود إلى أوقات وأماكن مختلفة، وتعكس التنوع الزمني والثقافي للعالم الإسلامي. لكنهم في نفس الوقت يتحدثون عن رغبة مشتركة وموحدة: الاقتراب من الكعبة من أجل تجاوز الكعبة وبالتالي العثور على الذات الحقيقية.

هذا المقال جزءًا من مشروع مكتوب للمخطوطات الإسلامية الرقمية في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، بدعم من صندوق أركاديا، سيوفر مكتوب وصولًا مجانيًا وعالميًا لأكثر من 2500 مخطوطة وكتب عربية وفارسية وتركية نادرة محفوظة في المكتبة، كذلك القصص الكامنة وراء إنشائها.