ترتيل القرآن وتجويده – مواد تاريخيّة في المكتبة الوطنيّة

قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر. تعرّفوا إلى قصة المخطوطة في هذا المقال.

يا من يرومُ تلاوة القرآن    ويرودُ شأو أئمّة الإتقان

لا تحسب التّجويد مدًا مفرطًا    أو مدّ ما لا مدّ فيه لوان

أو أن تشدّد بعد مدّ همزة    أو أن تلوك الحرفَ كالسّكران

أو أن تفوه بهمزة متهوّعًا    فيفرّ سامعها من الغثيان

للحرف ميزانٌ فلا تك طاغيا   فيه ولا تكُ مُخسر الميزان

تفتتح هذه الأبيات قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر! والتّعليم بالشّعر طريقة معهودة في العلوم اللغويّة والدّينيّة باللّغة العربيّة فمنها ألفية ابن مالك الشّهيرة في علوم النّحو والصّرف والّتي تضمّ أكثر من ألف بيتٍ نظمها محمّد بن عبد الله الجياني في القرن الثّالث عشر للميلاد. والسّخاوي مقرئ مصريّ ومؤلّف في علم القراءات والتّجويد، تتلمذ على يد الإمام الشّاطبي وحظي بشهرة واسعة في بلاد الشّام وموطنه مصر، وترك عن خبرته قصيدة بسيطة، صغيرة ومكثّفة، يدور بها على الحروف والمسائل الهامّة من أحكام التّجويد، وبحسب شارحها شمسُ الدّين فإنها : “جامعة لما يحتاج إليه المبتدي والمنتهي وتفسير الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها وبيان قويّها وضعيفها ومناسبة بعضها لبعض ومباينة بعضها لبعض معينة على تجويد الالفاظ وكيفيّة النّطق وإعطاء كلّ ملفوظ حقّه”.

شرح عمدة المفيد وعدّة المجيد في علم التّجويد، مجموعة مخطوطات المكتبة الوطنيّة
شرح عمدة المفيد وعدّة المجيد في علم التّجويد، مجموعة مخطوطات المكتبة الوطنيّة

 

لا شكّ أن لعلوم القرآن على اختلافها مكانة عالية لدى المسلمين، فالقرآن الّذي تجلّى باللغّة العربيّة لينافس الشّعر الّذي اشتهر به العرب يؤكّد بآيات عديدة على مكانة اللغة منه، وعلى مكانة جماليّة اللّغة وبيانها، كما أن النّبي أحبّ الشّعر كذلك ولم ينهى عنه، ولذلك نجد تراثًا شعريًا هائلًا في مدح الّنبي وفي علوم الدّين الإسلاميّ واللّغة العربيّة عمومًا. ومن علوم القرآن علم القراءات الّذي يفصل بين اللهجات السّبع المتواترة لقراءة القرآن الكريم، وهو علمٌ مختلف عن علم التّجويد الّذي يركّز على مخارج الحروف وتواليها في اللّفظ والتّلاوة المحكمة، فهو علمٌ تقنيّ مضبوط يندر الاختلاف فيه.

أمّا التّرتيل فيختلف عن التّجويد، والّذي يُقصد به هو السّرعة في التّلاوة وأداؤها من حيث الصّوت والنّبرة والنّغم لا قواعدها في القراءة. وتقسّم مراتب التّرتيل إلى ثلاثة : التّحقيق والحدر والتّدوير، والتّحقيق هو الاسترسال في التّلاوة والبطء في الأداء دون المسّ بقواعد التّجويد، والحدر هو التّلاوة السّريعة، والتّدوير هو التّلاوة المتوسّطة السّرعة بين التّحقيق والحدر، وفي جميع هذه المراتب تُحفظ أحكام التّجويد وحقوق الحروف ولفظها.

وعلى أن الأمر يبدو غاية في البساطة والوضوح إلى أنّ التنوّع الّتي أضفته ثقافات الشّعوب الإسلاميّة إلى عالم التّجويد مليئ بالمفاجآت الّتي تفوق المراتب الثّلاثة المتعارف عليها. فهناك المقامات الموسيقيّة العربيّة الّتي يشتهر مقرئي مصر تحديدا بها، كما هناك التلاوة الجماعيّة في بلاد المغرب العربيّ، علاوة عن الأساليب الفرديّة لكلّ مقرئ وقدرته على التّمثيل الصّوتي للمعنى، وهذه القدرة تُستلهم بلا شكّ من الثّقافة السّمعية والموسيقيّة في عصره وموطنه بالإضافة إلى إبداعه الخاص، ولذلك فإن أنواع التّرتيل لا يمكن عدّها بالفعل.

نترككم من تسجيلين نوعيين من الأرشيف الصّوتي للمكتبة الوطنيّة، في الأوّل ترتيل مشرقيّ بالمقامات العربيّة لآيات من سورة الكهف عام 1937 في القدس بصوت الشّيخ محمّد إسماعيل، والثّاني لتلاوة جماعيّة سريعة من المغرب تتلوها تلاوة فرديّة بسرعة متوسّطة. اضغطوا على الصور.

 

 

من مرسية إلى دمشق: رحلة ابن عربي

خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس”.

روح القدس في مناصحة النفس

لمفهوم السّفر مكانة خاصّة في التّصوّف الإسلامي. يترك الإنسان كل ما هو مألوف وثابت ويمضي بجسده إلى المجهول، ويرجو من خلال هذا التزهّد أن تتكشّف له الحقائق عن الوجود وعن الخلق وعن نفسِه وأن يرتقي بروحه مع الله. كما أنّه اتّباع حرفيّ للعديد من الآيات القرآنيّة الّتي تحثّ على “السير في الأرض” والتأمّل بها، حتّى أن بعض المتصوّفة اعتبروا في ذلك اقتداء لسنّة الرّسول في هجرته واستلهامًا لسنوات شبابه حين كان يسافر في تجارته ويتأمّل وحيدًا. وعبر القرون شاع وصف الكثيرين ممّن سلكوا هذا المسعى بالـ “دراويش”؛ والدرويش من يطوف ويعبر المدن والمجتمعات ولا يمكث بها، لكنّه يترك بها ذكرى تزهّده وبساطته في الحياة.

سيرة ابن عربي رغم تفرّد فلسفته وإرثه الأدبي ليست استثناء أيضًا. فقد أمضى ابن عربي سنوات نضوجه كلّها في السّفر والكتابة. من مرسية الأندلسيّة الّتي وُلد فيها عام 1165م، بدأ ابن عربي مسيرته حين كان يتجوّل بين المدن الأندلسيّة وعلمائها ومن ثم في شمال إفريقيا وفلسطين ومن هناك إلى مكّة والعراق والأناضول إلى أن استقرّ في دمشق الّتي أحبّها بشكلٍ خاص، وتوفّي فيها عام 1240م. وعلى امتداد رحلته هذه، أنتج مئات المؤلّفات الّتي نجي منها الكثير الى اليوم، ونستطيع من خلالها اليوم جمع مشاهد ومحطات في حياته لنتخيّل مسارها بين مرسية ودمشق.

لم تكن نشأة ابن عربي تتنبأ بأن يكون من شيوخ الصّوفيّة، فقد وُلد لعائلة ميسورة في مرسية في الأندلس، حيث كان والده من رجال بلاط الحاكم في مرسية حينها وبقي كذلك حتّى فرّ مع عائلته هربًا من حكم الموحّدين إلى إشبيلية. وخلال تلك السّنين، تلقّى ابن عربي الصّبي تعليمًا متنوّعًا في مختلف علوم الدّين الإسلاميّ ودرس كافّة توجّهات شيوخ الأندلس في حينها. إلّا أنه لم يكن ميالًا في بادئ الأمر للتصّوف والزّهد، بل كان يشغل نفسه بالآداب ورحلات الصّيد الّتي رافقه بها خدم أبيه، كما نال وظيفة كاتب في بلاط حاكم إشبيلية وتزوّج. إلا أنّه في تلك السّنوات كانت دائمًا ما تراوده رؤى وتظهر له إشارات عديدة تدعوه لشيء لم يفهمه، ممّا سبّب له أزمة روحيّة لم يدر كيف يتعامل معها. ويرجّح بعض الباحثين أن وفاة أبيه كانت عاملٌ رئيسيّ بحسم تلك الأزمة واتّجاهه نحو “طريق الكشف”.

كانت قرى الأندلس ومدنها “المسرح الأول لتجوال ابن عربي” بوصف أسين بلاثيوس، أحد المستشرقين الّذين كتبوا سيرة ابن عربي، ففي إشبيلية تعلّم مختلف العلوم والآداب وتزوّج واطّلع على الطّرق الصّوفية، ومنها بدأ تجواله في الأندلس بين القرى والمدن ليتعلّم ويعلّم ويناقش مّما أذاع سيطه في الأندلس. حتّى أنّ ابن عربي يذكر أنّه في إحدى زياراته إلى قرطبة وحين كان لا يزال في أول شبابه، التقى بابن رشد وقد كان قاضي المدينة حينها، وقد استقبله بلهفة لما سمعه عنه وسأله إذا ما كان طريق “الكشف” قد أفضى به إلى ما وصل إليه طريق “النظر” أي طريق ابن رشد في الفلسفة والمنطق.

في ذلك الوقت كان يعلم ابن عربي أنّه سلك طريق “الروح”، وكان يبلغ قرابة الحادية والعشرين عامًا كما أشار في مؤّلفه العظيم “الفتوحات المكّية” لاحقًا. وهذه المكانة والشّهرة وضعته ككلّ رجل علم ذو سيط في ذلك الزّمان أمام تحدّي التّعامل مع السّلطة الّتي لم يرغب بالتّقرب منها. كما أنّه كان دائم الشّعور بأن عليه الابتعاد والسّفر، وهو الأمر الذّي شجّعته عليه الرؤى التّي كانت تشجّعه ليزور مكّة، وتعده بأنّ رفيقًا ينتظره في فاس.

خلال تنقلاته، مكث في مكّة ثلاث سنوات وهناك وصلت حكمته ومعرفته الرّوحيّة لأوجها وباتت رؤاه أكثر وضوحًا، فشرع بتأليف الفتوحات المكّية الّذي استمرّ في كتابته سنين طوال، ودوّن فيه يومياته الرّوحيّة كلّها، بالإضافة إلى قصائد الحب في ديوانه “ترجمان الأشواق”.

خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس” وقد أرسلها أثناء مكوثه في مكّة إلى أبي محمّد بن أبي بكر القرشيّ في تونس والّذي وصفه بالصّديق.

"روح القدس في مناصحة النّفس"
“روح القدس في مناصحة النّفس”

 

إلّا أنّه لاقى كذلك العداوة في الطريق، فكان هنالك من كفّره أو أنكر طريقه واتّهمه بالفساد أو حتّى حرّض عليه، أما المكان الّذي وجد به السّكينة واستقرّ فيه فهي مدينة دمشق، حيث كانت حاضرة علميّة هامّة في حينها، كما أنه وجد بها الاحترام والظّروف المناسبة ليقضي سنواته الأخيرة ليختتم كتابه “الفتوحات المكّية” ويضع مئات المؤلّفات الإضافيّة كذلك.

توفّي ابن عربي عام 1240م في دمشق ودُفن في الصّالحيّة حيث مقامه ومسجده إلى اليوم. وقيل على لسانه في السّفر :”المؤمن في سفرٍ دائم، والوجود كلّه سفرٌ في سفر”.

للاطلاع على كامل أعمال ابن عربي، تصفحوا بوابة ابن عربي المعرفية على موقع المكتبة. 

صلة آل التميمي بالصحابي تميم الدّاري: مخطوطة نادرة من الخليل

ومن قرأ هذه النّسخة يرى من العجايب كما رأى تميم الدّاري رضي الله عنه، إمام وخطيب الحرم الإبراهيمي والمتولي على أوقاف جدّه تميم الدّاري. للمزيد في المقال.

مخطوطة نسبة تميم الداري

ومن قرأ هذه النّسخة يرى من العجايب كما رأى تميم الدّاري رضي الله عنه.

هكذا افتتح عمر بن أحمد الحرتاني النّسبة الّتي كتبها إلى عبد المنعم التميمي، “إمام وخطيب الحرم الإبراهيمي في الخليل والمتولي على أوقاف جدّه تميم الدّاري” عام 1861. وهي النّسبة الّتي تُظهر اتّصال الإمام التّميميّ وأولاده وأولاد عمومته وأولادهم بالصّحابيّ تميم الدّاري الّذي أعطاه الرّسول منطقة الخليل وبيت عينون (شمال الخليل) والمرطوم (رامة الخليل) وبيت إبراهيم، وفقًا لروايات إسلاميّة عديدة.

وُجدت هذه المخطوطة في المكتبة الوطنيّة إلى جانب مخطوطات أخرى متّصلة بالخليل ضمن مجموعة المخطوطات النّادرة، ويبدو أنّها كُتبت بخطّين مختلفين؛ أحدهما يعود إلى كاتب المخطوطة الّذي أشار إلى نفسه في المقدّمة “الفقير إلى الله تعالى عمر ابن أحمد المرحوم الحرتاني المغربيّ أصلًا المالكي مذهبًا القادري البكري طريقةً القاطن في غزّة سيدنا هاشم سكنًا“، أما القسم الآخر فقد يكون بيد عبد المنعم التّميمي نفسه، إذ أشار إلى نفسه في موضعٍ آخر من الكتاب.

فيبدأ كاتب النّسبة بعرض هذه المكانة العالية مباشرة قبل المقدّمات والتّمهيدات؛ فيضع بين يدي القارئ وصيّة يخصّ الرّسول بها الصّحابيّ تميم الدّاري بهبة؛ وهي أرض الخليل وبعض البلدات المجاورة له ولأولاده من بعده.

 هبة الرّسول كما تظهر في الصّفحة الأولى من المخطوطة، مجموعة المخطوطات النّادرة، المكتبة الوطنية
هبة الرّسول كما تظهر في الصّفحة الأولى من المخطوطة، مجموعة المخطوطات النّادرة، المكتبة الوطنية

هذا ما أنطى محمّد رسول الله لتميم الدّاري وأصحابه: إنّي أنطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطيّة بتّ ونفذت وسلمت، ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الآبدين فمن آذاهم فيه آذاه الله. شهد بذلك أبو بكر ابن أبي قحافة وعمر ابن الخطّاب وعثمان ابن عفّان وعليّ ابن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان“.

فيما بعد، يبدأ الكاتب بافتتاحيّة النّسبة الّتي يقوم بكتابتها، وكما يتطلّب أي نوعٌ من الكتابة مقدّمة خاصّة به فالنّسبة كذلك تتطلّب تقديم مناسب يشمل اسم كاتب النّسبة ومكانه وزمانه، واسم الرّجل الّذي يكتبها له، ومبتدأ النّسبة وآخرها، أي من الرّجل الّذي سيبدأ من عنده ومن الرّجل الّذي سينتهي عنده.

بعد افتتاحيّة من صفحتين تبدأ المقدّمة الطّويلة المعهودة في الأدب العربيّ، حيث الصّلاة والسّلام والقصّة القصيرة ذات العبرة والأقوال المأثورة، وهي عوامل قد تبدو لأوّل وهلة غير متّصلة لموضوع الكتاب الّذي نحن بصدد قراءته، إلّا انّنا إذا تمعنّا بتلك القصص والأقوال الّتي يختارها الكاتب لوجدنا أنّه يختارها بعناية للتأكيد على قيمٍ مرتبطة بالموضوع المتناول، أو أنّه يضع فيها نظرته للموضوع المتناول دون أن يصرّح بها بشكلٍ مباشرٍ في متن النّص، وقد يفعل ذلك في خاتمته أيضًا. وكذلك هو الحال في مقدّمة هذه النّسبة الّتي تناول بها الكاتب قصّة اقتتال قابيل وهابيل، حين قتل الأخ أخاه حسدًا.

بعد هذه المقدّمة الأدبيّة ينتقل كاتب النّسبة إلى متن النّص فيكتب “أمّا بعد” بالأحمر مؤشّرًا إلى بداية متن النّسبة. فيبدأ بذكر المصادر الّتي اعتمدها في عمله وهدفه من كتابتها.

بداية متن النّسبة من المخطوطة
بداية متن النّسبة من المخطوطة

 

لتصفّح المخطوطة كاملة

فيقول: “هذه نسبةُ شريفة متّصلة بتميم الداري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، نُقلت من كتاب الأنساب الّذي جمعه الفاضل حاوي المزايا والفضائل الأصمعي ومن كتب التّواريخ الواردة عن العيني وابن خلكان كالواقدي والبكري وما جاء من كلام أهل الفصاحة والبلاغة، لأن هذا الكتاب عندي مخلّف عن الآباء والأجداد وفيه جميع النبذات من الصّحابة والتّابعين والملوك والسّلاطين من تبع الحميري إلى الآن“.

وهكذا يبدأ الكاتب بالنّسبة من عند “الملك خزرج” وبحسب المخطوطة فهو الجد الأوّل للسلالة الّتي انحدر منها الصّحابيّ تميم الدّاري، وفي ذكر فضائله وأخباره تروي المخطوطة أن الملك خزرج هو المقصود بذي القرنين الوارد ذكره في سورة الكهف، ومن إحدى التّفسيرات الّتي أوردها كاتب النّسبة أنه “ملك قرنيّ الدّنيا مشرقًا ومغربًا” وأنه عاش في قصرٍ قرب نهرٍ مبارك، يشفى بمائة كلّ عليل وأنه كان كريمًا شجاعًا ومغوارًا، وأنّه آمن بنبوءة إبراهيم.

وانطلاقًا من الملك خزرج إلى أولاده التّسعة عشر، يروي الكاتب ما تيسّر له من أخبار عنهم، فالنّسبة هنا لا تهتمّ بصلة الدّم فحسب، بل تروي قصص هؤلاء الرّجال وأحيانًا مواطن زوجاتهم وما رُوي عنهم من طُرف وعجائب، فتعتبر، هنا، نوعًا أدبيّا من الكتابة بامتياز، يدمج ما بين الواقعيّة والخيال والأسطورة.

فمثلًا، ومع تقدّم القصّة، أجيال عديدة يصل كاتب النّسبة إلى الشّيخ أحمد والد الشّيخ عبد الرّحمن أفندي، وزمانهما غير واضح، فيحكي قصّة زيارة الشّيخ أحمد إلى الحرم الإبراهيميّ حيث قابل “رجلًا من أكابر دولة ذلك الزّمان” ورافقه بدخول الغار حيث يرقد الأنبياء. “فطلب منهم أن يفتحوا باب الغار الشّريف فنزلوا جميعًا حتى وصلوا إلى المحل الّذي فيه أعضاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وإذا بقاطع فيه حضرة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ملقًا على ظهره ومدرج في ديباج أخضر قد بدا وشيبته الشريفة مفروقة فرقتين من النسيم الذي ريحته كالمسك الأوفر ثم ذهبوا وإذا بقاطع فيه سيدنا إسحاق عليه الصلاة والسلام فوجدوه كذلك ثم ذهبوا كذلك إلى محل آخر وإذا فيه سيدنا يعقوب عليه السلام ثم ذهبوا إلى محل آخر وإذا بصوت قايل الحريم يرحمكم الله تعالى فخرجوا جميعًا وقد رأوا جميع الأكفان وأثره فطلعوا من الغار الشريف بعد الزيارة ورؤيتهم ما قد رأوا وشاهدوا فعند ذلك صنع لهم أكفانًا ووضعهم على أجسادهم كما كانوا موضوعين سابقًا وبنوا عليهم بنيانًا خوفًا لا أحد يجسر عليهم فطوبا لهم“.

قصة دخول الغار عند الحرم الإبراهيمي.
قصة دخول الغار عند الحرم الإبراهيمي.

وفي المراحل المتقدّمة يبدأ التّركيز حول سلالة تميم الدّاري في الخليل ونابلس، ويختتم الكاتب النّسبة ببعض من شيوخ طائفة الخطباء التميميّين في الخليل، أولادهم وأولاد عمومتهم، ويختتم كتابه بآيتين من سورة المؤمنون “فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ – فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ“.

نسخة عن صحيح البخاري كُتبت في الحرم الإبراهيميّ في الخليل، 1739.
نسخة عن صحيح البخاري كُتبت في الحرم الإبراهيميّ في الخليل، 1739.

كتبت مخطوطة صحيح البخاري قبل مخطوطة النّسبة بمائة عام، ويظهر في آخرها اسم ناسخها؛ إمام الحرم الإبراهيمي حينها الشّيخ محمّد بن يوسف التّميمي، وقد ورد ذكره في مخطوطة النّسبة أيضًا.

لتصفح بوابة مدينة الخليل حيث العديد من المخطوطات المتاحة والمواد المنوّعة.

الظاهر بيبرس والرواية الشامية

المخطوطة النادرة "سيرة الظاهر بيبرس": مادة قيمة وملفتة توثق سيرة الظاهر بيبرس من سيرته كما رواها الحكواتيين وكما أراد الناس سماعها؛ قصة أسطورية مليئة بالتشويق والمبالغات اللطيفة

تشكل المخطوطة النادرة “سيرة الظاهر بيبرس” والمحفوظة في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية في القدس مادة قيمة وملفتة، فهي لا توثق سيرة الظاهر بيبرس كما جاءت على لسان المؤرخين والكتاب، بل توثق جانباً من سيرته كما رواها الحكواتيين وكما أراد الناس سماعها: قصة أسطورية مليئة بالتشويق والمبالغات اللطيفة. ولكي تكون كذلك كان على الحكواتيين كتابتها بلغة الناس، ولذلك فالمخطوطة أدناه هي من المخطوطات القليلة التي كتبت باللغة العامية والتي توفر مادة غنية ومميزة حول الظاهر بيبرس وحول اللغة العامية التي استخدمت لسرد قصته.

                                                                                                                                           لقراءة المخطوطة

لا شك أن الظاهر بيبرس (1223 – 1277) قد شكل أسطورة في بلاد الشام تداولها الناس لعشرات السنين، حول شخصيته حيكت الأساطير وكتبت القصص والروايات، ووصل الكثير منها حد المعجزات. كان الظاهر بيبرس قد ذاع سيطه بعد سيرة عسكرية مليئة بالنجاحات. وربما يكون أحد أشهر الحكام المسلمين بعد صلاح الدين الأيوبي، حيث قارن الناس بينهما دوماً فهو أيضاً قاتل الصليبين، وهو من أدار معركة عين جالوت القريبة من بيسان عام 1260 تحت قيادة سيف الدين قطر، حيث استطاع تحقيق انتصار ساحق على المغول وكان القائد الذي استطاع اخضاع الصليبيين وإخراجهم تماماً من البلاد لتصير عين جالوت ومعارك بيبرس الأخرى رمزًا للفرج والخلاص في الخيال الإسلامي.

 

أفعال الظاهر بيبرس وشخصيته شكلت مادة مهمة للباحثين والمؤرخين والكتاب على مر التاريخ، لكن قصته كانت مهمة أيضاً للناس أنفسهم والذين رأوا به شخصية بطولية حررتهم وأنقذتهم لذلك فالناس أيضاً تداولوا قصته وحولوه إلى بطل شعبي، لكن القصة في أفواه الناس ولغتهم مختلفة دوماً، فالأحداث الكبرى مُلك المؤرخين أما التفاصيل فهي ملكها تضيف إليها وتغيرها وتبدلها، بهذا الأسلوب التقط الحكواتيون هذه الحكايات وحولوها إلى قصص جميلة أضافوا إليها اللغة الشعرية، والموسيقى الصوتية مع أسلوب تمثيلي وتشويقي مميز مع استخدام العصا (عصا الحكواتي) والملابس المزركشة التي يلبسونها لإضفاء نوع من الواقعية.


                                       أبيات شعر من مخطوط “سيرة الظاهر بيبرس” لقراءة المخطوطة

الجزء هذا من سيرة الظاهر بيبرس يوثق  قصة مهاجمة المماليك في فترة الظاهر بيبرس، وفتح مدينة سيس عاصمة مملكة أرمينيا الصغرى على يدهم وتشمل بطولات الظاهر بيبرس وصديقه جمال الدين شيحة  المقاتل المملوكي الشهير. وهي جزء من الروايات الشعبية، ولكل منطقة روايتها الخاصة فهناك “سيرة الظاهر بيبرس – الرواية الشامية” وهناك “الرواية المصرية” وربما تكون هذه المخطوطة هي جزء من “الرواية الفلسطينية”.

بغض النظر عن منشأ القصة هذه، لكنها تظل جزءاً من الثقافة الشعبية لسكان المنطقة، تداخل فيها الواقعي مع الخيالي والتاريخية مع الأسطوري.  بحيث بات من الصعب التمييز بين الحقيقي والخيالي وهو ما دفع الكثير من المؤرخين إلى إعادة كتابة سيرة الظاهر بيبرس لتبيان الحقيقة لهم، كمحاولة المربي ضياء الدين الخطيب والذي حاول في مقالته “الملك الظاهر بيبرس” والتي نشرتها في مجلة الكلية العربية عام 1934 توضح السيرة الحقيقية لبيبرس كي لا تختلط على الناس.

 

 

الخطيب، ضياء الدين. الملك الظاهر بيبرس. مجلة الكلية العربية، العدد الثاني، 28 شباط 1934. ص 132
الخطيب، ضياء الدين. الملك الظاهر بيبرس. مجلة الكلية العربية، العدد الثاني، 28 شباط 1934. ص 132

 

لقراء المجلة كاملة

سيرة الظاهر بيبرس وتفاصيلها لا تزال حتى اليوم تشكل جزءاً من ثقافة بلاد الشام، بعض هذه القصص حقيقية وبعضها قد لا نعرف يوماً مدى مصداقيتها، لكن آثار المباني والعمارة التي أنشأها تظل حقيقة تاريخية لا يمكن التشكيك بها مثل قلعة ومسجد صفد، إضافة لقلعة النمرود الذي أعاد بناءها وأضاف إليها جسراً ومنارة وجامع، ومقام النبي موسى على طريق القدس، إضافة لـ “خان الظاهر” في القدس والذي لم يعد موجوداً اليوم ولكن الفهود التي زينته، نقلت أثناء ترميم السور لتعتلي القسم العلوي من باب الأسباط حيث لا تزال تعتلي باب المدينة حتى يومنا هذا وهذه الأسود هي شعار حكم بيبرس نظراً لاسمه (بي – برس) وبرس تعني الفهد.

باب الأسباط، بداية القرن العشرين، أرشيف تروتر ريد. المكتبة الوطنية الاسرائيلية
باب الأسباط، بداية القرن العشرين، أرشيف تروتر ريد. المكتبة الوطنية الاسرائيلية

 

الصور الكثير المحفوظة في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية توثق جانباً مهماً من عمائر الظاهر بيبرس في البلاد ومرجعاً تاريخياً إضافياً لدراسة حقبته، كإحدى الشخصيات التاريخية التي تركت أثراً ملحوظاً في البلاد، كما تزخر المكتبة بعشرات الكتب والمخطوطات التي تضيء جوانباً مختلفة من حقبته ومن شخصيته، إن قراءة جديدة لتاريخ الظاهر بيبرس “التاريخي”، وقراءته كما جاء على لسان الناس من خلال المخطوطة أعلاه معاً يشكل مدخلاً مهماً لفهم التحولات والبناء الشعبي للقصة التاريخية وهي مهمة تستحق البحث والتفكير، ولكن تظل المخطوطة المذكورة مرجعاً ملفتاً ومهماً يستحق البحث.