يا من يرومُ تلاوة القرآن ويرودُ شأو أئمّة الإتقان
لا تحسب التّجويد مدًا مفرطًا أو مدّ ما لا مدّ فيه لوان
أو أن تشدّد بعد مدّ همزة أو أن تلوك الحرفَ كالسّكران
أو أن تفوه بهمزة متهوّعًا فيفرّ سامعها من الغثيان
للحرف ميزانٌ فلا تك طاغيا فيه ولا تكُ مُخسر الميزان
تفتتح هذه الأبيات قصيدة نظمها علم الدّين ابو الحسن عليّ بن محمّد السّخاوي (1162-1245م)، يلخّص بها أحكام تجويد القرآن في أربع وستّين بيتًا من الشّعر! والتّعليم بالشّعر طريقة معهودة في العلوم اللغويّة والدّينيّة باللّغة العربيّة فمنها ألفية ابن مالك الشّهيرة في علوم النّحو والصّرف والّتي تضمّ أكثر من ألف بيتٍ نظمها محمّد بن عبد الله الجياني في القرن الثّالث عشر للميلاد. والسّخاوي مقرئ مصريّ ومؤلّف في علم القراءات والتّجويد، تتلمذ على يد الإمام الشّاطبي وحظي بشهرة واسعة في بلاد الشّام وموطنه مصر، وترك عن خبرته قصيدة بسيطة، صغيرة ومكثّفة، يدور بها على الحروف والمسائل الهامّة من أحكام التّجويد، وبحسب شارحها شمسُ الدّين فإنها : “جامعة لما يحتاج إليه المبتدي والمنتهي وتفسير الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها وبيان قويّها وضعيفها ومناسبة بعضها لبعض ومباينة بعضها لبعض معينة على تجويد الالفاظ وكيفيّة النّطق وإعطاء كلّ ملفوظ حقّه”.
لا شكّ أن لعلوم القرآن على اختلافها مكانة عالية لدى المسلمين، فالقرآن الّذي تجلّى باللغّة العربيّة لينافس الشّعر الّذي اشتهر به العرب يؤكّد بآيات عديدة على مكانة اللغة منه، وعلى مكانة جماليّة اللّغة وبيانها، كما أن النّبي أحبّ الشّعر كذلك ولم ينهى عنه، ولذلك نجد تراثًا شعريًا هائلًا في مدح الّنبي وفي علوم الدّين الإسلاميّ واللّغة العربيّة عمومًا. ومن علوم القرآن علم القراءات الّذي يفصل بين اللهجات السّبع المتواترة لقراءة القرآن الكريم، وهو علمٌ مختلف عن علم التّجويد الّذي يركّز على مخارج الحروف وتواليها في اللّفظ والتّلاوة المحكمة، فهو علمٌ تقنيّ مضبوط يندر الاختلاف فيه.
أمّا التّرتيل فيختلف عن التّجويد، والّذي يُقصد به هو السّرعة في التّلاوة وأداؤها من حيث الصّوت والنّبرة والنّغم لا قواعدها في القراءة. وتقسّم مراتب التّرتيل إلى ثلاثة : التّحقيق والحدر والتّدوير، والتّحقيق هو الاسترسال في التّلاوة والبطء في الأداء دون المسّ بقواعد التّجويد، والحدر هو التّلاوة السّريعة، والتّدوير هو التّلاوة المتوسّطة السّرعة بين التّحقيق والحدر، وفي جميع هذه المراتب تُحفظ أحكام التّجويد وحقوق الحروف ولفظها.
وعلى أن الأمر يبدو غاية في البساطة والوضوح إلى أنّ التنوّع الّتي أضفته ثقافات الشّعوب الإسلاميّة إلى عالم التّجويد مليئ بالمفاجآت الّتي تفوق المراتب الثّلاثة المتعارف عليها. فهناك المقامات الموسيقيّة العربيّة الّتي يشتهر مقرئي مصر تحديدا بها، كما هناك التلاوة الجماعيّة في بلاد المغرب العربيّ، علاوة عن الأساليب الفرديّة لكلّ مقرئ وقدرته على التّمثيل الصّوتي للمعنى، وهذه القدرة تُستلهم بلا شكّ من الثّقافة السّمعية والموسيقيّة في عصره وموطنه بالإضافة إلى إبداعه الخاص، ولذلك فإن أنواع التّرتيل لا يمكن عدّها بالفعل.
نترككم من تسجيلين نوعيين من الأرشيف الصّوتي للمكتبة الوطنيّة، في الأوّل ترتيل مشرقيّ بالمقامات العربيّة لآيات من سورة الكهف عام 1937 في القدس بصوت الشّيخ محمّد إسماعيل، والثّاني لتلاوة جماعيّة سريعة من المغرب تتلوها تلاوة فرديّة بسرعة متوسّطة. اضغطوا على الصور.