في واحدة من المقابلات النادرة التي قامت بإجرائها مجلة الذخيرة الفلسطينية عام 1946 مع الموسيقار رياض البندك، كانت إحدى الأسئلة هل يوجد في فلسطين نهضة فنية قومية، فكانت الإجابة بأنه توجد في فلسطين نهضة فنية قومية لكن لا توجد في فلسطين معاهد موسيقية ومع الأسف لا تهتم إدارة المعارف في إدخال الموسيقى في منهاج التعليم. بهذه المقابلة تتكشف لنا ملامح شخصية رياض البندك، الشخصية التي تلقى بالًا على مجتمعها وتطوره في جانب مهم وغير مسلط الضوء على أهميته؛ التربية الموسيقية وسبل صقلها وتطورها في المجتمع الفلسطيني. فمن هو رياض البندك يا ترى؟
للاطلاع على كامل المقابلة اضغطوا هنا
من المعروف لدى الغالبية من الناس أن أغلب القوالب الغنائية العربية كان يتم إعدادها في عواصم عربية عدة، خاصة في بيروت والقاهرة. لكن الذي لا يعرفه الكثيرون حول مساهمة شخصيات فلسطينية فنية وموسيقية في إنشاء تلك القوالب الغنائية والموسيقية العربية. ومن تلك الشخصيات كانت شخصية رياض عيسى البندك التي ساهمت بشكل كبير في مجال التلحين الموسيقي لأشهر المغنين العرب أمثال وديع الصافي وفايزة أحمد. وعلى الرغم من حجم الإنجازات الكبيرة التي قام بها رياض البندك إلا أنه بقي وراء الظلال حبيس معرفة الأوساط الفنية دون التعرض لضوء الشهرة والشعبية بين أوساط عامة الناس. لذلك ومن أجل التعرف على تلك الشخصية الاستثنائية يستعرض هذا المقال بعض من محطات حياة رياض البندك خاصة الفنية منها.
في حياة رياض البندك بدأت المحطة الأولى في بيت لحم، إذ أنها المدينة التي تسكنها عائلته كما كانت محل أشغالها وأعمالها، فوالده هو السيد عيسى البندك صاحب جريدة الشعب والذي كان أيضُا رئيس بلدية بيت لحم. كما أنها ذات المدينة التي وُلد فيها رياض عام 1926 وترعرع فيها حتى مرحلة الشباب. أما اللمسات الفنية الأولى في شخصية رياض بدأت أيضًا من بيت لحم من خلال معلمه الملحن المشهور “يوسف بتروني” في كلية تراسانطة. فأخذت شخصيته بالنمو حتى بدأت أبواب العواصم العربية تفتح أمامه والتي كانت أولها أبواب العاصمة المصرية القاهرة عام 1946 عندما قام بتلحين أول أغنية له وهي بعنوان “تحية عرب فلسطين إلى أرض الكنانة”. هنا كانت البداية التي تعثرت مع الاضطرابات السياسية التي عصفت بالبلاد، والتي أجبرته على التوجه نحو المحطة الثانية وهي العاصمة السورية دمشق وكانت بعد ذلك مرقده الأخير أيضًا، إذ توجه إليها وقد أشرف هناك على القسم الموسيقي في إذاعة دمشق وقد كان فيها ثلة من خيرة العازفين أمثال عازف القانون إبراهيم عبد العال وميشيل عوض على الكمنجة هو وفريد السلفيتين كما أنه التقى في دمشق الفنانة فايزة أحمد (سيكون لهما باع طويل من المسيرة الفنية من خلال تلحين رياض لأغانيها). أما موهبته الفنية فقد اتجهت أكثر نحو التلحين أكثر من الغناء وهذا ما دعاه بالتوجه نحو بيروت ليقوم بتلحين لحن “عروس الأندلس” لفرقة الأوركسترا التي أسسها بذاته والتي تتبع الإذاعة اللبنانية في بيروت وهو الذي نظم القسم الموسيقي فيها.
خلال سنوات الخمسينيات أصبح نجم رياض البندك يأخذ بالسطوع خاصة مع مشاركته في تأسيس إذاعة صوت العرب في القاهرة عام 1953 ومن ثم في تلحينه للعديد من الأغاني الوطنية مثل “هلموا شباب العرب” وأنشودة الوحدة العربية. فكما دمشق كانت القاهرة من المحطات المفصلية في حياته، إذ شكلت له منبرًا يتوجه من خلاله إلى العديد من البلاد العربية مثل توجهه للشعب الجزائري في بداية ثورته بأنشودة عنوانها “لتحيا الجزائر وشعب الجزائر”. عايش رياض تلك الفترة بمزيد من الأناشيد القومية والحماسية حتى أنه استرجع من خلالها الخط القومي الذي أخذه والده في السياسة قبل عام 1948، خاصة أن الأحداث السياسية في تلك الفترة وما بعدها، سواء بتجسدها بالوحدة السورية المصرية 1958 ومن ثم فشلها، أو تلحينه لأغنية “يا عيني عالصبر يا عيني عليه” التي غناها وديع الصافي والتي لا تزال تُطرب لها الآذان حتى يومنا هذا.
لم يلتزم رياض في خط فني يتصف بالجمود، بل على العكس من ذلك كان يتصف بالمرونة في ذلك، فبرع في التأليف الأغاني والأناشيد كما في موهبة التلحين. وقد كان من أهم أعماله الفنية التي وضع فيها أكبر قدر من خبرته الفنية سيمفونية “من تشرين إلى فلسطين” التي بدأ بكتابة افتتاحيتها عام 1976 وانتهى منها في العام 1989.
بيت لحم، القاهرة، بيروت، دمشق، هذه كانت أبرز محطات حياة الفنان والملحن رياض البندك الذي توفي في العام 1996 عن عمر يناهز السبعين عامًا قضى أغلبها في تطوير مواهبه الفنية من خلال أعماله التي بدأها منذ سن مبكرة. ومن الصحة القول أن رياض كان من الموسيقيين الفلسطينيين الذي امتد إرثهم الفني للعديد من البلاد العربية بعيدًا عن طلب الشهرة الفظة، فاختار شهرة الموسيقى من وراء الظلال.
للمزيد حول شخصية رياض البندك تصفحوا عددًا من الكتب حوله والتي هي موجودة في المكتبة الوطنية مثل كتاب “أعلام فلسطين” وغيره من المصادر الأخرى.