في مطلع القرن الرابع عشر، نشر الفقيه أبو اسحق إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الفركاح الفرازي (1262-1329) كتابه الذي ترون تحت عنوان “باعث النفوس في زيارة القدس المحروس” والذي يعدّ أحد الكتب المهمة حول القدس ومكانتها في الفكر التراث الإسلامي، وهو من الكتب التي سعت إلى حثّ المسلمين على زيارة ولذلك حمل عنوان “باعث النفوس”، فالهدف أن يبعث في نفس القارئ رغبة الزيارة.
جاء هذا النوع من الكتابة مرافقاً ومواكباً للحملات الصليبية واحتلالها للمدن الإسلامية، فنشأ هذا النوع الأدبي تحت عنوان “أدب فضائل القدس”. وأدب الفضائل هو الأدب الذي يركز على فضائل المدينة المقدسة، والذي يهتم بإدراج الأحاديث النبوية والقيمة المميزة للمدينة كما ورد في الفقه الإسلامي، كما يهتم أدب الفضائل بتفصيل قدسية الأماكن والمواقع، بما فيها المساجد والمواقع والمقامات والمزارات، كما يهتم بالحثّ على زيارة المدينة وعلى مقدار الخير في ذلك وفي فضل وقيمة كل خير يتم فيها. وبالتالي فالهدف العام لأدب الفضائل كما يتجلى هو تعزيز العلاقة بين المسلمين وبين القدس لاجل التواجد فيها وحمايتها.
شكلت مدينة القدس مركزاً لأدب الفضائل وستكون هناك مدنٌ أخرى ستحظى بذلك أيضاً كمكة والمدينة والخليل وغيرهم، ولكن الكتب حول القدس كانت أكثر عدداً وأكثر زخماً على خلاف المدن الأخرى، ربما لمكانة القدس ولكونها أيضاً محطّ أمل الصليبيين ومركزاً للصراع بينهم وبين المسلمين؛ حيثُ دارت الحروب حولها لأكثر من ثلاثة قرون ورضخت المدينة خلالها لسيطرة الحكم الصليبي لمدة سبعة عقود، وبالتالي تطوّرت خلال هذه السنين أدبيات مميزة وملفتة أنتجها كبار علماء المسلمين مثل ابن عساكر (1106-1176) في كتابه “المستقصى في فضائل المسجد الأقصى” أو كتاب أمين الدين بن هبة الله الشافعي “كتاب الأنس في فضائل القدس” وابن الجوزي (1116-1201) “فضائل القدس”.
هدفت هذه المؤلفات إلى تثبيت مركزية القدس في الوعي الإسلامي وإلى خلق إجماع إسلامي حول أهميتها وتعزيز العلاقة بين المسلمين وبين المدينة، في مسعى لتوطيد العلاقة وحثهم على الدفاع عنها وحمايتها، وهو ما حدث في حقبة القائد صلاح الدين الأيوبي وفي حقبة الظاهر بيبرس، وفي حقب مختلفة على مر التاريخ.
موضوعات الكتاب كما وردت في المخطوطة
إنّ كمية الكتب والمؤلفات الذي كتبت في هذا الإطار، تعكس كم الجهد المبذول، سحرت هذه الكتب أجيالاً من المسلمين والعرب ليس للدفاع عن المدينة فحسب، بل إلى زيارتها والكتابة عنها وهو ما يُدرج اليوم تحت عنوان “أدب الرحلات” حيث كتب في هذا النوع الأدبي حول القدس الكثير من الرحالة المسلمين المهمين من بينهم المؤرخ ناصر خسرو (1004-1088)، الجغرافي الإدريسي (1100-1165)، الرحالة ابن جبير (1145-1217)، الشيخ الأكبر ابن عربي (1165-1240)، والرحالة ابن بطوطة (1304-1377)، والفقيه عبد الغني النابلسي (1641-1731) وغيرهم.
سيكون أضخم عمل كتب في هذا الباب هو مؤلف قاضي القضاة عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي والذي عاش في أواسط القرن الخامس عشر (ولد غلم 860 هجري، 1455 ميلادي) وقد لخّص تقريباً كل ما كتب عن القدس خلال مئات السنين، من كتابات الرحّالة والمؤرخين وحتى كتابات العلماء والفقهاء، حيث لخّص كل ذلك في عمله الموسوعي “الأنس الجليل، في تاريخ القدس والخليل” واعتبر، لسنين طويلة، خلاصة ما كتب في تاريخ القدس على مر التاريخ قاطبة.
يقول العليمي في مطلع كتابه: “فإن بعض العلماء كتب شيئاً يتعلق بالفضاء فقط، وبعضهم تعرّض لذكر الفتح العمري وعمارة بني أمية، وبعضهم ذكر الفتح الصلاحي، واقتصر عليه ولم يذكر ما وقع بعده، وبعضهم كتب تاريخاً تعرض فيه لذكر بعض جماعة من أعيان بيت المقدس مما ليس فيه فائدة كبيرة، فأحببت أن أجمع بين ذكر البناء والفضائل والفتوحات وتراجم الأعيان، وذكر بعض الحوادث المشهورة ليكون تاريخاً كاملاً والله سبحانه وتعال المسؤول، وهو المأمول أن يمنّ عليّ بتيسير إتمام”
منّ الله على العليمي والمعروف باسم مجير الدين الحنبلي بإتمام كتابه والذي ظهر إلى النور حوالي عام 900 هجري (1495 ميلادي) بأكثر من 1000 صفحة تقريباً من القطع المتوسط ليكون بذلك من أحد الأعمال الجامعة والضخمة حول القدس والخليل، والذي يظل حتى اليوم شاهداً على تطوّر أدب الفضائل وعلى التطورات التي شهدها حقل الكتابة في فضائل بيت المقدس والتي من الصعب دراستها دون العودة إلى الكتابين: باعث النفوس في زيارة القدس المحروس، والأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل.