عاش الأول من أيار؛ عيد العمال الأحرار

تسلط هذه المقالة الضوء على أوضاع وحال يوم العمال في القرن الماضي بالاستعانة بمواد من أرشيف جرايد ومجموعة ملصقات المكتبة.

تحتفل معظم دول العالم في الأول من أيّار بيوم العمال العالمي، وقد شاءت الأقدار أن تكون الأعياد أو بعض الأيام السنوية لأكثر الأفراد أو الجماعات حاجةً للتقدير والاهتمام الدائم، كالأم، المرأة، وذوي الاحتياجات الخاصة، الطفل، الأب (في بعض الدول)، والعمّال، بل وحتى الأرض. ولأن العامل قد يكون جزءًا من كل ما ذُكر سابقًا، لا بد من تسليط الضوء على قضاياه وأهميته في بناء منظومات الدول الاقتصادية على المستويات المحلية والعالمية. ولا بد من التأكيد على أنّ يوم العمّال ليس فقط للتقدير، بل هو كذلك دعوة لكافة العمال للمطالبة بحقوقهم، دعمهم المادي والمعنوي، والتأكيد على نضالهم في النهوض لتحسين الأوضاع والأحوال الاقتصادية بل والاجتماعية والأكاديمية في أحوال أخرى.

في البلاد، كان وربما لا تزال هنالك نكهة خاصة ليوم العمال، ففيه تنطلق الدعوات لمحاربة الرأسمالية المتجذرة في القطاعات الخاصة والعامة والتي تستهدف طاقات وذوات العمال. في ظل الانتداب البريطاني والفترة اللاحقة، رصدت الصحف الفلسطينية دعوات العمال العرب لمناهضة كل القوى التي وقفت أمامهم: ولقد وددنا في هذا المقال تسليط الضوء على بعض الأخبار والأحداث والدعوات الجماهيرية في يوم العمّال.

صحيفة فلسطين: 05 أيّار 1931
صحيفة فلسطين: 05 أيّار 1931

في خبر بسيط في الصفحة السادسة لصحيفة فلسطين بعد أربعة أيّام من عيد العمّال، وكان الخبر أنّ عيد العمّال مرّ على المدن الفلسطينية دون احتجاجات أو صراعات مع السلطات الانتدابية، كذلك أكّد الخبر أن العمّال اليهود لم يفتعلوا المشاكل في هذا اليوم. في ذات الصفحة وتحت هذا الخبر، رصدت الصحيفة عيد العمّال في دول أخرى مثل: بولونيا، إسبانيا، الهند، أستراليا … إلخ.

في المقابل لهذا الخبر، صدر في فلسطين الانتدابية منشورًا عن الهئية المركزية لحزب عمال فلسطين (بوعلي تسيون)، دعوة لكافة العمال بعنوان “يا عمال جميع العالم، اتحدوا” وكانت دعوة واضحة وصارمة للعمال العرب واليهود للاتحاد ضد الرأسماليين العرب واليهود، والمطالبة بإحياء عيد العمّال بالوحدة والعمل والمطالبة بحقوق العمّال، بل أسرف المنشور إلى دعوة العمال إلى محاربة عائلتي الحسيني والنشاشيبي لأنهم إقطاعيّ البلاد، على حد وصفهم.

يا عمّال جميع العالم، اتحدوا
يا عمّال جميع العالم، اتحدوا

في العام 1931، توجهت النقابة العربية لعمال سكة الحديد في مدينة حيفا بدعوة العمّال العرب للتصدّي لدعوات نقابة العمال اليهودية بدعوة العمال العرب للانضمام لها والتمرد على النقابة العربية بحجة أنّ النقابة العربية غير فعّالة ولا تعمل لصالح العامل العربي. وهنا تظهر أحد الحيل والمؤامرات التي تستخدم العامل البسيط لأهداف اقتصادية وسياسية على المدى البعيد.

إلى جميع عمال فلسطين
إلى جميع عمال فلسطين

قامت كذلك صحيفة الاتحاد برصد بعض الأحداث والأخبار في يوم العمّال، فمثلاً في ثمانينيّات القرن الماضي رُصدت بعض الأخبار والأحداث المختلفة في يوم العمّال والتي كان لها أثرًا على المستوى الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي، مثل إسقاط الحكومة، توزيع ورود، فصل عمال… إلخ.

 تصفحوا أخبار يوم العمال في أرشيف جرايد

الإتحاد: 30 نيسان 1982
الاتحاد: 30 نيسان 1982

 

الاتحاد: 2 أيّار 1985
الاتحاد: 2 أيّار 1985

 

الاتحاد: 3 أيّار 1983
الاتحاد: 3 أيّار 1983

 

الاتحاد: 5 أيّار 1985
الاتحاد: 5 أيّار 1985

وفي الختام، نستذكر أنّ يوم العمّال هو يوم للتذكير بأهمية كافة العمّال في كافة القطاعات الحكومية والخاصة وفي كافة المجالات بدون استثناء، ولا بد من وقفة فخر لأن ما يُصنع ويُقدّم باسم أي دولة هو الجهد اليومي خلال ثماني ساعات على الأقل لعامل أو عاملة لهم حياة أخرى غير العمل.

وعاش الأول من الأيار، عيد العمال الأحرار

عيد الفصح اليهودي و”شمّ النسيم” المصريّ – هل من قرابة؟

ماذا تعرفون عن أعياد الرّبيع القديمة؟ وهل الفصح واحدٌ منها؟ تعرّفوا على القصّة التّراثيّة لكلّ من العيدين، وهل من قرابة أو أصل مشترك بينهما؟

كان المصريّون القدماء يقدّمون قرابينهم من السّمك المملّح إلى “أوزوروس” إله البعث في بداية ربيع كلّ عام ليشكرونه على بعث الرّبيع والخضرة من جديد بعد الشّتاء، وفي ذكرى اليوم الّذي انتصر فيه ابنه الصّالح الإله “حورس” على الإله “ست” إله الشّر فاستوى اللّيل والنّهار وجاء الرّبيع بخيره على البشر. توازى هذا التّقليد القديم مع احتفال غالبيّة الحضارات القديمة بأعياد لطالما ارتبطت معانيها بفصول السّنة وتغيّر الطّبيعة وأثرها على المورد الأوّل للإنسان في ذلك الوقت، الزّراعة والخصوبة.

من المرجّح أنّ العيد “شمّو”، الّذي أصبح فيما بعد “شمّ النّسيم” مناسبة احتفل بها المصريّون القدامى منذ عام 2700 قبل الميلاد، ومن المثير للاهتمام أن هذه المناسبة ما زالت قائمة وملبّاة في مصر اليوم بعد آلاف السّنين وتبدّل الحضارات والأديان. فما زال المصريّون إلى اليوم يتّخذون اليوم التّالي لعيد الفصح المسيحيّ، بحسب التّقويم المسيحي الشّرقي لدى الأقباط، موعدًا ثابتًا للاحتفال بشمّ النّسيم كلّ عام. فتخرج العائلات على اختلاف طوائفها ومذاهبها وتأخذ المأكولات الخاصّة بهذا العيد للاحتفال بقدوم الرّبيع واستنشاق نسيمه، بتقليدٍ مستمرّ منذ ما يزيد عن أربعة آلاف عام. وهو ما يكون أحيانًا موضع انتقادٍ لمن يرى أن الاحتفال بـ “شمّ النّسيم” ممارسة وثنيّة قديمة لا ينبغي اتّباعها الآن.

في الخامس والعشرين من الشّهر الجاري سيحتفل المصريّون في عيد شمّ النّسيم لعام 2022، وسيحضّرون سمك “الرينجة” والبصل الأخضر والخس والطّبق الأشهر لهذا العيد وهو “الفسيخ” أي السّمك المملّح.

ومن المثير للاهتمام، أنّ اسم هذا الطّبق الشّهير الّذي ارتبط بهذا العيد لآلاف السّنين يشبه إلى حدّ بعيد كلمة “الفصح” كما تُلفظ وتُكتب بالعبريّة “بيساخ” وأوّلها حرب الـ “بي” الّذي يلفظ في بعض الأحيان “ف”. وهو العيد الّذي سينتهي موعده لهذا العام أيّام قليلة قبل حلول شم النّسيم المصريّ. فهل يرتبط اسم العيد بنسختيه اليهوديّة والمسيحيّة بعيد “شمّو” الفرعوني؟ وهل الـ “فسيخ” أو الـ “فيساخ”  كلمة فرعونيّة قديمة تدحرجت لتحمل معاني عديدة ارتبطت بمناسبة واحدة؟

جبل سيناء ورحلة خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، القرن ال19، أرشيف ياد يتسحاك
جبل سيناء ورحلة خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، القرن ال19، أرشيف ياد يتسحاك

 

خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، 1829، موقع متحف برمنغهام للفنون
خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، 1829، موقع متحف برمنغهام للفنون

تحكي لنا النّصوص التّراثيّة اليهوديّة عن عيد الفصح لليهود بأنّه احتفال الشّعب اليهودي بخروجه من مصر بعد استعباده وظلمه من قبل فرعونها. وأنّه بعد اشتداد ظلم المصرييّن لهم، أراد الرّب أن يعاقب المصريّين بأن يميت أبكارهم الصّبيان جميعًا، وكي لا يصيب أبكار اليهود أمرهم بترك علامات على أسطح بيوتهم كي “يفسخ” عنها ولا يأخذ حياة الصّبيان الّذين بداخلها. و”يفسخ” هنا كلمة عبريّة وردت في التّوراة في سفر الخروج بمعنى “يستثني” أو “يتجاوز”. وبحسب المعتقد اليهوديّ فإنّ تسمية العيد بعيد “الفصح” جاءت من هذه الحادثة ومن هذا اللّفظ بالتّوراة. فبعدها تمكّن اليهود من الخروج بالسّلامة من مصر.

إلّا أن البعض يشير إلى ارتباط خروج اليهود من مصر بعيد شمّ النّسيم، إذ يتزامن الموعدان، ولربّما احتفل اليهود مع المصريّين قبل خروجهم من مصر بعيد “شمّو” إلّا أنّهم بعد الخروج قاموا بتغيير بعض طقوسه لتذكّرهم بالنّجاة من مصر وبقيت الكلمة “فسخ” مرتبطة بالمناسبة بطريقة ما.

إلّا أنّ تشابه الكلمات لا يدلّ بالضّرورة على ارتباط العيدين ببعضهم البعض. فهناك من يفسّر تسمية طبق “الفسيخ” القديم بهذا الاسم بمعنى “الفاسد” أي بسبب ترك السّمك بالملح لمدّة طويلة يصيبه الفساد ويمنحه المذاق اللّذيذ.

أخبرونا أنتم! ماذا تعتقدون؟ هل من علاقة بين “الفصح” والـ “فسيخ” أم أنّ تشابه الكلمات مجرّد صدفة؟ 

مكتبة من حول العالم- تعرّفوا على مجموعة دافيد أيالون!

في هذه المقالة، تعرّفوا على المؤرّخ أيالون الذي جمّع المخطوطات خلال مسيرته العلميّة.

تذخر المواقع الالكترونيّة للمكتبات الكُبرى اليوم بكتب دراسيّة معمّقة في تاريخ الإسلام، ونسخ الكترونيّة لمخطوطات تجدونها متاحة عن بُعد، تحصلون عليها عبر شاشاتكم بمجرّد الضّغط على زر، فترون المخطوطات وتقرأون الدّراسات وتشاهدون المحاضرات المسجّلة. وعلى الرغم من صعوبة الأمر، إلّا أن باحثي التّاريخ الإسلامي في الماضي كان عليهم تحمّل مشقّة لا نكاد نعرف عنها شيء في الوفرة الرّقميّة الّتي نعيشها اليوم. فلكي يتمكّن الباحث من التّعمق في المواضيع الّتي تثير اهتمامه، كان عليه أن يبحث عن المخطوطات القديمة المتعلّقة بالأمر ليعرف في أي مكتبة تقع، ثمّ إن لم يجد نسخة محقّقة ومطبوعة منها، كان عليه أن يراسل المكتبة أو الجهة المالكة للمخطوطة طالبًا الحصول على صورة عن تلك المخطوطة المحدّدة، وإن لم يسمح الأمر فكان عليه شدّ الرّحال إلى تلك المكتبة ليتمكّن من رؤية المادّة اللازمة، وقد تنفعه هذه المادّة وقد يتّضح أنها لا تمتّ لموضوع بحثه بصلة. فلكم أن تتخيّلوا المجهود الّذي كان على الباحث أن يبذله فقط في المرحلة الأولى من جمع المواد والمصادر الأوّليّة.

صورة لكتاب في ترتيب مملكة الديار المصرية وامرائها وأركانها وأرباب الوظائف – من مكتبة برلين (بالإنجليزية)
صورة لكتاب في ترتيب مملكة الديار المصرية وامرائها وأركانها وأرباب الوظائف – من مكتبة برلين (بالإنجليزية)

 

هذه هي قصّة الباحث في التّاريخ الإسلامي بروفسور دافيد أيالون (1914-1998)، الّذي بدأ مسيرته بدراسة الأدب العربيّ في الجامعة العبريّة في سنوات الثّلاثينات، وخلّف بعد وفاته مجموعة غنيّة من صور المخطوطات الّتي حصل عليها من مكتبات شتّى حول العالم خلال مسيرته العلميّة؛ بين مكتباتٍ عريقة في مصر وسورية ومكتبات في الهند وإيران وحتّى مكتبات العواصم الأوروبيّة، جمع أيالون صورًا  لقرابة 240 مادّة لأمّهات الكتب في التّاريخ الإسلامي وبعض الأعمال في الأدب.


دافيد أيالون:
وُلد دافيد أيالون في مدينة حيفا عام 1914، التحق بالجامعة العبريّة عام 1933 لدراسة الأدب العربيّ وتاريخ الشّرق الأوسط وشعب إسرائيل، ثمّ في مرحلة الماجستير والدكتوراه قدّم أطروحاته حول التّاريخ المملوكي. بعد قيام دولة إسرائيل، عمل في مكتب الوزارة الخارجيّة كباحثٍ في شؤون الشّرق الأوسط لمدّة وجيزة ثمّ عاد إلى صفوف الدّراسة في الجامعة العبريّة كمحاضر في قسم دراسات آسيا وإفريقيا.

ساهم أيالون بإعداد قاموس العربيّة-العبريّة الأوّل في البلاد عام 1947 بالشّراكة مع الباحث بيساح شنعار (1914-2013)، وقدّم عشرات الأبحاث الأصيلة في التّاريخ الإسلاميّ، لا سيّما فيما يخصّ التّاريخ السّياسي والعسكري للمماليك في مصر.

المجموعة في المكتبة:
قامت زوجة الرّاحل أيالون السّيدة مريام روزن/أيالون بالتّبرّع بمجموعة المخطوطات المصوّرة إلى المكتبة الوطنيّة مشكورة، ولفهرسة هذه المجموعة الهامّة، قام فريق المكتبة بالتّعرف على الأعمال الّتي اشتملت عليها المجموعة وبرصد مصادرها حول العالم من أجل إدراج المعلومات الصّحيحة حول المكتبة الأمّ لكل مخطوطة.

من الجدير الملاحظة بأنّ عملية الفهرسة هذه لم تكن اللقاء الأوّل بين هذه المخطوطات وفريق عمل المكتبة الوطنيّة، ففي كلّ مرّة كان أيالون يحصل على صورة لمخطوطة وصلته من مكتبة ما على شريط “ميكروفيلم”، كان يقوم بطباعتها وتجليدها مستعينًا بخدمات المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة. ومن الجميل أنّ هذه المجموعة عادت إلى المكتبة من جديد حاملة آثار رحلة المؤرّخ ليستعين بها باحثون جدد.

بالرّغم من اشتمال المجموعة على مخطوطات مصوّرة فقط إلّا أنها ذات أهميّة لعدّة أسباب، بعض المخطوطات المصوّرة غير متاحة رقميًا من قبل المكتبة المالكة، ممّا سيتيح للباحثين المهتمّين بتلك المخطوطات الوصول إليها من خلال المكتبة الوطنيّة، ومن جهة أخرى، فالمجموعة تحتوي على ملاحظات العمل الخاصّة بأيالون، ممّا سيمكّن المهتمّين من التّعرف على آليّة عمل المؤرّخ والطّرق المتّبعة حينها. وبالّرغم من صدور نُسخ محقّقة لمعظم الأعمال الّتي اشتملت عليها المجموعة، ما زال تصفّح صور المخطوطات يشكّل تجربة فريدة ومثرية.

في الوقت الحالي، ما زالت المجموعة غير متاحة للتّصفح عن بُعد، إلّا أنّه بامكانكم الاطّلاع على المواد المدرجة في فهرس المكتبة والاطّلاع على المخطوطات الّتي تهمّكم من مبنى المكتبة بعد طلبها مسبقًا

لتصفّح المخطوطات المدرجة في الفهرس

 

يهود بالكوفيّة؛ قصّة الرّداء الّذي تحوّل إلى رمز

تُعرف الكوفيّة اليوم كرمزٍ للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، إلا أننا قد نجد صورًا لكبار الحركة الصّهيونيّة وهم يرتدون الكوفيّة، مع جنود من البلماخ وجيش الدفاع. فما الّذي تغيّر؟

شير برام

تُعرف الكوفيّة اليوم كرمزٍ للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. إلا أننا إذا عدنا إلى بضعة عقود ماضية، نجد صورًا لكبار الحركة الصّهيونيّة وهم يرتدون الكوفيّة، مع جنود من البلماخ ومن جيش الدفاع الاسرائيليّ. فما الّذي تغيّر؟

رئيس الحكومة دافيد بن غوريون أثناء جولة في النّقب مع القائد الشاب إسحاق رابين. أيّار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.
رئيس الحكومة دافيد بن غوريون أثناء جولة في النّقب مع القائد الشاب إسحاق رابين. أيّار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.

 

تخيّلوا المشهد التّالي: رجلٌ ذو هيبة يرتدي الكوفيّة ويحمل عصًا وتحيطه الخرفان وينظر إلى الأمام. خلفه منظر طبيعيّ من الأشجار والصّخور، يبدو كأنه خارج من قصّة شعبيّة قديمة من حكايات البلاد. ومن ثمّ يتّضح من أمام “الراعي” كاميرا كبيرة وخلفها مصوّر محترف، وخلفية الخراف والصّخور والأشجار والسماء الزرقاء، ليست إلّا لوحة كبيرة مرسومة بإتقان، أمّا الرّاعي، فيهوديّ أوروبيّ اسمه “تسفي”، يخرج من الستوديو ويخلع الكوفيّة ويترك العصا ويبدّل ملابس الفلّاح بتلك الّتي أتى بها، ويعود أدراجه إلى شوارع تل أبيب حديثة العهد في بدايات القرن العشرين. كي نفهم ما الّذي دفعه لالتقاط صورة بهذا المظهر، علينا التبحّر في تاريخ الزيّ الّذي يولّد لدى جميعنا اليوم مشاعر كثيرة.

عميناداف التشولر، أحد "مخلّصي أراضي النّقب"، يرتدي الكوفيّة والعقال أثناء غرس شجرة في الصّحراء. شبكة أرشيفات إسرائيل.
عميناداف التشولر، أحد “مخلّصي أراضي النّقب”، يرتدي الكوفيّة والعقال أثناء غرس شجرة في الصّحراء. شبكة أرشيفات إسرائيل.

 

تعتبر الكوفيّة التّقليديّة رمزًا شعبيًّا وسياسيًّا وطبقيًّا، لا سيّما الكوفيّة البيضاء والسّوداء الّتي غدت رمزًا وطنيّا فلسطينيّا بارزًا. إلا أن نظرة إلى الخلف ترينا واقعًا مختلفًا جدًا. منذ بداية القرن العشرين وحتّى سنوات الخمسينيّات تم توثيق كبار الحركة الصّهيونيّة إلى جانب العديد من اليهود وهم يرتدون الكوفيّة، يتصوّرون بها ويجولون الشوارع. ولعل أحد الأمثلة الأشهر هي صورة حاييم وايزمن أثناء لقائه بالأمير فيصل الهاشمي عام 1918، وكان يرتدي كوفيّة فاخرة على رأسه.

.

الأمير فيصل وحايم وايزمن (إلى اليسار) يرتدي الكوفيّة، مدينة عمّان، حزيران 1918.
الأمير فيصل وحايم وايزمن (إلى اليسار) يرتدي الكوفيّة، مدينة عمّان، حزيران 1918.

 

كما ارتدى الكوفيّة أشخاص من البلماخ، هشومير وحتّى جنود من الجيش الإسرائيلي، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، قام المهاجرون اليهود باتّخاذ صورًا تذكاريّة وهم يلبسون الرّداء العربيّ الكامل ومن ضمنه الكوفيّة.

 

راحيل سلوتسكي، إحدى مؤسسّات قرية نهلال (ترتدي زيّ رجولي إلى اليمين) وقريبتها ليزا سلوتسكي (إلى اليسار) برداء بدوي، تصوير ستوديو. شبكة أرشيفات إسرائيل.
راحيل سلوتسكي، إحدى مؤسسّات قرية نهلال (ترتدي زيّ رجولي إلى اليمين) وقريبتها ليزا سلوتسكي (إلى اليسار) برداء بدوي، تصوير ستوديو. شبكة أرشيفات إسرائيل.

 

إسحاق شميلفسكي، شاب يهودي يرتدي الكوفيّة والعقال. شبكة أرشيفات إسرائيل.
إسحاق شميلفسكي، شاب يهودي يرتدي الكوفيّة والعقال. شبكة أرشيفات إسرائيل.

تجوّل طلاب المدارس اليهود في إسرائيل بالكوفيّة، وكذلك الشّباب الصّغار، فكيف إذًا غدت الكوفيّة رمزًا معاديًا للصهيونيّة؟


يهود أوروبا يتبنّون الكوفيّة في محاولة للاندماج بالمنطقة

تأسّست الحركة الصّهيونيّة كحركة أوروبيّة، وقد تأثّرت بالفعل بالمناخ الفكريّ الأوروربيّ في ذلك الوقت بما فيه الاستشراق. وبعد اختيار “فلسطين” المكان الّذي سيقيم فيه اليهود دولتهم بدأت الهجرات الأولى، وقد وجد المهاجرون الأوائل اختلافًا كبيرًا بينهم وبين ساكني البلاد، ورأى الكثير منهم أن ثقافة الفلّاحين العرب ليست سوى استمرار لتلك الثّقافة الّتي وُجدت في مملكة إسرائيل قبل الشّتات اليهوديّ. فقلّدوا يهود البقيعة، على سبيل المثال، كونها عائلات يهوديّة عريقة في البلاد وتعيش أسلوب حياة “أصيل”.

ومن هذا المنطلق حاول المهاجرون الأوائل الاقتداء بسكّان البلاد، فتشير الثّقافة المادّيّة لهؤلاء المهاجرين على محاولة لخلق شخصيّة “اليهودي الجديد” في البلاد.

أولاد المدرسة في قرية "عين جانيم" يرتدون الأبيض والكوفيّات على رؤوسهم، يحملون لافتة مكتوب عليها مدرسة عين جانيم رُسمت عليها نجمة داود وخلفهم مبنى المدرسة. شبكة أرشيفات إسرائيل.
أولاد المدرسة في قرية “عين جانيم” يرتدون الأبيض والكوفيّات على رؤوسهم، يحملون لافتة مكتوب عليها مدرسة عين جانيم رُسمت عليها نجمة داود وخلفهم مبنى المدرسة. شبكة أرشيفات إسرائيل.

ومن الأمثلة الجيّدة على هذا الأمر، هو ستوديو المصوّر أبراهام سوسكين في تل أبيب، من ستوديوهات التصوير اليهوديّة الأولى في البلاد. كانت إحدى الخدمات الّتي يعرضها الستوديو صورة “شرقيّة” لمن يرغب بلباس فلّاحي أو بدوي كامل. توضح لنا أعمال سوسكين الجوّ العام الّذي رافق الحركة الصّهيونيّة حينها في بداية القرن العشرين: تحوّل يهود الشّتات إلى شخصيّة “اليهوديّ الجديد”، واقتباس هويّة قوميّة قديمة رأوا أنّها حتمًا هويّة اليهودي الأصلي. ترينا هذه الصّور كيف نظر اليهود الأوروبيين إلى الثقافة المحلّية حينها وكيف حاولوا تقليدها. رافق هذا الأمر الهجرات الّلاحقة أيضًا، ولا سيما أصحاب الهجرة الثّالثة الّذين حاولوا تقليد أهالي البلاد بمفاهيم عديدة.

 

إسحاق أوز أثناء عمله مع منظمة "هاشومير"، تصوير ستوديو أبراهام سوسكين. من مجموعة عيدا تمير، أرشيف الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
إسحاق أوز أثناء عمله مع منظمة “هاشومير”، تصوير ستوديو أبراهام سوسكين. من مجموعة عيدا تمير، أرشيف الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

مثالٌ بارز على ذلك هو تبنّي منظّمة “هشومير” الّتي يتكوّن معظمها من يهود أشكناز لمظاهر كالكوفيّة والعباءة بغرض الظّهور كالبدو من سكّان البلاد.

 أعضاء منظّمة "هشومير" يرتدون الكوفيّات، اثنان منهم يرتدون غطاء الرأس التّركي والطّربوش، مجموعة الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

أعضاء منظّمة “هشومير” يرتدون الكوفيّات، اثنان منهم يرتدون غطاء الرأس التّركي والطّربوش، مجموعة الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

من الجدير التّنبّه بأن هذا النّوع من التّقليد كان مختلفًا إلى حدّ ما عن التقليد الاستشراقي الاستعماريّ، إذ قام الأوروبيّون بالتّنكر بسبب مشاعر السّيادة والاستحواذ، بينما قام أبناء الهجرات الأولى بلبس لباس المحليّين وتبنّوا الكوفيّة من أجل التّقرّب من المكان والشّعور بالانتماء إليه.

كان الطّموح حينها تصميم هويّة جديدة للإنسان اليهودي، لكنّها عتيقة في الوقت ذاته، تعود للثّقافة اليهوديّة التّاريخيّة. حيث رأى اليهود أنّهم يكملون دربها. ويمكننا رؤية هذا التّصوّر “اليهوديّ الجديد” كذلك في الأعمال الفنّية الّتي قام بها المهاجرون الأوائل من الفنّانين الّذين درسوا في بتسيلئيل. الجميع من أبناء المستوطنات الأولى، الشّباب والحركات الشّبابيّة والمنظّمات كـ “الهجناه” والـ “بلماخ”، “إيتسل” و”ليحي”، كلّهم أرادوا تعزيز فكرة “اليهوديّ الجديد” الّذي تميّز بثلاثة أشياء: أولّا أنّه عاد إلى أرض اسرائيل، وثانيّا عمل بالزّراعة والحقل، وثالثا قام بارتداء الكوفيّة.

للكوفيّة الّتي تواجدت في الثّقافة العربيّة من قبل ظهور الإسلام وظائف عديدة، فقد حمت الرأس والوجه من الرّمال والغبار، وظلّلت الفلّاح من الشّمس في الصّيف ووقته من الرّياح في الشّتاء. وللكوفيّة ثلاثة أنواع تقليديّة معروفة: الكوفيّة البيضاء الّتي تنتشر بالأساس في بلاد الخليج العربي وعند البدو أينما تواجدوا كما نجدها أيضًا في العراق، والكوفيّة الحمراء والبيضاء الّتي تنتشر بالأساس في الأردن لكنّنا نجدها في أماكن أخرى كذلك، وأخيرًا الكوفيّة البيضاء والسّوداء التّي يشتهر بها الفلسطينيّون.

 

جنود إسرائيليّين داخل "جيب" أردني مع صورة الملك حسين وهو يرتدي الكوفيّة في القدس بعد احتلال المدينة عام 1967. مجموعة ميتار، مجموعة الصّورة على إسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
جنود إسرائيليّين داخل “جيب” أردني مع صورة الملك حسين وهو يرتدي الكوفيّة في القدس بعد احتلال المدينة عام 1967. مجموعة ميتار، مجموعة الصّورة على إسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

 

كلّما تطوّر المشروع الصّهيونيّ أمام الصّراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، قلّ اهتمام اليهود الصّهيونيّين بتقليد المحلّيين. في كتابه “الاستشراق قبل-اسرائيل”، الّذي يدور حول تصوير اليهود باللباس الفلّاحي والبدوي في البلاد، يشير الباحث دافيد جاس إلى أحداث عام 1929 العنيفة كنقطة مفصليّة في تحوّل توجّه اليهود وعدلوا عن اهتمامهم بتقليد المحلّيين. “تلاشت النظرة الاستشراقيّة الساذجة الّتي هيمنت على أبناء الهجرات الأولى، وتلاشت معها رغبتهم “بالتّمشرق” كأبناء المكان”. وفي أواخر الثّلاثينيّات اندلعت الثّورة العربيّة الكبرى في فلسطين العثمانية، وخلالها تبلورت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتحوّلت الكوفيّة إلى رمزٍ وطنيّ-شعبي-فلسطيني وحلّت مكان الطربوش العثماني. باتت رؤية الكوفيّة كرمز سياسي راسخة في الوعي المحلّي، وفي نهاية المطاف، أصبحت الكوفيّة تمثّل أيديولوجيّة معاكسة للصّهيونيّة.

"الكوفيّة والعقال ترمز لرداء وطني". عن أحداث 36-39. مقالة نشرت في صحيفة "هبوكر". 19 أيلول، 1938.
“الكوفيّة والعقال ترمز لرداء وطني”. عن أحداث 36-39. مقالة نشرت في صحيفة “هبوكر”. 19 أيلول، 1938.

الكوفيّة تلتقط معاني سياسيّة

بعد أحداث عام 1929 ومن ثمّ ثورة 1936، بدأ التّراجع عن ارتداء الكوفيّة بين اليهود وعن تقليد المحلّيين عمومًا، إلّا أنه في سنوات الأربعينيّات والخمسينبّات كان لا يزال هناك ظهور للكوفيّة على رقاب بعض اليهود، ومنهم سياسيّين وشخصيّات عسكريّة. ومن الأمثلة الشّهيرة، صورة دافيد بن غوريون أثناء جولة ميدانيّة خلال حرب 1948، يرتدي الكوفيّة البيضاء حول رقبته وإلى جانبه إسحاق رابين وإيجال ألون حين كانوا لا يزالون قادة صغار.

 

رئيس الحكومة دافيد بن غوريون، يرتدي الكوفيّة أثناء جولة في النّقب مع القائد الشّاب إسحاق رابين وإلى جانبه إيجال ألون. أيار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.رئيس الحكومة دافيد بن غوريون، يرتدي الكوفيّة أثناء جولة في النّقب مع القائد الشّاب إسحاق رابين وإلى جانبه إيجال ألون. أيار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.

 

مثال آخر من نفس الحرب، صورة معروفة بعنوان “الفتاة ذات المسدّس”: تظهر في الصّورة ضابطة الاتصالات زيفا أربل تتكئ على شجرة، تحمل سلاحًا وتلفّ كوفيّة على رأسها، بعد إتمام احتلال برفيلية بوقت قليل.

الفتاة ذات المسدّس ترتدي الكوفيّة: زيفا أربيل، ضابطة اتّصالات في كتيبة "يفتاح"، بعد احتلال قرية برفيلية. تمّوز، 1948. تصوير: بوريس كارمي. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة. 
الفتاة ذات المسدّس ترتدي الكوفيّة: زيفا أربيل، ضابطة اتّصالات في كتيبة “يفتاح”، بعد احتلال قرية برفيلية. تمّوز، 1948. تصوير: بوريس كارمي. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

تظهر هاتين الصّورتين أن مكانة الكوفيّة كانت لا تزال حاضرة في الوعي الصّهيونيّ حتّى نهاية الأربعينيّات رغم تحوّلها إلى رمز سياسي فلسطيني قبل أكثر من عقد. في أرشيف بوريس كارمي، “المصوّر العسكري الأوّل”، تمّ توثيق جنود في الجيش الإسرائيلي يلفّون الكوفيّة في مسيرة عسكريّة عام 1958.

 

كوفيّات في مسيرة عسكريّة لجيش الدّفاع الإسرائيلي 1958. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
كوفيّات في مسيرة عسكريّة لجيش الدّفاع الإسرائيلي 1958. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

 

فقط على مشارف سنوات السّتينيّات، بدأ التّحوّل الواعي الّذي أنهى الاهتمام اليهودي بالكوفيّة بشكل كامل. وخلف هذا التحوّل كان رجلٌ واحد بالأساس اسمه ياسر عرفات.

زيارة عرفات في غزّة، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
زيارة عرفات في غزّة، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

صعدت حركة فتح بقيادة ياسر عرفات بعد الهزيمة الكبرى الّتي نالت الدّول العربيّة عام 1967، وأظهر عرفات نفسه كممثّل عن الفلسطينيّين ومتحدّث باسمهم.

ممّا ميّز طلّة عرفات، إلى جانب البزّة العسكريّة الّتي ارتداها بشكلٍ دائم والسّلاح، كانت كوفيّته البيضاء والسّوداء. بدأ بارتدائها بشكل دائم منذ عام 1956 حين كان أحد طلّاب البعثة المصريّة إلى أوروبا، ومنذ ذلك الحين لم يخلعها في أية مناسبة، وأصبحت الكوفيّة إحدى مميّزات قائد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الأوّل، والّذي لُقّب بـ “أبو الحطّة”.

في سيرة حياة عرفات الّتي كتبها داني روبينشتين، نرى كيف قام عرفات بالاهتمام بكوفيّته بشكل خاص، وكيف قام بلفّها بطريقة محدّدة بحيث يظهر طرفها المنسدل عن كتفه وكأنّه خارطة البلاد. أدّى ظهور عرفات إلى تعزيز مكانة الكوفيّة السّياسيّة. وفي الانتفاضة الأولى قام فلسطينّيون بارتداء الكوفيّة اثناء اشتباكهم مع قوّات الأمن الإسرائيليّة.

مؤيّدو عرفات في رفح، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
مؤيّدو عرفات في رفح، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

بحلول اتفاقيّات أوسلو في سنوات التّسعينيّات، ثبت اعتبار الكوفيّة رمزًا “معادي للصّهيونيّة”، وفي ذلك الوقت، انتشرت صورة لرئيس الحكومة إسحاق رابين وتمّ إضافة رسم للكوفيّة حول رأسه، في إشارة إلى “خيانته”. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، تنتشر رسوم كاريكاتير بين الحين والآخر تستخدم الكوفيّة في تشبيهات مثيلة.

ملصق يهاجم رئيس الحكومة إسحاق رابين يصوّره وهو يرتدي الكوفيّة. مجموعة ملصقات المكتبة الوطنيّة، 1994.
ملصق يهاجم رئيس الحكومة إسحاق رابين يصوّره وهو يرتدي الكوفيّة. مجموعة ملصقات المكتبة الوطنيّة، 1994.

القرن الـ 21: المشكلة هي الفلسطينيّين، لا الكوفيّة؟

مع بداية القرن الـ 21، كان الوعي الجمعي في البلاد مختلفًا عمّا قبل فيما يخصّ الكوفيّة، إن كان من وجهة نظر يهوديّة أو فلسطينيّة. انتهى القرن العشرين بتقطّب واضح. وقد لعبت الكوفيّة أيضًا دورًا في عدّة محاولات لبدء عمليّة السّلام عبر السّنين، فبالإضافة إلى اتّفاقيّات أوسلو، وتلك الصّورة الشّهيرة التّي جمعت عرفات بكوفيّته مع رابين، برزت حادثة في مؤتمر مدريد عام 1991، حين قام الممثّل الفلسطيني صائب عريقات بارتداء الكوفيّة حول رقبته ممّا أثار غضب الحاضرين، بالأساس البعثة الإسرائيليّة. نرى هنا كيف خلال أقل من 50 عام تحوّل الشعور الإسرائيلي تجاه الكوفيّة بشكل جذري، فإذا قام بن غوريون بارتدائها بإرادته عام 48، ففي سنوات التّسعينيّات أصبحت الكوفيّة رمزًا مهدّدًا ومرفوضًا بالنّسبة لليهود.

ومن المثير للاهتمام، أنّ “اتّفاقيّات إبراهيم” الّتي تمّ توقيعها عام 2020 وإقبال السّياحة الإسرائيليّة على دول الخليج العربيّ والمغرب فيما بعد، أدّت إلى تراجع حميد ما فيما يتعلّق بشعور الإسرائيلي تجاه الكوفيّة، إذ قام العديد من الإسرائيليّين بمشاركة صور لهم وهم يرتدون الكوفيّة البيضاء المنتشرة في دول الخليج كجزء من تجربتهم السّياحيّة في ظلّ غياب تام لأي سياق سياسي-فلسطيني. على ما يبدو فإن اليهود مستعدّين للعودة والتّصالح مع غطاء الرأس العربيّ الشّهير. وقد كانت هناك محاولات لصناعة “كوفيّة يهوديّة” تشبه إلى حدّ ما “السردة”، غطاء رأس يهودي كان متواجد في البلاد العربيّة. بالمقابل، استمرّ الفلسطينيّون بالتأكيد على رمزيّة الكوفيّة كأحد مظاهر الهويّة الفلسطينيّة، أيضًا من خلال وسائل فنّية كالموسيقى وبرامج التّلفاز والانترنت ومواقع التّواصل الاجتماعي. فقام المطرب محمّد عسّاف على سبيل المثال بأداء أغنية “علّي الكوفيّة” أثناء مشاركته في برنامج “عرب أيدل” عام 2012، الأغنية الّتي تحتفي بالكوفيّة كرمز وطني فلسطيني.

https://youtu.be/wEUBdZOEDRU

بنظرة إلى الخلف، نرى أن الكوفيّة وتحوّلات رمزيّتها ارتبطت بمراحل تاريخيّة وبصراعات حول مصير البلاد المقدّسة ارتباطًا لا يمكن فصله الآن، ومع ذلك، لم يفت الأوان لنتمنّى أن يأتي يوم ما ولا يكون هذا الرّمز مثقلٌ بالمشاعر إلى هذا الحدّ، لكلا الشّعبين.