يهود بالكوفيّة؛ قصّة الرّداء الّذي تحوّل إلى رمز

تُعرف الكوفيّة اليوم كرمزٍ للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، إلا أننا قد نجد صورًا لكبار الحركة الصّهيونيّة وهم يرتدون الكوفيّة، مع جنود من البلماخ وجيش الدفاع. فما الّذي تغيّر؟

شير برام

تُعرف الكوفيّة اليوم كرمزٍ للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. إلا أننا إذا عدنا إلى بضعة عقود ماضية، نجد صورًا لكبار الحركة الصّهيونيّة وهم يرتدون الكوفيّة، مع جنود من البلماخ ومن جيش الدفاع الاسرائيليّ. فما الّذي تغيّر؟

رئيس الحكومة دافيد بن غوريون أثناء جولة في النّقب مع القائد الشاب إسحاق رابين. أيّار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.
رئيس الحكومة دافيد بن غوريون أثناء جولة في النّقب مع القائد الشاب إسحاق رابين. أيّار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.

 

تخيّلوا المشهد التّالي: رجلٌ ذو هيبة يرتدي الكوفيّة ويحمل عصًا وتحيطه الخرفان وينظر إلى الأمام. خلفه منظر طبيعيّ من الأشجار والصّخور، يبدو كأنه خارج من قصّة شعبيّة قديمة من حكايات البلاد. ومن ثمّ يتّضح من أمام “الراعي” كاميرا كبيرة وخلفها مصوّر محترف، وخلفية الخراف والصّخور والأشجار والسماء الزرقاء، ليست إلّا لوحة كبيرة مرسومة بإتقان، أمّا الرّاعي، فيهوديّ أوروبيّ اسمه “تسفي”، يخرج من الستوديو ويخلع الكوفيّة ويترك العصا ويبدّل ملابس الفلّاح بتلك الّتي أتى بها، ويعود أدراجه إلى شوارع تل أبيب حديثة العهد في بدايات القرن العشرين. كي نفهم ما الّذي دفعه لالتقاط صورة بهذا المظهر، علينا التبحّر في تاريخ الزيّ الّذي يولّد لدى جميعنا اليوم مشاعر كثيرة.

عميناداف التشولر، أحد "مخلّصي أراضي النّقب"، يرتدي الكوفيّة والعقال أثناء غرس شجرة في الصّحراء. شبكة أرشيفات إسرائيل.
عميناداف التشولر، أحد “مخلّصي أراضي النّقب”، يرتدي الكوفيّة والعقال أثناء غرس شجرة في الصّحراء. شبكة أرشيفات إسرائيل.

 

تعتبر الكوفيّة التّقليديّة رمزًا شعبيًّا وسياسيًّا وطبقيًّا، لا سيّما الكوفيّة البيضاء والسّوداء الّتي غدت رمزًا وطنيّا فلسطينيّا بارزًا. إلا أن نظرة إلى الخلف ترينا واقعًا مختلفًا جدًا. منذ بداية القرن العشرين وحتّى سنوات الخمسينيّات تم توثيق كبار الحركة الصّهيونيّة إلى جانب العديد من اليهود وهم يرتدون الكوفيّة، يتصوّرون بها ويجولون الشوارع. ولعل أحد الأمثلة الأشهر هي صورة حاييم وايزمن أثناء لقائه بالأمير فيصل الهاشمي عام 1918، وكان يرتدي كوفيّة فاخرة على رأسه.

.

الأمير فيصل وحايم وايزمن (إلى اليسار) يرتدي الكوفيّة، مدينة عمّان، حزيران 1918.
الأمير فيصل وحايم وايزمن (إلى اليسار) يرتدي الكوفيّة، مدينة عمّان، حزيران 1918.

 

كما ارتدى الكوفيّة أشخاص من البلماخ، هشومير وحتّى جنود من الجيش الإسرائيلي، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، قام المهاجرون اليهود باتّخاذ صورًا تذكاريّة وهم يلبسون الرّداء العربيّ الكامل ومن ضمنه الكوفيّة.

 

راحيل سلوتسكي، إحدى مؤسسّات قرية نهلال (ترتدي زيّ رجولي إلى اليمين) وقريبتها ليزا سلوتسكي (إلى اليسار) برداء بدوي، تصوير ستوديو. شبكة أرشيفات إسرائيل.
راحيل سلوتسكي، إحدى مؤسسّات قرية نهلال (ترتدي زيّ رجولي إلى اليمين) وقريبتها ليزا سلوتسكي (إلى اليسار) برداء بدوي، تصوير ستوديو. شبكة أرشيفات إسرائيل.

 

إسحاق شميلفسكي، شاب يهودي يرتدي الكوفيّة والعقال. شبكة أرشيفات إسرائيل.
إسحاق شميلفسكي، شاب يهودي يرتدي الكوفيّة والعقال. شبكة أرشيفات إسرائيل.

تجوّل طلاب المدارس اليهود في إسرائيل بالكوفيّة، وكذلك الشّباب الصّغار، فكيف إذًا غدت الكوفيّة رمزًا معاديًا للصهيونيّة؟


يهود أوروبا يتبنّون الكوفيّة في محاولة للاندماج بالمنطقة

تأسّست الحركة الصّهيونيّة كحركة أوروبيّة، وقد تأثّرت بالفعل بالمناخ الفكريّ الأوروربيّ في ذلك الوقت بما فيه الاستشراق. وبعد اختيار “فلسطين” المكان الّذي سيقيم فيه اليهود دولتهم بدأت الهجرات الأولى، وقد وجد المهاجرون الأوائل اختلافًا كبيرًا بينهم وبين ساكني البلاد، ورأى الكثير منهم أن ثقافة الفلّاحين العرب ليست سوى استمرار لتلك الثّقافة الّتي وُجدت في مملكة إسرائيل قبل الشّتات اليهوديّ. فقلّدوا يهود البقيعة، على سبيل المثال، كونها عائلات يهوديّة عريقة في البلاد وتعيش أسلوب حياة “أصيل”.

ومن هذا المنطلق حاول المهاجرون الأوائل الاقتداء بسكّان البلاد، فتشير الثّقافة المادّيّة لهؤلاء المهاجرين على محاولة لخلق شخصيّة “اليهودي الجديد” في البلاد.

أولاد المدرسة في قرية "عين جانيم" يرتدون الأبيض والكوفيّات على رؤوسهم، يحملون لافتة مكتوب عليها مدرسة عين جانيم رُسمت عليها نجمة داود وخلفهم مبنى المدرسة. شبكة أرشيفات إسرائيل.
أولاد المدرسة في قرية “عين جانيم” يرتدون الأبيض والكوفيّات على رؤوسهم، يحملون لافتة مكتوب عليها مدرسة عين جانيم رُسمت عليها نجمة داود وخلفهم مبنى المدرسة. شبكة أرشيفات إسرائيل.

ومن الأمثلة الجيّدة على هذا الأمر، هو ستوديو المصوّر أبراهام سوسكين في تل أبيب، من ستوديوهات التصوير اليهوديّة الأولى في البلاد. كانت إحدى الخدمات الّتي يعرضها الستوديو صورة “شرقيّة” لمن يرغب بلباس فلّاحي أو بدوي كامل. توضح لنا أعمال سوسكين الجوّ العام الّذي رافق الحركة الصّهيونيّة حينها في بداية القرن العشرين: تحوّل يهود الشّتات إلى شخصيّة “اليهوديّ الجديد”، واقتباس هويّة قوميّة قديمة رأوا أنّها حتمًا هويّة اليهودي الأصلي. ترينا هذه الصّور كيف نظر اليهود الأوروبيين إلى الثقافة المحلّية حينها وكيف حاولوا تقليدها. رافق هذا الأمر الهجرات الّلاحقة أيضًا، ولا سيما أصحاب الهجرة الثّالثة الّذين حاولوا تقليد أهالي البلاد بمفاهيم عديدة.

 

إسحاق أوز أثناء عمله مع منظمة "هاشومير"، تصوير ستوديو أبراهام سوسكين. من مجموعة عيدا تمير، أرشيف الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
إسحاق أوز أثناء عمله مع منظمة “هاشومير”، تصوير ستوديو أبراهام سوسكين. من مجموعة عيدا تمير، أرشيف الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

مثالٌ بارز على ذلك هو تبنّي منظّمة “هشومير” الّتي يتكوّن معظمها من يهود أشكناز لمظاهر كالكوفيّة والعباءة بغرض الظّهور كالبدو من سكّان البلاد.

 أعضاء منظّمة "هشومير" يرتدون الكوفيّات، اثنان منهم يرتدون غطاء الرأس التّركي والطّربوش، مجموعة الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

أعضاء منظّمة “هشومير” يرتدون الكوفيّات، اثنان منهم يرتدون غطاء الرأس التّركي والطّربوش، مجموعة الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

من الجدير التّنبّه بأن هذا النّوع من التّقليد كان مختلفًا إلى حدّ ما عن التقليد الاستشراقي الاستعماريّ، إذ قام الأوروبيّون بالتّنكر بسبب مشاعر السّيادة والاستحواذ، بينما قام أبناء الهجرات الأولى بلبس لباس المحليّين وتبنّوا الكوفيّة من أجل التّقرّب من المكان والشّعور بالانتماء إليه.

كان الطّموح حينها تصميم هويّة جديدة للإنسان اليهودي، لكنّها عتيقة في الوقت ذاته، تعود للثّقافة اليهوديّة التّاريخيّة. حيث رأى اليهود أنّهم يكملون دربها. ويمكننا رؤية هذا التّصوّر “اليهوديّ الجديد” كذلك في الأعمال الفنّية الّتي قام بها المهاجرون الأوائل من الفنّانين الّذين درسوا في بتسيلئيل. الجميع من أبناء المستوطنات الأولى، الشّباب والحركات الشّبابيّة والمنظّمات كـ “الهجناه” والـ “بلماخ”، “إيتسل” و”ليحي”، كلّهم أرادوا تعزيز فكرة “اليهوديّ الجديد” الّذي تميّز بثلاثة أشياء: أولّا أنّه عاد إلى أرض اسرائيل، وثانيّا عمل بالزّراعة والحقل، وثالثا قام بارتداء الكوفيّة.

للكوفيّة الّتي تواجدت في الثّقافة العربيّة من قبل ظهور الإسلام وظائف عديدة، فقد حمت الرأس والوجه من الرّمال والغبار، وظلّلت الفلّاح من الشّمس في الصّيف ووقته من الرّياح في الشّتاء. وللكوفيّة ثلاثة أنواع تقليديّة معروفة: الكوفيّة البيضاء الّتي تنتشر بالأساس في بلاد الخليج العربي وعند البدو أينما تواجدوا كما نجدها أيضًا في العراق، والكوفيّة الحمراء والبيضاء الّتي تنتشر بالأساس في الأردن لكنّنا نجدها في أماكن أخرى كذلك، وأخيرًا الكوفيّة البيضاء والسّوداء التّي يشتهر بها الفلسطينيّون.

 

جنود إسرائيليّين داخل "جيب" أردني مع صورة الملك حسين وهو يرتدي الكوفيّة في القدس بعد احتلال المدينة عام 1967. مجموعة ميتار، مجموعة الصّورة على إسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
جنود إسرائيليّين داخل “جيب” أردني مع صورة الملك حسين وهو يرتدي الكوفيّة في القدس بعد احتلال المدينة عام 1967. مجموعة ميتار، مجموعة الصّورة على إسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

 

كلّما تطوّر المشروع الصّهيونيّ أمام الصّراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، قلّ اهتمام اليهود الصّهيونيّين بتقليد المحلّيين. في كتابه “الاستشراق قبل-اسرائيل”، الّذي يدور حول تصوير اليهود باللباس الفلّاحي والبدوي في البلاد، يشير الباحث دافيد جاس إلى أحداث عام 1929 العنيفة كنقطة مفصليّة في تحوّل توجّه اليهود وعدلوا عن اهتمامهم بتقليد المحلّيين. “تلاشت النظرة الاستشراقيّة الساذجة الّتي هيمنت على أبناء الهجرات الأولى، وتلاشت معها رغبتهم “بالتّمشرق” كأبناء المكان”. وفي أواخر الثّلاثينيّات اندلعت الثّورة العربيّة الكبرى في فلسطين العثمانية، وخلالها تبلورت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتحوّلت الكوفيّة إلى رمزٍ وطنيّ-شعبي-فلسطيني وحلّت مكان الطربوش العثماني. باتت رؤية الكوفيّة كرمز سياسي راسخة في الوعي المحلّي، وفي نهاية المطاف، أصبحت الكوفيّة تمثّل أيديولوجيّة معاكسة للصّهيونيّة.

"الكوفيّة والعقال ترمز لرداء وطني". عن أحداث 36-39. مقالة نشرت في صحيفة "هبوكر". 19 أيلول، 1938.
“الكوفيّة والعقال ترمز لرداء وطني”. عن أحداث 36-39. مقالة نشرت في صحيفة “هبوكر”. 19 أيلول، 1938.

الكوفيّة تلتقط معاني سياسيّة

بعد أحداث عام 1929 ومن ثمّ ثورة 1936، بدأ التّراجع عن ارتداء الكوفيّة بين اليهود وعن تقليد المحلّيين عمومًا، إلّا أنه في سنوات الأربعينيّات والخمسينبّات كان لا يزال هناك ظهور للكوفيّة على رقاب بعض اليهود، ومنهم سياسيّين وشخصيّات عسكريّة. ومن الأمثلة الشّهيرة، صورة دافيد بن غوريون أثناء جولة ميدانيّة خلال حرب 1948، يرتدي الكوفيّة البيضاء حول رقبته وإلى جانبه إسحاق رابين وإيجال ألون حين كانوا لا يزالون قادة صغار.

 

رئيس الحكومة دافيد بن غوريون، يرتدي الكوفيّة أثناء جولة في النّقب مع القائد الشّاب إسحاق رابين وإلى جانبه إيجال ألون. أيار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.رئيس الحكومة دافيد بن غوريون، يرتدي الكوفيّة أثناء جولة في النّقب مع القائد الشّاب إسحاق رابين وإلى جانبه إيجال ألون. أيار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.

 

مثال آخر من نفس الحرب، صورة معروفة بعنوان “الفتاة ذات المسدّس”: تظهر في الصّورة ضابطة الاتصالات زيفا أربل تتكئ على شجرة، تحمل سلاحًا وتلفّ كوفيّة على رأسها، بعد إتمام احتلال برفيلية بوقت قليل.

الفتاة ذات المسدّس ترتدي الكوفيّة: زيفا أربيل، ضابطة اتّصالات في كتيبة "يفتاح"، بعد احتلال قرية برفيلية. تمّوز، 1948. تصوير: بوريس كارمي. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة. 
الفتاة ذات المسدّس ترتدي الكوفيّة: زيفا أربيل، ضابطة اتّصالات في كتيبة “يفتاح”، بعد احتلال قرية برفيلية. تمّوز، 1948. تصوير: بوريس كارمي. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

تظهر هاتين الصّورتين أن مكانة الكوفيّة كانت لا تزال حاضرة في الوعي الصّهيونيّ حتّى نهاية الأربعينيّات رغم تحوّلها إلى رمز سياسي فلسطيني قبل أكثر من عقد. في أرشيف بوريس كارمي، “المصوّر العسكري الأوّل”، تمّ توثيق جنود في الجيش الإسرائيلي يلفّون الكوفيّة في مسيرة عسكريّة عام 1958.

 

كوفيّات في مسيرة عسكريّة لجيش الدّفاع الإسرائيلي 1958. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
كوفيّات في مسيرة عسكريّة لجيش الدّفاع الإسرائيلي 1958. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

 

فقط على مشارف سنوات السّتينيّات، بدأ التّحوّل الواعي الّذي أنهى الاهتمام اليهودي بالكوفيّة بشكل كامل. وخلف هذا التحوّل كان رجلٌ واحد بالأساس اسمه ياسر عرفات.

زيارة عرفات في غزّة، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
زيارة عرفات في غزّة، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

صعدت حركة فتح بقيادة ياسر عرفات بعد الهزيمة الكبرى الّتي نالت الدّول العربيّة عام 1967، وأظهر عرفات نفسه كممثّل عن الفلسطينيّين ومتحدّث باسمهم.

ممّا ميّز طلّة عرفات، إلى جانب البزّة العسكريّة الّتي ارتداها بشكلٍ دائم والسّلاح، كانت كوفيّته البيضاء والسّوداء. بدأ بارتدائها بشكل دائم منذ عام 1956 حين كان أحد طلّاب البعثة المصريّة إلى أوروبا، ومنذ ذلك الحين لم يخلعها في أية مناسبة، وأصبحت الكوفيّة إحدى مميّزات قائد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الأوّل، والّذي لُقّب بـ “أبو الحطّة”.

في سيرة حياة عرفات الّتي كتبها داني روبينشتين، نرى كيف قام عرفات بالاهتمام بكوفيّته بشكل خاص، وكيف قام بلفّها بطريقة محدّدة بحيث يظهر طرفها المنسدل عن كتفه وكأنّه خارطة البلاد. أدّى ظهور عرفات إلى تعزيز مكانة الكوفيّة السّياسيّة. وفي الانتفاضة الأولى قام فلسطينّيون بارتداء الكوفيّة اثناء اشتباكهم مع قوّات الأمن الإسرائيليّة.

مؤيّدو عرفات في رفح، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
مؤيّدو عرفات في رفح، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

بحلول اتفاقيّات أوسلو في سنوات التّسعينيّات، ثبت اعتبار الكوفيّة رمزًا “معادي للصّهيونيّة”، وفي ذلك الوقت، انتشرت صورة لرئيس الحكومة إسحاق رابين وتمّ إضافة رسم للكوفيّة حول رأسه، في إشارة إلى “خيانته”. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، تنتشر رسوم كاريكاتير بين الحين والآخر تستخدم الكوفيّة في تشبيهات مثيلة.

ملصق يهاجم رئيس الحكومة إسحاق رابين يصوّره وهو يرتدي الكوفيّة. مجموعة ملصقات المكتبة الوطنيّة، 1994.
ملصق يهاجم رئيس الحكومة إسحاق رابين يصوّره وهو يرتدي الكوفيّة. مجموعة ملصقات المكتبة الوطنيّة، 1994.

القرن الـ 21: المشكلة هي الفلسطينيّين، لا الكوفيّة؟

مع بداية القرن الـ 21، كان الوعي الجمعي في البلاد مختلفًا عمّا قبل فيما يخصّ الكوفيّة، إن كان من وجهة نظر يهوديّة أو فلسطينيّة. انتهى القرن العشرين بتقطّب واضح. وقد لعبت الكوفيّة أيضًا دورًا في عدّة محاولات لبدء عمليّة السّلام عبر السّنين، فبالإضافة إلى اتّفاقيّات أوسلو، وتلك الصّورة الشّهيرة التّي جمعت عرفات بكوفيّته مع رابين، برزت حادثة في مؤتمر مدريد عام 1991، حين قام الممثّل الفلسطيني صائب عريقات بارتداء الكوفيّة حول رقبته ممّا أثار غضب الحاضرين، بالأساس البعثة الإسرائيليّة. نرى هنا كيف خلال أقل من 50 عام تحوّل الشعور الإسرائيلي تجاه الكوفيّة بشكل جذري، فإذا قام بن غوريون بارتدائها بإرادته عام 48، ففي سنوات التّسعينيّات أصبحت الكوفيّة رمزًا مهدّدًا ومرفوضًا بالنّسبة لليهود.

ومن المثير للاهتمام، أنّ “اتّفاقيّات إبراهيم” الّتي تمّ توقيعها عام 2020 وإقبال السّياحة الإسرائيليّة على دول الخليج العربيّ والمغرب فيما بعد، أدّت إلى تراجع حميد ما فيما يتعلّق بشعور الإسرائيلي تجاه الكوفيّة، إذ قام العديد من الإسرائيليّين بمشاركة صور لهم وهم يرتدون الكوفيّة البيضاء المنتشرة في دول الخليج كجزء من تجربتهم السّياحيّة في ظلّ غياب تام لأي سياق سياسي-فلسطيني. على ما يبدو فإن اليهود مستعدّين للعودة والتّصالح مع غطاء الرأس العربيّ الشّهير. وقد كانت هناك محاولات لصناعة “كوفيّة يهوديّة” تشبه إلى حدّ ما “السردة”، غطاء رأس يهودي كان متواجد في البلاد العربيّة. بالمقابل، استمرّ الفلسطينيّون بالتأكيد على رمزيّة الكوفيّة كأحد مظاهر الهويّة الفلسطينيّة، أيضًا من خلال وسائل فنّية كالموسيقى وبرامج التّلفاز والانترنت ومواقع التّواصل الاجتماعي. فقام المطرب محمّد عسّاف على سبيل المثال بأداء أغنية “علّي الكوفيّة” أثناء مشاركته في برنامج “عرب أيدل” عام 2012، الأغنية الّتي تحتفي بالكوفيّة كرمز وطني فلسطيني.

https://youtu.be/wEUBdZOEDRU

بنظرة إلى الخلف، نرى أن الكوفيّة وتحوّلات رمزيّتها ارتبطت بمراحل تاريخيّة وبصراعات حول مصير البلاد المقدّسة ارتباطًا لا يمكن فصله الآن، ومع ذلك، لم يفت الأوان لنتمنّى أن يأتي يوم ما ولا يكون هذا الرّمز مثقلٌ بالمشاعر إلى هذا الحدّ، لكلا الشّعبين.

 

كيف احتفت بغداد بابن سينا عام 1952؟ نظرة على “الكتاب الذّهبي”

افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات "الكتاب الذّهبي" الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان "ابن سينا" الّذي أقيم في بغداد.

من علامات الأمم الحيّة أن تعتني بكبرائها في الفلسفة أو في العلم أو في الفنّ أو في الحرب، ولها في ذلك طرقٌ مختلفة: إما بإقامة التّماثيل لهم، أو تسمية المعاهد والشّوارع بأسمائهم، أو بإقامة المهرجانات لذكراهم. وقد تنبّه العرب أخيرًا إلى ذلك، فأقاموا مرة مهرجانًا للمتنبّي، وأخرى مهرجانًا لأبي العلاء، وهذا مهرجان ابن سينا”

افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات “الكتاب الذّهبي” الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان “ابن سينا” الّذي أقيم في بغداد برعاية الملك فيصل الثّاني.

لم يكن هذا المهرجان هو الأوّل من نوعه في العالم، فقد سبقه مهرجان في تركيا لأن الشّيخ الرّئيس وُلد في تركستان واعتبرت أصوله تركيّة. ثمّ ظهرت فكرة لمهرجان جديد بذكرى مرور ألف عامٍ على مولد ابن سينا، وتمّ العمل لها ما بين طهران وبغداد لأكثر من عامين. في أعقاب التحضير لهذا المهرجان أُقيم تمثال ابن سينا في همذان، ورُسمت صورة متخيّلة له وطُبعت ووزّعت على طوابع بريديّة لتخليد اسمه، وجمعت مخطوطات لمختلف أعماله وحقّق بعضها وتُرجم ونُشر.

: طابع بريد إيراني تم انتاجه اثناء العمل على المهرجان، رسم ابن سينا على يد الفنّان أبو الحسن صديقي، مصدر الصورة ويكيبيديا
طابع بريد إيراني تم انتاجه اثناء العمل على المهرجان، رسم ابن سينا على يد الفنّان أبو الحسن صديقي، مصدر الصورة ويكيبيديا

ترأس أحمد أمين اللجنة العامّة لابن سينا وإدارة العمل الّذي دام لأكثر من عامين على هذا المشروع الثّقافي الضخم الّذي جمع أكثر من مائة وعشرين عالم وباحث من العراق، مصر، سوريا، لبنان، الأردن،ليبيا، أندونيسيا، إيران، تركيا، إسبانيا، ألمانيا، إنجلترا، أمريكا وفرنسا. عملت على المشروع لجان عديدة من عدّة دول وقسّمت مهام العمل وتنظيم المهرجان فيما بينها، وكان هذا من آخر المشاريع الكبرى الّتي عمل بها أمين قبل وفاته عن عمر يناهز السّابعة والسّتين بعد عامين. وقد قام بتقديم البحث الّذي أجراه حول قصّة “حيّ بن يقظان” في المهرجان وفي الكتاب الذّهبي. وكان من أعضاء اللجنة العليا لتنظيم أعمال المهرجان كل من المؤرّخين عبد العزيز الدّوري وجواد علي وغيرهم.

اجتمع كلّ هؤلاء في مهرجان دام ثمانية أيام في بغداد ارتأت لجان العمل تخليدها في كتاب سمّوه “الكتاب الذّهبي” يلخّص ما جرى بها من أبحاث علميّة قاموا بتلخيصها وحتّى جلسات الشّاي وأحاديث الصّباح. ثمانية أيّام حافلة اشتملت على أكثر من أربعين محاضرة علميّة والعديد من الأنشطة الثّقافيّة الصّباحيّة والمسائيّة الّتي تمّ جزء منها في البلاط الملكيّ.

في اليوم الأول، وبعد اجتماع الأعضاء المدعوين جميعًا في بهو الأمانة للتعرّف واستلام شاراتهم في العاشرة صباحًا، اتّجه الجميع معًا لزيارة المقبرة الملكيّة ووضع الأكاليل باسم الوفود القادمة من بلدان عدّة. ثم إلى البلاط الملكيّ لتقييد الأسماء في سجلّ التشريفات الملكيّة، ولاحقًا، حفلة الافتتاح بقاعة الملك فيصل الثّاني الّتي افتتح المهرجان بها ولي العهد الأمير عبد الإله، ثمّ كلمة كل من وزير المعارف ولجنة ابن سينا وأحمد أمين ومندوب اليونيسكو ومندوب الدّول الشّرقيّة رئيس وفد إيران وآخرين.

ركّز معظم المتحدّثين في الجلسة الافتتاحيّة على عالميّة ابن سينا الملقّب بالـ “شيخ الرّئيس” واحتفت بأهميّة إرثه لحضارات وثقافات عديدة. بعد هذه الجلسة، عقد المهرجان تسعة جلسات أخرى تخلّلت عشرات المحاضرات والنّقاشات وزّعت على سبعة أيام متتالية وتوثيق جميعها في “الكتاب الذّهبي”.

أمّا اليوم الثّاني، فافتتح بمعرض كتاب ابن سينا ومعرض فنّي في معهد الفنون الجميلة. تلته زيارة جماعيّة للمتحف العراقيّ والمدرسة المستنصريّة ومن ثمّ مأدبة لجنة ابن سينا العراقيّة في حدائق مسبح الأمانة. أمّا في اليوم الثّالث، فكان طويلًا جدًا، حيث بدأ بجلسة ناقشت سبعة أبحاث تلتها جلسة أربع محاضرات متتالية، إلا أن النهار انتهى بـ “حفلة سمر ويعزف فيها على الكمان الأستاذ سامي الشوا”.

 

المتحدثون في حفل الافتتاح

وكان اليوم الرّابع مكتظًّا بالأبحاث والمحاضرات كذلك، إلا أن اليوم الخامس كان يومًا للتنزّه في بابل والحلّة منذ الصّباح وحتّى الغروب. كانت الأيام المقبلة مكتظّة للغاية، فلا تفهم مثلًا كيف تمكّن الأعضاء من مناقشة تسعة أبحاث والاستماع إلى محاضرتين ومن ثمّ الذّهاب في رحلة الى الموصل. بالإضافة إلى ذلك، ولقد تمّت إذاعة الجلسة الإفتتاحيّة والختاميّة على إذاعة بغداد.

عند الاطّلاع على الصّور وقائمة الأعضاء المدعوين الّتي تظهر مفصّلة في الكتاب، يندر أن نرى صورة أو اسمًا لسيّدة شاركت في المهرجان، إلا أن اسمين لسيّدتين يظهران في قائمة الوفد اللبناني عن وزارة التّربيّة وهما الآنسة إنعام الصّغير والآنسة فهيمة الأحدب. كما أن تلاخيص الأبحاث تظهر مشاركة نسائيّة لا بأس بها، كالبحث حول ترجمات ابن سينا إلى اللاتينية وانتشارها في القرون الوسطى للآنسة دالفيرني، ومحاضرة “الجديد في منطق ابن سينا” للآنسة جواشون.

لكي تثمر وتكون شجرة إلهيّة – عن تعاليم بهاء الله

"لكي تثمر وتكون شجرة إلهيّة؛" عن تعاليم بهاء الله والديانة البهائية ومؤسسها بهاء الله وسيرته في مدينة عكا.

قبة عباس

واجه المطاردة والاضطهاد لأكثر من أربعين عامًا، اتّهم بالكفر والكذب وسُجن ونُفي أكثر من مرّة، راسل ملوك ورؤساء دول العالم ليطالبهم بالاتّحاد والعمل من أجل السّلام ووحدة البشر، وعند وفاته دُفن في حدائق بديعة أخّاذة، ما زالت مزارًا لمئات الآلاف من حول العالم. فمن يكون بهاء الله مؤسّس الدّيانة البهائيّة؟

لعلّ أفضل ما يعرّف عن بهاء الله وعن ما آمن به ودعا إليه هو كلامه حين رحّب بالمستشرق إدوارد غرانفيل براون الّذي زاره في “قصر البهجة”، منفاه الأخير في مدينة عكّا في سبعينيّات أو ثمانينيّات القرن التّاسع عشر .

يقول براون أنه كان مأخوذًا ببريق عينيه النّافذتين وبجلال هيئته، أخذه الذّهول مع أنه لم يجهل من هو ذاهب للقائه. فإذا بصوت هادئ جليل يأمره بالجلوس ويقول:

“حمدًا لله على سلامتك. جئت لترى مسجونًا ومنفيًا..نحن لا نريد إلّا إصلاح العالم وسعادة الأمم، وهم مع ذلك، يعتبروننا مثيرين للفتنة والعصيان ومستحقّين للحبس والنّفي.

فأيّ ضرر في أن يتّحد العالم على دين واحد وأن يكون الجميع إخوانًا؟ وأن تستحكم روابط المحبّة والاتّحاد بين بني البشر، وأن تزول الاختلافات الدّينيّة وتُمحى الاختلافات العرقيّة؟ وأنّه لا بدّ من حصول هذا كلّه. فستنقضي هذه الحروب المدمّرة والمشاحنات العقيمة. وسيأتي الصّلح الأعظم”.

في ذلك الوقت، كان بهاء الله الفارسيّ الأصل يسكن في “قصر البهجة” القريب من مدينة عكّا، والّذي اشتراه له ولده “عبّاس أفندي” من التّاجر العكّي المسيحيّ عودة خمّار بعد أن سمحت الدّولة العثمانيّة لبهاء الله بقضاء المدّة المتبقيّة من سنوات سجنه في بيتٍ مقفل خارج سجن عكّا.

قصر البهجة في ضواحي عكّا عام 1953، أرشيف يتسحاك بن تسفي
قصر البهجة في ضواحي عكّا عام 1953، أرشيف يتسحاك بن تسفي

لم يكن بهاء الله مواطنًا عثمانيًا من الأساس، إلا أن السّلطات الإيرانيّة استمرّت بالضّغط على الدّولة العثمانيّة لعقود متواصلة لإبقائه في السّجون أو لنفيه من مدينة إلى أخرى باستمرار خشية من انتشار دعوته الّتي اعتبرها الإيرانيّون فتنة يجب قتلها في مهدها. ورغم نجاحها باغتيال صاحب هذه الدّعوة الأول والّذي يدعى بالـ “باب” استمرّت الدولة الإيرانية بملاحقة أتباعه وناشري دعوته وكان “بهاء الله” من أبرزهم وأكثرهم شهرة ومحبّة. ولقد تمكّن هؤلاء من إنشاء طائفة كاملة ومستقلّة عن الإسلام، لها كتبها وتعاليمها وأتباعها المتّحدين حول العالم.

 

 صورة لبهاء الله من عام 1868، صفحة ويكيبيديا عن بهاء الله بالإنجليزيّة.
صورة لبهاء الله من عام 1868، صفحة ويكيبيديا عن بهاء الله بالإنجليزيّة.

 

تعاليم بهاء الله

اشتهرت الدّيانة البهائيّة بكونها ديانة جميع الدّيانات، أي أن أتباع هذه الدّيانة يرون بأن جميع الأديان الموجودة على الأرض منبثقة من الحقيقة الواحدة أي من الإله الواحد، لكنّ هذا لا يعني أنها لا تملك عقيدة وتعاليم خاصّة بها.

مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
من مخطوطة الدلائل السّبعة تأليف مؤسّس الدعوة البابيّة الشّيرازي الملقّب بالـ “باب”. عام 1911 من مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

تستقي الدّيانة البهائيّة تعاليمها ونهجها من كتابات بهاء الله والباب وغيرهم من أئمّة أو قادة الدّين البهائيّ، وتوصف كتابات بهاء الله على أنّها أُنزلت أو أُوحيت إليه في قصر البهجة وفي أماكن أخرى. وكشخصٍ عانى الظّلم والأذى والعداوة من معارضي دعوته ومن بعض أتباعها، ومن ضمنهم أخيه غير الشّقيق الّذي أراد منافسته على رئاستها، إلا أنّ تعاليمه اتّسمت بالتّسامح والتّواضع والكونيّة والرّوحانيّة، ولم يدعُ قطّ للعداوة أو الانتقام لما حلّ به. وقد قام بهاء اللّه بإرسال دعوته للوحدة والسّلام لكثير من الملوك والرؤساء في وقته، ومنهم السّلطان العثمانيّ، وملك إيران ناصر الدّين شاه، وقيصر روسيا وملك النّمسا والملكة فيكتوريا وغيرهم. وما زال أتباع الدّيانة البهائيّة يرون أن السّعي لتحقيق السّلام العالميّ غاية دينيّة أساسيّة في إيمانهم.

إلّا أن هذا البُعد الكونيّ الّذي يميّز الدّيانة البهائية على غيرها من الأديان ليس العنصر الوحيد بها، فللديانة البهائيّة عدّة كتب مقدّسة، أكثرها قداسة “الكتاب الأقدس” ومن ثمّ يليه “كتاب الإيقان” و”الوديان الأربعة” و”كلمات مكنونة” و”جواهر الأسرار” و”الوديان السّبعة” أو “الدّلائل السّبعة”.

مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

 

وعند الاطّلاع على بعض نصوص بهاء الله نجد تأثرًا بالعقيدة الشّيعيّة الّتي انشقت عنها الدّعوة البابيّة منذ بدايتها، وكذلك تأثرًا بالتّصوف الإسلاميّ. فإلى جانب الإيمان بكونيّة الأديان ووحدتها يذكّر بهاء الدّين مرة تلو الأخرى بأهمّية رعاية “حياة القلب” و”حياة الرّوح”.

فالجسد عند البهائيّين ليس إلا بيتًا مؤقتًا للرّوح الخالدة، توضع فيه في هذه الحياة لكي تقدّم الخير وترعى إخوانها من بني البشر فتكتسب الصّفات الملكوتيّة الّتي تبدأ بها رحلتها إلى الكمال بعد موت الجسد، وهذه الرّحلة أبديّة لا تنتهي. وعن هذا قال بهاء الله: “لو رُزقتَ قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأن الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياة الجسد”. وفي موضعٍ آخر: “عندما تكون النّفس لحياة الرّوح، عندها تثمر ثمارًا جيّدة، وتصبح شجرة إلهيّة”.

 

قدري طوقان: رائد من روّاد النهضة العربية

لم يكد قدري طوقان يبلغ العشرين من عمره، حتى أضحى عنواناً يقصده محررو الصحف والمجلات وأصحاب المطابع؛ إذ اعتبر من رواد النهضة العربية والفلسطينية.

 

 

استطاع طوقان والمولود عام 1910 وفي جيل صغير لفت أنظار العلماء العرب، ففي عام 1935 وقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، نشر مقالاً في جريدة الجهاد المصرية تحت “عنوان بعث الثقافة العربية” المقال أثار اهتمام الأوساط العلمية العربية مما حدا بالعالم المصري الكبير علي مصطفى مشرفة (الملقب بأينشتاين العرب) إلى الرد على المقال، فبعد أن أثنى عليه واشاد بمضمونه كتب: “وليس بغريب أن تتوافق خواطرنا إذ تجمعنا صلة قوية هي صلة الثقافة العربية التي يجري دمها في عروق المصري والشامي والعراقي والمراكشي على السواء”، وهو ما أوردته جريدة فلسطين في مقال ملفت في 7 تموز 1935.

 جريدة فلسطين، 25 حزيران 1933 جريدة فلسطين، 25 حزيران 1933
جريدة فلسطين، 25 حزيران 1933

على مشارف سنة 1929، أنهى طوقان دراستة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان اسمه يتردد على كل الألسنة، وحين عاد إلى فلسطين تقلد مباشرة منصب مدير كلية النجاح الوطنية في مدينة نابلس.

 

 نابلس، مسقط رأس قدري طوقان، 1890-1910
نابلس، مسقط رأس قدري طوقان، 1890-1910

للمزيد من المواد الرقمية وصور مدينة نابلس في المكتبة الوطنية.

 

حاول طوقان من خلال عمله إحياء النهضة، ولكنه كان مقتنعاً أن المشكلة تكمن في واقع فلسطين ففي نظر طوقان من الصعب جداً أن تبني مشروعاً نهضوياً في بلد يخضع للاستعمار وهو ما كان قد ذكره في مقالة سابقة نشرها في جريدة الدفاع في 27 تشرين الثاني 1935 قال فيها: “إن هذه الحكومات تسير على برنامج استعماري خاص من شأنه أن يقضي على كل ما من شأنه رفع مستوى الأمة ورقيها، لهذا وجب على العلماء العرب في هذه البلاد والشباب المثقف العامل أن يلتفتوا إلى هذه الناحية ويعيروها بعض اهتمامهم وأن يعتمدوا على أنفسهم قبل كل شيء…”

مع تغير المراحل والحقب، تبدلت السلطات أيضاً وبات طوقان يعيش في كنف الحكم الأردني بدلاً من الحكم الانجليزي، ومن خلال المؤسسات الأردنية سينشط طوقان مجدداً ولكن في اتجاه آخر ليس في العلوم هذه المرة وإنما في السياسية حيث سيصير عضواً في مجلس النواب الأردني وستتوج مسيرته السياسية بتقلده منصب وزير خارجية الأردن عام 1964.

خلال مسيرته، نشر طوقان العديد من المؤلفات مثل “تراث العرب العلمي” و “نواح مجيدة في الثقافة الإسلامية”  و “الأسلوب العلمي عند العرب” وغيرهم. ربما لم يشهد طوقان تحقق النهضة العربية التي أراد، ولكنه يظل بلا شك رائداً نهضوياً ساهم في إحياء وحفظ جانب مهم من تراث العرب العلمي، وكانت وفاته في آذار من عام 1971 فاجعة أحزنت المحافل العلمية والثقافية ورثاه العلماء والمفكرون ونشرت أخبار وفاته على الصفحات الأولى للمجلات والصحف العربية، ليظل اسمه عنواناً للنهضة العربية.

 

جريدة الاتحاد، 2 آذار 1971
جريدة الاتحاد، 2 آذار 1971