عيد الفصح اليهودي و”شمّ النسيم” المصريّ – هل من قرابة؟

ماذا تعرفون عن أعياد الرّبيع القديمة؟ وهل الفصح واحدٌ منها؟ تعرّفوا على القصّة التّراثيّة لكلّ من العيدين، وهل من قرابة أو أصل مشترك بينهما؟

كان المصريّون القدماء يقدّمون قرابينهم من السّمك المملّح إلى “أوزوروس” إله البعث في بداية ربيع كلّ عام ليشكرونه على بعث الرّبيع والخضرة من جديد بعد الشّتاء، وفي ذكرى اليوم الّذي انتصر فيه ابنه الصّالح الإله “حورس” على الإله “ست” إله الشّر فاستوى اللّيل والنّهار وجاء الرّبيع بخيره على البشر. توازى هذا التّقليد القديم مع احتفال غالبيّة الحضارات القديمة بأعياد لطالما ارتبطت معانيها بفصول السّنة وتغيّر الطّبيعة وأثرها على المورد الأوّل للإنسان في ذلك الوقت، الزّراعة والخصوبة.

من المرجّح أنّ العيد “شمّو”، الّذي أصبح فيما بعد “شمّ النّسيم” مناسبة احتفل بها المصريّون القدامى منذ عام 2700 قبل الميلاد، ومن المثير للاهتمام أن هذه المناسبة ما زالت قائمة وملبّاة في مصر اليوم بعد آلاف السّنين وتبدّل الحضارات والأديان. فما زال المصريّون إلى اليوم يتّخذون اليوم التّالي لعيد الفصح المسيحيّ، بحسب التّقويم المسيحي الشّرقي لدى الأقباط، موعدًا ثابتًا للاحتفال بشمّ النّسيم كلّ عام. فتخرج العائلات على اختلاف طوائفها ومذاهبها وتأخذ المأكولات الخاصّة بهذا العيد للاحتفال بقدوم الرّبيع واستنشاق نسيمه، بتقليدٍ مستمرّ منذ ما يزيد عن أربعة آلاف عام. وهو ما يكون أحيانًا موضع انتقادٍ لمن يرى أن الاحتفال بـ “شمّ النّسيم” ممارسة وثنيّة قديمة لا ينبغي اتّباعها الآن.

في الخامس والعشرين من الشّهر الجاري سيحتفل المصريّون في عيد شمّ النّسيم لعام 2022، وسيحضّرون سمك “الرينجة” والبصل الأخضر والخس والطّبق الأشهر لهذا العيد وهو “الفسيخ” أي السّمك المملّح.

ومن المثير للاهتمام، أنّ اسم هذا الطّبق الشّهير الّذي ارتبط بهذا العيد لآلاف السّنين يشبه إلى حدّ بعيد كلمة “الفصح” كما تُلفظ وتُكتب بالعبريّة “بيساخ” وأوّلها حرب الـ “بي” الّذي يلفظ في بعض الأحيان “ف”. وهو العيد الّذي سينتهي موعده لهذا العام أيّام قليلة قبل حلول شم النّسيم المصريّ. فهل يرتبط اسم العيد بنسختيه اليهوديّة والمسيحيّة بعيد “شمّو” الفرعوني؟ وهل الـ “فسيخ” أو الـ “فيساخ”  كلمة فرعونيّة قديمة تدحرجت لتحمل معاني عديدة ارتبطت بمناسبة واحدة؟

جبل سيناء ورحلة خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، القرن ال19، أرشيف ياد يتسحاك
جبل سيناء ورحلة خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، القرن ال19، أرشيف ياد يتسحاك

 

خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، 1829، موقع متحف برمنغهام للفنون
خروج اليهود من مصر، رسم دافيد روبيرتز، 1829، موقع متحف برمنغهام للفنون

تحكي لنا النّصوص التّراثيّة اليهوديّة عن عيد الفصح لليهود بأنّه احتفال الشّعب اليهودي بخروجه من مصر بعد استعباده وظلمه من قبل فرعونها. وأنّه بعد اشتداد ظلم المصرييّن لهم، أراد الرّب أن يعاقب المصريّين بأن يميت أبكارهم الصّبيان جميعًا، وكي لا يصيب أبكار اليهود أمرهم بترك علامات على أسطح بيوتهم كي “يفسخ” عنها ولا يأخذ حياة الصّبيان الّذين بداخلها. و”يفسخ” هنا كلمة عبريّة وردت في التّوراة في سفر الخروج بمعنى “يستثني” أو “يتجاوز”. وبحسب المعتقد اليهوديّ فإنّ تسمية العيد بعيد “الفصح” جاءت من هذه الحادثة ومن هذا اللّفظ بالتّوراة. فبعدها تمكّن اليهود من الخروج بالسّلامة من مصر.

إلّا أن البعض يشير إلى ارتباط خروج اليهود من مصر بعيد شمّ النّسيم، إذ يتزامن الموعدان، ولربّما احتفل اليهود مع المصريّين قبل خروجهم من مصر بعيد “شمّو” إلّا أنّهم بعد الخروج قاموا بتغيير بعض طقوسه لتذكّرهم بالنّجاة من مصر وبقيت الكلمة “فسخ” مرتبطة بالمناسبة بطريقة ما.

إلّا أنّ تشابه الكلمات لا يدلّ بالضّرورة على ارتباط العيدين ببعضهم البعض. فهناك من يفسّر تسمية طبق “الفسيخ” القديم بهذا الاسم بمعنى “الفاسد” أي بسبب ترك السّمك بالملح لمدّة طويلة يصيبه الفساد ويمنحه المذاق اللّذيذ.

أخبرونا أنتم! ماذا تعتقدون؟ هل من علاقة بين “الفصح” والـ “فسيخ” أم أنّ تشابه الكلمات مجرّد صدفة؟ 

يهود بالكوفيّة؛ قصّة الرّداء الّذي تحوّل إلى رمز

تُعرف الكوفيّة اليوم كرمزٍ للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، إلا أننا قد نجد صورًا لكبار الحركة الصّهيونيّة وهم يرتدون الكوفيّة، مع جنود من البلماخ وجيش الدفاع. فما الّذي تغيّر؟

شير برام

تُعرف الكوفيّة اليوم كرمزٍ للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. إلا أننا إذا عدنا إلى بضعة عقود ماضية، نجد صورًا لكبار الحركة الصّهيونيّة وهم يرتدون الكوفيّة، مع جنود من البلماخ ومن جيش الدفاع الاسرائيليّ. فما الّذي تغيّر؟

رئيس الحكومة دافيد بن غوريون أثناء جولة في النّقب مع القائد الشاب إسحاق رابين. أيّار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.
رئيس الحكومة دافيد بن غوريون أثناء جولة في النّقب مع القائد الشاب إسحاق رابين. أيّار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.

 

تخيّلوا المشهد التّالي: رجلٌ ذو هيبة يرتدي الكوفيّة ويحمل عصًا وتحيطه الخرفان وينظر إلى الأمام. خلفه منظر طبيعيّ من الأشجار والصّخور، يبدو كأنه خارج من قصّة شعبيّة قديمة من حكايات البلاد. ومن ثمّ يتّضح من أمام “الراعي” كاميرا كبيرة وخلفها مصوّر محترف، وخلفية الخراف والصّخور والأشجار والسماء الزرقاء، ليست إلّا لوحة كبيرة مرسومة بإتقان، أمّا الرّاعي، فيهوديّ أوروبيّ اسمه “تسفي”، يخرج من الستوديو ويخلع الكوفيّة ويترك العصا ويبدّل ملابس الفلّاح بتلك الّتي أتى بها، ويعود أدراجه إلى شوارع تل أبيب حديثة العهد في بدايات القرن العشرين. كي نفهم ما الّذي دفعه لالتقاط صورة بهذا المظهر، علينا التبحّر في تاريخ الزيّ الّذي يولّد لدى جميعنا اليوم مشاعر كثيرة.

عميناداف التشولر، أحد "مخلّصي أراضي النّقب"، يرتدي الكوفيّة والعقال أثناء غرس شجرة في الصّحراء. شبكة أرشيفات إسرائيل.
عميناداف التشولر، أحد “مخلّصي أراضي النّقب”، يرتدي الكوفيّة والعقال أثناء غرس شجرة في الصّحراء. شبكة أرشيفات إسرائيل.

 

تعتبر الكوفيّة التّقليديّة رمزًا شعبيًّا وسياسيًّا وطبقيًّا، لا سيّما الكوفيّة البيضاء والسّوداء الّتي غدت رمزًا وطنيّا فلسطينيّا بارزًا. إلا أن نظرة إلى الخلف ترينا واقعًا مختلفًا جدًا. منذ بداية القرن العشرين وحتّى سنوات الخمسينيّات تم توثيق كبار الحركة الصّهيونيّة إلى جانب العديد من اليهود وهم يرتدون الكوفيّة، يتصوّرون بها ويجولون الشوارع. ولعل أحد الأمثلة الأشهر هي صورة حاييم وايزمن أثناء لقائه بالأمير فيصل الهاشمي عام 1918، وكان يرتدي كوفيّة فاخرة على رأسه.

.

الأمير فيصل وحايم وايزمن (إلى اليسار) يرتدي الكوفيّة، مدينة عمّان، حزيران 1918.
الأمير فيصل وحايم وايزمن (إلى اليسار) يرتدي الكوفيّة، مدينة عمّان، حزيران 1918.

 

كما ارتدى الكوفيّة أشخاص من البلماخ، هشومير وحتّى جنود من الجيش الإسرائيلي، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، قام المهاجرون اليهود باتّخاذ صورًا تذكاريّة وهم يلبسون الرّداء العربيّ الكامل ومن ضمنه الكوفيّة.

 

راحيل سلوتسكي، إحدى مؤسسّات قرية نهلال (ترتدي زيّ رجولي إلى اليمين) وقريبتها ليزا سلوتسكي (إلى اليسار) برداء بدوي، تصوير ستوديو. شبكة أرشيفات إسرائيل.
راحيل سلوتسكي، إحدى مؤسسّات قرية نهلال (ترتدي زيّ رجولي إلى اليمين) وقريبتها ليزا سلوتسكي (إلى اليسار) برداء بدوي، تصوير ستوديو. شبكة أرشيفات إسرائيل.

 

إسحاق شميلفسكي، شاب يهودي يرتدي الكوفيّة والعقال. شبكة أرشيفات إسرائيل.
إسحاق شميلفسكي، شاب يهودي يرتدي الكوفيّة والعقال. شبكة أرشيفات إسرائيل.

تجوّل طلاب المدارس اليهود في إسرائيل بالكوفيّة، وكذلك الشّباب الصّغار، فكيف إذًا غدت الكوفيّة رمزًا معاديًا للصهيونيّة؟


يهود أوروبا يتبنّون الكوفيّة في محاولة للاندماج بالمنطقة

تأسّست الحركة الصّهيونيّة كحركة أوروبيّة، وقد تأثّرت بالفعل بالمناخ الفكريّ الأوروربيّ في ذلك الوقت بما فيه الاستشراق. وبعد اختيار “فلسطين” المكان الّذي سيقيم فيه اليهود دولتهم بدأت الهجرات الأولى، وقد وجد المهاجرون الأوائل اختلافًا كبيرًا بينهم وبين ساكني البلاد، ورأى الكثير منهم أن ثقافة الفلّاحين العرب ليست سوى استمرار لتلك الثّقافة الّتي وُجدت في مملكة إسرائيل قبل الشّتات اليهوديّ. فقلّدوا يهود البقيعة، على سبيل المثال، كونها عائلات يهوديّة عريقة في البلاد وتعيش أسلوب حياة “أصيل”.

ومن هذا المنطلق حاول المهاجرون الأوائل الاقتداء بسكّان البلاد، فتشير الثّقافة المادّيّة لهؤلاء المهاجرين على محاولة لخلق شخصيّة “اليهودي الجديد” في البلاد.

أولاد المدرسة في قرية "عين جانيم" يرتدون الأبيض والكوفيّات على رؤوسهم، يحملون لافتة مكتوب عليها مدرسة عين جانيم رُسمت عليها نجمة داود وخلفهم مبنى المدرسة. شبكة أرشيفات إسرائيل.
أولاد المدرسة في قرية “عين جانيم” يرتدون الأبيض والكوفيّات على رؤوسهم، يحملون لافتة مكتوب عليها مدرسة عين جانيم رُسمت عليها نجمة داود وخلفهم مبنى المدرسة. شبكة أرشيفات إسرائيل.

ومن الأمثلة الجيّدة على هذا الأمر، هو ستوديو المصوّر أبراهام سوسكين في تل أبيب، من ستوديوهات التصوير اليهوديّة الأولى في البلاد. كانت إحدى الخدمات الّتي يعرضها الستوديو صورة “شرقيّة” لمن يرغب بلباس فلّاحي أو بدوي كامل. توضح لنا أعمال سوسكين الجوّ العام الّذي رافق الحركة الصّهيونيّة حينها في بداية القرن العشرين: تحوّل يهود الشّتات إلى شخصيّة “اليهوديّ الجديد”، واقتباس هويّة قوميّة قديمة رأوا أنّها حتمًا هويّة اليهودي الأصلي. ترينا هذه الصّور كيف نظر اليهود الأوروبيين إلى الثقافة المحلّية حينها وكيف حاولوا تقليدها. رافق هذا الأمر الهجرات الّلاحقة أيضًا، ولا سيما أصحاب الهجرة الثّالثة الّذين حاولوا تقليد أهالي البلاد بمفاهيم عديدة.

 

إسحاق أوز أثناء عمله مع منظمة "هاشومير"، تصوير ستوديو أبراهام سوسكين. من مجموعة عيدا تمير، أرشيف الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
إسحاق أوز أثناء عمله مع منظمة “هاشومير”، تصوير ستوديو أبراهام سوسكين. من مجموعة عيدا تمير، أرشيف الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

مثالٌ بارز على ذلك هو تبنّي منظّمة “هشومير” الّتي يتكوّن معظمها من يهود أشكناز لمظاهر كالكوفيّة والعباءة بغرض الظّهور كالبدو من سكّان البلاد.

 أعضاء منظّمة "هشومير" يرتدون الكوفيّات، اثنان منهم يرتدون غطاء الرأس التّركي والطّربوش، مجموعة الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

أعضاء منظّمة “هشومير” يرتدون الكوفيّات، اثنان منهم يرتدون غطاء الرأس التّركي والطّربوش، مجموعة الصور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

من الجدير التّنبّه بأن هذا النّوع من التّقليد كان مختلفًا إلى حدّ ما عن التقليد الاستشراقي الاستعماريّ، إذ قام الأوروبيّون بالتّنكر بسبب مشاعر السّيادة والاستحواذ، بينما قام أبناء الهجرات الأولى بلبس لباس المحليّين وتبنّوا الكوفيّة من أجل التّقرّب من المكان والشّعور بالانتماء إليه.

كان الطّموح حينها تصميم هويّة جديدة للإنسان اليهودي، لكنّها عتيقة في الوقت ذاته، تعود للثّقافة اليهوديّة التّاريخيّة. حيث رأى اليهود أنّهم يكملون دربها. ويمكننا رؤية هذا التّصوّر “اليهوديّ الجديد” كذلك في الأعمال الفنّية الّتي قام بها المهاجرون الأوائل من الفنّانين الّذين درسوا في بتسيلئيل. الجميع من أبناء المستوطنات الأولى، الشّباب والحركات الشّبابيّة والمنظّمات كـ “الهجناه” والـ “بلماخ”، “إيتسل” و”ليحي”، كلّهم أرادوا تعزيز فكرة “اليهوديّ الجديد” الّذي تميّز بثلاثة أشياء: أولّا أنّه عاد إلى أرض اسرائيل، وثانيّا عمل بالزّراعة والحقل، وثالثا قام بارتداء الكوفيّة.

للكوفيّة الّتي تواجدت في الثّقافة العربيّة من قبل ظهور الإسلام وظائف عديدة، فقد حمت الرأس والوجه من الرّمال والغبار، وظلّلت الفلّاح من الشّمس في الصّيف ووقته من الرّياح في الشّتاء. وللكوفيّة ثلاثة أنواع تقليديّة معروفة: الكوفيّة البيضاء الّتي تنتشر بالأساس في بلاد الخليج العربي وعند البدو أينما تواجدوا كما نجدها أيضًا في العراق، والكوفيّة الحمراء والبيضاء الّتي تنتشر بالأساس في الأردن لكنّنا نجدها في أماكن أخرى كذلك، وأخيرًا الكوفيّة البيضاء والسّوداء التّي يشتهر بها الفلسطينيّون.

 

جنود إسرائيليّين داخل "جيب" أردني مع صورة الملك حسين وهو يرتدي الكوفيّة في القدس بعد احتلال المدينة عام 1967. مجموعة ميتار، مجموعة الصّورة على إسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
جنود إسرائيليّين داخل “جيب” أردني مع صورة الملك حسين وهو يرتدي الكوفيّة في القدس بعد احتلال المدينة عام 1967. مجموعة ميتار، مجموعة الصّورة على إسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

 

كلّما تطوّر المشروع الصّهيونيّ أمام الصّراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، قلّ اهتمام اليهود الصّهيونيّين بتقليد المحلّيين. في كتابه “الاستشراق قبل-اسرائيل”، الّذي يدور حول تصوير اليهود باللباس الفلّاحي والبدوي في البلاد، يشير الباحث دافيد جاس إلى أحداث عام 1929 العنيفة كنقطة مفصليّة في تحوّل توجّه اليهود وعدلوا عن اهتمامهم بتقليد المحلّيين. “تلاشت النظرة الاستشراقيّة الساذجة الّتي هيمنت على أبناء الهجرات الأولى، وتلاشت معها رغبتهم “بالتّمشرق” كأبناء المكان”. وفي أواخر الثّلاثينيّات اندلعت الثّورة العربيّة الكبرى في فلسطين العثمانية، وخلالها تبلورت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتحوّلت الكوفيّة إلى رمزٍ وطنيّ-شعبي-فلسطيني وحلّت مكان الطربوش العثماني. باتت رؤية الكوفيّة كرمز سياسي راسخة في الوعي المحلّي، وفي نهاية المطاف، أصبحت الكوفيّة تمثّل أيديولوجيّة معاكسة للصّهيونيّة.

"الكوفيّة والعقال ترمز لرداء وطني". عن أحداث 36-39. مقالة نشرت في صحيفة "هبوكر". 19 أيلول، 1938.
“الكوفيّة والعقال ترمز لرداء وطني”. عن أحداث 36-39. مقالة نشرت في صحيفة “هبوكر”. 19 أيلول، 1938.

الكوفيّة تلتقط معاني سياسيّة

بعد أحداث عام 1929 ومن ثمّ ثورة 1936، بدأ التّراجع عن ارتداء الكوفيّة بين اليهود وعن تقليد المحلّيين عمومًا، إلّا أنه في سنوات الأربعينيّات والخمسينبّات كان لا يزال هناك ظهور للكوفيّة على رقاب بعض اليهود، ومنهم سياسيّين وشخصيّات عسكريّة. ومن الأمثلة الشّهيرة، صورة دافيد بن غوريون أثناء جولة ميدانيّة خلال حرب 1948، يرتدي الكوفيّة البيضاء حول رقبته وإلى جانبه إسحاق رابين وإيجال ألون حين كانوا لا يزالون قادة صغار.

 

رئيس الحكومة دافيد بن غوريون، يرتدي الكوفيّة أثناء جولة في النّقب مع القائد الشّاب إسحاق رابين وإلى جانبه إيجال ألون. أيار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.رئيس الحكومة دافيد بن غوريون، يرتدي الكوفيّة أثناء جولة في النّقب مع القائد الشّاب إسحاق رابين وإلى جانبه إيجال ألون. أيار، 1949. تصوير: مكتب الصّحافة الحكوميّة.

 

مثال آخر من نفس الحرب، صورة معروفة بعنوان “الفتاة ذات المسدّس”: تظهر في الصّورة ضابطة الاتصالات زيفا أربل تتكئ على شجرة، تحمل سلاحًا وتلفّ كوفيّة على رأسها، بعد إتمام احتلال برفيلية بوقت قليل.

الفتاة ذات المسدّس ترتدي الكوفيّة: زيفا أربيل، ضابطة اتّصالات في كتيبة "يفتاح"، بعد احتلال قرية برفيلية. تمّوز، 1948. تصوير: بوريس كارمي. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة. 
الفتاة ذات المسدّس ترتدي الكوفيّة: زيفا أربيل، ضابطة اتّصالات في كتيبة “يفتاح”، بعد احتلال قرية برفيلية. تمّوز، 1948. تصوير: بوريس كارمي. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

تظهر هاتين الصّورتين أن مكانة الكوفيّة كانت لا تزال حاضرة في الوعي الصّهيونيّ حتّى نهاية الأربعينيّات رغم تحوّلها إلى رمز سياسي فلسطيني قبل أكثر من عقد. في أرشيف بوريس كارمي، “المصوّر العسكري الأوّل”، تمّ توثيق جنود في الجيش الإسرائيلي يلفّون الكوفيّة في مسيرة عسكريّة عام 1958.

 

كوفيّات في مسيرة عسكريّة لجيش الدّفاع الإسرائيلي 1958. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
كوفيّات في مسيرة عسكريّة لجيش الدّفاع الإسرائيلي 1958. مجموعة ميتار، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

 

فقط على مشارف سنوات السّتينيّات، بدأ التّحوّل الواعي الّذي أنهى الاهتمام اليهودي بالكوفيّة بشكل كامل. وخلف هذا التحوّل كان رجلٌ واحد بالأساس اسمه ياسر عرفات.

زيارة عرفات في غزّة، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
زيارة عرفات في غزّة، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

صعدت حركة فتح بقيادة ياسر عرفات بعد الهزيمة الكبرى الّتي نالت الدّول العربيّة عام 1967، وأظهر عرفات نفسه كممثّل عن الفلسطينيّين ومتحدّث باسمهم.

ممّا ميّز طلّة عرفات، إلى جانب البزّة العسكريّة الّتي ارتداها بشكلٍ دائم والسّلاح، كانت كوفيّته البيضاء والسّوداء. بدأ بارتدائها بشكل دائم منذ عام 1956 حين كان أحد طلّاب البعثة المصريّة إلى أوروبا، ومنذ ذلك الحين لم يخلعها في أية مناسبة، وأصبحت الكوفيّة إحدى مميّزات قائد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الأوّل، والّذي لُقّب بـ “أبو الحطّة”.

في سيرة حياة عرفات الّتي كتبها داني روبينشتين، نرى كيف قام عرفات بالاهتمام بكوفيّته بشكل خاص، وكيف قام بلفّها بطريقة محدّدة بحيث يظهر طرفها المنسدل عن كتفه وكأنّه خارطة البلاد. أدّى ظهور عرفات إلى تعزيز مكانة الكوفيّة السّياسيّة. وفي الانتفاضة الأولى قام فلسطينّيون بارتداء الكوفيّة اثناء اشتباكهم مع قوّات الأمن الإسرائيليّة.

مؤيّدو عرفات في رفح، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.
مؤيّدو عرفات في رفح، تمّوز 1994. أرشيف دان هداني، أرشيف الصّور على اسم عائلة فريتسكر، المكتبة الوطنيّة.

بحلول اتفاقيّات أوسلو في سنوات التّسعينيّات، ثبت اعتبار الكوفيّة رمزًا “معادي للصّهيونيّة”، وفي ذلك الوقت، انتشرت صورة لرئيس الحكومة إسحاق رابين وتمّ إضافة رسم للكوفيّة حول رأسه، في إشارة إلى “خيانته”. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، تنتشر رسوم كاريكاتير بين الحين والآخر تستخدم الكوفيّة في تشبيهات مثيلة.

ملصق يهاجم رئيس الحكومة إسحاق رابين يصوّره وهو يرتدي الكوفيّة. مجموعة ملصقات المكتبة الوطنيّة، 1994.
ملصق يهاجم رئيس الحكومة إسحاق رابين يصوّره وهو يرتدي الكوفيّة. مجموعة ملصقات المكتبة الوطنيّة، 1994.

القرن الـ 21: المشكلة هي الفلسطينيّين، لا الكوفيّة؟

مع بداية القرن الـ 21، كان الوعي الجمعي في البلاد مختلفًا عمّا قبل فيما يخصّ الكوفيّة، إن كان من وجهة نظر يهوديّة أو فلسطينيّة. انتهى القرن العشرين بتقطّب واضح. وقد لعبت الكوفيّة أيضًا دورًا في عدّة محاولات لبدء عمليّة السّلام عبر السّنين، فبالإضافة إلى اتّفاقيّات أوسلو، وتلك الصّورة الشّهيرة التّي جمعت عرفات بكوفيّته مع رابين، برزت حادثة في مؤتمر مدريد عام 1991، حين قام الممثّل الفلسطيني صائب عريقات بارتداء الكوفيّة حول رقبته ممّا أثار غضب الحاضرين، بالأساس البعثة الإسرائيليّة. نرى هنا كيف خلال أقل من 50 عام تحوّل الشعور الإسرائيلي تجاه الكوفيّة بشكل جذري، فإذا قام بن غوريون بارتدائها بإرادته عام 48، ففي سنوات التّسعينيّات أصبحت الكوفيّة رمزًا مهدّدًا ومرفوضًا بالنّسبة لليهود.

ومن المثير للاهتمام، أنّ “اتّفاقيّات إبراهيم” الّتي تمّ توقيعها عام 2020 وإقبال السّياحة الإسرائيليّة على دول الخليج العربيّ والمغرب فيما بعد، أدّت إلى تراجع حميد ما فيما يتعلّق بشعور الإسرائيلي تجاه الكوفيّة، إذ قام العديد من الإسرائيليّين بمشاركة صور لهم وهم يرتدون الكوفيّة البيضاء المنتشرة في دول الخليج كجزء من تجربتهم السّياحيّة في ظلّ غياب تام لأي سياق سياسي-فلسطيني. على ما يبدو فإن اليهود مستعدّين للعودة والتّصالح مع غطاء الرأس العربيّ الشّهير. وقد كانت هناك محاولات لصناعة “كوفيّة يهوديّة” تشبه إلى حدّ ما “السردة”، غطاء رأس يهودي كان متواجد في البلاد العربيّة. بالمقابل، استمرّ الفلسطينيّون بالتأكيد على رمزيّة الكوفيّة كأحد مظاهر الهويّة الفلسطينيّة، أيضًا من خلال وسائل فنّية كالموسيقى وبرامج التّلفاز والانترنت ومواقع التّواصل الاجتماعي. فقام المطرب محمّد عسّاف على سبيل المثال بأداء أغنية “علّي الكوفيّة” أثناء مشاركته في برنامج “عرب أيدل” عام 2012، الأغنية الّتي تحتفي بالكوفيّة كرمز وطني فلسطيني.

https://youtu.be/wEUBdZOEDRU

بنظرة إلى الخلف، نرى أن الكوفيّة وتحوّلات رمزيّتها ارتبطت بمراحل تاريخيّة وبصراعات حول مصير البلاد المقدّسة ارتباطًا لا يمكن فصله الآن، ومع ذلك، لم يفت الأوان لنتمنّى أن يأتي يوم ما ولا يكون هذا الرّمز مثقلٌ بالمشاعر إلى هذا الحدّ، لكلا الشّعبين.

 

غريبٌ في الغرب ومستشرقٌ في الشّرق: جولتسهير الّذي لم تتسع له الدنيا

هل كانت "غربيّة" هؤلاء المستشرقين الدّافع الوحيد وراء اهتمامهم بال"شرق"؟ تحمل قصّة إغناس جولتسهير الكثير من الإلهام لمن يسأل هذه الأسئلة.

أدّى صدور كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” عام 1978 وما تبعه من نقاشاتٍ وتساؤلات، لا سيّما في العالم العربيّ، إلى حصر نظرتنا إلى سِير المستشرقين في كونهم غربيّين لا أكثر. وإنّهم من خلال دراستهم للإسلام أو للبلاد الإسلاميّة مهّدوا إلى الاستعمار أو ساهموا في بناء النّظرة الدّونيّة تجاه العرب والمسلمين بسبب رؤيتهم للعالم ضمن فريقين؛ الشّرق بكل ما تحمله هذه الكلمة من غرابة وأسطرة، والغرب العقلانيّ والتقدّمي إلخ..

وبالرّغم من أنّ ما قدّمه سعيد كان غاية في الأهمّية للكشف عن عدسة متحيّزة لا بدّ وأنها أثّرت في قراءة الغرب للبلاد الإسلاميّة والعربيّة ومن ثمّ معالجتها وتفكيكها لاحقًا، إلّا أنه يمكننا أن نتساءل أيضًا، هل كانت “غربيّة” هؤلاء المستشرقين الدّافع الوحيد وراء اهتمامهم بال”شرق”؟ هل كان سحر الشّرق المزعوم كافيًا لافناء عمرٍ في دراسة الإسلام دينًا وتاريخًا وثقافة؟ كيف يمكننا أن نرى هؤلاء كأشخاص، أي كأفراد حملوا مركّبات عديدة في إنسانيّتهم عدى عن انتمائهم للغرب، وخاضوا بكامل إرادتهم مشوار طويل للانغماس في عالم آخر غير الّذي ولدوا فيه؟

إغناس جولتسهير

تحمل قصّة إغناس جولتسهير الكثير من الإلهام لمن يسأل هذه الأسئلة. وربّما علينا أن نعرف من هو جولتسهير قبل أن نجيب لماذا.

يعتبر الكثيرون المستشرق إغناس جولتسهير، أو إسحق يهودا جولتسهير، أحد مؤسسّي، إن لم يكن المؤسّس الرّئيسيّ، للدّراسات الإسلاميّة في أوروبا. بحث اللّغة العربيّة وآدابها ولغات ساميّة أخرى وجوانب متعدّدة للإسلام، كتفسير القرآن، والحديث والعقيدة، وصولًا إلى اهتمامه بتيّارات حديثة في الفكر الدّيني الإسلامي. تربّع اهتمامه على إسلام العصور الوسطى، إلا أنّ الأثر العلميّ الذّي تركه ما زال يعتبر مادّة مؤسّسة للدّراسات الإسلاميّة كمجال أكاديميّ حديث.

ولد جولتسهير لعائلة يهوديّة عام 1850 في المجر، موطنه الّذي بقي مخلصًا له حتّى توفّي في بودابست عام 1921. ومن المفارقة أن الفترة الّتي عاش فيها جولتسهير تميّزت بصعود اللّاساميّة الأوروبيّة بشكل كبير، ممّا أثر في حياته اليوميّة وفي سعيه الأكاديميّ، فرغم انجازات جولتسهير المبهرة أكاديميّا، إلا أن تعيينه بدرجة أستاذ (بروفسور) بشكل رسميّ، تأخّر كثيرًا. فاخلاصه لمعتقده اليهوديّ ولدين أجداده منعه من اعتناق المسيحيّة واكتساب الامتيازات الممكنة الّتي حُرم منها كيهوديّ يعيش في أوروبا في المنتصف الثّاني من القرن التّاسع عشر.

بدأت مسيرة جولتسهير العلميّة من الاهتمام بالعبريّة واليهوديّة كصبيّ يافع، ولإلمامه الشّديد في الأعمال الكلاسيكيّة والأدبيات اليهوديّة تلقّى فرصة الدّراسة العليا تبعًا للإصلاحات الأكاديميّة الّتي بثّتها الحكومة المجريّة حينها، والّتي احتوت على تطوير الدرّاسات الشرقيّة ومن ضمنها الدّراسات اليهوديّة في المجر.

تطوّرت معارف جولتسهير وتشعّبت، وفي دراساته اللاحقة في جامعات عدّة في برلين ولازبك وليدن، تحوّل اهتمام جولتسهير إلى الإسلام وقام بتوسعة بحثه واهتماماته بشكل ملحوظ، ممّا أعطاه الفرصة لزيارة بلدان عدة في الشّرق الأوسط بدعم من الحكومة المجريّة. فزار سوريا وفلسطين والقاهرة، حيث مكث وتمكّن من تلقي المحاضرات وسماع الخطب في جامع الأزهر، بل وممارسة الحياة الإسلاميّة ومعايشتها عن قرب، وهناك دوّن مذكّرات رحلته الّتي أثرت فيه في مذكّراته الّتي نشرت بعنوان Tagebuch بالألمانيّة، وأبدى في أجزاء منها تقرّبًا من الإسلام ومن الثّقافة الإسلاميّة على نحوٍ مفاجئ.

جولتسهير مع أبنائه في تسعينيّات القرن التّاسع عشر في بودابست، مجموعة أبراهام شفادرون في المكتبة الوطنيّة.
جولتسهير مع أبنائه في تسعينيّات القرن التّاسع عشر في بودابست، مجموعة أبراهام شفادرون في المكتبة الوطنيّة.

 

إلّا أن جولتسهير العالِم من جهة أخرى، لو يتوانى عن إظهار نظرته النّقديّة في دراسة الإسلام، والقصد هنا هو دراسة تاريخ الدّيانة الإسلاميّة بجوانبها المتعدّدة، كإبداء رأيه في أدبيات الحديث أو تأثّر مراحل معيّنة من تطوّر الدّين الإسلاميّ بديانات أخرى أو حضارات أخرى. ولذلك نجد احيانا نقدًا شديدًا لشخص جولتسهير في المصادر العربيّة الّتي ذكرته، كترجمات أعماله أو في مؤلّفات تحت عنوان “الغزو الفكري”. كما نجد من جهة أخرى تقديرًا له ولأبحاثه الأصيلة، وربّما لشغفه تجاه الإسلام. لكنّنا هنا نعود لسؤالنا: ما الّذي دفعه إلى دراسة الإسلام، لا سيّما في ظلّ غربته كيهوديّ عاش في فترة امتازت بكراية اليهود في أوروبا؟

مكتبة جولتسهير وأرشيفه

خلّف جولتسير مكتبة ضخمة من مؤلّفات وأعمال جمعها في مواضيع ولغات شتّى، وكان أبراهام شالوم يهودا، تلميذه وصديق عائلته، من أشرف على انتقال محتويات هذه المكتبة على يد المنظّمة الصّهيونيّة إلى المكتبة الوطنيّة اليهوديّة حينها (المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة اليوم) بعد وفاة جولتسهير وموافقة عائلته. تحتوي المواد الأرشيفيّة الخاصّة بجولتسهير والّتي يتواجد جزء منها في المكتبة الوطنيّة وجزء كبير في مكتبة الأكاديميا المجريّة للعلوم على مراسلات شخصيّة وعلى مذكرّات جولتسهير الخاصّة الّتي بدأ بتدوينها في سنّ الأربعين.

مقالة أ.ش يهودا عن مكتبة جولتسهير في صحيفة Jewish Chronicle في الرّابع عشر من نيسان عام 1924، أرشيف أبراهام شالوم يهودا في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
مقالة أ.ش يهودا عن مكتبة جولتسهير في صحيفة Jewish Chronicle في الرّابع عشر من نيسان عام 1924، أرشيف أبراهام شالوم يهودا في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

ومن خلال هذه المراسلات الشخصيّة والرّسميّة والمدونات اليوميّة، تمكّن المهتمّون بحياته الشّخصيّة من الكشف عن الشخصيّته الحساسة والمفعمة بالإنسانيّة والتّعقيد. قدّم بعضٌ من طلّاب جولتسهير أو أصدقائه وزملائه بالإضافة الى باحثين معاصرين محاولات عديدة لتحليل شخصيّته وحياته، ولمحاولة فهم دوافعه لعيش حياة شاقة، بين البحث في الإسلام من جهة، ونشاطه في خدمة مجتمعه اليهوديّ في المجر من جهة، والتّمييز ضده كأكاديميّ لم ينل ما يستحقّه من تقديرٍ كافٍ لفترة طويلة من حياته.

مؤتمر في ذكرى مرور مائة عام على رحيل جولتسهير وفيه محاضرات عديدة عن أعماله وعن حياته

فبالرغم من تلقّي جولتسهير لعروض مغرية لشغل مناصب أكاديميّة رفيعة في بلدان أخرى ، ومنها في جامعة القاهرة بدعوة من الأمير فؤاد (الملك فؤاد لاحقًا) وتلقّي رواتب أفضل في جامعة كامبريدج على سبيل المثال، فقد رفض مغادرة المجر، وآثر أن يبقى بجوار عائلته ومجتمعه رغم الظروف الصّعبة، كما إنّه لم ينتسب إلى الحركة الصّهيونيّة الّتي عايش ازدهارها واعتبر المجر موطنه.

فجولتسهير الإنسان لم يكن أوروبيًا عاديًا، بل كان من هؤلاء الّذين شعروا بالغربة في أوروبا في ذلك الوقت، الغربة لا بمعنى عدم الانتماء، بل هو عكس ما تظهره مسيرة جولتسهير واختياراته المهنيّة والشخصيّة إذ لم يبد أي تردد في رفض كل عروض خروجه من المجر، بل الغربة بمعنى الاغتراب  اليوميّ، والقلق والأرق الّذي عاشه الإنسان اليهوديّ المضطهد في بيئة أقصته ولم يتمكّن من التمّاهي معها. وهو ما يظهر في مراسلاته مع أصدقائه المقرّبين.

ربّما كان الإسلام وخوض غمار التّعرف عليه كثقافة مغايرة عن تلك الّتي يعايشها في مكانه وزمانه ملاذًا له؟ ربما أراد التّعرف على الحضارة التي عرفها جولتسهير الصّبي من كتابات موسى بن ميمون وغيره؟ ربّما مكنته خلفيّته الثّرية في التّراث اليهوديّ من رؤية الإسلام بعيون أكثر تفهمًا من غيره، فكانت حياته العلميّة منفذًا للانسان الّذي يعيش في أزمة ما بين تعلقه بانتمائه التراثي والديني من جهة وموطنه من جهة أخرى ؟ هل عاش جولتسهير “خارج المكان” هو الآخر كما وصف ادوارد سعيد تجربته في سيرته الذّاتية؟ لا ندري، لكن ليس ببعيد أن تتشابه التجارب الانسانيّة إلى هذا الحد، وإن بدت متضادة من بعيد.

رسالة جولتسهير إلى أ.ش يهودا عام 1904 تعليقًا على مسودّة تلقّاها منه، يعبّر بختامها عن امتعاضه في تلك الفترة وشعوره بالكآبة. أرشيف أبراهام شالوم يهودا في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
رسالة جولتسهير إلى أ.ش يهودا عام 1904 تعليقًا على مسودّة تلقّاها منه، يعبّر بختامها عن امتعاضه في تلك الفترة وشعوره بالكآبة. أرشيف أبراهام شالوم يهودا في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة. `

 

المصادر والمراجع:

1. Ignaz Goldziher and his Oriental diary: a translation and psychological portrait / Raphael Patai.

2. Ignac Goldziher: His life and scholarship as reflected in his works and correspondence / Robert Simon

3. يوميات ايجناس جولدتسهير: ترجمة محمد عوني وعبد الحميد مرزوق

 

كيف احتفت بغداد بابن سينا عام 1952؟ نظرة على “الكتاب الذّهبي”

افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات "الكتاب الذّهبي" الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان "ابن سينا" الّذي أقيم في بغداد.

من علامات الأمم الحيّة أن تعتني بكبرائها في الفلسفة أو في العلم أو في الفنّ أو في الحرب، ولها في ذلك طرقٌ مختلفة: إما بإقامة التّماثيل لهم، أو تسمية المعاهد والشّوارع بأسمائهم، أو بإقامة المهرجانات لذكراهم. وقد تنبّه العرب أخيرًا إلى ذلك، فأقاموا مرة مهرجانًا للمتنبّي، وأخرى مهرجانًا لأبي العلاء، وهذا مهرجان ابن سينا”

افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات “الكتاب الذّهبي” الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان “ابن سينا” الّذي أقيم في بغداد برعاية الملك فيصل الثّاني.

لم يكن هذا المهرجان هو الأوّل من نوعه في العالم، فقد سبقه مهرجان في تركيا لأن الشّيخ الرّئيس وُلد في تركستان واعتبرت أصوله تركيّة. ثمّ ظهرت فكرة لمهرجان جديد بذكرى مرور ألف عامٍ على مولد ابن سينا، وتمّ العمل لها ما بين طهران وبغداد لأكثر من عامين. في أعقاب التحضير لهذا المهرجان أُقيم تمثال ابن سينا في همذان، ورُسمت صورة متخيّلة له وطُبعت ووزّعت على طوابع بريديّة لتخليد اسمه، وجمعت مخطوطات لمختلف أعماله وحقّق بعضها وتُرجم ونُشر.

: طابع بريد إيراني تم انتاجه اثناء العمل على المهرجان، رسم ابن سينا على يد الفنّان أبو الحسن صديقي، مصدر الصورة ويكيبيديا
طابع بريد إيراني تم انتاجه اثناء العمل على المهرجان، رسم ابن سينا على يد الفنّان أبو الحسن صديقي، مصدر الصورة ويكيبيديا

ترأس أحمد أمين اللجنة العامّة لابن سينا وإدارة العمل الّذي دام لأكثر من عامين على هذا المشروع الثّقافي الضخم الّذي جمع أكثر من مائة وعشرين عالم وباحث من العراق، مصر، سوريا، لبنان، الأردن،ليبيا، أندونيسيا، إيران، تركيا، إسبانيا، ألمانيا، إنجلترا، أمريكا وفرنسا. عملت على المشروع لجان عديدة من عدّة دول وقسّمت مهام العمل وتنظيم المهرجان فيما بينها، وكان هذا من آخر المشاريع الكبرى الّتي عمل بها أمين قبل وفاته عن عمر يناهز السّابعة والسّتين بعد عامين. وقد قام بتقديم البحث الّذي أجراه حول قصّة “حيّ بن يقظان” في المهرجان وفي الكتاب الذّهبي. وكان من أعضاء اللجنة العليا لتنظيم أعمال المهرجان كل من المؤرّخين عبد العزيز الدّوري وجواد علي وغيرهم.

اجتمع كلّ هؤلاء في مهرجان دام ثمانية أيام في بغداد ارتأت لجان العمل تخليدها في كتاب سمّوه “الكتاب الذّهبي” يلخّص ما جرى بها من أبحاث علميّة قاموا بتلخيصها وحتّى جلسات الشّاي وأحاديث الصّباح. ثمانية أيّام حافلة اشتملت على أكثر من أربعين محاضرة علميّة والعديد من الأنشطة الثّقافيّة الصّباحيّة والمسائيّة الّتي تمّ جزء منها في البلاط الملكيّ.

في اليوم الأول، وبعد اجتماع الأعضاء المدعوين جميعًا في بهو الأمانة للتعرّف واستلام شاراتهم في العاشرة صباحًا، اتّجه الجميع معًا لزيارة المقبرة الملكيّة ووضع الأكاليل باسم الوفود القادمة من بلدان عدّة. ثم إلى البلاط الملكيّ لتقييد الأسماء في سجلّ التشريفات الملكيّة، ولاحقًا، حفلة الافتتاح بقاعة الملك فيصل الثّاني الّتي افتتح المهرجان بها ولي العهد الأمير عبد الإله، ثمّ كلمة كل من وزير المعارف ولجنة ابن سينا وأحمد أمين ومندوب اليونيسكو ومندوب الدّول الشّرقيّة رئيس وفد إيران وآخرين.

ركّز معظم المتحدّثين في الجلسة الافتتاحيّة على عالميّة ابن سينا الملقّب بالـ “شيخ الرّئيس” واحتفت بأهميّة إرثه لحضارات وثقافات عديدة. بعد هذه الجلسة، عقد المهرجان تسعة جلسات أخرى تخلّلت عشرات المحاضرات والنّقاشات وزّعت على سبعة أيام متتالية وتوثيق جميعها في “الكتاب الذّهبي”.

أمّا اليوم الثّاني، فافتتح بمعرض كتاب ابن سينا ومعرض فنّي في معهد الفنون الجميلة. تلته زيارة جماعيّة للمتحف العراقيّ والمدرسة المستنصريّة ومن ثمّ مأدبة لجنة ابن سينا العراقيّة في حدائق مسبح الأمانة. أمّا في اليوم الثّالث، فكان طويلًا جدًا، حيث بدأ بجلسة ناقشت سبعة أبحاث تلتها جلسة أربع محاضرات متتالية، إلا أن النهار انتهى بـ “حفلة سمر ويعزف فيها على الكمان الأستاذ سامي الشوا”.

 

المتحدثون في حفل الافتتاح

وكان اليوم الرّابع مكتظًّا بالأبحاث والمحاضرات كذلك، إلا أن اليوم الخامس كان يومًا للتنزّه في بابل والحلّة منذ الصّباح وحتّى الغروب. كانت الأيام المقبلة مكتظّة للغاية، فلا تفهم مثلًا كيف تمكّن الأعضاء من مناقشة تسعة أبحاث والاستماع إلى محاضرتين ومن ثمّ الذّهاب في رحلة الى الموصل. بالإضافة إلى ذلك، ولقد تمّت إذاعة الجلسة الإفتتاحيّة والختاميّة على إذاعة بغداد.

عند الاطّلاع على الصّور وقائمة الأعضاء المدعوين الّتي تظهر مفصّلة في الكتاب، يندر أن نرى صورة أو اسمًا لسيّدة شاركت في المهرجان، إلا أن اسمين لسيّدتين يظهران في قائمة الوفد اللبناني عن وزارة التّربيّة وهما الآنسة إنعام الصّغير والآنسة فهيمة الأحدب. كما أن تلاخيص الأبحاث تظهر مشاركة نسائيّة لا بأس بها، كالبحث حول ترجمات ابن سينا إلى اللاتينية وانتشارها في القرون الوسطى للآنسة دالفيرني، ومحاضرة “الجديد في منطق ابن سينا” للآنسة جواشون.