مكتبة من حول العالم- تعرّفوا على مجموعة دافيد أيالون!

في هذه المقالة، تعرّفوا على المؤرّخ أيالون الذي جمّع المخطوطات خلال مسيرته العلميّة.

تذخر المواقع الالكترونيّة للمكتبات الكُبرى اليوم بكتب دراسيّة معمّقة في تاريخ الإسلام، ونسخ الكترونيّة لمخطوطات تجدونها متاحة عن بُعد، تحصلون عليها عبر شاشاتكم بمجرّد الضّغط على زر، فترون المخطوطات وتقرأون الدّراسات وتشاهدون المحاضرات المسجّلة. وعلى الرغم من صعوبة الأمر، إلّا أن باحثي التّاريخ الإسلامي في الماضي كان عليهم تحمّل مشقّة لا نكاد نعرف عنها شيء في الوفرة الرّقميّة الّتي نعيشها اليوم. فلكي يتمكّن الباحث من التّعمق في المواضيع الّتي تثير اهتمامه، كان عليه أن يبحث عن المخطوطات القديمة المتعلّقة بالأمر ليعرف في أي مكتبة تقع، ثمّ إن لم يجد نسخة محقّقة ومطبوعة منها، كان عليه أن يراسل المكتبة أو الجهة المالكة للمخطوطة طالبًا الحصول على صورة عن تلك المخطوطة المحدّدة، وإن لم يسمح الأمر فكان عليه شدّ الرّحال إلى تلك المكتبة ليتمكّن من رؤية المادّة اللازمة، وقد تنفعه هذه المادّة وقد يتّضح أنها لا تمتّ لموضوع بحثه بصلة. فلكم أن تتخيّلوا المجهود الّذي كان على الباحث أن يبذله فقط في المرحلة الأولى من جمع المواد والمصادر الأوّليّة.

صورة لكتاب في ترتيب مملكة الديار المصرية وامرائها وأركانها وأرباب الوظائف – من مكتبة برلين (بالإنجليزية)
صورة لكتاب في ترتيب مملكة الديار المصرية وامرائها وأركانها وأرباب الوظائف – من مكتبة برلين (بالإنجليزية)

 

هذه هي قصّة الباحث في التّاريخ الإسلامي بروفسور دافيد أيالون (1914-1998)، الّذي بدأ مسيرته بدراسة الأدب العربيّ في الجامعة العبريّة في سنوات الثّلاثينات، وخلّف بعد وفاته مجموعة غنيّة من صور المخطوطات الّتي حصل عليها من مكتبات شتّى حول العالم خلال مسيرته العلميّة؛ بين مكتباتٍ عريقة في مصر وسورية ومكتبات في الهند وإيران وحتّى مكتبات العواصم الأوروبيّة، جمع أيالون صورًا  لقرابة 240 مادّة لأمّهات الكتب في التّاريخ الإسلامي وبعض الأعمال في الأدب.


دافيد أيالون:
وُلد دافيد أيالون في مدينة حيفا عام 1914، التحق بالجامعة العبريّة عام 1933 لدراسة الأدب العربيّ وتاريخ الشّرق الأوسط وشعب إسرائيل، ثمّ في مرحلة الماجستير والدكتوراه قدّم أطروحاته حول التّاريخ المملوكي. بعد قيام دولة إسرائيل، عمل في مكتب الوزارة الخارجيّة كباحثٍ في شؤون الشّرق الأوسط لمدّة وجيزة ثمّ عاد إلى صفوف الدّراسة في الجامعة العبريّة كمحاضر في قسم دراسات آسيا وإفريقيا.

ساهم أيالون بإعداد قاموس العربيّة-العبريّة الأوّل في البلاد عام 1947 بالشّراكة مع الباحث بيساح شنعار (1914-2013)، وقدّم عشرات الأبحاث الأصيلة في التّاريخ الإسلاميّ، لا سيّما فيما يخصّ التّاريخ السّياسي والعسكري للمماليك في مصر.

المجموعة في المكتبة:
قامت زوجة الرّاحل أيالون السّيدة مريام روزن/أيالون بالتّبرّع بمجموعة المخطوطات المصوّرة إلى المكتبة الوطنيّة مشكورة، ولفهرسة هذه المجموعة الهامّة، قام فريق المكتبة بالتّعرف على الأعمال الّتي اشتملت عليها المجموعة وبرصد مصادرها حول العالم من أجل إدراج المعلومات الصّحيحة حول المكتبة الأمّ لكل مخطوطة.

من الجدير الملاحظة بأنّ عملية الفهرسة هذه لم تكن اللقاء الأوّل بين هذه المخطوطات وفريق عمل المكتبة الوطنيّة، ففي كلّ مرّة كان أيالون يحصل على صورة لمخطوطة وصلته من مكتبة ما على شريط “ميكروفيلم”، كان يقوم بطباعتها وتجليدها مستعينًا بخدمات المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة. ومن الجميل أنّ هذه المجموعة عادت إلى المكتبة من جديد حاملة آثار رحلة المؤرّخ ليستعين بها باحثون جدد.

بالرّغم من اشتمال المجموعة على مخطوطات مصوّرة فقط إلّا أنها ذات أهميّة لعدّة أسباب، بعض المخطوطات المصوّرة غير متاحة رقميًا من قبل المكتبة المالكة، ممّا سيتيح للباحثين المهتمّين بتلك المخطوطات الوصول إليها من خلال المكتبة الوطنيّة، ومن جهة أخرى، فالمجموعة تحتوي على ملاحظات العمل الخاصّة بأيالون، ممّا سيمكّن المهتمّين من التّعرف على آليّة عمل المؤرّخ والطّرق المتّبعة حينها. وبالّرغم من صدور نُسخ محقّقة لمعظم الأعمال الّتي اشتملت عليها المجموعة، ما زال تصفّح صور المخطوطات يشكّل تجربة فريدة ومثرية.

في الوقت الحالي، ما زالت المجموعة غير متاحة للتّصفح عن بُعد، إلّا أنّه بامكانكم الاطّلاع على المواد المدرجة في فهرس المكتبة والاطّلاع على المخطوطات الّتي تهمّكم من مبنى المكتبة بعد طلبها مسبقًا

لتصفّح المخطوطات المدرجة في الفهرس

 

غريبٌ في الغرب ومستشرقٌ في الشّرق: جولتسهير الّذي لم تتسع له الدنيا

هل كانت "غربيّة" هؤلاء المستشرقين الدّافع الوحيد وراء اهتمامهم بال"شرق"؟ تحمل قصّة إغناس جولتسهير الكثير من الإلهام لمن يسأل هذه الأسئلة.

أدّى صدور كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” عام 1978 وما تبعه من نقاشاتٍ وتساؤلات، لا سيّما في العالم العربيّ، إلى حصر نظرتنا إلى سِير المستشرقين في كونهم غربيّين لا أكثر. وإنّهم من خلال دراستهم للإسلام أو للبلاد الإسلاميّة مهّدوا إلى الاستعمار أو ساهموا في بناء النّظرة الدّونيّة تجاه العرب والمسلمين بسبب رؤيتهم للعالم ضمن فريقين؛ الشّرق بكل ما تحمله هذه الكلمة من غرابة وأسطرة، والغرب العقلانيّ والتقدّمي إلخ..

وبالرّغم من أنّ ما قدّمه سعيد كان غاية في الأهمّية للكشف عن عدسة متحيّزة لا بدّ وأنها أثّرت في قراءة الغرب للبلاد الإسلاميّة والعربيّة ومن ثمّ معالجتها وتفكيكها لاحقًا، إلّا أنه يمكننا أن نتساءل أيضًا، هل كانت “غربيّة” هؤلاء المستشرقين الدّافع الوحيد وراء اهتمامهم بال”شرق”؟ هل كان سحر الشّرق المزعوم كافيًا لافناء عمرٍ في دراسة الإسلام دينًا وتاريخًا وثقافة؟ كيف يمكننا أن نرى هؤلاء كأشخاص، أي كأفراد حملوا مركّبات عديدة في إنسانيّتهم عدى عن انتمائهم للغرب، وخاضوا بكامل إرادتهم مشوار طويل للانغماس في عالم آخر غير الّذي ولدوا فيه؟

إغناس جولتسهير

تحمل قصّة إغناس جولتسهير الكثير من الإلهام لمن يسأل هذه الأسئلة. وربّما علينا أن نعرف من هو جولتسهير قبل أن نجيب لماذا.

يعتبر الكثيرون المستشرق إغناس جولتسهير، أو إسحق يهودا جولتسهير، أحد مؤسسّي، إن لم يكن المؤسّس الرّئيسيّ، للدّراسات الإسلاميّة في أوروبا. بحث اللّغة العربيّة وآدابها ولغات ساميّة أخرى وجوانب متعدّدة للإسلام، كتفسير القرآن، والحديث والعقيدة، وصولًا إلى اهتمامه بتيّارات حديثة في الفكر الدّيني الإسلامي. تربّع اهتمامه على إسلام العصور الوسطى، إلا أنّ الأثر العلميّ الذّي تركه ما زال يعتبر مادّة مؤسّسة للدّراسات الإسلاميّة كمجال أكاديميّ حديث.

ولد جولتسهير لعائلة يهوديّة عام 1850 في المجر، موطنه الّذي بقي مخلصًا له حتّى توفّي في بودابست عام 1921. ومن المفارقة أن الفترة الّتي عاش فيها جولتسهير تميّزت بصعود اللّاساميّة الأوروبيّة بشكل كبير، ممّا أثر في حياته اليوميّة وفي سعيه الأكاديميّ، فرغم انجازات جولتسهير المبهرة أكاديميّا، إلا أن تعيينه بدرجة أستاذ (بروفسور) بشكل رسميّ، تأخّر كثيرًا. فاخلاصه لمعتقده اليهوديّ ولدين أجداده منعه من اعتناق المسيحيّة واكتساب الامتيازات الممكنة الّتي حُرم منها كيهوديّ يعيش في أوروبا في المنتصف الثّاني من القرن التّاسع عشر.

بدأت مسيرة جولتسهير العلميّة من الاهتمام بالعبريّة واليهوديّة كصبيّ يافع، ولإلمامه الشّديد في الأعمال الكلاسيكيّة والأدبيات اليهوديّة تلقّى فرصة الدّراسة العليا تبعًا للإصلاحات الأكاديميّة الّتي بثّتها الحكومة المجريّة حينها، والّتي احتوت على تطوير الدرّاسات الشرقيّة ومن ضمنها الدّراسات اليهوديّة في المجر.

تطوّرت معارف جولتسهير وتشعّبت، وفي دراساته اللاحقة في جامعات عدّة في برلين ولازبك وليدن، تحوّل اهتمام جولتسهير إلى الإسلام وقام بتوسعة بحثه واهتماماته بشكل ملحوظ، ممّا أعطاه الفرصة لزيارة بلدان عدة في الشّرق الأوسط بدعم من الحكومة المجريّة. فزار سوريا وفلسطين والقاهرة، حيث مكث وتمكّن من تلقي المحاضرات وسماع الخطب في جامع الأزهر، بل وممارسة الحياة الإسلاميّة ومعايشتها عن قرب، وهناك دوّن مذكّرات رحلته الّتي أثرت فيه في مذكّراته الّتي نشرت بعنوان Tagebuch بالألمانيّة، وأبدى في أجزاء منها تقرّبًا من الإسلام ومن الثّقافة الإسلاميّة على نحوٍ مفاجئ.

جولتسهير مع أبنائه في تسعينيّات القرن التّاسع عشر في بودابست، مجموعة أبراهام شفادرون في المكتبة الوطنيّة.
جولتسهير مع أبنائه في تسعينيّات القرن التّاسع عشر في بودابست، مجموعة أبراهام شفادرون في المكتبة الوطنيّة.

 

إلّا أن جولتسهير العالِم من جهة أخرى، لو يتوانى عن إظهار نظرته النّقديّة في دراسة الإسلام، والقصد هنا هو دراسة تاريخ الدّيانة الإسلاميّة بجوانبها المتعدّدة، كإبداء رأيه في أدبيات الحديث أو تأثّر مراحل معيّنة من تطوّر الدّين الإسلاميّ بديانات أخرى أو حضارات أخرى. ولذلك نجد احيانا نقدًا شديدًا لشخص جولتسهير في المصادر العربيّة الّتي ذكرته، كترجمات أعماله أو في مؤلّفات تحت عنوان “الغزو الفكري”. كما نجد من جهة أخرى تقديرًا له ولأبحاثه الأصيلة، وربّما لشغفه تجاه الإسلام. لكنّنا هنا نعود لسؤالنا: ما الّذي دفعه إلى دراسة الإسلام، لا سيّما في ظلّ غربته كيهوديّ عاش في فترة امتازت بكراية اليهود في أوروبا؟

مكتبة جولتسهير وأرشيفه

خلّف جولتسير مكتبة ضخمة من مؤلّفات وأعمال جمعها في مواضيع ولغات شتّى، وكان أبراهام شالوم يهودا، تلميذه وصديق عائلته، من أشرف على انتقال محتويات هذه المكتبة على يد المنظّمة الصّهيونيّة إلى المكتبة الوطنيّة اليهوديّة حينها (المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة اليوم) بعد وفاة جولتسهير وموافقة عائلته. تحتوي المواد الأرشيفيّة الخاصّة بجولتسهير والّتي يتواجد جزء منها في المكتبة الوطنيّة وجزء كبير في مكتبة الأكاديميا المجريّة للعلوم على مراسلات شخصيّة وعلى مذكرّات جولتسهير الخاصّة الّتي بدأ بتدوينها في سنّ الأربعين.

مقالة أ.ش يهودا عن مكتبة جولتسهير في صحيفة Jewish Chronicle في الرّابع عشر من نيسان عام 1924، أرشيف أبراهام شالوم يهودا في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
مقالة أ.ش يهودا عن مكتبة جولتسهير في صحيفة Jewish Chronicle في الرّابع عشر من نيسان عام 1924، أرشيف أبراهام شالوم يهودا في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

ومن خلال هذه المراسلات الشخصيّة والرّسميّة والمدونات اليوميّة، تمكّن المهتمّون بحياته الشّخصيّة من الكشف عن الشخصيّته الحساسة والمفعمة بالإنسانيّة والتّعقيد. قدّم بعضٌ من طلّاب جولتسهير أو أصدقائه وزملائه بالإضافة الى باحثين معاصرين محاولات عديدة لتحليل شخصيّته وحياته، ولمحاولة فهم دوافعه لعيش حياة شاقة، بين البحث في الإسلام من جهة، ونشاطه في خدمة مجتمعه اليهوديّ في المجر من جهة، والتّمييز ضده كأكاديميّ لم ينل ما يستحقّه من تقديرٍ كافٍ لفترة طويلة من حياته.

مؤتمر في ذكرى مرور مائة عام على رحيل جولتسهير وفيه محاضرات عديدة عن أعماله وعن حياته

فبالرغم من تلقّي جولتسهير لعروض مغرية لشغل مناصب أكاديميّة رفيعة في بلدان أخرى ، ومنها في جامعة القاهرة بدعوة من الأمير فؤاد (الملك فؤاد لاحقًا) وتلقّي رواتب أفضل في جامعة كامبريدج على سبيل المثال، فقد رفض مغادرة المجر، وآثر أن يبقى بجوار عائلته ومجتمعه رغم الظروف الصّعبة، كما إنّه لم ينتسب إلى الحركة الصّهيونيّة الّتي عايش ازدهارها واعتبر المجر موطنه.

فجولتسهير الإنسان لم يكن أوروبيًا عاديًا، بل كان من هؤلاء الّذين شعروا بالغربة في أوروبا في ذلك الوقت، الغربة لا بمعنى عدم الانتماء، بل هو عكس ما تظهره مسيرة جولتسهير واختياراته المهنيّة والشخصيّة إذ لم يبد أي تردد في رفض كل عروض خروجه من المجر، بل الغربة بمعنى الاغتراب  اليوميّ، والقلق والأرق الّذي عاشه الإنسان اليهوديّ المضطهد في بيئة أقصته ولم يتمكّن من التمّاهي معها. وهو ما يظهر في مراسلاته مع أصدقائه المقرّبين.

ربّما كان الإسلام وخوض غمار التّعرف عليه كثقافة مغايرة عن تلك الّتي يعايشها في مكانه وزمانه ملاذًا له؟ ربما أراد التّعرف على الحضارة التي عرفها جولتسهير الصّبي من كتابات موسى بن ميمون وغيره؟ ربّما مكنته خلفيّته الثّرية في التّراث اليهوديّ من رؤية الإسلام بعيون أكثر تفهمًا من غيره، فكانت حياته العلميّة منفذًا للانسان الّذي يعيش في أزمة ما بين تعلقه بانتمائه التراثي والديني من جهة وموطنه من جهة أخرى ؟ هل عاش جولتسهير “خارج المكان” هو الآخر كما وصف ادوارد سعيد تجربته في سيرته الذّاتية؟ لا ندري، لكن ليس ببعيد أن تتشابه التجارب الانسانيّة إلى هذا الحد، وإن بدت متضادة من بعيد.

رسالة جولتسهير إلى أ.ش يهودا عام 1904 تعليقًا على مسودّة تلقّاها منه، يعبّر بختامها عن امتعاضه في تلك الفترة وشعوره بالكآبة. أرشيف أبراهام شالوم يهودا في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
رسالة جولتسهير إلى أ.ش يهودا عام 1904 تعليقًا على مسودّة تلقّاها منه، يعبّر بختامها عن امتعاضه في تلك الفترة وشعوره بالكآبة. أرشيف أبراهام شالوم يهودا في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة. `

 

المصادر والمراجع:

1. Ignaz Goldziher and his Oriental diary: a translation and psychological portrait / Raphael Patai.

2. Ignac Goldziher: His life and scholarship as reflected in his works and correspondence / Robert Simon

3. يوميات ايجناس جولدتسهير: ترجمة محمد عوني وعبد الحميد مرزوق

 

كيف احتفت بغداد بابن سينا عام 1952؟ نظرة على “الكتاب الذّهبي”

افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات "الكتاب الذّهبي" الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان "ابن سينا" الّذي أقيم في بغداد.

من علامات الأمم الحيّة أن تعتني بكبرائها في الفلسفة أو في العلم أو في الفنّ أو في الحرب، ولها في ذلك طرقٌ مختلفة: إما بإقامة التّماثيل لهم، أو تسمية المعاهد والشّوارع بأسمائهم، أو بإقامة المهرجانات لذكراهم. وقد تنبّه العرب أخيرًا إلى ذلك، فأقاموا مرة مهرجانًا للمتنبّي، وأخرى مهرجانًا لأبي العلاء، وهذا مهرجان ابن سينا”

افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات “الكتاب الذّهبي” الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان “ابن سينا” الّذي أقيم في بغداد برعاية الملك فيصل الثّاني.

لم يكن هذا المهرجان هو الأوّل من نوعه في العالم، فقد سبقه مهرجان في تركيا لأن الشّيخ الرّئيس وُلد في تركستان واعتبرت أصوله تركيّة. ثمّ ظهرت فكرة لمهرجان جديد بذكرى مرور ألف عامٍ على مولد ابن سينا، وتمّ العمل لها ما بين طهران وبغداد لأكثر من عامين. في أعقاب التحضير لهذا المهرجان أُقيم تمثال ابن سينا في همذان، ورُسمت صورة متخيّلة له وطُبعت ووزّعت على طوابع بريديّة لتخليد اسمه، وجمعت مخطوطات لمختلف أعماله وحقّق بعضها وتُرجم ونُشر.

: طابع بريد إيراني تم انتاجه اثناء العمل على المهرجان، رسم ابن سينا على يد الفنّان أبو الحسن صديقي، مصدر الصورة ويكيبيديا
طابع بريد إيراني تم انتاجه اثناء العمل على المهرجان، رسم ابن سينا على يد الفنّان أبو الحسن صديقي، مصدر الصورة ويكيبيديا

ترأس أحمد أمين اللجنة العامّة لابن سينا وإدارة العمل الّذي دام لأكثر من عامين على هذا المشروع الثّقافي الضخم الّذي جمع أكثر من مائة وعشرين عالم وباحث من العراق، مصر، سوريا، لبنان، الأردن،ليبيا، أندونيسيا، إيران، تركيا، إسبانيا، ألمانيا، إنجلترا، أمريكا وفرنسا. عملت على المشروع لجان عديدة من عدّة دول وقسّمت مهام العمل وتنظيم المهرجان فيما بينها، وكان هذا من آخر المشاريع الكبرى الّتي عمل بها أمين قبل وفاته عن عمر يناهز السّابعة والسّتين بعد عامين. وقد قام بتقديم البحث الّذي أجراه حول قصّة “حيّ بن يقظان” في المهرجان وفي الكتاب الذّهبي. وكان من أعضاء اللجنة العليا لتنظيم أعمال المهرجان كل من المؤرّخين عبد العزيز الدّوري وجواد علي وغيرهم.

اجتمع كلّ هؤلاء في مهرجان دام ثمانية أيام في بغداد ارتأت لجان العمل تخليدها في كتاب سمّوه “الكتاب الذّهبي” يلخّص ما جرى بها من أبحاث علميّة قاموا بتلخيصها وحتّى جلسات الشّاي وأحاديث الصّباح. ثمانية أيّام حافلة اشتملت على أكثر من أربعين محاضرة علميّة والعديد من الأنشطة الثّقافيّة الصّباحيّة والمسائيّة الّتي تمّ جزء منها في البلاط الملكيّ.

في اليوم الأول، وبعد اجتماع الأعضاء المدعوين جميعًا في بهو الأمانة للتعرّف واستلام شاراتهم في العاشرة صباحًا، اتّجه الجميع معًا لزيارة المقبرة الملكيّة ووضع الأكاليل باسم الوفود القادمة من بلدان عدّة. ثم إلى البلاط الملكيّ لتقييد الأسماء في سجلّ التشريفات الملكيّة، ولاحقًا، حفلة الافتتاح بقاعة الملك فيصل الثّاني الّتي افتتح المهرجان بها ولي العهد الأمير عبد الإله، ثمّ كلمة كل من وزير المعارف ولجنة ابن سينا وأحمد أمين ومندوب اليونيسكو ومندوب الدّول الشّرقيّة رئيس وفد إيران وآخرين.

ركّز معظم المتحدّثين في الجلسة الافتتاحيّة على عالميّة ابن سينا الملقّب بالـ “شيخ الرّئيس” واحتفت بأهميّة إرثه لحضارات وثقافات عديدة. بعد هذه الجلسة، عقد المهرجان تسعة جلسات أخرى تخلّلت عشرات المحاضرات والنّقاشات وزّعت على سبعة أيام متتالية وتوثيق جميعها في “الكتاب الذّهبي”.

أمّا اليوم الثّاني، فافتتح بمعرض كتاب ابن سينا ومعرض فنّي في معهد الفنون الجميلة. تلته زيارة جماعيّة للمتحف العراقيّ والمدرسة المستنصريّة ومن ثمّ مأدبة لجنة ابن سينا العراقيّة في حدائق مسبح الأمانة. أمّا في اليوم الثّالث، فكان طويلًا جدًا، حيث بدأ بجلسة ناقشت سبعة أبحاث تلتها جلسة أربع محاضرات متتالية، إلا أن النهار انتهى بـ “حفلة سمر ويعزف فيها على الكمان الأستاذ سامي الشوا”.

 

المتحدثون في حفل الافتتاح

وكان اليوم الرّابع مكتظًّا بالأبحاث والمحاضرات كذلك، إلا أن اليوم الخامس كان يومًا للتنزّه في بابل والحلّة منذ الصّباح وحتّى الغروب. كانت الأيام المقبلة مكتظّة للغاية، فلا تفهم مثلًا كيف تمكّن الأعضاء من مناقشة تسعة أبحاث والاستماع إلى محاضرتين ومن ثمّ الذّهاب في رحلة الى الموصل. بالإضافة إلى ذلك، ولقد تمّت إذاعة الجلسة الإفتتاحيّة والختاميّة على إذاعة بغداد.

عند الاطّلاع على الصّور وقائمة الأعضاء المدعوين الّتي تظهر مفصّلة في الكتاب، يندر أن نرى صورة أو اسمًا لسيّدة شاركت في المهرجان، إلا أن اسمين لسيّدتين يظهران في قائمة الوفد اللبناني عن وزارة التّربيّة وهما الآنسة إنعام الصّغير والآنسة فهيمة الأحدب. كما أن تلاخيص الأبحاث تظهر مشاركة نسائيّة لا بأس بها، كالبحث حول ترجمات ابن سينا إلى اللاتينية وانتشارها في القرون الوسطى للآنسة دالفيرني، ومحاضرة “الجديد في منطق ابن سينا” للآنسة جواشون.

لكي تثمر وتكون شجرة إلهيّة – عن تعاليم بهاء الله

"لكي تثمر وتكون شجرة إلهيّة؛" عن تعاليم بهاء الله والديانة البهائية ومؤسسها بهاء الله وسيرته في مدينة عكا.

قبة عباس

واجه المطاردة والاضطهاد لأكثر من أربعين عامًا، اتّهم بالكفر والكذب وسُجن ونُفي أكثر من مرّة، راسل ملوك ورؤساء دول العالم ليطالبهم بالاتّحاد والعمل من أجل السّلام ووحدة البشر، وعند وفاته دُفن في حدائق بديعة أخّاذة، ما زالت مزارًا لمئات الآلاف من حول العالم. فمن يكون بهاء الله مؤسّس الدّيانة البهائيّة؟

لعلّ أفضل ما يعرّف عن بهاء الله وعن ما آمن به ودعا إليه هو كلامه حين رحّب بالمستشرق إدوارد غرانفيل براون الّذي زاره في “قصر البهجة”، منفاه الأخير في مدينة عكّا في سبعينيّات أو ثمانينيّات القرن التّاسع عشر .

يقول براون أنه كان مأخوذًا ببريق عينيه النّافذتين وبجلال هيئته، أخذه الذّهول مع أنه لم يجهل من هو ذاهب للقائه. فإذا بصوت هادئ جليل يأمره بالجلوس ويقول:

“حمدًا لله على سلامتك. جئت لترى مسجونًا ومنفيًا..نحن لا نريد إلّا إصلاح العالم وسعادة الأمم، وهم مع ذلك، يعتبروننا مثيرين للفتنة والعصيان ومستحقّين للحبس والنّفي.

فأيّ ضرر في أن يتّحد العالم على دين واحد وأن يكون الجميع إخوانًا؟ وأن تستحكم روابط المحبّة والاتّحاد بين بني البشر، وأن تزول الاختلافات الدّينيّة وتُمحى الاختلافات العرقيّة؟ وأنّه لا بدّ من حصول هذا كلّه. فستنقضي هذه الحروب المدمّرة والمشاحنات العقيمة. وسيأتي الصّلح الأعظم”.

في ذلك الوقت، كان بهاء الله الفارسيّ الأصل يسكن في “قصر البهجة” القريب من مدينة عكّا، والّذي اشتراه له ولده “عبّاس أفندي” من التّاجر العكّي المسيحيّ عودة خمّار بعد أن سمحت الدّولة العثمانيّة لبهاء الله بقضاء المدّة المتبقيّة من سنوات سجنه في بيتٍ مقفل خارج سجن عكّا.

قصر البهجة في ضواحي عكّا عام 1953، أرشيف يتسحاك بن تسفي
قصر البهجة في ضواحي عكّا عام 1953، أرشيف يتسحاك بن تسفي

لم يكن بهاء الله مواطنًا عثمانيًا من الأساس، إلا أن السّلطات الإيرانيّة استمرّت بالضّغط على الدّولة العثمانيّة لعقود متواصلة لإبقائه في السّجون أو لنفيه من مدينة إلى أخرى باستمرار خشية من انتشار دعوته الّتي اعتبرها الإيرانيّون فتنة يجب قتلها في مهدها. ورغم نجاحها باغتيال صاحب هذه الدّعوة الأول والّذي يدعى بالـ “باب” استمرّت الدولة الإيرانية بملاحقة أتباعه وناشري دعوته وكان “بهاء الله” من أبرزهم وأكثرهم شهرة ومحبّة. ولقد تمكّن هؤلاء من إنشاء طائفة كاملة ومستقلّة عن الإسلام، لها كتبها وتعاليمها وأتباعها المتّحدين حول العالم.

 

 صورة لبهاء الله من عام 1868، صفحة ويكيبيديا عن بهاء الله بالإنجليزيّة.
صورة لبهاء الله من عام 1868، صفحة ويكيبيديا عن بهاء الله بالإنجليزيّة.

 

تعاليم بهاء الله

اشتهرت الدّيانة البهائيّة بكونها ديانة جميع الدّيانات، أي أن أتباع هذه الدّيانة يرون بأن جميع الأديان الموجودة على الأرض منبثقة من الحقيقة الواحدة أي من الإله الواحد، لكنّ هذا لا يعني أنها لا تملك عقيدة وتعاليم خاصّة بها.

مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
من مخطوطة الدلائل السّبعة تأليف مؤسّس الدعوة البابيّة الشّيرازي الملقّب بالـ “باب”. عام 1911 من مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

تستقي الدّيانة البهائيّة تعاليمها ونهجها من كتابات بهاء الله والباب وغيرهم من أئمّة أو قادة الدّين البهائيّ، وتوصف كتابات بهاء الله على أنّها أُنزلت أو أُوحيت إليه في قصر البهجة وفي أماكن أخرى. وكشخصٍ عانى الظّلم والأذى والعداوة من معارضي دعوته ومن بعض أتباعها، ومن ضمنهم أخيه غير الشّقيق الّذي أراد منافسته على رئاستها، إلا أنّ تعاليمه اتّسمت بالتّسامح والتّواضع والكونيّة والرّوحانيّة، ولم يدعُ قطّ للعداوة أو الانتقام لما حلّ به. وقد قام بهاء اللّه بإرسال دعوته للوحدة والسّلام لكثير من الملوك والرؤساء في وقته، ومنهم السّلطان العثمانيّ، وملك إيران ناصر الدّين شاه، وقيصر روسيا وملك النّمسا والملكة فيكتوريا وغيرهم. وما زال أتباع الدّيانة البهائيّة يرون أن السّعي لتحقيق السّلام العالميّ غاية دينيّة أساسيّة في إيمانهم.

إلّا أن هذا البُعد الكونيّ الّذي يميّز الدّيانة البهائية على غيرها من الأديان ليس العنصر الوحيد بها، فللديانة البهائيّة عدّة كتب مقدّسة، أكثرها قداسة “الكتاب الأقدس” ومن ثمّ يليه “كتاب الإيقان” و”الوديان الأربعة” و”كلمات مكنونة” و”جواهر الأسرار” و”الوديان السّبعة” أو “الدّلائل السّبعة”.

مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
مخطوطة من كتابات بهاء الله عام 1873، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

 

وعند الاطّلاع على بعض نصوص بهاء الله نجد تأثرًا بالعقيدة الشّيعيّة الّتي انشقت عنها الدّعوة البابيّة منذ بدايتها، وكذلك تأثرًا بالتّصوف الإسلاميّ. فإلى جانب الإيمان بكونيّة الأديان ووحدتها يذكّر بهاء الدّين مرة تلو الأخرى بأهمّية رعاية “حياة القلب” و”حياة الرّوح”.

فالجسد عند البهائيّين ليس إلا بيتًا مؤقتًا للرّوح الخالدة، توضع فيه في هذه الحياة لكي تقدّم الخير وترعى إخوانها من بني البشر فتكتسب الصّفات الملكوتيّة الّتي تبدأ بها رحلتها إلى الكمال بعد موت الجسد، وهذه الرّحلة أبديّة لا تنتهي. وعن هذا قال بهاء الله: “لو رُزقتَ قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأن الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياة الجسد”. وفي موضعٍ آخر: “عندما تكون النّفس لحياة الرّوح، عندها تثمر ثمارًا جيّدة، وتصبح شجرة إلهيّة”.