فيما يلي ترجمة بتصرف خاصة بموقع مدونة “أمناء المكتبة” لمقال الكاتب أفنير فيشنيتسر- ورشة التاريخ الاجتماعي . للاطلاع على المقالة باللغة العبرية الرجاء الضغط هنا.
حظي النصف المظلم من تاريخ البشريّة باهتمام أقلّ بكثير ممّا حظي به ضوء النهار. ومع ذلك، يبيّن تاريخ الليل أنّ الظلام قد أثّر في السيرورات التاريخيّة بطرق مختلفة، وأحيانًا غير متوقّعة.
ندخل الغرفة ونضغط على الزرّ، فيسطع الضوء. لقد أصبحنا منذ فترة طويلة مكفوفين في الليل ونعتمد تمامًا على الضوء الاصطناعيّ الذي يأتي إلينا وكأنّه يأتي من تلقاء نفسه، من دون الحاجة إلى إشغال أنفسنا بطريقة إنتاجه أو الثمن البيئيّ الذي يجبيه منّا. تكون مصادر الإضاءة إمّا غائرة أو مبعثرة ويتمّ إخفاء الكوابل داخل الجدران. كذلك علاقات القوّة التي تنظّم إنتاج الطاقة، بدءًا من القرارات المتعلّقة بمواقع محطّات توليد الطاقة، مرورًا بأنواع الوقود وانتهاءً بنشر خطوط الكهرباء للإنارة، تبقى مخفيّة عن الأنظار. هذه تظهر في الوعي فقط في سياقات معيّنة، كما هو الحال في النضال الجماهيريّ ضدّ انبعاثات الملوّثات من محطّات توليد الطاقة، أو عندما يتصدّر “الظلام” في قطاع غزّة العناوين الرئيسيّة.
يسهم الضوء الناتج عن هذه الشبكات أيضًا في التقليل من حجم الأبعاد السياسيّة للإضاءة. ينبعث إلى الخارج. وفيرًا رخيصًا، فاقدًا للتمّيز، شفّافًا وموحّدًا. يُستخدَم الضوء الكهربائيّ لإنارة مناطق ممتدّة حتى نتمكّن من الخروج من المنزل المضاء والوصول إلى الجانب الآخر من المدينة من دون التعرّض لأيّ ظلام حقيقيّ. في معظم المراكز المدينيّة حول العالم، دفع الإفراط في الإضاءة إلى ظهور الظلام وإلى الانقراض تقريبًا (وليس الجميع يرحبّون بهذا).
قبل عصر الإضاءة الصناعيّة كان الوضع عكس ذلك: إذ ظلّ الظلام سائدًا من دون عوائق وكان الضوء الصناعيّ قليلًا وذا قيمة عالية. ومع ذلك، فإنّ الفرق لم يتلخّص في هذا فحسب. فعندما نفكّر في الليالي ما قبل عصر الحداثة، علينا ألّا نعكس إلى الوراء الضوء القياسيّ للكهرباء. لم يكن الضوء في مطلع العصر الحديث بمثابة “القليل من الشيء نفسه”. لم يكن مقدار الضوء مختلفًا فحسب، بل أيضًا خصائصه وعالم المعاني المرتبطة به. الاختلافات بين “أنواع الضوء” والفجوات في مناليّة الضوء بين المجموعات المختلفة هي التي جعلت الضوء مؤشّرًا واضحًا على القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة.
تجسّد السطور التي كتبها الشاعر سيّد وهبي هذا الأمر بشكل جيّد، حيث إنّها تتضمّن القيمة الماديّة والعاطفيّة وحتى السياسيّة لضوء الشموع. على المستوى العاطفيّ، يتلاعب الشاعر بالتعبير السائد بالتركيّة “الدعوة مع شمعة” (mumla okumak) بمعنى أنّ في الدعوة نيّة خالصة، مع الرغبة في مقابلة الشخص (الأشخاص) المدعوّين.
يعود أصل التعبير إلى العادة العثمانيّة المتمثّلة في دعوة الضيوف لحضور الأحداث الليليّة (حفلات في دوائر النخبة أو حفلات الزفاف) عن طريق إرسال الشموع إليهم. قبل تركيب إنارة الشوارع في مدن الشرق الأوسط (الذي بدأ في منتصف القرن التاسع عشر)، كان أيّ شخص يتجوّل في الشوارع بعد صلاة العشاء مجبرًا بموجب القانون بحمل مصباح يدويّ. وعادة ما كان مؤلَّفًا من إطار صلب ما، وُضعت فيه شمعة، محميّة بواسطة ورقة أو زجاج. على المستوى المادّيّ، إذًا، أخذ المضيف على عاتقه نفقات الإضاءة المرتبطة بالوصول إلى منزله. لكنّ اللفتة الرمزيّة لم تكن أقلّ أهمّيّة. من خلال إرسال الشمعة، وسّع المضيف ضيافته لتصل عتبات أبواب الضيوف وأظهر رغبته في إحضارهم إلى منزله.
لفهم كيفيّة ارتباط هذه الشمعة المجازيّة بسياسة السلطان أحمد الثالث (1730-1703) الذي خُصِّصت له هذه القصيدة، يجب أوّلًا أن نقول بضع كلمات عن الجانب المادّيّ لإنتاج الضوء في الإمبراطوريّة العثمانيّة في القرن الثامن عشر. كانت الشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة أكثر وسائل الإضاءة انتشارًا في إسطنبول والمناطق الشماليّة من الإمبراطوريّة. تمّ إنتاجها من الدهون الحيوانيّة، وبالتالي كانت الورش تقع بالقرب من المسالخ. قام قادة نقابة صنّاع الشموع بتوزيع الموادّ الخام بين أعضاء النقابة والإشراف على إنتاج الشموع وجودتها. غالبًا ما تسبّبت الأوبئة الحيوانية والفيضانات والتمرّدات في إلحاق أضرار بالقطعان أو القدرة على نقلها إلى العاصمة، ولهذه الأسباب حدث نقص في الشموع أحيانًا.
نظرًا لأنّ الشموع كانت تٌعتبَر منتجًا أساسيًّا يجب أن يكون متاحًا لجميع فئات السكان، فقد شغلت مشاكل توفيرها أعلى المستويات في الإمبراطوريّة. يحتفظ الأرشيف العثمانيّ في إسطنبول بتعليمات من بعض السلاطين من النصف الثاني من القرن الماضي للإسراع في توصيل الشموع والدهون الحيوانيّة من الولايات، لضمان التوزيع العادل للشموع لمختلف الأحياء وتطبيق الحظر المفروض على تصدير مواد الإضاءة، كلّ هذا “من أجل الرعايا”، حسب نصّ الأوامر. في حالات النقص الحادّ (على سبيل المثال في 1817-1818) تمّ تحديد حصص.
إلّا إنّ حقيقة أنّ جميع الرعايا تمتّعوا بتوفّر الشموع لا تعني أنّ الجميع تمتّعوا بالضوء بكمّيّة أو جودة متساوية. أنتجَت شموع الدهون الحيوانيّة ضوءًا ضعيفًا جدًّا، وبالتأكيد مقارنة بالكهرباء، ولكن حتّى مقارنة بشموع البارافين التي نعرفها اليوم: 48 شمعة عاديّة مصنوعة من الدهون الحيوانيّة، وفّرت ضوءًا أضعف من ضوء مصباح واحد بقدرة 60 واط. في مطلع القرن التاسع عشر، كان على عامل البناء البسيط تكريس يومَيّ عمل تقريبًا لشراء هذه الكمّيّة. انبعثت من الشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة رائحة كريهة، كما أنّها كانت بحاجة وتحتاج إلى معالجة مستمرّة. يجب قطع الفتيل المحترق مرّة واحدة على الأقل كلّ 15 دقيقة، وإلا فإنّ الشمعة ستحترق بشكل غير متجانس، ممّا يتسبّب في انبعاث دخان منها، فقدانها لشدّة الضوء المنبعث منها والتسبّب في سيلان الكثير من الدهون إلى أسفل الشمعة وبذلك يذهب هباءً. لذلك فإنّ الشمعة التي لم تتمّ صيانتها بطريقة سليمة، ستنفق نصف ساعة بدلًا من أربع ساعات وتهدر ما يقارب 95 ٪ من الدهون. احتاجت إضاءة الغرفة التي تطلّبت عددًا كبيرًا من الشموع صيانة مستمرّة، الأمر الذي فاق قدرة الناس العاديّين.
تمكّنت العائلات المقتدِرة ماديًا في الإمبراطوريّة العثمانيّة من شراء كمّيّات كبيرة من الشموع، وشغّلت خدمًا خاصّين تتمثّل مهمّتهم الأساسيّة في صيانة الشموع. وعلاوة على ذلك، لم يكتفوا بالضوء الخافت للشموع المصنوعة من الدهون الحيوانيّة، بل إنّهم اشتروا من أجل إنارة غرف الضيافة في قصورهم شموعًا مصنوعة من شمع النحل التي أنتجت ضوءًا أقوى وأكثر وضوحًا، لم تُطلق رائحة كريهة وتحتاج إلى صيانة أقلّ بكثير. كان سعرها في أوائل القرن التاسع عشر ثلاثة أضعاف سعر شموع الدهون الحيوانيّة. وعليه، لم يكن لبسطاء الرعايا سوى أن يحلموا الشموع المصنوعة من شمع النحل وهم يجلسون في غرفهم المضاءة بضوء خافت.
في ظلّ هذه الظروف، عندما كانت الإضاءة الداخليّة تمثّل أيضًا تحدّيًا ماديًّا، كانت إضاءة الشوارع أشبه بالمستحيل. اقتصرت الإضاءة الخارجيّة على مواقع محدّدة، خاصّة حول قصور الشخصيّات البارزة في الإمبراطوريّة (التي حولها) والمساجد. اقتصرت الإضاءة على أوقات معيّنة، وخاصة الأعياد الدينيّة والأعياد المرتبطة بسلالة السلطنة، مثل ميلاد أمير أو أميرة أو نصر عسكريّ هامّ. على خلفيّة الروتين المظلم، من السهل تخيّل الأثر الاحتفاليّ لآلاف الشموع والمصابيح، في رمضان على سبيل المثال. بالنسبة إلى الناس العاديّين، كان ذلك أحد المظاهر الخالصة لـ “أجواء العيد”، لكن في الوقت نفسه، كان دليلًا على التزام الحكومة بدعم هذه الأجواء وبالتالي، أداة لترسيخ شرعيّة الحكم.
في هذا السياق يمكننا فهم “حفلات المصابيح” التي نظّمها كبار الإمبراطوريّة خاصّة في عشرينيّات القرن الـ 18، وهي الفترة التي أُطلق عليها لقب “حقبة التوليب” بسبب مركزيّة هذه الأزهار في ثقافة تلك الفترة. مع قدوم الربيع، حيث تُزهر أزهار التوليب في إسطنبول، استضاف كبار الإمبراطوريّة السلطان في حدائقهم في ساعات المساء. آلاف الشموع، الشمعدانات والمرايا وُضعت بين أحواض التوليب، وأكملت الموسيقى والبخور هذه المتعة الحسّيّة الشاملة.
مع ذلك، من الواضح أنّ هذه الحفلات كانت أكثر من مجرّد طريقة نخبويّة للترفيه الليليّ. مثل عروض الأضواء التي نُظّمت في البلاط في عدد من الأماكن الأوروبيّة في ذلك الوقت، تمّ استخدام الإضاءة الباهظة لاستعراض قوّة الحكم على المستوى الأكثر حرفيًّا. لم يكن الضوء كيانًا عامًّا و “شفّافًا” بل كان محور الحدث. تمّ تنظيمه لجذب الانتباه إلى نفسه، وفي النهاية إلى القوّة التي سمحت بتركيزه وتنظيمه. ومع ذلك، كان في نهاية المطاف استعراضًا محدودًا من حيث الزمان والمكان، وبالتالي محدودًا في نجاعته كتجسيد لقوّة الحكم. لقد عمل شعراء البلاط هنا كذراع لـ “الدعاية” التي كان هدفها في هذا السياق تضخيم الضوء ونشره بين أولئك الذين لم يشاهدوه، ومَنح الاستعراض حياةً أطول. كتب الوالي عزّت علي باشا، الذي كان شاعرًا مشهورًا أيضًا، “التوليب يزيّن فناء الفوانيس بنسيج ملوّن/ ويزين هذا الحفل الملكيّ، الليلة/ عندما تضيء كلّ شمعة مثل ضوء النهار/ من ينظر أبدًا إلى وجه القمر المضيء؟”
انعكست الفجوات في التطرّق إلى الضوء الاصطناعيّ في نهاية المطاف على هوامش التمرّد الذي اندلع في عام 1730 ضدّ القصر، وأسفر إلى الإطاحة بالسلطان أحمد الثالث، وهو السلطان نفسه الذي كتب على شرفه سيّد وهبي وعزّت باشا. كانت للتمرّد أسباب كثيرة، لكن لا شكّ أنّ حياة البذخ في القصر كانت عاملًا رئيسيًّا في الغضب الذي احتقن في الشوارع. حاصر المتمرّدون الذين كان معظمهم من الطبقات الدنيا في المجتمع المدنيّ، القصر وطالبوا بإعدام الوزير الأكبر واثنين آخرَين من كبار المسؤولين الذين ارتبطت أسماؤهم بعدد من الإخفاقات وبحفلات الشموع التي ورد ذكرها هنا. عندما استلم المتمرّدون جثّة الوزير الأكبر، كدليل على أنّ السلطان استجاب لمطالبهم، غرسوا شموعًا في عينيه وهتفوا – وفقًا لشهادة أحد المؤرّخين – “إذا كنتَ تريد حفلة شموع، فافعلها هكذا!” من خلال هذه اللفتة الوحشيّة، أظهر المتمرّدون أنّهم يفهمون جيّدًا لغة “الضوء كقوّة” التي استخدمتها الحكومة، إلّا أنّ استخدامهم لها قلب منطقها على رأس الوزير الأكبر.
على الرغم من النجاح المبدئيّ، لم يغيّر التمرّد بشكل جوهريّ البنية الاجتماعيّة، ولا الفجوات في الوصول إلى الضوء الاصطناعيّ. هذه الفجوات، وكذلك المظاهر الباهظة للضوء التي جعلت هذه الفجوات سياسيّة بشكل واضح، كانت مشتركة للعثمانيّين وجيرانهم في الغرب. ومع ذلك، فإنّ الواقع الليليّ خارج بلاط الحكم في أوروبا بدأ يتغيّر في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر. كان أحد الأسباب الرئيسيّة لذلك هو بداية تركيب شبكات الإضاءة المدينيّة التي كانت تغذّيها دهون الحيتان. زوّدت هذه الدهون، التي كانت المنتج الرئيسيّ لصيد الحيتان الواسع الانتشار في تلك الحقبة، أوروبا بموادّ إنارة عالية الجودة نسبيًّا وبكمّيّات ضخمة وبتكلفة منخفضة. وصلت الإضاءة العموميّة إلى الشرق الأوسط فقط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما خفض الغاز والنفط تكاليف الإضاءة بشكل كبير. بالطبع لم يمحُ الوقود الرخيص الاختلافات الاجتماعيّة، لكنّ جعْل الضوء متوفّرًا بشكل أكبر، أدّى إلى تقليص فعّاليّته كرمز للقوّة.