فيما يلي ترجمة بتصرف خاصة بموقع مدونة “أمناء المكتبة” لمقال الكاتب عمري إيلات- ورشة التاريخ الاجتماعي. للاطلاع على المقالة باللغة العبرية الرجاء الضغط هنا.
تحكي مذكّرات عدد من الشخصيّات الدمشقيّة قصّة عن صالح بك العظم، من أبطال المدينة، الذي كان في صباه مغرمًا بفتاة يهوديّة. ذات ليلة أمضاها في السهر مع تلك الفتاة، رافقه صديقه سليم الميدانيّ، وفي طريقهما إلى منزليهما في الساعة الثانية أو الثالثة بعد انتصاف الليل صادفا دورية شرطة، تقدم رئيسها ورفع مصباحه ليرى المارّين بلا مصباح. فلما تميّز صالح بك الثمل، توجّه اليه وقال: “يا سيّدي، أنت ابن الحكومة [كانت عائلة العظم من العائلات العريقة والقويّة في دمشق، وكان أفرادها يتبوّؤون الكثير من المناصب]، وأنتم تضعون القوانين. فلماذا تخالفها؟”
أجابه صالح بك: “بأي شيء أخالفها؟”
قائد الشرطة: “أنك تسير بلا مصباح، وهذا لا يجوز”
صالح بك: “مصباحي معي. إذهب في طريقك!”
وسأله الشرطي عن مصباحه، فأدار له صالح بك ظهره، ورفع ذيل سترته بتحدّ، كي يقول إنّه معفيّ من هذه القيود لكونه من وجهاء المدينة، وقال: “هذا مصباحي!” ومشى صالح بك، وخلفه السيد سليم، فقال له المفوض: “وأنت يا رجل؟ أين مصباحك؟” فأجاب سليم: “أنا سائر على ضوء البك”. فضحك رجال الدورية، وذهب كل واحد في سبيله!
كانت مدينة دمشق ،المُضاءة بشبكة من المصابيح الزيتيّة بمسؤوليّة البلديّة في مطلع القرن الـعشرين، مدينة مظلمة جدًّا. من حين إلى آخر كانت المصابيح الزيتيّة تخفت أو تُكسر، وفي كلّ الأحوال كان النور الذي يصدر عنها خافتًا. ولذلك، كان يتعيّن على سكّان المدينة أن يحملوا معهم فانوسًا فيه شمعة، يسمّى”فنار”. قصّة صالح بك توضّح أنّه في حين كانت المدن الساحليّة العثمانيّة مثل بيروت، إسطنبول، وإزمير قد اعتمدت إنارة الغاز بواسطة شركات تجاريّة، كانت دمشق تعتمد على شبكة إنارة محلّيّة شغّلها سكّان المدينة أو البلديّة التي كانت القوّة الرئيسيّة في تخطيط وإدارة الحياة اليوميّة في المدينة.
شكّل دخول الكهرباء إلى دمشق في العقد الأوّل من القرن العشرين تحوّلًا حادًّا في حياة المدينة ليس في مجال الإنارة والمواصلات فحسب، بل في موازين القوى البلديّة عامّة. على الرغم من أنّ شبكة الكهرباء والترام في دمشق كانت تخضع لملكيّة شركة عثمانيّة مسجّلة، في الواقع كانت تسيطر عليها مجموعة شركات بلجيكيّة. وهكذا دخلت قوّة منظِّمة جديدة إلى الحياة البلدية في مجالات الإنارة، قوّة التحريك، والمواصلات، على حساب قوّة البلديّة التي ادارتها النخبة المحلّيّة. تحوّلت الإنارة من نظام جماهيريّ خاضع لموازين القوى المحلّيّة غالبًا، إلى مورد يخضع لملكيّة خاصّة اجنبية. دخول شبكة الكهرباء والترام إلى المدينة أدّى الى مماحكات ملازمة للطريقة التي أقيمت بها الشركة. وهكذا أصبحت دمشق تشبه المدن الأخرى في أرجاء الإمبراطوريّة التي وضعت فيها البنية التحتيّة للكهرباء في مطلع القرن العشرين، مثل: بيروت، الإسكندريّة، إزمير، بورصة وسلانيك، وبعد ذلك بقليل، إسطنبول أيضًا.
في الإمبراطوريّة العثمانية في أواخر القرن الـتاسع عشر تمّ تشغيل الإنارة الكهربائيّة بواسطة مولّدات كهربائية في القصور، الفنادق، وفي ضِيَع الأثرياء، ولكن شبكات الكهرباء لم تكن تُنشأ بعد. أدّى الاعتماد التامّ لمستهلكي الكهرباء العثمانيّين على استيراد المعدّات والمعرفة التقنيّة إلى وقف تطوّر استخدام الكهرباء منذ منتصف سبعينيّات القرن الـتاسع عشر بسبب حالة الإفلاس التي عانى منها اقتصاد الإمبراطوريّة. استؤنفت الاستثمارات الأجنبيّة في الإمبراطوريّة فقط بعد استقرار مديريّة الديون العثمانيّة التي رهنت أجزاءً كبيرة من دخل الإمبراطوريّة لتسديد الديون. كانت عوامل الجذب الرئيسيّة للاستثمار هي السكك الحديديّة، الموانئ، والتعدين، التي شكّلت القطاعات التي خدمت عمليّات التصنيع العالميّة بقيادة الدول العظمى الأوروبّيّة، لكنّ جزءًا لا يستهان به من الاستثمارات تمّ توظيفه في شركات البنى التحتيّة الداخليّة وفي الصناعة.
بموازاة استئناف الاستثمارات الأجنبيّة ومنح الامتيازات للشركات الأجنبيّة، سعى نظام السلطان عبد الحميد الثاني إلى إنشاء طبقة مبادرين من بين شخصيّات النخبة المحلّيّة-العثمانيّة وموظّفي السلطة المركزيّة. كانت وزارة الأشغال العامّة هي الجهة المسؤولة عن إصدار المناقصات لإقامة الشركات المحدودة الضمان، وحُظر على الحائزين على الامتياز تحويله إلى الأجانب. هكذا كانت شركة الكهرباء والترام في دمشق التي حصل محمّد آل أرسلان البيروتيّ على امتياز إنشائها في عام 1903. كان يتعيّن عليه استقطاب رأسمال قدره ستّة ملايين فرنك (نحو- 300 ألف جنيّه عثمانيّ) من خلال بيع أسهم الشركة.
ولكن المشكلة أنّ آل أرسلان لم ينجح في تجنيد رأس المال، فاشترت مجموعة شركات بلجيكيّة نواة السيطرة في الشركة مع الإبقاء على آل أرسلان مديرًا للشركة وصاحب الامتياز الرسميّ. تمّ هذا الإجراء من خلال الموافقة الضمنيّة للسلطة المركزيّة التي كانت تعي جيّدًا تبعات ذلك. في المقابل، ابتاعت الشركات ذاتها، مع شركات فرنسيّة وألمانيّة، نواة السيطرة على شركات الكهرباء والترام في بيروت، إزمير، وسلانيك. دُمجت جميع هذه الملكيّات تحت سيطرة شركة قابضة كان مقرّها في إسطنبول وشكلّت الغطاء القانونيّ لنشاط هذه الشركات (نمط شبيه جدًّا بالطريقة التي أدير بها قطاع النفط في الشرق الأوسط بين الحربين العالميّتين).
أُضيئ في مطلع عام 1907 ألف مصباح كهربائي في شوارع مدينة دمشق وبدأ خطّ الترام الأوّل بالعمل في المدينة. كان مصدر الطاقة الرئيسيّ توربينات المياه التي حرّكها التيّار المائيّ لنهر بردى الذي يجري عبر دمشق. وُضعت هذه التوربينات في شرقي المدينة. في الأوقات التي كان فيها تدفّق المياه ضعيفًا تمّ تدعيم التوربينات بمساعدة مولّدات الكهرباء التي كانت تعمل بواسطة المازوت. ظهرت الخلافات في فترة مبكّرة جدًّا وعلى نحو حادّ. فبينما تذمّر سكّان المدينة البسطاء من مصادرة أملاكهم لغرض توسيع الشوارع من حوادث السير والحرائق التي تسبّبت فيها الأعطال في توصيل الكهرباء، دخلت البلديّة في مواجهة مطوّلة مع شركة الكهرباء على خلفيّة تسوية المدفوعات والجدول الزمنيّ للإنارة. لم تكن البلديّة تشكّل لاعبًا ثانويًّا على الأكثر في إجراء المبادرة فحسب، بل إنّ احتكارها للرقابة على الإنارة قد تحطّم كلّيًّا. قوبلت الادّعاءات التي طرحتها البلديّة أمام السلطة المركزيّة بالرفض التامّ باستمرار، وفُرض عليها الالتزام بالاتّفاقيّات التي لم تشارك البلديّة حتى في صياغتها.
كتب أحد سكّان دمشق ويدعى منير الفرّاع مقال رأي في صحيفة بيروتيّة، ادّعى فيها أنّ شبكة مصابيح الزيت في البلديّة قد ميّزت فعلًا ضد بعض المناطق في المدينة من ناحية كمّيّة الإنارة، لكنّها على الاقلّ لم تعانِ من انقطاعات كهرباء عامّة تترك المدينة في ظلام دامس. الانقطاعات ودرجات الشدة المتفاوتة للتيّار الكهربائي كانت بالفعل أمرًا روتينيًّا، كما أنّ بعض اللاعبين أصحاب النفوذ، مثل ادارة القطار الحجازيّ، طالبوا وحصلوا على مولّدات قريبة من شركتهم في منطقة القدَم على مشارف دمشق عقب خسارة أيّام العمل التي تسبّب فيها انقطاع التيّار الكهربائيّ. وخلافًا لقطار الحجاز، فقد كانت البلديّة ذات قدرة مساومة أقلّ بكثير، وكما ذُكر أعلاه، فالمطالب التي أثارتها كانت تتناقض مع الاتّفاقيّات.
في مطلع عام 1913، تخلفت البلدية بدفع مبلغ قدره 12 ألف جنيه عثمانيّ لشركة الكهرباء، فقامت الأخيرة، في خطوة أحادية الجانب، بقطع شبكة الإنارة. بادرت البلديّة، في المقابل، إلى تنظيم حملة مقاطعة لاستخدام الترام. عندما نجحت المقاطعة بشكل جزئيّ فقط، تحوّلت البلديّة إلى حثّ الجماهير على تخريب قاطرات الترام. بعد مفاوضات ودفع الديون مقابل إضافة مصابيح من قِبل شركة الكهرباء، عادت الأنوار للعمل في دمشق، لكنّ المناوشات بين البلديّة والشركة استمرّت خلال فترة الحرب العالميّة الأولى. في عام 1917، قطعت شركة الكهرباء التيّار الكهربائيّ حتّى نهاية الحرب. وفي ظلّ ضائقة الوقود الحادّة خلال الحرب، عادت دمشق لتكون مدينة يسودها الظلام أكثر ممّا كانت عليه قبل دخول الكهرباء إليها. وصف يوسف يوئيل ريڤلين، الذي عاش في المدينة خلال بعض من سنوات الحرب وبعدها، في جريدة “بريد اليوم” العبريّة عام 1921 الاستياء الذي تسبّبت فيه شركة الكهرباء في أوساط سكّان المدينة الذين ظلّوا يعانون من انقطاع التيّار الكهربائي، شدة التيار المتفاوتة، الحوادث، والحرائق.
يمكن أن نلاحظ إذًا، كيف أدّت السياسة العثمانيّة التي كانت تسعى إلى تعزيز مكانة النخب المحلّيّة-العثمانيّة، وتطوير البنى التحتيّة العامّة الصناعيّة لصالح الجمهور برمّته، إلى حالة من الاحتكاك المستمرّ وإلى إسناد مهمّة إدارة المجالات الهامّة في حياة المدينة، مثل الإنارة والمواصلات إلى شركات خاصّة أجنبيّة. تحوّلت الإنارة من نظام اجتماعيّ داخليّ إلى سلعة يوفّرها وسيط للمدينة بشكل مركزيّ. فقدتِ البلديّة من أهمّيتها كساحة مواجهة بين قوى داخليّة – بلدية، ومن جهة أخرى تحوّلت الخلافات المستمرّة بين البلديّة وشركة الكهرباء إلى سمة رئيسيّة للسياسة البلدية. يمكننا القول إنّ النخبة الدمشقيّة دفعت ثمنًا باهظًا لامتناعها عن أو عدم قدرتها على المجازفة المنوطة بالاستثمار في البنى التحتيّة للكهرباء. صحيح أنّها استثمرت في قنوات مربحة أكثر، مثل العقارات الخاصّة والتجاريّة، لكنّها خسرت احتكارها الهامّ لأحد اكثر المنتجات طلبًا في العصر الحديث: الضوء.
عمري إيلات هو طالب للدكتوراه في قسم التاريخ في جامعة تلّ أبيب. يُعنى بحثه بالأشغال العامّة ونشاط الخبراء في سوريا خلال فترة “تركيا الفتاة”، بإرشاد البروفيسور إيهود طولدانو.